اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَرَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ أَلَمۡ يَعِدۡكُمۡ رَبُّكُمۡ وَعۡدًا حَسَنًاۚ أَفَطَالَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡعَهۡدُ أَمۡ أَرَدتُّمۡ أَن يَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبٞ مِّن رَّبِّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُم مَّوۡعِدِي} (86)

قوله : { غَضْبَانَ أَسِفاً } حالان{[26123]} ، وقد تقدم في سورة الأعراف{[26124]} قيل : الأسف{[26125]} شدة الغضب ، فلا يلزم التكرار ، لأنَّ " غَضْبَانَ " يفيد أصل الغضب ، و " أَسِفاً " يفيد كماله . وقال الأكثرون{[26126]} : حُزْناً وجَزَعاً ، يقال : أسف يأسَف أسَفاً فهو أسِفٌ ، إذا حزن{[26127]} . وقيل : الأسف : المغتاط ، وفرق بين الاغتياط والغضب ، لأنَّ الله تعالى لا يوصف بالغيظ ويُوصَف من حيث أن الغضب إرادة الإضرار بالمغضوب عليه{[26128]} ، والغيط تغيُّرٌ يلحقُ المُغتاط{[26129]} وذلك لا يصح إلى على الأجسام كالضحك والبكاء ، ثم إن موسى -عليه السلام{[26130]}- عاتبهم بعد رجوعه{[26131]} فقال : { يا قوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً }{[26132]} قيل : المراد بالوعد الحسن{[26133]} إنزال التوراة . وقيل : الثواب على الطاعات .

وقال مجاهد : العهد . وهو قوله : { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ } إلى قوله : { ثُمَّ اهتدى }{[26134]} ( ويدل عليه قوله بعد ذلك ){[26135]} { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ } فكأنه قال أفنسيتم ذلك الذي قال الله لكم : " وَلاَ تَطْغوا " وقيل : الوعد الحسن{[26136]} هاهنا يحتمل أن يكون وعداً حسناً في منافع الدين وأن يكون في منافع الدنيا . أما منافع الدين : فهو الوعد بإنزال الكتاب الهادي إلى الشرائع ، والوعد بحصول الثواب العظيم في الآخرة . وأما منافع الدنيا فإن الله تعالى قد وعدهم قبل إهلاك{[26137]} فرعون أن يورثهم أرضَهُم ( ودِيارَهُم{[26138]} ){[26139]} .

فإن قيل : قوله : { أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ } هذا الكلام إنما يتوجه عليهم لو كانوا معترفين بإلهٍ آخر سوى العجل ، وأمَّا لمَّا اعتقدوا أنه لا إله سواه على ما أخبر الله عنهم أنهم{[26140]} قالوا : { هذا إلهكم وإله موسى }{[26141]} كيف يتوجه عليهم هذا الكلام ؟

فالجواب{[26142]} : أنهم كانوا معترفين بالإله لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي يذكره عبَّاد الأصنام{[26143]} .

قوله : { وَعْداً حَسَناً } يجوز أن يكون مصدراً مؤكداً{[26144]} ، والمفعول محذوف تقديره : وعدكم بالكتاب والهداية ، أو يترك المفعول الثاني ليعم . ويجوز أن يكون الوعد بمعنى الموعود{[26145]} فيكون هو المفعول الثاني{[26146]} .

قوله : { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد } أيْ أقصيْتُم{[26147]} ذلك العهد . وقيل : أفَطَالَ عليكم مدة مفارقتي إياكم . وطول العهد يحتمل أموراً{[26148]} :

أحدها{[26149]} : أفطال عليكم العهد بنعم{[26150]} الله من إنْجَائكُم من فرعون ، وغير ذلك من النعم المذكورة في أول سورة البقرة كقوله تعالى{[26151]} : { فَطَالَ عَلَيْهِمُ{[26152]} الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }{[26153]} .

وثانيها{[26154]} : روي أنَّهم عرفوا أنَّ الأجل أربعون ليلةً فجعلوا كلَّ يوم بإزاء ليلة وردُّوه إلى عشرين . قال القاضي : هذا ركيك لأن ذلك لا يكاد يشتبه على أحد .

وثالثها{[26155]} : أنَّ موسى -عليه السلام{[26156]}- وعدهُم{[26157]} ثلاثين ليلةً فلما زاده الله فيها عشرة{[26158]} أخرى طال العهد{[26159]} .

قوله : { أَمْ أَرَدتُّمْ أَن{[26160]} يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ } هذا لا يمكن{[26161]} إجراؤه على ظاهره لأنَّ أحدا لا يريد ذلك{[26162]} ، ولكن المعضية ( لما كانت ){[26163]} توجب ذلك ، ومريد السبب مريد{[26164]} للمسبب{[26165]} ، أي أرَدْتُّمْ أن تفعلوا{[26166]} فعلاً يوجب عليكم الغضب{[26167]} من ربكم{[26168]} .

{ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي } ، وهذا يدل على موعد كان فيه -عليه السلام{[26169]}- مع القوم ، فقيل : المراد ما وعدوه من اللحاق والمجيء على أثره . وقيل : ما وعدوه من الإقامة على دينه إلى أن يرجع إليهم من الطور{[26170]} و " مَوْعدي " مصدر{[26171]} يجوز أن يكون مضافاً لفاعله بمعنى أوَجدْتُمُونِي أَخْلَفْتُكُم ما وعْدتُّكُمْْ . وأن يكون مضافاً لمفعوله بمعنى : أنهم وعدوه أن يتمسكوا بدينه وسنته{[26172]} .


[26123]:البحر المحيط 6/268.
[26124]:عند قوله تعالى: {ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني بعدي أعجلتم أمر ربكم} [الأعراف: 150].
[26125]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/101 بتصرف يسير.
[26126]:في ب: قال بعض المفسرين.
[26127]:اللسان (أسف).
[26128]:وفي اللسان (غضب): وأما غضب الله فهو إنكاره على من عصاه فيعاقبه.
[26129]:وفي اللسان (غيظ): فإن الغيظ صفة تغير المخلوق عند احتداده بتحرك لها، والله يتعالى عن ذلك.
[26130]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[26131]:آخر ما نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/101.
[26132]:في ب: وعدا حسنا صدقا.
[26133]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/102 بتصرف يسير.
[26134]:[طه: 81،82].
[26135]:ما بين القوسين سقط من ب، وفيها وقوله.
[26136]:في ب: وقيل: الوعد الحسن المراد به.
[26137]:في ب هلاك.
[26138]:آخر ما ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/102.
[26139]:ما بين القوسين سقط من ب.
[26140]:أنهم سقط من ب.
[26141]:[طه: 88].
[26142]:في ب: الجواب.
[26143]:هذا التـأويل – والله أعلم – ما ورد في قوله تعالى: {ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إنّ الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار} [الزمر: 3] وانظر الفخر الرازي 22/101 – 102.
[26144]:فيعرب مفعولا مطلقا.
[26145]:فيكون المصدر بمعنى اسم المفعول.
[26146]:انظر البيان 2/152، والتبيان 2/900.
[26147]:في الأصل: أنسيتم.
[26148]:في ب: أمور. وهو تحريف.
[26149]:في ب: الأول.
[26150]:في ب: من نعم.
[26151]:تعالى: سقط من ب.
[26152]:في ب: عليكم. وهو تحريف.
[26153]:[الحديد: 16].
[26154]:في ب: الثاني.
[26155]:في ب: الثاني. وهو تحريف.
[26156]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[26157]:في ب: أوعدهم. وهو تحريف.
[26158]:في ب: ليلة. وهو تحريف. والأولى التعبير بعشر موافقة للقرآن حيث قال الله تعالى: {ووعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} [الأعراف: 142] ويمكن الاعتذار للمؤلف بأنه على تقدير "عشرة أيام".
[26159]:الفخر الرازي 22/102.
[26160]:أن: مكررة في ب.
[26161]:في ب: لا يجوز.
[26162]:في ب: لأن ذلك لا يريده أحد.
[26163]:ما بين القوسين سقط من ب.
[26164]:في الأصل: مريدا. وهو تحريف.
[26165]:انظر الفخر الرازي 22/102.
[26166]:في ب: أي أردتم أن تجعلوا أعني أن تفعلوا.
[26167]:في ب: غضب.
[26168]:فيكون من باب المجاز المرسل الذي علاقته السببية، حيث أطلق المسبب وأراد السبب.
[26169]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[26170]:انظر الفخر الرازي 22/102.
[26171]:موعدي مصدر وعد، وذلك لأن المصدر الميمي من المثال الواوي الذي تحذف فاؤه في المضارع يكون على مفعل بكسر العين كموعد وموضع. التبيان في تصريف الأسماء 51 – 52.
[26172]:انظر البحر المحيط 6/268.