27- وأنت بما أنشأت ووضعت من الأسباب والسنن ، تُدْخِل من الليل في النهار ما يزيد به النهار طولا ، وتدخل من النهار في الليل ما يزيد به الليل طولا ، وتخرج المتصف بمظاهر الحياة من فاقدها ، كما تخرج فاقد الحياة من الحي المتمكن من أسباب الحياة ، وتهب عطاءك الواسع من تشاء كما تريد على نظام حكمتك ، فلا رقيب يحاسبك ، ومن كان هذا شأنه لا يعجزه أن يمنح رسوله وأصفياءه السيادة والسلطان والغنى واليسار كما وعدهم{[31]} .
{ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل } أي : تدخل هذا على هذا ، وهذا على هذا ، فينشأ عن ذلك من الفصول والضياء والنور والشمس والظل والسكون والانتشار ، ما هو من أكبر الأدلة على قدرة الله وعظمته وحكمته ورحمته { وتخرج الحي من الميت } كالفرخ من البيضة ، وكالشجر من النوى ، وكالزرع من بذره ، وكالمؤمن من الكافر { وتخرج الميت من الحي } كالبيضة من الطائر وكالنوى من الشجر ، وكالحب من الزرع ، وكالكافر من المؤمن ، وهذا أعظم دليل على قدرة الله ، وأن جميع الأشياء مسخرة مدبرة لا تملك من التدبير شيئا ، فخلقه تعالى الأضداد ، والضد من ضده بيان أنها مقهورة { وترزق من تشاء بغير حساب } أي : ترزق من تشاء رزقا واسعا من حيث لا يحتسب ولا يكتسب .
ثم ذكر - سبحانه - مظهرا حسيا من مظاهر قدرته الباهرة فقال : { تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل } .
الولوج في الأصل : الدخول ، والإيلاج الإدخال . يقال : ولج فلان منزله إذا دخله ، فهو يلجه ولجا وولوجا .
وأولجته أنا إذا أدخلته ، ثم استعير لزيادة زمان النهار في الليل وعكسه بحسب المطالع والمغارب .
أي أنت يا الله يا مالك الملك . أنت الذى بقدرتك تدخل طائفة من الليل في النهار فيقصر الليل ويزيد النهار وتدخل طائفة من النهار في الليل فيقصر النهار ويزيد الليل ، وأنت وحدك الذى بقدرتك أن تجعلهما متعاقبين بأن تأتى بالليل رويداً رويداً في أعقاب النهار ، وتأتي بالنهار شيئاً فشيئاً فى أعقاب الليل ، وفى كل ذلك دليل على سعة قدرتك ، وواسع رحمتك . وتذكير واعتبار لأولى الألباب .
ثم ذكر - سبحانه - مظهرا حسيا آخر من مظاهر قدرته فقال : { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } .
قال الفخر الرازي : ذكر المفسرون فيه وجوها .
أحدها : يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر ، والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح .
والثاني : يخرج الحيوان - وهو حي - من النطفة - وهي ميتة - ، والدجاجة - وهي حية - من البيضة أو العكس .
والثالث : يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس والنخلة من النواة وبالعكس : ثم قال : والكلمة محتملة للكل : أما الكفر والإيمان فقال - تعالى - { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } يريد كان كافرا فهديناه ، فجعل الكفر موتاً والإيمان حياة ، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء وجعل ما قبل ذلك ميتة فقال : { وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } وقال : { فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } وقال : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } وفى الحق : إن المتدبر فى هذا الكون وما يعترى سكانه من موت وحياة ليشهد ويذعن بأن لهذا الكون خالقا قادراً هو الله الواحد القهار .
ثم ختم - سبحانه - مظاهر قدرته ورحمته بقوله { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } والرزق - كما يقول الراغب - يقال للعطاء الجارى تارة دنيوا كان أو أخرويا . وللنصيب تارة ، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة أخرى يقال : أعطى السلطان رزق الجند ، ورزقت علما ، قال - تعالى - : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت } أى : من المال والجاه والعلم " .
أي أنت يا الله يا مالك الملك ، أنت وحدك الذى ترزق من تشاء أن ترزقه بغير حساب ، أي رزقا واسعا عظيما لأنك أنت صاحب الجود والكرم ، ولأنك ليس معك شريك فيحاسبك ، بل أنت المعطى بدون محاسب ، وبدون محاسبة من تعطيه ، ولأن خزائن ملكك لا ينقصها العطاء مهما كثر .
ومن كانت هذه صفاته ، وتلك بعض مظاهر قدرته : من إيتاء الملك لمن يشاء ونزعه ممن يشاء وإيلاج الليل فى النهار والنهار فى الليل ، وإخراج الحى من الميت والميت من الحي ، كان من حقه أن يفرد بالعبادة والخضوع { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين }
قال ابن كثير : روى الطبرانى عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اسم الله الأعظم الذى إذا دُعي به أجاب في هذه الآية :
{ قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } " .
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد وصفتا الخالق - عز وجل - بما هو أهله ، من قدرة تامة وسلطان نافذ ، ورحمة واسعة ، وهذا الوصف من شانه أن يحمل كل عاقل على إخلاص العبادة له - سبحانه - وعلى الاستجابة لكل ما أمر به أو نهى عنه رغبة في ثوابه ، ورهبة من عقابه .
وهذه القوامة على شؤون البشر ، وهذا التدبير لأمرهم بالخير ، ليس إلا طرفا من القوامة الكبرى على شؤون الكون والحياة على الإطلاق :
( تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ؛ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ؛ وترزق من تشاء بغير حساب ) . .
والتعبير التصويري لهذه الحقيقة الكبيرة ، يملأ بها القلب والمشاعر والبصر والحواس : هذه الحركة الخفية المتداخلة . حركة إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل ؛ وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي . . الحركة التي تدل على يد الله بلا شبهة ولا جدال ، متى القى القلب إليها انتباهه ، واستمع فيها إلى صوت الفطرة الصادق العميق .
وسواء كان معنى إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل هو أخذ هذا من ذاك وأخذ ذاك من هذا عند دورة الفصول . . أو كان هو دخول هذا في هذا عند دبيب الظلمة ودبيب الضياء في الأمساء والأصباح . . سواء كان هذا أو ذاك فإن القلب يكاد يبصر يد الله وهي تحرك الأفلاك ، وتلف هذه الكرة المعتمة أمام تلك الكرة المضيئة ، وتقلب مواضع الظلمة ومواضع الضياء . . شيئا فشيئا يتسرب غبش الليل إلى وضاءة النهار . وشيئا فشيئا يتنفس الصبح في غيابة الظلام . . شيئا فشيئا يطول الليل وهو يأكل من النهار في مقدم الشتاء . وشيئا فشيئا يطول النهار وهو يسحب من الليل في مقدم الصيف . . وهذه أو تلك حركة لا يدعي الإنسان أنه هو الذي يمسك بخيوطها الخفية الدقيقة ؛ ولا يدعي كذلك عاقل أنها تمضي هكذا مصادفة بلا تدبير !
كذلك الحياة والموت ، يدب أحدهما في الآخر في بطء وتدرج . كل لحظة تمر على الحي يدب فيه الموت إلى جانب الحياة ، ويأكل منه الموت وتبنى فيه الحياة ! خلايا حية منه تموت وتذهب ، وخلايا جديدة فيه تنشأ وتعمل . وما ذهب منه ميتا يعود في دورة أخرى إلى الحياة . وما نشأ فيه حيا يعود في دورة أخرى إلى الموت . . هذا في كيان الحي الواحد . . ثم تتسع الدائرة فيموت الحي كله ، ولكن خلاياه تتحول إلى ذرات تدخل في تركيب آخر ثم تدخل في جسم حي فتدب فيها الحياة . . وهكذا دورة دائبة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار . . ولا يدعي الإنسان أنه هو الذي يصنع من هذا كله شيئا . ولا يزعم عاقل كذلك أنها تتم هكذا مصادفة بلا تدبير !
حركة في كيان الكون كله وفي كيان كل حي كذلك . حركة خفية عميقة لطيفة هائلة . تبرزها هذه الإشارة القرآنية القصيرة للقلب البشري والعقل البشري ؛ وهي تشي بيد القادر المبدع اللطيف المدبر . . فأنى يحاول البشر أن ينعزلوا بتدبير شأنهم عن اللطيف المدبر ؟ وأنى يختارون لأنفسهم أنظمة من صنع أهوائهم وهم قطاع من هذا الكون الذي ينظمه الحكيم الخبير
ثم أنى يتخذ بعضهم بعضا عبيدا ، ويتخذ بعضهم بعضا أربابا ، ورزق الجميع بيد الله وكلهم عليه عيال :
( وترزق من تشاء بغير حساب ) . .
إنها اللمسة التي ترد القلب البشري إلى الحقيقة الكبرى . حقيقة الألوهية الواحدة . حقيقة القوامة الواحدة . وحقيقة الفاعلية الواحدة وحقيقة التدبير الواحد . وحقيقة المالكية الواحدة وحقيقة العطاء الواحد . ثم حقيقة أن الدينونة لا تكون إلا لله القيوم ، مالك الملك ، المعز المذل ، المحيي المميت ، المانح المانع ، المدبر لأمر الكون والناس بالقسط والخير على كل حال .
وقوله : { تُولِجُ{[4929]} اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ{[4930]} النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } أي : تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان ، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان ، ثم يعتدلان . وهكذا في فصول السنة : ربيعًا وصيفًا وخريفًا وشتاء .
وقوله : { وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ } أي : تخرج الحبَّة من الزرع والزرع من الحبة ، والنخلة من النواة والنواة من النخلة ، والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، والدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة ، وما جرى هذا المجرى من جميع الأشياء { وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : تعطي من شئت من المال ما لا يَعده ولا يقدر على إحصائه ، وتقتر على آخرين ، لما لك في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة والعدل . قال الطبراني : حدثنا محمد بن زكريا الغلابي ، حدثنا جعفر بن جسْر بن فَرْقَد ، حدثنا أبي ، عن عَمْرو{[4931]} بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اسْم اللهِ الأعْظَم الَّذي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ ، فِي هَذِهِ الآيةِ مِنْ آلِ عِمْرانَ : { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ]{[4932]} }{[4933]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل}: ما تنقص في الليل داخل في النهار، وهما هكذا إلى أن تقوم الساعة. {وتخرج الحي من الميت}: فهو الناس والدواب والطير، خلقهم من نطفة وهي ميتة، وخلق الطير من البيضة وهي ميتة. {وتخرج الميت من الحي}: يخرج الله عز وجل هذه النطفة من الحي، وهم الناس والدواب والطير. {وترزق من تشاء بغير حساب}: يقول سبحانه: ليس فوقي ملك يحاسبني، أنا الملك أعطي من شئت بغير حساب، لا أخاف من أحد يحاسبني...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{تُولِجُ}: تدخل، يقال منه: قد ولج فلان منزله: إذا دخله، وأولجته أنا: إذا أدخلته. {تُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهارِ}: تدخل ما نقصت من ساعات الليل في ساعات النهار، فتزيد من نقصان هذا في زيادة هذا. {وَتُولِجُ النّهَارَ فِي اللّيْلِ}: وتدخل ما نقصت من ساعات النهار في ساعات الليل، فتزيد في ساعات الليل ما نقصت من ساعات النهار...
فيكون الليل أحيانا أطول من النهار، والنهار أحيانا أطول من الليل.
{وتُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ}: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: تأويل ذلك: أنه يخرج الشيء الحيّ من النطفة الميتة، ويخرج النطفة الميتة من الشيء الحيّ.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنه يخرج النخلة من النواة، والنواة من النخلة، والسنبل من الحبّ والحبّ من السنبل، والبيض من الدجاج، والدجاج من البيض.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنه يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن... والمؤمن عبد حيّ الفؤاد، والكافر عبد ميت الفؤاد.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه، فإذا بامرأة حسنة النّعْمة، فقال: «مَنْ هَذِهِ؟» قالت: إحدى خالاتك، قال: «إنّ خالاتِي بِهَذِهِ البَلدةِ لغَرَائِبُ! وأيّ خالاتِي هَذِهِ؟» قالت: خلْدة ابنة الأسود بن عبد يغوث، قال: «سُبْحانَ الّذِي يُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ» وكانت امرأة صالحة، وكان أبوها كافرا.
وأولى التأويلات التي ذكرناها في هذه الآية بالصواب تأويل من قال: يخرج الإنسان الحيّ والأنعام والبهائم الأحياء من النطف الميتة، وذلك إخراج الحيّ من الميت، ويخرج النطفة الميتة من الإنسان الحيّ والأنعام والبهائم الأحياء، وذلك إخراج الميت من الحيّ، وذلك أن كل حيّ فارقه شيء من جسده، فذلك الذي فارقه منه ميت، فالنطفة ميتة لمفارقتها جسد من خرجت منه، ثم ينشئ الله منها إنسانا حيا وبهائم وأنعاما أحياء، وكذلك حكم كل شيء حيّ زايله شيء منه، فالذي زايله منه ميت، وذلك هو نظير قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وكُنْتُمْ أمواتا فأحْيَاكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ ثُمّ إلَيْهِ تُرْجَعُون}.
وأما تأويل من تأوّله بمعنى الحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة، والبيضة من الدجاجة، والدجاجة من البيضة، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، فإن ذلك وإن كان له وجه مفهوم، فليس ذلك الأغلب الظاهر في استعمال الناس في الكلام، وتوجيه معاني كتاب الله عزّ وجلّ إلى الظاهر المستعمل في الناس، أولى من توجيهها إلى الخفيّ القليل في الاستعمال.
{وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}: أنه يعطي من يشاء من خلقه، فيجود عليه بغير محاسبة منه لمن أعطاه، لأنه لا يخاف دخول انتقاص في خزائنه، ولا الفناء على ما بيده.
فتأويل الآية إذا: اللهمّ يا مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعزّ من تشاء، وتذلّ من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، دون من ادّعى الملحدون أنه لهم إلَه ورب وعبدوه دونك، أو اتخذوه شريكا معك، أو أنه لك ولد وبيدك القدرة التي تفعل هذه الأشياء، وتقدر بها على كل شيء، تولج الليل في النهار، وتولج النهار في الليل، فتنقص من هذا وتزيد في هذا، وتنقص من هذا وتزيد في هذا، وتخرج من ميت حيا، ومن حيّ ميتا، وترزق من تشاء بغير حساب من خلقك، لا يقدر على ذلك أحد سواك، ولا يستطيعه غيرك... أي فإن كنت سلطت عيسى على الأشياء التي بها يزعمون أنه إلَه، من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، والخلق للطير من الطين، والخبر عن الغيوب لتجعله آية للناس، وتصديقا له في نبوّته التي بعثته بها إلى قومه، فإنّ من سلطاني وقدرتي ما لم أعطه، كتمليك الملوك، وأمر النبوّة ووضعها حيث شئت، وإيلاج الليل في النهار، والنهار في الليل، وإخراج الحيّ من الميت، والميت من الحيّ، ورزق من شئت من برّ أو فاجر بغير حساب، فكل ذلك لم أسلط عيسى عليه، ولم أملكه إياه، فلم يكن لهم في ذلك عبرة وبينة، إذ لو كان إلَها لكان ذلك كله إليه وهو في علمهم يهرب من الملوك، وينتقل منهم في البلاد من بلد إلى بلد.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم ذكر قدرته الباهرة بذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما، وحال الحيّ والميت في إخراج أحدهما من الآخر، وعطف عليه رزقه بغير حساب دلالة على أنّ من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام ثم قدر أن يرزق بغير حساب دلالة من يشاء من عباده، فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم...
{وترزق من تشاء بغير حساب}: ففيه وجوه: الأول: أنه يعطي من يشاء ما يشاء لا يحاسبه على ذلك أحد، إذ ليس فوقه ملك يحاسبه بل هو الملك يعطي من يشاء بغير حساب. والثاني: ترزق من تشاء غير مقدور ولا محدود، بل تبسطه له وتوسعه عليه... والثالث: ترزق من تشاء بغير حساب، يعني على سبيل التفضل من غير استحقاق لأن من أعطى على قدر الاستحقاق فقد أعطى بحساب. وقال بعض من ذهب إلى هذا المعنى: إنك لا ترزق عبادك على مقادير أعمالهم، والله أعلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ظهر في هذه الآية افتراق في النزع والإيتاء والإعزاز والإذلال أبدى في الآية التالية توالج بعضها في بعض ليؤذن بولوج العز في الذل والذل في العز، والإيتاء في النزع والنزع في الإيتاء، وتوالج المفترقات والمتقابلات بعضها في بعض، ولما كانت هذه السورة متضمنة لبيان الإحكام والتشابه في منزل الكتاب بحكم الفرقان أظهر تعالى في آياتها ما أحكم وبين في خلقه وأمره وما التبس وأولج في خلقه وأمره، فكان من محكم آية في الكائن القائم الآدمي ما تضمنه إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال، وكان من الاشتباه إيلاج العز في الذل وإيلاج الذل في العز،... {وتولج النهار في اللَّيل} أي تدخل كلاً منهما في الآخر بعد ظهوره حتى يذهب فيه فيخفى ولا يبقى له أثر. قال الحرالي: ولما جعل المتعاقبين من الليل والنهار متوالجين جعل المتباطنين من الحي والميت مخرجين، فما ظهر فيه الموت بطنت فيه الحياة، وما ظهرت فيه الحياة بطن فيه الموت؛ انتهى...
ولما بدأ الآية سبحانه وتعالى مما يقتضي الترغيب بما هو محط أحوال الأنفس من الملك وأنواع الخير ختمها بمثل ذلك مما لا يقوم الملك ولا يطيب العيش إلا به فقال: {وترزق من تشاء} قوياً كان أو ضعيفاً {بغير حساب *} أي تعطيه عطاء واسعاً جداً متصلاً من غير تضييق ولا عسر، كما فعل بأول هذه الأمة على ما كانوا فيه من القلة والضعف حيث أباد بهم الأكاسرة والقياصرة وآتاهم كنوزهم وأخدمهم أبناءهم وأحلهم ديارهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل}: أي تدخل طائفة من الليل في النهار، فيقصر الليل من حيث يطول النهار، وتدخل طائفة من النهار في الليل فيطول هذا من حيث يقصر ذاك. أي إنك بحكمتك في تدبير الأرض وتكويرها وجعل الشمس بحسبان تزيد في أحد الجديدين ما يكون سببا لنقص الآخر، فلا ينكر على قدرتك وحكمتك أن تؤتي في أحد الجديدين ما يكون سببا لنقص الآخر فلا ينكر على قدرتك وحكمتك أن تؤتي النبوة والملك من تشاء كمحمد وأمته وتنزعهما ممن تشاء كبني إسرائيل. فإنك تتصرف في شؤون الناس كما تتصرف في الليل والنهار.
{وتخرج الحي من الميت}: كالعالم من الجاهل والصالح من الطالح والمؤمن من الكافر. {وتخرج الميت من الحي}: كالكافر من المؤمن والجاهل من العالم والشرير من الخير. وقد مثل المفسرون للحياة الحسية بخروج النخلة من النواة والعكس وخروج الإنسان من النطفة والطائر ونحوه من البيضة وبالعكس والتمثيل صحيح وإن أثبت علماء هذا الشأن أن في النطفة حياة وكذا في البيضة والنواة لأن هذه الحياة اصطلاحية لأهل الفن في عرفهم دون العرف العام الذي جاء التنزيل به. ومن الأمثلة الصحيحة في العرفين خروج النبات من التراب. وقد جاء القرآن بتسمية ما يقابل الحي ميتا سواء كانت الحياة حسية او معنوية وسواء كان ما أطلق عليه لفظ الميت مما يعيش ويحيا أم لا وهو استعمال عربي صحيح فصيح.
والجملة كسابقتها مثال ظاهر لكونه تعالى مالك الملك يؤتي الملك من يشاء إلخ ما في الآية السابقة وكل شيء عنده بمقدار. فقد أخرج من العرب الأميين، خاتم النبيين المرسلين، كما أخرج من سلائل الأنبياء والصديقين، أولئك الأشرار المفسدين، ذلك ان سننه تعالى في الاجتماع قد أعدت الأمة العربية لأن يظهر خاتم النبيين منها أعدتها لذلك بارتقاء الفكر واستقلاله وبقوة الإرادة واستقلالها حتى صارت هذه الأمة أقوى أمم الأرض استعدادا لقبول الدين الذي هدم بناء التقليد والاستعباد، واستبدل به بناء الاستدلال والاستقلال، من حيث كان بنوا إسرائيل كغيرهم من الأمم يرسفون في قيود التقليد للأحبار والرهبان، مرتكسين في أغلال الاستبداد من الملوك والحكام فما أعطى سبحانه ما أعطى ونزع ما نزع إلا بإقامة السنن التي هي قوام النظام ومناط الإبداع والإحكام {والله يرزق من يشاء بغير حساب} يطلب منه، لأن الأمر كله بيده، وليس فوقه أحد يحاسبه، أو بغير تضييق ولا تقتير، أو بغير حساب من هذا المرزوق ولا تقدير، ولكنه بقدر وحساب، ممن وضع السنن والأسباب.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذه القوامة على شؤون البشر، وهذا التدبير لأمرهم بالخير، ليس إلا طرفا من القوامة الكبرى على شؤون الكون والحياة على الإطلاق... والتعبير التصويري لهذه الحقيقة الكبيرة، يملأ بها القلب والمشاعر والبصر والحواس: هذه الحركة الخفية المتداخلة. حركة إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل؛ وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي.. الحركة التي تدل على يد الله بلا شبهة ولا جدال، متى القى القلب إليها انتباهه، واستمع فيها إلى صوت الفطرة الصادق العميق...
حركة في كيان الكون كله وفي كيان كل حي كذلك. حركة خفية عميقة لطيفة هائلة. تبرزها هذه الإشارة القرآنية القصيرة للقلب البشري والعقل البشري؛ وهي تشي بيد القادر المبدع اللطيف المدبر.. فأنى يحاول البشر أن ينعزلوا بتدبير شأنهم عن اللطيف المدبر؟ وأنى يختارون لأنفسهم أنظمة من صنع أهوائهم وهم قطاع من هذا الكون الذي ينظمه الحكيم الخبير ثم أنى يتخذ بعضهم بعضا عبيدا، ويتخذ بعضهم بعضا أربابا، ورزق الجميع بيد الله وكلهم عليه عيال... (وترزق من تشاء بغير حساب).. إنها اللمسة التي ترد القلب البشري إلى الحقيقة الكبرى. حقيقة الألوهية الواحدة. حقيقة القوامة الواحدة. وحقيقة الفاعلية الواحدة وحقيقة التدبير الواحد. وحقيقة المالكية الواحدة وحقيقة العطاء الواحد. ثم حقيقة أن الدينونة لا تكون إلا لله القيوم، مالك الملك، المعز المذل، المحيي المميت، المانح المانع، المدبر لأمر الكون والناس بالقسط والخير على كل حال...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إن هذه الآية في عقيدتنا تمثل نموذجاً من نماذج الخط الإسلامي في الدعاء الذي يستهدف تعميق الفكر العقيدي والرسالي في النفس بتقرير تفاصيل العقيدة والأخلاق والمسؤوليات بأسلوب الدعاء، فهو يتحدث عن صفات الله وعن البرامج العملية الأخلاقية ليختزنها الإنسان في مشاعره كما يختزنها في فكره، فإن للدعاء الإسلامي جانباً يتصل بالشعور من جهة وبالفكر من جهة أخرى. وبهذا لا ينعزل الإنسان عن فكره العملي وحياته المتحركة، بل يدخل في عمقها بأسلوب روحي فريد...