93- اعترض اليهود على استباحة المسلمين بعض الأطعمة كلحوم الإبل وألبانها ، وادعوا أن ذلك حرمته شريعة إبراهيم . فرد الله سبحانه دعواهم ببيان أن تناول كل المطعومات كان مباحاً لبني يعقوب من قبل نزول التوراة ، إلا ما حرمه يعقوب على نفسه لسبب يختص به فحرموه على أنفسهم . وأمر الله نبيه أن يطلب منهم أن يأتوا من التوراة بدليل يثبت أن شريعة إبراهيم تحرم ذلك إن كانوا صادقين ، فعجزوا وأفحموا .
{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
وهذا رد على اليهود بزعمهم الباطل أن النسخ غير جائز ، فكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم ، لأنهما قد أتيا بما يخالف بعض أحكام التوراة بالتحليل والتحريم فمن تمام الإنصاف في المجادلة إلزامهم بما في كتابهم التوراة من أن جميع أنواع الأطعمة محللة لبني إسرائيل { إلا ما حرم إسرائيل } وهو يعقوب عليه السلام { على نفسه } أي : من غير تحريم من الله تعالى ، بل حرمه على نفسه لما أصابه عرق النسا نذر لئن شفاه الله تعالى ليحرمن أحب الأطعمة عليه ، فحرم فيما يذكرون لحوم الإبل وألبانها وتبعه بنوه على ذلك وكان ذلك قبل نزول التوراة ، ثم نزل في التوراة أشياء من المحرمات غير ما حرم إسرائيل مما كان حلالا لهم طيبا ، كما قال تعالى { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وأمر الله رسوله إن أنكروا ذلك أن يأمرهم بإحضار التوراة ، فاستمروا بعد هذا على الظلم والعناد ، فلهذا قال تعالى { فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون } .
ثم عاد القرآن الكريم إلى الرد على اليهود الذين جادلوا النبى صلى الله عليه وسلم فى كثير من القضايا ، بعد أن ذكر فى الآيات السابقة طرفا من مسالكهم الخبيثة التى منها تواصيهم فيما بينهم بأن يؤمنوا أول النهار ويكفروا آخره ، وقد حكى هنا جدلهم فيما أحله الله وحرمه من الأطعمة فقال - تعالى - : { كُلُّ الطعام . . . } .
ذكر بعض المفسرين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لليهود فى معرض مناقشته لهم : أنا على ملة إبراهيم . فقال بعض اليهود : كيف تدعى ذلك وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها ؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم ، كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحله . فقالوا : كل شىء أصبحنا اليوم نحرمه فإنه كان محرما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا ، فأنزل الله هذه الآيات تكذيبا لهم " .
والطعام : مصدر بمعنى المطعوم ، والمراد به هنا كل ما يطعم ويؤكل .
وحلا : مصدر أيضاً بمعنى حلالا ، والمراد الإخبار عن أكل الطعام بكونه حلالا ، لا نفس الطعام ، لان الحل كالحرمة مما لا يتعلق بالذوات .
وإسرائيل : هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - .
والمعنى : كل أنواع الأطعمة كانت حلالا لبنى إسرائيل قبل نزول التوراة إلا شيئا واحدا كان محرما عليهم قبل نزولها وهو ما حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه ، فإنهم حرموه على أنفسهم اقتداء به ، فلما أنزل الله التوراة حرم عليهم فيها بعض الطيبات بسبب بغيهم وظلمهم .
هذا هو الحق الذى لا شك فيه ، فإن جادلوك يا محمد فى هذه المسألة فقل لهم على سبيل التحدى : أحضروا التوراة فاقرءوها ليتبين الصادق منا من الكاذب ، إن كنتم صادقين فى زعمكم أن ما حرمه الله عليكم فيها كان محرما على نوح وإبراهيم - عليهما الصلاة والسلام - .
فالآية الكريمة قد تضمنت أموراً من أهمها :
أولاً : إبطال حجتهم فيما يتعلق بقضية النسخ ، إذ زعموا أن النسخ محال ، واتخذوا من كون النسخ مشروعا في الإسلام ذريعة للطعن فى نبوة النبى صلى الله عليه وسلم فدحض القرآن مدعاهم وألزمهم الحجة عن طريق كتابهم .
ولذا قال الإمام ابن كثير : الآية مشروع فى الرد على اليهود ، وبيان بأن النسخ الذى أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع ، فإن الله - تعالى - قد نص فى كتابهم التوراة أن نوحا - عليه السلام - لما خرج من السفينة أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها ، ثم بعد هذا حرم إسرائيل على نفسه لحوم الإبل وألبانها فاتبعه بنوه فيما حرم على نفسه ، وجاءت التوراة بتحريم ذلك ، وبتحريم أشياء زيادة على ذلك - عقوبة لهم بسبب بغيهم وظلمهم . وهذا هو النسخ بعينه " .
وقد صرح ابن كثير وغيره من المفسرين أن ما حرمه إسرائيل على نفسه هو لحوم الإبل وألبانها ، وبذلك جاءت بعض الروايات عن النبى صلى الله عليه وسلم وكان تحريمه لها تعبدا وزهادة وقهرا للنفس طلبا لمرضاة الله - تعالى - .
وقيل إن ما حرمه على نفسه هو العروق . روى ذلك عن ابن عباس والضحاك والسدى موقوفا عليهم .
قالوا : كان يعتريه عرق النسا وهو عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذين ويسبب آلاما شديدة - فنذر إن عوفى منه لا يأكل عرقا ، فلما شفاه الله ترك كل العروق وفاء بنذره .
ثانيا : تضمنت أيضا تكذيبهم فى دعواهم أن ما حرم عليهم لم يكن سبب تحريمه ظملهم أو بغيهم ، وإنما كان محرما على غيرهم ممن سبقهم من الأمم .
وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال : " وهو - أى ما اشتملت عليه الآية - رد على اليهود وتكذيب لهم ، حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم فى قوله - تعالى - { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } وحيث أرادوا جحود ما غاظهم بسبب ما نطق به القرآن من أن تحريم الطيبات عليهم كان لأجل بغيهم وظلمهم فقالوا : لسنا بأول من حرمت عليه هذه الأشياء ، وما هو إلا تحريم قديم ، كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعده من بنى إسرائيل وهلم جرا ، إلى أن انتهى التحريم إلينا ، فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا .
وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغى والظلم والصد عن سبيل الله وأكل الربا . وما عدد من مساويهم التى كلما ارتكبوا منها كبيرة حرم الله عليهم نوعا من الطيبات عقوبة لهم " .
ثالثاً : تضمنت الآية كذلك أمراً من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يتحداهم بالتوراة ويبكتهم بما نطقت به ، وذلك بقوله - تعالى - فى الآية الكريمة { قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .
فكأنه - سبحانه - يقول لهم : ما دمتم - يا معشر اليهود - قد زعمتم أن ما حرم عليكم بسبب بغيكم وظلمكم ليس تحريما حادثا ، وإنما هو تحريم قديم على الأمم قبلكم ، فها هى ذى التوراة قريبة منكم فأحضروها واتلوها بإمعان وتدبر إن كنتم صادقين فى مدعاكم .
والتعبير ب " إن " يشير إلى عدم صدقهم ، لأنها تدل على الشك فى الشرط .
أى : هم ليسوا صادقين فيما يزعمون ، ولذلك لا يتلون ولا يقرؤون ، ولو جاءوا بها لكانت مؤيدة لما أخبر به القرآن الكريم ، ولذلك لم يجسروا على إخراج التوراة ، وبهتوا وانقلبوا صاغرين . وفى ذلك الحجة البينة على صدق النبى صلى الله عليه وسلم .
وقوله { إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } مستثنى من اسم كان ، والتقدير : كل الطعام كان حلالا لبنى إسرائيل إلا ما حرم نفسه فإنه قد حرم عليهم فى التوراة ، وليس منه ما زادوه من محرمات وادعوا صحة ذلك .
يتألف هذا الجزء من بقية سورة آل عمران ، ومن أوائل سورة النساء ، إلى قوله تعالى : ( والمحصنات من النساء . . . ) .
وهذه البقية من سورة آل عمران تتألف من أربعة مقاطع رئيسية ، تكمل خط سير السورة ، الذي أفضنا في الحديث عنه في مطلعها - في الجزء الثالث - بما لا مجال لإعادته هنا ، فيرجع إليه هناك . .
( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل - إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة - قل : فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين . فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ) .
لقد كان اليهود يتصيدون كل حجة ، وكل شبهة ، وكل حيلة ، لينفذوا منها إلى الطعن في صحة الرسالة المحمدية ، وإلى بلبلة الأفكار وإشاعة الاضطراب في العقول والقلوب . . فلما قال القرآن : إنه مصدق لما في التوراة برزوا يقولون : فما بال القرآن يحلل من الأطعمة ما حرم على بني إسرائيل ؟ وتذكر الروايات أنهم ذكروا بالذات لحوم الإبل وألبانها . . وهي محرمة على بني إسرائيل . وهناك محرمات أخرى كذلك أحلها الله للمسلمين .
وهنا يردهم القرآن إلى الحقيقة التاريخية التي يتجاهلونها للتشكيك في صحة ما جاء في القرآن من أنه مصدق للتوراة ، وأنه مع هذا أحل للمسلمين بعض ما كان محرما على بني إسرائيل . . هذه الحقيقة هي أن كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل - إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة - وإسرائيل هو يعقوب - عليه السلام - وتقول الروايات إنه مرض مرضا شديدا ، فنذر لله لئن عافاه ليمتنعن - تطوعا - عن لحوم الإبل وألبانها وكانت أحب شيء إلى نفسه . فقبل الله منه نذره . وجرت سنة بني إسرائيل على اتباع أبيهم في تحريم ما حرم . . كذلك حرم الله على بني إسرائيل مطاعم أخرى عقوبة لهم على معصيات ارتكبوها . وأشير إلى هذه المحرمات في آية " الأنعام " : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ، ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ) . .
وكانت قبل هذا التحريم حلالا لبني إسرائيل .
يردهم الله سبحانه إلى هذه الحقيقة ، ليبين أن الأصل في هذه المطاعم هو الحل ، وأنها إنما حرمت عليهم لملابسات خاصة بهم . فإذا أحلها للمسلمين فهذا هو الأصل الذي لا يثير الاعتراض ، ولا الشك في صحة هذا القرآن ، وهذه الشريعة الإلهية الأخيرة .
ويتحداهم أن يرجعوا إلى التوراة ، وأن يأتوا بها ليقرأوها ، وسيجدون فيها أن أسباب التحريم خاصة بهم ، وليست عامة .
قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا عبد الحميد ، حدثنا شَهْر قال : قال ابن عباس [ رضي الله عنه ]{[5306]} حضرت عصابة من اليهود نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : حدِّثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي . قال : " سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ ، وَلَكِنْ اجْعَلُوا لِي ذِمَّةَ اللَّهِ ، وَمَا أَخَذَ يَعْقُوبُ عَلَى بَنِيهِ لَئِنْ أنا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا فَعَرَفْتُمُوهُ لَتُتَابِعُنِّي{[5307]} عَلَى الإسْلامِ " . قَالُوا : فَذَلِكَ لَكَ . قَالَ : " فَسَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ " قالوا : أَخْبرْنَا عن أربع خلال : أَخْبرْنَا أَيُّ الطعام حَرَّمَ إسرائيل على نفسه ؟ وكيف ماء المرأة وماء الرجل ؟ كيف{[5308]} هذا النبي الأمّي في النوم ؟ ومن وَليّه من الملائكة ؟ فأخذ عليهم العهد لئن أخبرهم ليتابعنه{[5309]} وقال : " أَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنزلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى : هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا وَطَالَ{[5310]} سُقْمُهُ ، فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ مِنْ سُقْمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ وَأَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ ، وَكَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمان الإبِلِ ، وَأَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانُهَا " فقالوا : اللهم نعم . قال : " اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ " . وقال : أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ ، الَّذِي{[5311]} أَنزلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى : هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ أَبْيَضُ غَلِيظٌ ، ومَاءَ الْمَرْأَةِ أَصْفَر رَقِيقٌ ، فَأَيُّهُمَا عَلا كَانَ لَهُ الولد وَالشَّبَهُ بإذنِ اللَّهِ ، إِنْ عَلا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ المرأة{[5312]} كَانَ ذَكَرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَإِنْ عَلا مَاءُ الْمَرْأَةِ{[5313]} مَاءَ الرَّجُلِ كَانَ أُنْثَى بِإِذْنِ اللَّهِ " . قالوا : نعم . قال : " اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ " . وقال : " أَنْشُدُكُمْ{[5314]} بِالَّذِي أَنزلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى : هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الأمِّيَّ تَنَامُ عَيْنَاهُ {[5315]} وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ " . قالوا : اللهم نعمْ . قَالَ : " اللَّهُمَّ اشْهَدْ " . قالوا : وأنت الآن فحدثنا منْ وليُّك من الملائكة ؟ فعندها نجامعك أو نفارقك قال : " إِنَّ وَلِيِّيَ جِبْرِيلُ ، وَلَمْ يَبْعَث اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلا وَهُوَ وَلِيُّهُ " . قالوا : فعندها{[5316]} نفارقك ، ولو كان وليك غيره لتابعنَاك{[5317]} ، فعند ذلك قال الله تعالى : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } الآية [ البقرة : 97 ] .
ورواه أحمد أيضًا ، عن حسين بن محمد ، عن عبد الحميد ، به{[5318]} .
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا أبو أحمد الزبيري{[5319]} حدثنا عبد الله بن الوليد العِجْليّ ، عن بُكَير{[5320]} بن شهاب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : أقبلت يهودُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، نسألك{[5321]} عن خمسة أشياء ، فإن{[5322]} أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك ، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال : { اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [ يوسف : 66 ] . قال : " هاتوا " . قالوا : أخبرنا عن علامة النبي ؟ قال : " تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلا يَنَامُ قَلْبُه " . قالوا : أخبرنا كيف تُؤنِّثُ المرأةُ وكيف تُذْكرُ ؟ قال : " يَلْتَقِي الماءَان ، فإذا{[5323]} علا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أذْكَرَتْ ، وإذَا عَلا مَاءُ الْمَرْأَةِ{[5324]} آنثَتْ . قالوا : أخبرنا ما حَرَّم إسرائيل على نفسه ، قال : " كَانَ يَشْتَكِي عِرْقَ النَّسَا ، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلائِمُهُ إلا ألْبَانَ كَذَا وكَذَا - قال أحمد : قال بعضهم : يعني الإبل - فَحَرَّم لُحُومَهَا " . قالوا : صدقت . قالوا : أخبرنا ما هذا الرَّعد ؟ قال : " مَلَكٌ مِنْ مَلائِكَةِ اللهِ مُوَكلٌ بِالسَّحَابِ بِيدِهِ{[5325]} - أو فِي يَدِه - مِخْرَاقٌ مِنْ نَارٍ يَزْجُر بِهِ السّحابَ ، يَسُوقُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ " . قالوا : فما هذا الصوت الذي يُسمع ؟ قال : " صَوْتُه " . قالوا : صدقت ، إنما بقيت واحدة ، وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها ، فإنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر ، فأخبرنا من صاحبُك ؟ قال : " جبْرِيلُ عَلَيْه السَّلامُ " . قالوا : جبريل ذاك يَنزل بالحَرْب والقتال والعذاب عَدُوُّنا . لو قلتَ : ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقَطْر لَكَانَ ، فأنزل الله عز وجل : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [ البقرة : 97 ]{[5326]} .
وقد رواه الترمذي ، والنسائي ، من حديث عبد الله بن الوليد العِجْلي ، به نحوه ، وقال الترمذي : حسن غريب{[5327]} .
وقال ابن جُرَيْج والعَوْفَيّ ، عن ابن عباس : كان إسرائيل - وهو يعقوب عليه السلام - يَعْتَريه عِرق النَّسَا بالليل ، وكان{[5328]} يقلقه ويُزعِجه عن النوم ، ويُقْلعُ الوَجَعُ عنه بالنهار ، فنذر لله لئن عافاه الله لا يأكل عِرْقًا ولا يأكل ولد ما له عِرْق .
وهكذا قال الضحاك والسدي . كذا حكاه ورواه ابن جرير في تفسيره . قال : فاتَّبعه بَنُوه في تحريم ذلك استنَانًا به واقتداء بطريقه . قال : وقوله : { مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنزلَ التَّوْرَاةُ } أي : حرم ذلك على نفسه من قبل أن تنزل التوراة .
قلت : ولهذا السياق بعد ما تقدم مناسبتان{[5329]} .
إحداهما : أن إسرائيل ، عليه السلام ، حرّم أحب الأشياء إليه وتركها لله ، وكان هذا سائغًا في شريعتهم{[5330]} فله مناسبة بعد قوله : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } فهذا هو المشروع عندنا وهو الإنفاق في طاعة الله مما يحبُّه العبد ويشتهيه ، كما قال : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } [ البقرة : 177 ] وقال { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } [ الإنسان : 8 ] .
المناسبة الثانية : لمَّا تقدّم السياق في الرد على النصارى ، واعتقادهم الباطل في المسيح وتبين زَيْف ما ذهبوا إليه . وظهور {[5331]} الحق واليقين في أمر عيسى وأمه ، وكيف خلقه الله بقدرته ومشيئته ، وبعثه إلى بني إسرائيل يدعو إلى عبادة ربه تعالى - شَرَع في الرد على اليهود ، قَبَّحهم الله ، وبيان أن النَّسْخ الذي أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع ، فإن الله ، عز وجل ، قد نصّ في كتابهم التوراة أن نوحا ، عليه السلام ، لما خرج من السفينة أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها ، ثم بعد هذا حرّم إسرائيل على نفسه لُحْمان الإبل وألبانها ، فاتبعه بنوه في ذلك ، وجاءت التوراة بتحريم ذلك ، وأشياء أخر زيادة على ذلك . وكان الله ، عز وجل ، قد أذن لآدم في تزويج بناته من بنيه ، وقد حرَّم ذلك بعد ذلك . وكان التَّسَرِّي على الزوجة مباحا في شريعة إبراهيم ، وقد فعله [ الخليل ]{[5332]} إبراهيم في هاجر لما تسرَّى بها على سارّة ، وقد حُرِّم مثل هذا في التوراة عليهم . وكذلك كان الجمع بين الأختين شائعا {[5333]} وقد فعله يعقوب ، عليه السلام ، جمع بين الأختين ، ثم حُرِّم ذلك عليهم في التوراة . وهذا كله منصوص عليه في التوراة عندهم ، فهذا هو النسخ بعينه ، فكذلك{[5334]} فليكن ما شرعه الله للمسيح ، عليه السلام ، في إحلاله بعض ما حرم في التوراة ، فما بالهم لم يتبعوه ؟ بل كذبوه وخالفوه ؟ وكذلك ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين القويم ، والصراط المستقيم ، ومِلَّة أبيه إبراهيم فما بَالُهم{[5335]} لا يؤمنون ؟ ولهذا قال [ تعالى ]{[5336]} { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنزلَ التَّوْرَاةُ } أي : كان حِلا{[5337]} لهم جميعُ الأطعمة قبل نزول التوراة إلا ما حرَّمه إسرائيل ، ثم قال : { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ؛ فإنها ناطقة بما قلناه .
{ كُلّ الطّعَامِ كَانَ حِلاّ لّبَنِيَ إِسْرَائِيلَ إِلاّ مَا حَرّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىَ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزّلَ التّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : أنه لم يكن حرّم على بني إسرائيل وهم ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن شيئا من الأطعمة من قبل أن تنزل التوراة ، بل كان ذلك كله لهم حلالاً ، إلا ما كان يعقوب حرّمه على نفسه ، فإن ولده حرّموه استنانا بأبيهم يعقوب ، من غير تحريم الله ذلك عليهم في وحي ولا تنزيل ولا على لسان رسول له إليهم من قبل نزول التوراة .
ثم اختلف أهل التأويل في تحريم ذلك عليهم ، هل نزل في التوراة أم لا ؟ فقال بعضهم : لما أنزل الله عزّ وجلّ التوراة ، حرّم عليهم من ذلك ما كانوا يحرّمونه قبل نزولها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ قوله : { كُلّ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ إلاّ مَا حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أنْ تُنَزّلَ التّوْرَاةُ قُلْ فأْتُوا بالتّوْرَاة فاتْلُوها إنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ } قالت اليهود : إنما نحرّم ما حرّم إسرائيل على نفسه ، وإنما حرّم إسرائيل العروق ، كان يأخذه عرق النّسا ، كان يأخذه بالليل ويتركه بالنهار ، فحلف لئن الله عافاه منه لا يأكل عِرْقا أبدا ، فحرّمه الله عليهم ثم قال : { قُلْ فأْتُوا بالتّوْرَاة فاتْلُوها إنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ } : ما حرّم هذا عليكم غيري ببغيكم ، فذلك قوله : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الّذِينَ هادُوا حَرّمْنا عَلَيْهِمْ طَيّباتٍ أُحِلّتُ لَهُمْ } .
فتأويل الاَية على هذا القول : كل الطعام كان حلاّ لبني إسرائيل ، إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ، فإن الله حرّم عليهم من ذلك ما كان إسرائيل حرّمه على نفسه في التوراة ، ببغيهم على أنفسهم ، وظلمهم لها . قل يا محمد : فأتوا أيها اليهود إن أنكرتم ذلك بالتوراة ، فاتلوها إن كنتم صادقين أن الله لم يحرم ذلك عليكم في التوارة ، وأنكم إنما تحرّمونه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه .
وقال آخرون : ما كان شيء من ذلك عليهم حراما ، لا حرّمه الله عليهم في التوراة ، وإنما هو شيء حرّموه على أنفسهم اتباعا لأبيهم ، ثم أضافوا تحريمه إلى الله . فكذبهم الله عز وجل في إضافتهم ذلك إليه ، فقال الله عزّ وجلّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم يا محمد : إن كنتم صادقين ، فأتوا بالتوراة فاتلوها ، حتى ننظر هل ذلك فيها ، أم لا ؟ ليتبين كذبهم لمن يجهل أمرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { إلاّ ما حَرّمَ إسْرَئِيلُ على نَفْسِهِ } إسرائيل : هو يعقوب ، أخذه عرق النساء ، فكان لا يثبت الليل من وجعه ، وكان لا يؤذيه بالنهار . فحلف لئن شفاه الله لا يأكل عِرْقا أبدا ، وذلك قبل نزول التوراة على موسى . فسأل نبي الله صلى الله عليه وسلم اليهود ما هذا الذي حرّم إسرائيل على نفسه ؟ فقالوا : نزلت التوراة بتحريم الذي حرّم إسرائيل فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : { قُلْ فأْتُوا بالتّوْرَاة فاتْلُوها إنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ } . . . إلى قوله : { فأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ } وكذبوا وافتروا ، لم تنزل التوراة بذلك .
وتأويل الاَية على هذا القول : كل الطعام كان حِلاّ لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة وبعد نزولها ، إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ، بمعنى : لكن إسرائيل حرّم على نفسه من قبل أن تنزل التوراة بعض ذلك . وكأن الضحاك وجه قوله : { إلاّ ما حرَمّ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } إلى الاستثناء الذي يُسمّيه النحويون : الاستثناء المنقطع .
وقال آخرون تأويل ذلك : كل الطعاك كان حِلاّ لبني إسرائيل ، إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ، فإن ذلك حرام على ولده بتحريم إسرائيل إياه على ولده ، من غير أن يكون الله حرّمه على إسرائيل ولا على ولده . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { كُلّ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ إلاّ مَا حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } فإنه حرّم على نفسه العروق ، وذلك أنه كان يشتكي عرق النسا ، فكان لا ينام الليل ، فقال : والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد ! وليس مكتوبا في التوراة . وسأل محمد صلى الله عليه وسلم نفرا من أهل الكتاب ، فقال «ما شأن هذا حراما ؟ » فقالوا : هو حرام علينا من قبل الكتاب . فقال الله عز وجل : { كُلّ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ } . . . إلى : { إنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : أخذه يعني إسرائيل عِرْقُ النّسَا ، فكان لا يثبت بالليل من شدّة الوجع ، وكان لا يؤذيه بالنهار ، فحلف لئن شفاه الله لا يأكل عِرْقا أبدا ، وذلك قبل أن تنزل التوارة ، فقال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم : نزلت التوراة بتحريم الذي حرّم إسرائيل على نفسه . قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : { قُلْ فأْتُوا بالتّوْرَاة فاتْلُوها إنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ } وكذبوا ، ليس في التوراة .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : كل الطعام كان حلاّ لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوارة ، إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من غير تحريم الله ذلك عليه ، فإن كان حراما عليهم بتحريم أبيهم إسرائيل ذلك عليهم ، من غير أن يحرّمه الله عليهم في تنزيل ولا بوحي قبل التوراة ، حتى نزلت التوراة ، فحرم الله عليهم فيها ما شاء ، وأحلّ لهم فيها ما أحبّ . وهذا قول قالته جماعة من أهل التأويل ، وهو معنى قول ابن عباس الذي ذكرناه قبل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { كُلّ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ إلاّ مَا حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أنْ تُنَزّلَ التّوْرَاةُ } وإسرائيل : هو يعقوب . { قُلْ فأْتُوا بالتّوْرَاة فاتْلُوها إنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ } يقول : كل الطعام كان حلاّ لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة . إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ، فلما أنزل الله التوراة حرّم عليهم فيها ما شاء . وأحلّ لهم ما شاء .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة بنحوه .
واختلف أهل التأويل في الذي كان إسرائيل حرّمه على نفسه ، فقال بعضهم : كان الذي حرّمه إسرائيل على نفسه العروق . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن يوسف بن ماهك ، قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس ، فقال : إنه جعل امرأته عليه حراما . قال : ليست عليك بحرام قال : فقال الأعرابي : ولم والله يقول في كتابه : { كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } ؟ قال : فضحك ابن عباس وقال : وما يدريك ما كان إسرائيل حرّم على نفسه ؟ قال : ثم أقبل على القوم يحدثهم ، فقال : إسرائيل عرضت له الأنساء فأضنته ، فجعل لله عليه إن شفاه الله منها لا يطعمِ عِرْقا . قال : فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، قال : سمعت يوسف بن ماهك يحدّث : أن أعرابيا أتى ابن عباس ، فذكر رجلاً حرّم امرأته ، فقال : إنها ليست بحرام . فقال الأعرابي : أرأيت قول الله عزّ وجلّ : { كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } ؟ فقال : إن إسرائيل كان به عرق النسا ، فحلف لئن عافاه الله أن لا يأكل العروق من اللحم ، وإنها ليست عليك بحرام .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز في قوله : { كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } قال : إن يعقوب أخذه وجع عرق النسا ، فجعل الله عليه أو أقسم ، أو قال لا يأكله من الدواب . قال : والعروق كلها تبع لذلك العرق .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن الذي حرّم إسرائيل على نفسه ، أن الأنساء أخذته ذات ليلة ، فأسهرته ، فتألى إن الله شفاه لا يطعم نسا أبدا فتتبعت بنوه العروق بعد ذلك يخرجونها من اللحم .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة بنحوه ، وزاد فيه : قال : فتألّى لئن شفاه الله لا يأكل عرقا أبدا ، فجعل بنوه بعد ذلك يتتبعون العروق ، فيخرجونها من اللحم ، وكان الذي حرّم على نفسه من قبل أن تنزل التوراة العروق .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } قال : اشتكى إسرائيل عرق النسا ، فقال : إن الله شفاني لأحرمنّ العروق ، فحرّمها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان إسرائيل أخذه عرق النّسا ، فكان يبيت وله زُقاء ، فجعل لله عليه إن شفاه أن لا يأكل العروق . فأنزل الله عزّ وجلّ : { كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } . قال سفيان : له زقاء : يعني صياح .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } قال : كان يشتكي عرق النسا ، فحرّم العروق .
حدثني المثني ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عباس في قوله : { كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أنْ تُنْزّلَ التّوْرَاةُ } قال : كان إسرائيل يأخذه عرق النسا ، فكان يبيت وله زُقاء ، فحرّم على نفسه أن يأكل عرقا .
وقال آخرون : بل الذي كان إسرائيل حرّم على نفسه : لُحوم والإبل وألبانُها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، قال : سمعنا أنه اشتكى شكوى ، فقالوا : إنه عرق النسا ، فقال : ربّ إن أحبّ الطعام إليّ لحوم الإبل وألبانها ، فإن شفيتني فإني أحرّمها علي ! قال ابن جريج : وقال عطاء بن أبي رباح : لحوم الإبل وألبانها حرّم إسرائيل .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : { كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ } قال : كان إسرائيل حرّم على نفسه لحوم الإبل ، وكانوا يزعمون أنهم يجدون في التوراة تحريم إسرائيل على نفسه لحوم الإبل ، وإنما كان حرّم إسرائيل على نفسه لحوم الإبل قبل أن تنزل التوراة ، فقال الله : { فَأْتُوا بالتّورَاةِ فاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقينِ } فقال : لا تجدون في التوراة تحريم إسرائيل على نفسه إلا لحم الإبل .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا حبيب بن أبي ثابت ، قال : حدثنا سعيد ، عن ابن عباس : أن إسرائيل أخذه عرق النسا ، فكان يبيت بالليل له زُقاء يعني صياح قال : فجعل على نفسه لئن شفاه الله منه لا يأكله يعني لحوم الإبل قال : فحرّمه اليهود . وتلا هذه الاَية : { كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أنْ تُنْزّلَ التّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بالتّورَاةِ فاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقينِ } أي : إن هذا قبل التوراة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في : { إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } قال : حرّم العروق ولحوم الإبل . قال : كان به عرق النّسا ، فأكل من لحومها فبات بليلة يزقو ، فحلف أن لا يأكله أبدا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن مجاهد في قوله : { إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } قال : حرّم لحوم الأنعام .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب ، قول ابن عباس الذي رواه الأعمش ، عن حبيب ، عن سعيد ، عنه ، أن ذلك العروق ولحوم الإبل ، لأن اليهود مجمعة إلى اليوم على ذلك من تحريمها ، كما كان عليه من ذلك أوائلها وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك خبر ، وهو ما :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس : أن عصابة من اليهود حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم أخبرنا أيّ الطعام حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنْشُدُكُمْ بالّذي أنْزَلَ التّوْرَاةَ على مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أنّ إسْرَائِيلَ يَعْقُوبَ مَرِضَ مَرَضا شَدِيدا ، فَطالَ سَقَمُهُ مِنْهُ ، فَنَذَرَ للّهِ نَذْرا لَئِنْ عافاهُ اللّهُ مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرّمَنّ أحبّ الطّعامِ وَالشّرابِ إلَيْهِ ، وكانَ أحَبّ الطّعامِ إلَيْهِ لحْمَانُ الإبِلِ ، وأحَبّ الشّرَابِ إلَيْهِ ألْبانُها ؟ » فقالوا : اللهم نعم .
وأما قوله : { قُلْ فَأْتُوا بالتّورَاةِ فاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقينِ } فإن معناه : قل يا محمد للزاعمين من اليهود أن الله حرم عليهم في التوراة العروق ولحوم الإبل وألبانها ، ائتوا بالتوراة فاتلوها ! يقول : قل لهم : جيئوا بالتوراة فاتلوها ، حتى يتبين لمن خفي عليه كذبهم وقيلهم الباطل على الله من أمرهم ، أن ذلك ليس مما أنزلته في التوراة { إنْ كُنْتُمْ صَادِقينِ } ، يقول : إن كنتم محقين في دعواكم أن الله أنزل تحريم ذلك في التوراة ، فأتونا بها ، فاتلوا تحريم ذلك علينا منها . وإنما ذلك خبر من الله عن كذبهم ، لأنهم لا يجيئون بذلك أبدا على صحته ، فأعلم الله بكذبهم عليه نبيه صلى الله عليه وسلم ، وجعل إعلامه إياه ذلك حجة له عليهم¹ لأن ذلك إذا كان يخفى على كثير من أهل ملّتهم ، فمحمد صلى الله عليه وسلم وهو أميّ من غير ملتهم ، لولا أن الله أعلمه ذلك بوحي من عنده ، كان أحرى أن لا يعلمه . فكان في ذلك له صلى الله عليه وسلم من أعظم الحجة عليهم بأنه نبي الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، لأن ذلك من أخبار أوائلهم كان من خفي علومهم الذي لا يعلمه غير خاصة منهم ، إلا من أعلمه الذي لا يخفى عليه خافية من نبيّ أو رسول ، أو من أطلعه الله على علمه ممن شاء من خلقه .
{ كل الطعام } أي المطعومات والمراد أكلها . { كان حلا لبني إسرائيل } حلالا لهم ، وهو مصدر نعت به ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث قال تعالى : { لا هن حل لهم } . { إلا ما حرم إسرائيل } يعقوب . { على نفسه } كلحوم الإبل وألبانها . وقيل كان به عرق النسا فنذر إن شفي لم يأكل أحب الطعام إليه وكان ذلك أحبه إليه . وقيل : فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطباء . واحتج به من جوز للنبي أن يجتهد ، وللمانع أن يقول ذلك بإذن من الله فيه فهو كتحريمه ابتداء . { من قبل أن تنزل التوراة } أي من قبل إنزالها مشتملة على تحريم ما حرم عليهم لظلمهم وبغيهم عقوبة وتشديدا ، وذلك رد على اليهود في دعوى البراءة مما نعى عليهم في قوله تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات } وقوله : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } الآيتين ، بأن قالوا لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعده حتى انتهى الأمر إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا ، وفي منع النسخ والطعن في دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم موافقة إبراهيم عليه السلام بتحليله لحوم الإبل وألبانها . { قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } أمر بمحاجتهم بكتابهم وتبكيتهم بما فيه من أنه قد حرم عليهم بسبب ظلمهم ما لم يكن محرما . روي : أنه عليه السلام لما قاله لهم بهتوا ولم يجسروا أن يخرجوا التوراة . وفيه دليل على نبوته .
قوله تعالى : { كل الطعام } الآية ، إخبار بمغيب عن محمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأميين لا يعلمه إلا الله وعلماء أهل الكتاب ، وذهب كثير من المفسرين إلى أن معنى الآية : الرد على اليهود في قولهم في كل ما حرموه على أنفسهم من الأشياء : إنها محرمة عليهم بأمر الله في التوراة ، فأكذبهم الله بهذه الآية ، وأخبر أن جميع الطعام كان حلاً لهم ، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه خاصة ، ولم يرد به ولده ، فلما استنوا هم به جاءت التوراة بتحريم ذلك عليهم ، وليس من التوراة شيء من الزوائد التي يدعون أن الله حرمها ، وإلى هذا تنحو ألفاظ السدي ، وقال : إن الله تعالى حرم ذلك عليهم في التوراة عقوبة لاستنانهم في تحريم شيء إنما فعله يعقوب خاصة لنفسه ، قال : فذلك قوله تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم }{[3324]} .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والظاهر في لفظة ظلم أنها مختصة بتحريم ونحوه ، يدل على ذلك أن العقوبة وقعت بذلك النوع ، وذهب قوم من العلماء إلى أن معنى الآية : الرد على قوم من اليهود قالوا : إن ما نحرمه الآن على أنفسنا من الأشياء التي لم تذكر في التوراة كان علينا حراماً في ملة أبينا إبراهيم ، فأكذبهم الله وأخبر أن الطعام كله كان حلالاً لهم قبل التوراة { إلا ما حرم إسرائيل } في خاصته ، ثم جاءت التوراة بتحريم ما نصت عليه ، وبقيت هذه الزوائد في حيز افترائهم وكذبهم ، وإلى هذا تنحو ألفاظ بن عباس رضي الله عنهما وترجم الطبري في تفسير هذه الآية بتراجم ، وأدخل تحتها أقوالاً توافق تراجمه ، وحمل ألفاظ الضحاك أن الاستثناء منقطع وكأن المعنى : كل الطعام كان حلاً لهم قبل نزول التوراة وبعد نزولها .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : فيرجع المعنى إلى القول الأول الذي حكيناه ، وحمل الطبري قول الضحاك إن معناه : لكن إسرائيل حرم على نفسه خاصة ولم يحرم الله على بني إسرائيل في توراة ولا غيرها .
قال الفقيه الإمام : وهذا تحميل يرد عليه قوله تعالى : { حرمنا عليهم }{[3325]} وقوله صلى الله عليه وسلم : ( حرمت عليهم الشحوم ) {[3326]} إلى غير ذلك من الشواهد ، وقوله تعالى : { حِلاًّ } معناه : حلالاً ، و { إسرائيل } هو يعقوب ، وانتزع من هذه الآية أن للأنبياء أن يحرموا باجتهادهم على أنفسهم ما اقتضاه النظر لمصلحة أو قربة أو زهد ، ومن هذا على جهة المصلحة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم جاريته على نفسه{[3327]} ، فعاتبه الله تعالى في ذلك ولم يعاتب يعقوب ، فقيل : إن ذلك لحق آدمي ترتب في نازلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : إن هذه تحريم تقرب وزهد ، وتحريم الجارية تحريم غضب ومصلحة نفوس ، واخلتف الناس في الشيء الذي حرمه يعقوب على نفسه فقال يوسف بن ماهك{[3328]} : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال له : إنه جعل امرأته عليه حراماً ، فقاله ابن عباس : إنها ليست عليك بحرام ، فقال الأعرابي : ولم ؟ والله تعالى يقول في كتابه { إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } فضحك ابن عباس وقال : وما يدريك ما حرم إسرائيل ؟ ثم أقبل على القوم يحدثهم ، فقال : إن إسرائيل عرضت له الأنساء{[3329]} فأضنته فجعل لله إن شفاه من ذلك أن لا يطعم عرقاً ، قال : فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم ، وقال بمثل هذا القول قتادة وأبو مجلز وغيرهم ، وقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعبد الله بن كثير ومجاهد أيضاً : إن الذي حرم إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها ، ولم يختلف فيما علمت أن سبب التحريم هو بمرض أصابه ، فجعل تحريم ذلك شكراً لله تعالى إن شفي ، وقيل : هو وجع عرق النسا ، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عصابة من بني إسرائيل قالوا له : يا محمد ما الذي حرم إسرائيل على نفسه ؟ فقال لهم : أنشدكم بالله هل تعلمون أن يعقوب مرض مرضاً شديداً فطال سقمه منه فنذر لله نذراً إن عافاه الله من سقمه ليحرمنَّ أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وألبانها ؟ قالوا : اللهم نعم{[3330]} ، وظاهر الأحاديث والتفاسير في هذا الأمر أن يعقوب عليه السلام حرم الإبل وألبانها ، وهو يحبها ، تقرباً إلى الله بذلك ، إذ ترك الترفه والتنعم من القرب ، وهذا هو الزهد في الدنيا ، وإليه نحا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله : إياكم وهذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر{[3331]} ومن ذلك قول أبي حازم الزاهد{[3332]} ، وقد مر بسوق الفاكهة فرأى محاسنها فقال : موعدك الجنة إن شاء الله ، وحرم يعقوب عليه السلام أيضاً العروق ، لكن بغضه لها لما كان امتحن بها ، وهذا شيء يعتري نفوس البشر في غير ما شيء وليس في تحريم العروق قربة فيما يظهر ، والله أعلم ، وقد روي عن ابن عباس : أن يعقوب حرم العروق ولحوم الإبل ، وأمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالإتيان بالتوراة ، حتى يبين منها كيف الأمر ، المعنى : فإنه أيها اليهود ، كما أنزل الله عليَّ لا كما تدعون أنتم ، قال الزجّاج : وفي هذا تعجيز لهم وإقامة الحجة عليهم ، وهي كقصة المباهلة مع نصارى نجران .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قالت اليهود: جاء هذا التحريم من الله عز وجل في التوراة، قالوا: حرم الله على يعقوب وذريته لحوم الإبل وألبانها. قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قل} لليهود: {فأتوا بالتوراة فاتلوها} فأقرأوها {إن كنتم صادقين} بأن تحريم لحوم الإبل في التوراة، فلم يفعلوا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جلّ ثناؤه: أنه لم يكن حرّم على بني إسرائيل وهم ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن شيئا من الأطعمة من قبل أن تنزل التوراة، بل كان ذلك كله لهم حلالاً، إلا ما كان يعقوب حرّمه على نفسه، فإن ولده حرّموه استنانا بأبيهم يعقوب، من غير تحريم الله ذلك عليهم في وحي ولا تنزيل ولا على لسان رسول له إليهم من قبل نزول التوراة.
ثم اختلف أهل التأويل في تحريم ذلك عليهم، هل نزل في التوراة أم لا؟ فقال بعضهم: لما أنزل الله عزّ وجلّ التوراة، حرّم عليهم من ذلك ما كانوا يحرّمونه قبل نزولها... قالت اليهود: إنما نحرّم ما حرّم إسرائيل على نفسه، وإنما حرّم إسرائيل العروق، كان يأخذه عرق النّسا، كان يأخذه بالليل ويتركه بالنهار، فحلف لئن الله عافاه منه لا يأكل عِرْقا أبدا، فحرّمه الله عليهم ثم قال: {قُلْ فأْتُوا بالتّوْرَاة فاتْلُوها إنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ}: ما حرّم هذا عليكم غيري ببغيكم، فذلك قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الّذِينَ هادُوا حَرّمْنا عَلَيْهِمْ طَيّباتٍ أُحِلّتُ لَهُمْ}.
فتأويل الآية على هذا القول: كل الطعام كان حلاّ لبني إسرائيل، إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، فإن الله حرّم عليهم من ذلك ما كان إسرائيل حرّمه على نفسه في التوراة، ببغيهم على أنفسهم، وظلمهم لها. قل يا محمد: فأتوا أيها اليهود إن أنكرتم ذلك بالتوراة، فاتلوها إن كنتم صادقين أن الله لم يحرم ذلك عليكم في التوراة، وأنكم إنما تحرّمونه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه.
وقال آخرون: ما كان شيء من ذلك عليهم حراما، لا حرّمه الله عليهم في التوراة، وإنما هو شيء حرّموه على أنفسهم اتباعا لأبيهم، ثم أضافوا تحريمه إلى الله. فكذبهم الله عز وجل في إضافتهم ذلك إليه، فقال الله عزّ وجلّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد: إن كنتم صادقين، فأتوا بالتوراة فاتلوها، حتى ننظر هل ذلك فيها أم لا؟ ليتبين كذبهم لمن يجهل أمرهم. وتأويل الآية على هذا القول: كل الطعام كان حِلاّ لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة وبعد نزولها، إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، بمعنى: لكن إسرائيل حرّم على نفسه من قبل أن تنزل التوراة بعض ذلك. وكأن الضحاك وجه قوله: {إلاّ ما حرَمّ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ} إلى الاستثناء الذي يُسمّيه النحويون: الاستثناء المنقطع.
وقال آخرون تأويل ذلك: كل الطعاك كان حِلاّ لبني إسرائيل، إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، فإن ذلك حرام على ولده بتحريم إسرائيل إياه على ولده، من غير أن يكون الله حرّمه على إسرائيل ولا على ولده. وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: كل الطعام كان حلاّ لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة، إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من غير تحريم الله ذلك عليه، فإن كان حراما عليهم بتحريم أبيهم إسرائيل ذلك عليهم، من غير أن يحرّمه الله عليهم في تنزيل ولا بوحي قبل التوراة، حتى نزلت التوراة، فحرم الله عليهم فيها ما شاء، وأحلّ لهم فيها ما أحبّ.
واختلف أهل التأويل في الذي كان إسرائيل حرّمه على نفسه؛
فقال بعضهم: كان الذي حرّمه إسرائيل على نفسه العروق.
وقال آخرون: بل الذي كان إسرائيل حرّم على نفسه: لُحوم والإبل وألبانُها.
وأولى هذه الأقوال بالصواب: أن ذلك العروق ولحوم الإبل، لأن اليهود مجمعة إلى اليوم على ذلك من تحريمها، كما كان عليه من ذلك أوائلها وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك خبر، وهو ما:
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس: أن عصابة من اليهود حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا أيّ الطعام حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنْشُدُكُمْ بالّذي أنْزَلَ التّوْرَاةَ على مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أنّ إسْرَائِيلَ يَعْقُوبَ مَرِضَ مَرَضا شَدِيدا، فَطالَ سَقَمُهُ مِنْهُ، فَنَذَرَ للّهِ نَذْرا لَئِنْ عافاهُ اللّهُ مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرّمَنّ أحبّ الطّعامِ وَالشّرابِ إلَيْهِ، وكانَ أحَبّ الطّعامِ إلَيْهِ لحْمَانُ الإبِلِ، وأحَبّ الشّرَابِ إلَيْهِ ألْبانُها؟» فقالوا: اللهم نعم.
{قُلْ فَأْتُوا بالتّورَاةِ فاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقينِ}: قل يا محمد للزاعمين من اليهود أن الله حرم عليهم في التوراة العروق ولحوم الإبل وألبانها، ائتوا بالتوراة فاتلوها! يقول: قل لهم: جيئوا بالتوراة فاتلوها، حتى يتبين لمن خفي عليه كذبهم وقيلهم الباطل على الله من أمرهم، أن ذلك ليس مما أنزلته في التوراة {إنْ كُنْتُمْ صَادِقينِ}، يقول: إن كنتم محقين في دعواكم أن الله أنزل تحريم ذلك في التوراة، فأتونا بها، فاتلوا تحريم ذلك علينا منها. وإنما ذلك خبر من الله عن كذبهم، لأنهم لا يجيئون بذلك أبدا على صحته، فأعلم الله بكذبهم عليه نبيه صلى الله عليه وسلم، وجعل إعلامه إياه ذلك حجة له عليهم لأن ذلك إذا كان يخفى على كثير من أهل ملّتهم، فمحمد صلى الله عليه وسلم وهو أميّ من غير ملتهم، لولا أن الله أعلمه ذلك بوحي من عنده، كان أحرى أن لا يعلمه. فكان في ذلك له صلى الله عليه وسلم من أعظم الحجة عليهم بأنه نبي الله صلى الله عليه وسلم إليهم، لأن ذلك من أخبار أوائلهم كان من خفي علومهم الذي لا يعلمه غير خاصة منهم، إلا من أعلمه الذي لا يخفى عليه خافية من نبيّ أو رسول، أو من أطلعه الله على علمه ممن شاء من خلقه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
المعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلالاً لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه فتبعوه على تحريمه، وهو رد على اليهود وتكذيب لهم، حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 16] إلى قوله تعالى: {عَذَاباً أَلِيماً} [النساء: 18] وفي قوله: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146] إلى قوله: {ذلك جزيناهم بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] وجحود ما غاظهم واشمأزوا منه وامتعضوا مما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم، فقالوا: لسنا بأوّل من حرّمت عليه، وما هو إلا تحريم قديم، كانت محرّمة على نوح وعلى إبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل وهلم جرا، إلى أن انتهى التحريم إلينا، فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا. وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصدّ عن سبيل الله وأكل الربا وأخذ أموال الناس بالباطل، وما عدّد من مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حُرم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم {قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها} أمر بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم مما هو ناطق به من أن تحريم ما حرّم عليهم تحريم حادث بسبب ظلمهم وبغيهم، لا تحريم قديم كما يدعونه...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
المسألة الأولى: سبب نزولها، وفيه ثلاثة أقوال:
الأول: رُوِي أنَّ اليهود أنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم تحليلَ لحوم الإبل، فأخبر اللهُ بتحليلها لهم حتى حرَّمها إسرائيلُ على نفسه.
المعنى إني لم أحرِّمْها عليكم، وإنما كان إسرائيل هو الذي حرَّمها على نفسه.
المسألة الثانية: اختلفوا في تحريم إسرائيل على نفسه؛ فقيل: كان بإذْنِ الله تعالى.
وقيل: كان باجتهادٍ، وذلك مبنيٌّ على جواز اجتهادِ الأنبياء؛ وقد بينّاه في موضعه.
واختلف في تحريم اليهود ذلك. فقيل: إنَّ إسرائيلَ حرَّمها على نفسه وعليهم.
وقيل: اقتدوا به في تحريم ذلك، فحرَّم اللهُ تعالى عليهم بَغْيهم، ونزلت به التوراة، وذلك في قوله تعالى: {فبِظُلْم من الذين هادُوا حرَّمْنا عليهم طيباتٍ أُحِلَّتْ لهم} [النساء:160].
والصحيحُ أنَّ للنبي أن يجتهد؛ وإذا أدَّاه اجتهادُه إلى شيء كان دِيناً يلزمُ اتّباعُه لتقريرِ اللهِ سبحانه إياه على ذلك، وكما يُوحَى إليه ويلزم اتباعه، كذلك يُؤْذن له ويجتهد، ويتعيّن موجبُ اجتهاده إذا قُدر عليه.
والظاهر من الآية -مع أنّ الله سبحانه أضاف التحريم إليه بقوله إلاَّ ما حرّم إسرائيلُ على نفسه مِنْ قَبْلِ أن تنزَّلَ التوراة- أنَّ اللهَ سبحانه أَذِنَ له في تحريم ما شاء، ولولا تقدّم الإذنِ له ما تسَوَّر على التحليل والتحريم، وتقدم ما يقتضي ذلك على القول بجواز الاجتهاد فحرّمه مجتهداً فأقرَّه اللهُ سبحانه عليه.
وقد حرَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم العَسَل على الرواية الصحيحة أو جاريته مارية فلم يقر الله تحريمه، ونزل قوله تعالى: {يأيها النبي لِمَ تحرِّمُ ما أحلَّ اللهُ لك} [التحريم:1]. وكان ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم اجتهاداً أو بأمْرٍ على ما يأتي بيانُه إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة: حقيقةُ التحريم: الْمَنْع؛ فكلُّ من امتنع من شيء مع اعتقاده الامتناع منه فقد حرّمه، وذلك يكونُ بأسبابٍ؛ إما بنَذْرٍ كما فعل يعقوب في تحريم الإبل وألبانها؛ وإما بيمينٍ كما فعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم في العَسل، أو في جاريته؛ فإن كان بِنَذْرٍ فإنه غير منعقد في شَرْعنا.
ولسنا نتحقّق كيفيةَ تحريم يعقوب؛ هل كان بنَذْرٍ أو بيمين؛ فإنْ كان بيمين فقد أحلَّ الله لنا اليمين بالكفارة أو بالاستثناء المتصل رخصة منه لنا، ولم يكن ذلك لغيرنا من الأمم.
فلو قال رجل: حرَّمتُ الخبْزَ على نفسي أو اللحم لم يَحْرُم ولم ينعقد يميناً؛ فإن قال: حرمت أهلي فقد اختلف العلماءُ فيه اختلافاً كثيراً يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
والصحيح أنه يلزمه تحريمُ الأهل إذا ابتدأ بتحريمها كما يحرمها بالطلاق، ولا يلزمه تحريمٌ فيما عدا ذلك؛ لقوله سبحانه: {لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} [المادة:87].
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر بذلك بين أنه كان ديدن أهل الكمال على وجه يقرر به ما مضى من الإخبار بعظيم اجتراء أهل الكتاب على الكذب بأمر حسّي فقال تعالى: {كل الطعام} أي من الشحوم مطلقاً وغيرها {كان حلاًّ لبني إسرائيل} أي أكله -كما كان حلاًّ لمن قبلهم على أصل الإباحة {إلا ما حرم إسرائيل} تبرراً وتطوعاً {على نفسه} وخصه بالذكر استجلاباً لبنيه إلى ما يرفعهم بعد اجتذابهم للمؤمنين إلى ما يضرهم ولا ينفعهم. ولما كانوا بما أغرقوا فيه من الكذب ربما قالوا: إنما حرم ذلك اتباعاً لحكم التوراة قال: {من قبل} وأثبت الجار لأن تحريمه كان في بعض ذلك الزمان، لا مستغرقاً له. وعبر بالمضارع لأنه أدل على التجدد فقال: {أن تنزل التوراة}.
ولما كانت هذه الآية إلزاماً لليهود باعتقاد النسخ الذي طعنوا به في هذا الدين في أمر القبلة، وكانوا ينكرونه ليصير عذراً لهم في التخلف عن اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم، فكانوا يقولون: لم تزل الشحوم وما ذكر معها حراماً على من قبلنا كما كانت حراماً علينا، فأمر بجوابهم بأن قال: {قل} أي لليهود {فأتوا بالتوارة فاتلوها} أي لتدل لكم {إن كنتم صادقين} فيما ادعيتموه، فلم يأتوا بها فبان كذبهم فافتضحوا فضيحة لا مثل لها في الدنيا...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
كان الكلام من أول السورة إلى هنا في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، مع إثبات التوحيد، واستتبع ذلك محاجة أهل الكتاب في ذلك، وفي بعض بدعهم وما استحدثوا في دينهم. أما هذه الآيات ففي دفع شبهتين عظيمتين من شبهات اليهود على الإسلام، قررهما الأستاذ الإمام هكذا:
قالوا: إذا كنت يا محمد على ملة إبراهيم والنبيين من بعده – كما تدعي- فكيف تستحل ما كان محرما عليه وعليهم كلحم الإبل؟ أما وقد استبحت ما كان محرما عليهم فلا ينبغي لك أن تدعي أنك مصدق لهم وموافق في الدين، ولا أن تخص إبراهيم بالذكر وتقول: إنك أولى الناس به. هذه هي الشبهة الأولى. وأما الثانية فهي أنهم قالوا: إن الله وعد إبراهيم بأن تكون البركة في نسل ولده إسحاق، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمون بيت المقدس ويصلون إليه؛ فلو كنت على ما كانوا عليه لعظمت ما عظموا، ولما تحولت عن بيت المقدس وعظمت مكانا آخر اتخذته مصلى وقبلة، وهو الكعبة، فخالفت الجميع.
فقوله تعالى: (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة) هو جواب عن الشبهة الأولى، قال الأستاذ الإمام: ولكن الجلال وكثيرا من المفسرين يقررون الشبهة ولا يبينون وجه دفعها بيانا مقنعا، إذ يعترفون بأن بعض الطيبات كانت محرمة على إسرائيل. والصواب ما قصه الله تعالى علينا في هذه الآية وغيرها من الآيات التي توضحها، وهي أن كان الطعام كان حلالا لبني إسرائيل ولإبراهيم من قبل بالأولى، ثم حرم الله عليهم بعض الطيبات في التوراة عقوبة لهم وتأديبا، كما قال: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) [النساء: 160] الآية. فالمراد بإسرائيل شعب إسرائيل، كما هو مستعمل عندهم، لا يعقوب نفسه. ومعنى تحريم الشعب ذلك على نفسه: أنه ارتكب الظلم واجترح السيئات التي كانت سبب التحريم، كما صرحت الآية. فكأنه يقول: إذا كان الأصل في الأطعمة الحل، وكان تحريم ما حرم على إسرائيل تأديبا على جرائم أصابوها، وكان النبي وأمته لم يجترحوا تلك السيئات، فلم تحرم عليهم الطيبات؟ ثم قال تعالى مبينا تقرير الدفع وسنده (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) في قولكم، لا تخافون أن تكذبكم نصوصها. أقول: كأنه يقول: أما إنكم لو جئتم بما عندكم منها لما كان إلا مؤيدا للقرآن فيما جاء به من أنها هي حرمت عليكم ما حرمتُ. وعللت جملة التكاليف بأنكم شعب غليظ الرقبة متمرد يقاوم الرب، كما قال موسى عند أخذ العهد عليكم بحفظ الشريعة...
قال الأستاذ الإمام: أما قول الجلال وغيره: إن يعقوب كان به عرق النّسا- بالفتح والقصر- فنذر: إن شُفي لا يأكل لحم الإبل. فهو دسيسة من اليهود وقيل: إنه نذر أن لا يأكل هذا العرق. وفي التوراة أن يعقوب التقى في بعض أسفاره بالرب في الطريق فتصارعا إلى الصباح، وكاد يعقوب يغلبه، ولكن اعتراه عرق النسا إلخ ما حرفوه...
وليس فيه أنه نذر شيئا ولا حرم شيئا وقيل: إن ما حرمه يعقوب هو زائدتا الكبد والكليتين والشحم إلا ما كان على الظهر. وقال مجاهد: حرم لحوم الأنعام كلها. وكل ذلك من الإسرائيليات. وصحة السند في بعضها عن ابن عباس أو غيره-كما زعم الحاكم- لا يمنع أن يكون مصدرها إسرائيليا. والأقرب ما قاله الأستاذ الإمام لأنه هو الذي تقوم به الحجة، لا سيما عند المطلع على التوراة. ولو أريد بإسرائيل يعقوب نفسه لما كان هناك حاجة إلى قوله "من قبل أن تنزل التوراة "لأن زمن يعقوب سابق على زمن نزول التوراة سبقا لا يشتبه فيه فيحترس عنه. والمتبادر عندي: أن المراد بما حرمه إسرائيل على نفسه ما امتنعوا عن أكله وحرموه على أنفسهم بحكم العادة والتقليد، لا بحكم من الله، كما يعهد مثل ذلك في جميع الأمم. ومنه تحريم العرب للبحائر والسوائب وغير ذلك مما حكاه القرآن عنهم في سورتي المائدة والأنعام. وقيل: إن شبهتهم التي دفعتها الآية هي إنكار النسخ، فألزمهم بأن التوراة نفسها نسخت بعض ما كان عليه إبراهيم وإسرائيل، وهو إلزام لا يمكنهم التفصي منه. لأنه ثابت عندهم في التوراة وهو يدل على نبوة النبي على كل حال. إذ أخبرهم بما عندهم ولم يطلع عليه. وبهذا يسقط بحثهم في كون التحليل والتحريم لا يكونان إلا من الله.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا يرتبط بالآي السَّابقة في قوله تعالى: {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً} [آل عمران: 67] وما بينهما اعتراضات وانتقالات في فنون الخطاب. وهذه حجّة جزئية بعد الحجج الأصليّة على أنّ دين اليهودية ليس من الحنيفية في شيء، فإنّ الحنيفية لم يكن ما حرّم من الطّعام بنصّ التَّوراة محرّماً فيها، ولذلك كان بنو إسرائيل قبل التَّوراة على شريعة إبراهيم، فلم يكن محرّماً عليهم ما حُرّم من الطعام إلاّ طعاماً حرّمه يعقوب على نفسه. والحجَّة ظاهرة ويدلّ لهذا الارتباط قوله في آخرها: {قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً} [آل عمران: 95]. ويحتمل أنّ اليهود مع ذلك طعنوا في الإسلام، وأنَّه لم يكن على شريعة إبراهيم، إذْ أباح للمسلمين أكل المحرّمات على اليهود، جهلاً منهم بتاريخ تشريعهم، أو تضليلاً من أحبارهم لعامّتهم، تنفيراً عن الإسلام، لأن الأمم في سذاجتهم إنَّما يتعلّقون بالمألوفات، فيعدّونها كالحقائق، ويقيمونها ميزاناً للقبول والنّقد، فبيّن لهم أنّ هذا ممّا لا يُلتفت إليه عند النّظر في بقيّة الأديان، وحسبكم أنّ ديناً عظيماً وهو دين إبراهيم، وزُمرة من الأنبياء من بنيه وحفدته، لم يكونوا يحرّمون ذلك. وتعريف (الطّعام) تعريف الجنس، و (كُلّ) للتنصيص على العموم. وقد استدلّ القرآن عليهم بهذا الحكم لأنَّه أصرح ما في التَّوراة دلالة على وقوع النسخ... وقوله: {من قبل أن تنزل التوراة} تصريح بمحلّ الحجَّة من الردّ إذ المقصود تنبيههم على ما تناسوه فنُزلوا منزلة الجاهل بكون يعقوب كان قبل موسى،... وقوله: {قل فأتوا بالتوراة فأتلوها إن كنتم صادقين} أي في زعمكم أنّ الأمر ليس كما قلناه أو إن كنتم صادقين في جميع ما تقدّم: من قولكم إنّ إبراهيم كان على دين اليهودية، وهو أمر للتعجيز، إذ قد علم أنَّهم لا يأتون بها إذا استدلّوا على الصّدق...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
...هذا أسلوب لا بُدَّ من مراعاته واتباعه مع النَّاس الذين ينسبون إلى الشريعة تحليل شيء غير موجود فيها، أو ينكرون وجود بعض العقائد الباطلة في كتبهم، وهي موجودة فيها، وذلك كبعض الملحدين الذين يتحرّكون في وضع سياسي واقتصادي معيّن؛ فإذا تحدّث إليهم متحدّث بما عندهم من ذلك، وخافوا أن تعطل هذه القضايا بعض خططهم وأهدافهم، أنكروا وجودها اعتماداً على أنَّ النَّاس لا يقرأون، أو أنَّهم لا يصلون إلى هذه الكتب، فيمكن للعاملين في سبيل الدعوة إلى اللّه أن يطلبوا منهم إبراز كتبهم أمام النَّاس ليظهروا ما فيها من شؤون العقيدة في عالم الإلحاد والإيمان، ليبرز من ذلك زيفهم وبطلان أساليبهم الخادعة. فإذا وضحت الحقيقة من خلال ذلك، أو من خلال هروبهم عن إظهارها، فلا بُدَّ من أن يقفوا وقفة الصدق أمام الحقيقة الواضحة...