ثم قال : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } أي : ظاهرا وباطنا { وَآتُوا الزَّكَاةَ } مستحقيها ، { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } أي : صلوا مع المصلين ، فإنكم إذا فعلتم ذلك مع الإيمان برسل الله وآيات الله ، فقد جمعتم بين الأعمال الظاهرة والباطنة ، وبين الإخلاص للمعبود ، والإحسان إلى عبيده ، وبين العبادات القلبية البدنية والمالية .
وقوله : { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } أي : صلوا مع المصلين ، ففيه الأمر بالجماعة للصلاة ووجوبها ، وفيه أن الركوع ركن من أركان الصلاة لأنه عبّر عن الصلاة بالركوع ، والتعبير عن العبادة بجزئها يدل على فرضيته فيها .
وبعد أن أمرهم - سبحانه - بأصل الدين الذي هو الإِيمان به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أردفه بركنين من أركانه العملية ، إذا قاموا بهما لانت قلوبهم للحق ، وانعطفت نفوسهم نحو خشية الله وحده ، فقال تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واركعوا مَعَ الراكعين } والمراد بإقامة الصلاة ، أداؤها مستوفية لأركانها وشرائطها وآدابها . والمراد بإيتاء الزكاة دفعها لمستحقيها كالمة غير منقوصة .
والمعنى : عليكم يا معشر اليهود أن تحافظوا على أداء الصلاة ، التي هي أعظم العبادات البدنية ، وعلى إيتاء الزكاة التي هي أعظم العبادات المالية ، وأن تخضعوا لما يلزمكم في دين الله - تعالى - لأن في محافظتكم على هذه العبادات تطهيراً لقلوبكم ، وتأليفاً لنفوسكم ، وتزكية لمشاعركم ، ولأنكم إن لم تحافظوا عليها كما أمركم الله - تعالى - فسيلحقكم الخزي في الدنيا ، والعذاب في الأخرى .
قال مقاتل : قوله تعالى لأهل الكتاب : { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } أمرهم أن يصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم { وَآتُوا الزَّكَاةَ } أمرهم أن يؤتوا الزكاة ، أي : يدفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال علي بن طلحة ، عن ابن عباس : [ { وَآتُوا الزَّكَاةَ } ] {[1650]} يعني بالزكاة : طاعة الله والإخلاص .
وقال وَكِيع ، عن أبي جَنَاب ، عن عِكْرِمة عن ابن عباس ، في قوله : { وَآتُوا الزَّكَاةَ } قال : ما يوجب الزكاة ؟ قال : مائتان فصاعدا .
وقال مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، في قوله تعالى : { وَآتُوا الزَّكَاةَ } قال : فريضة واجبة ، لا تنفع الأعمال إلا بها وبالصلاة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير عن أبي حيان [ العجمي ]{[1651]} التيمي ، عن الحارث العُكلي في قوله : { وَآتُوا الزَّكَاةَ } قال : صدقة الفطر .
وقوله تعالى : { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } أي : وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم ، ومن أخص ذلك وأكمله{[1652]} الصلاة .
[ وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة ، وبسط ذلك في كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله ، وقد تكلم القرطبي على مسائل الجماعة والإمامة فأجاد ]{[1653]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرّاكِعِينَ }
قال أبو جعفر : ذكر أن أحبار اليهود والمنافقين كانوا يأمرون الناس بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولا يفعلونه فأمرهم الله بإقام الصلاة مع المسلمين المصدّقين بمحمد وبما جاء به ، وإيتاء زكاة أموالهم معهم وأن يخضعوا لله ولرسوله كما خضعوا كما :
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة في قوله : وأقيمُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ قال : فريضتان واجبتان ، فأدّوهما إلى الله . وقد بينا معنى إقامة الصلاة فيما مضى من كتابنا هذا فكرهنا إعادته .
أما إيتاء الزكاة : فهو أداء الصدقة المفروضة وأصل الزكاة : نماء المال وتثميره وزيادته . ومن ذلك قيل : زكا الزرع : إذا كثر ما أخرج الله منه ، وزكت النفقة : إذا كثرت . وقيل : زكا الفرد ، إذا صار زوجا بزيادة الزائد عليه حتى صار به شفعا ، كما قال الشاعر :
كانُوا خَسا أوْ زَكا مِنْ دُونِ أرْبَعَةٍ *** لَم يَخْلَقُوا وَجُدُودُ النّاسُ تَعْتَلِجُ
فَلا خَسا عَدِيدُهُ ولا زَكا *** كمَا شِرارُ البَقْلِ أطْرافُ السّفَا
قال أبو جعفر : السفا : شوك البهمي ، والبهمي : الذي يكون مدوّرا في السّلى . يعني بقوله : «ولا زكا » لم يصيرهم شفعا من وتر بحدوثه فيهم .
وإنما قيل للزكاة زكاة وهي مال يخرج من مال لتثمير الله بإخراجها مما أخرجت منه ما بقي عند ربّ المال من ماله . وقد يحتمل أن تكون سميت زكاة لأنها تطهير لما بقي من مال الرجل ، وتخليص له من أن تكون فيه مظلمة لأهل السهمان ، كما قال جل ثناؤه مخبرا عن نبيه موسى صلوات الله عليه : أقَتَلْتَ نَفْسا زَكِيّةً يعني بريئة من الذنوب طاهرة ، وكما يقال للرجل : هو عدل زكىّ لذلك المعنى .
وهذا الوجه أعجب إليّ في تأويل زكاة المال من الوجه الأوّل ، وإن كان الأوّل مقبولاً في تأويلها . وإيتاؤها : إعطاؤها أهلها .
وأما تأويل الركوع : فهو الخضوع لله بالطاعة ، يقال منه : ركع فلان لكذا وكذا : إذا خضع له ، ومنه قول الشاعر :
بِيعَتْ بِكَسْرٍ لتَيْمٍ واسْتَغَاثَ بها *** مِنَ الهُزَالِ أبُوها بَعْدَمَا رَكَعا
يعني : بعد ما خضع من شدّة الجهد والحاجة . وهذا أمر من الله جل ثناؤه لمن ذكر من أحبار بني إسرائيل ومنافقيها بالإنابة والتوبة إليه ، وبإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والدخول مع المسلمين في الإسلام ، والخضوع له بالطاعة . ونهيٌ منه لهم عن كتمان ما قد علموه من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بعد تظاهر حججه عليهم بما قد وصفنا قبل فيما مضى من كتابنا هذا ، وبعد الإعذار إليهم والإنذار ، وبعد تذكيرهم نعمه إليهم وإلى أسلافهم تعطفا منه بذلك عليهم وإبلاغا إليهم في المعذرة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.