إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{فَرَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ أَلَمۡ يَعِدۡكُمۡ رَبُّكُمۡ وَعۡدًا حَسَنًاۚ أَفَطَالَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡعَهۡدُ أَمۡ أَرَدتُّمۡ أَن يَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبٞ مِّن رَّبِّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُم مَّوۡعِدِي} (86)

{ فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ } عند رجوعِه المعهود أي بعدما استوفى الأربعين وأخذ التوراة لا عَقيبَ الإخبار بالفتنة ، فسببيةُ ما قبل الفاء لما بعدها إنما هي باعتبار قيد الرجوعِ المستفاد من قوله تعالى : { غضبان أَسِفًا } لا باعتبار نفسه وإن كانت داخلةً عليه حقيقةً فإن كونَ الرجوعِ بعد تمام الأربعين أمرٌ مقرّرٌ مشهورٌ لا يذهب الوهمُ إلى كونه عند الإخبار بالفتنة ، كما إذا قلتَ : شايعتُ الحُجاجَ ودعوتُ لهم بالسلامة فرجعوا سالمين ، فإن أحداً لا يرتاب في أن المراد رجوعُهم المعتادُ لا رجوعُهم إثرَ الدعاء وأن سببيةَ الدعاءِ باعتبار وصفِ السلامة لا باعتبار نفس الرجوعِ ، والأسِفُ : الشديدُ الغضب ، وقيل : الحزين { قَالَ } استئنافٌ مبني على سؤال ناشئ من حكاية رجوعِه كذلك ، كأنه قيل : فماذا فَعل بهم ؟ فقيل : قال : { يا قوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } بأن يُعطيَكم التوراة فيها ما فيها من النور والهدى ، والهمزةُ لإنكار عدم الوعدِ ونفيِه وتقريرِ وجودِه على أبلغ وجه وآكَدِه ، أي وعَدكم بحيث لا سبيلَ لكم إلى إنكاره ، والفاء في قوله تعالى : { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد } أي الزمان للعطف على مقدر والهمزةُ لإنكار المعطوفِ ونفيه فقط ، أي أوعدكم ذلك فطال زمانُ الإنجاز فأخطأتم بسببه { أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ } أي يجبَ { عَلَيْكُمْ غَضَبٌ } شديدٌ لا يقادرَ قدرُه كائنٌ { مّن رَّبّكُمْ } أي من مالك أمرِكم على الإطلاق { فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي } أي وعْدَكم إياي بالثبات على ما أمرتُكم به إلى أن أرجِع من الميقات على إضافة المصدرِ إلى مفعوله للقصد إلى زيادة تقبيحِ حالِهم ، فإن إخلافَهم الوعدَ الجاريَ فيما بينهم وبينه عليه السلام من حيث إضافتُه إليه عليه السلام أشنعُ منه من حيث إضافتُه إليهم ، والفاءُ لترتيب ما بعدها على كل واحد من شِقَّي الترديد على سبيل البدلِ ، كأنه قيل : أنسيتم الوعدَ بطول العهد فأخلفتموه خطأً أم أردتم حلولَ الغضب عليكم فأخلفتموه عمْداً ؟ وأما جعلُ الموعدِ مضافاً إلى فاعله وحملُ إخلافه على معنى وجدانِ الخلُف فيه ، أي فوجدتم الخُلفَ في موعدي لكم بالعَود بعد الأربعين فما لا يساعده السباقُ ولا السياق أصلاً .