86- فعاد موسى إلي قومه في غضب شديد وحزن مؤلم ، وخاطب قومه - منكراً عليهم - بقوله : لقد وعدكم ربكم النجاة والهداية بنزول التوراة ، والنصر بدخول الأرض المقدسة ، ولم يطل عليكم العهد حتى تنسوا وعد الله لكم ، أردتم بسوء صنيعكم أن ينزل بكم غضب الله بطغيانكم الذي حذركم منه ، فأخلفتم عهدكم لي بالسير علي سنتي والمجيء علي أثرى .
فلما رجع موسى إلى قومه وهو غضبان أسف ، أي : ممتلئ غيظا وحنقا وغما ، قال لهم موبخا ومقبحا لفعلهم : { يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا } وذلك بإنزال التوراة ، { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ } أي : المدة ، فتطاولتم غيبتي وهي مدة قصيرة ؟ هذا قول كثير من المفسرين ، ويحتمل أن معناه : أفطال عليكم عهد النبوة والرسالة ، فلم يكن لكم بالنبوة علم ولا أثر ، واندرست آثارها ، فلم تقفوا منها على خبر ، فانمحت آثارها لبعد العهد بها ، فعبدتم غير الله ، لغلبة الجهل ، وعدم العلم بآثار الرسالة ؟ أي : ليس الأمر كذلك ، بل النبوة بين أظهركم ، والعلم قائم ، والعذر غير مقبول ؟ أم أردتم بفعلكم ، أن يحل عليكم غضب من ربكم ؟ أي : فتعرضتم لأسبابه واقتحمتم موجب عذابه ، وهذا هو الواقع ، { فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي } حين أمرتكم بالاستقامة ، ووصيت بكم هارون ، فلم ترقبوا غائبا ، ولم تحترموا حاضرا .
وقوله - تعالى - : { فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } بيان لما كان منه - عليه السلام - بعد أن علم بضلال قومه .
وكان رجوع موسى إليهم بعد أن ناجى ربه ، وتلقى منه التوراة .
قال الآلوسى ما ملخصه : { فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ } عند رجوعه المعهود أى : بعد ما استوفى الأربعين " ذا القعدة وعشر ذى الحجة " وأخذ التوراة لا عقيب الإخبار المذكور ، فسببية ما قبل الفاء لما بعدها إنما هى باعتبار قيد الرجوع المستفاد منه قوله { غَضْبَانَ أَسِفاً } لا باعتبار نفسه ، وإن كانت داخلة عليه حقيقة ، فإن كون الرجوع بعد تمام الأربعين أمر مقرر مشهور لا يذهب الوهم إلى كونه عند الإخبار المذكور . . . " .
والمعنى فرجع موسى إلى قومه - بعد مناجاته لربه وبعد تلقيه التوراة حالة كونه { غَضْبَانَ أَسِفاً } أى : غضبان شديد الغضب .
فالمراد بالأسف شدة الغضب ، وقيل المراد به الحزن والجزع .
ثم بين - سبحانه - ما قاله موسى لقومه بعد رجوعه إليهم فقال : { قَالَ ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً . . } .
أى : قال لهم على سبيل الزجر والتوبيخ يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا لا سبيل لكم إلى إنكاره ، ومن هذا الوعد الحسن : إنزال التوراة لهدايتكم وسعادتكم ، وإهلاك عدوكم أمام أعينكم . فلماذا أعرضتم عن عبادته وطاعته مع أنكم تعيشون فى خيره ورزقه . . . ؟
ثم زاد فى تأنيبهم وفى الإنكار عليهم فقال : { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي } .
فالاستفهام فى قوله { أَفَطَالَ . . . } للنفى والإنكار و { أَمْ } منقطعة بمعنى بل .
والمعنى : أفطال عليكم الزمان الذى فارقتكم فيه ؟ لا إنه لم يطل حتى تنسوا ما أمرتكم به ، بل إنكم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ، فأخلفتم موعدى الذى وعدتمونى إياه وهو أن تثبتوا على إخلاص العبادة لله - تعالى - .
ومعنى إرادتهم حلول الغضب عليهم ، أنهم فعلوا ما يستوجب ذلك وهو طاعتهم للسامرى فى عبادتهم للعجل .
قال ابن جرير : كان إخلافهم موعده : عكوفهم على عبادة العجل ، وتركهم السير على أثر موسى للموعد الذى كان الله وعدهم ، وقولهم لهارون إذ نهاهم عن عبادة العجل ودعاهم إلى السير معه فى أثر موسى : { لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى }
وينهي السياق موقف المناجاة هنا على عجل ويطويه ، ليصور انفعال موسى - عليه السلام - مما علم من أمر الفتنة ، ومسارعته بالعودة ، وفي نفسه حزن وغضب ، على القوم الذين أنقذهم الله على يديه من الاستعباد والذل في ظل الوثنية ؛ ومن عليهم بالرزق الميسر والرعاية الرحيمة في الصحراء ؛ وذكرهم منذ قليل بآلائه ، وحذرهم الضلال وعواقبه . ثم ها هم أولاء يتبعون أول ناعق إلى الوثنية ، وإلى عبادة العجل !
ولم يذكر هنا ما أخبر الله به موسى من تفصيلات الفتنة ، استعجالا في عرض موقف العودة إلى قومه . ولكن السياق يشي بهذه التفصيلات . فلقد عاد موسى غضبان أسفا يوبخ قومه ويؤنب أخاه . فلا بد أنه كان يعلم شناعة الفعلة التي أقدموا عليها :
( فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا . قال : يا قوم : ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا ? أفطال عليكم العهد ? أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي ، قالوا : ما أخلفنا موعدك بملكنا ، ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها ، فكذلك ألقى السامري ، فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار ، فقالوا : هذا إلهكم وإله موسى فنسي ، أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ? ولقد قال لهم هارون من قبل : يا قوم إنما فتنتم به ، وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري . قالوا : لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ! ) .
هذه هي الفتنة يكشف السياق عنها في مواجهة موسى بقومه ؛ وقد أخر كشفها عن موقف المناجاة ، واحتفظ بتفصيلاتها لتظهر في مشهد التحقيق الذي يقوم به موسى . .
لقد رجع موسى ليجد قومه عاكفين على عجل من الذهب له خوار يقولون : هذا إلهكم وإله موسى . وقد نسي موسى فذهب يطلب ربه على الجبل وربه هنا حاضر !
فراح موسى يسألهم في حزن وغضب : ( يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا ? )وقد وعدهم الله بالنصر ودخول الأرض المقدسة في ظل التوحيد ؛ ولم يمض على هذا الوعد وإنجاز مقدماته طويل وقت . ويؤنبهم في استنكار : ( أفطال عليكم العهد ? أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ? )فعملكم هذا عمل من يريد أن يحل عليه غضب من الله كأنما يتعمد ذلك تعمدا ، ويقصد إليه قصدا ! . . أفطال عليكم العهد ? أم تعمدتم حلول الغضب ( فأخلفتم موعدي )وقد تواعدنا على أن تبقوا على عهدي حتى أعود إليكم ، لا تغيرون في عقيدتكم ولا منهجكم بغير أمري ?
وقوله : { فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا } أي : بعد ما أخبره تعالى بذلك ، في غاية الغضب والحَنَق عليهم ، هو فيما هو فيه من الاعتناء بأمرهم ، وتَسَلّم التوراة التي فيها شريعتهم ، وفيها شرف لهم . وهم قوم قد عبدوا غير الله ما يَعْلَمُ كل عاقل له لب [ وحزم ]{[19462]} بطلان{[19463]} [ ما هم فيه ]{[19464]} وسخافة عقولهم وأذهانهم ؛ ولهذا رجع إليهم غضبان أسفًا ، والأسف : شدة الغضب .
وقال مجاهد : { غَضْبَانَ أَسِفًا } أي : جزعًا . وقال قتادة ، والسدي : { أَسِفًا } أي : حزينًا على ما صنع قومه من بعده .
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا } أي : أما وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة ، وحسن العاقبة كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم ، وإظهاركم عليه ، وغير ذلك من أياديه عندكم ؟ { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ } أي : في انتظار ما وعدكم الله . ونسيان ما سلف من{[19465]} نعمه ، وما بالعهد من قدم . { أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ } " أم " هاهنا بمعنى " بل " وهي للإضراب عن الكلام الأول ، وعدول إلى الثاني ، كأنه يقول : بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم { فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي }
وقوله : " فَرَجَعَ مُوسَى إلى قومه " يقول : فانصرف موسى إلى قومه من بني إسرائيل بعد انقضاء الأربعين ليلة غَضْبانَ أسِفا متغيظا على قومه ، حزينا لما أحدثوه بعده من الكفر بالله . كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " غَضْبانَ أسِفا " يقول : حزينا . وقال في الزخرف : " فَلَمّا آسَفُونا " يقول : أغضبونا ، والأسف على وجهين : الغضب ، والحزن .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ " غَضْبانَ أسِفا " يقول : حزينا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وَلَمّا رَجَعَ مُوسَى إلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أسِفا " : أي حزينا على ما صنع قومه من بعده .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أسِفا قال : حزينا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقوله : " قالَ يا قَوْمِ أَلْم يَعِدْكُمْ رَبّكُمْ وَعْدا حَسَنا " يقول : ألم يعدكم ربكم أنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ، ويعدكم جانب الطور الأيمن ، وينزل عليكم المنّ والسلوى ، فذلك وعد الله الحسن ببني إسرائيل الذي قال لهم موسى : ألم يعدكموه ربكم . وقوله : " أفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أمْ أرَدْتُمْ أنْ يَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّكُمْ " يقول : أفطال عليكم العهد بي ، وبجميل نعم الله عندكم ، وأياديه لديكم ، أم أردتم أن يحلّ عليكم غضب من ربكم : يقول : أم أردتم أن يجب عليكم غضب من ربكم فتستحقوه بعبادتكم العجل ، وكفركم بالله ، فأخلفتم موعدي . وكان إخلافهم موعده ، عكوفهم على العجل ، وتركهم السير على أثر موسى للموعد الذي كان الله وعدهم ، وقولهم لهارون إذ نهاهم عن عبادة العجل ، ودعاهم إلى السير معه في أثر موسى : " لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إلَيْنا مُوسَى " .