فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{فَرَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ أَلَمۡ يَعِدۡكُمۡ رَبُّكُمۡ وَعۡدًا حَسَنًاۚ أَفَطَالَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡعَهۡدُ أَمۡ أَرَدتُّمۡ أَن يَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبٞ مِّن رَّبِّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُم مَّوۡعِدِي} (86)

{ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى { 83 ) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى { 84 ) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ { 85 ) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي { 86 ) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ { 87 ) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ { 88 ) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا { 89 ) }

طوي في هذه السورة ما فصل من خروج موسى عليه السلام للميقات بعد أربعين ليلة تمت منذ وعده الله العلي الكبير بالمناجاة وتلقي التوراة ، وفي سورة الأعراف تفصيل ذلك ؛ فلما ذهب لميقات ربه كان النقباء قد أبطئوا ، أو سارع هو عليه السلام شوقا إلى سماع كلام العلي الأعلى ، فعوتب إذ لم يمكث مع قومه وهم حديثو عهد بإسلام ، ولا تؤمن عليهم الفتنة حكاية لما جرى بينه تعالى وبين موسى عليه السلام من الكلام عند ابتداء موافاته الميقات بموجب المواعدة . . . أي وقلنا له : أي شيء عجل بك عن قومك فتقدمت عليهم ، والمراد بهم هنا عند كثير . . . النقباء السبعون . . والاستفهام للإنكار . . { قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى } متضمن لبيان اعتذاره عليه السلام ، وحاصله عرض الخطأ في الاجتهاد ، كأنه عليه السلام قال : إنهم لم يبعدوا عني وإن تقدمي عليهم بخطا يسيرة ، وظني أن مثل ذلك لا ينكر . . ونحو هذا : الإسراع المزيل للخشوع إلى إدراك الإمام في الركوع طلبا لأن يكون أداء هذا الركن مع الجماعة ؛ . . . { قال فإنا قد فتنا قومك } أي اختبرناهم بما فعل السامري . . { من بعدك } من بعد فراقك لهم وذهابك من بينهم ، { وأضلهم السامري } . . . قيل : قال لهم بعد أن غاب موسى عليه السلام عنهم عشرين ليلة : إنه قد كملت الأربعون ، فجعل العشرين مع أيامها أربعين . . وليس إخلافه ميعادكم إلا لما معكم من حلي القوم . . . وكان من أمر العجل ما كان ، والمراد ب{ قومك } هنا : الذين خلفهم مع هارون عليه السلام . . فالمراد به غير المراد ب { قومك } فيما تقدم {[2054]} .

والسامري كما قال الزجاج : كان عظيما من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة ؛ وقيل كان من عباد البقر ؛ ونقل ابن جرير عن ابن عباس أن أمه حين خافت أن يذبح خلفته في غار وأطبقت عليه فكان جبريل يأتيه فيغذوه ، ولم يزل يغذوه حتى نشأ ، وعلى ذلك قول من قال :

إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيرت *** عقول مربيه وخاب المؤمل

فموسى الذي رباه جبريل كافر *** وموسى الذي رباه فرعون مرسل

{ فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا } بعد المناجاة وتلقى التوراة عاد موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل حيث استخلف عليهم هارون عليه السلام ، لكنه رجع متغيظا مغضبا حزينا على ما كان من ضلال المفتونين ، فعاتبهم وهو يكظم غيظه : { قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا } استمالهم لكيلا ينفروا ، وذكرهم بما يجمع بينهم وبينه ، وأنهم حظه من الأمم : أما وعدكم مولانا على لساني بالخير الكثير والعاقبة الحسنة ؟ ! لقد أراكم ربكم من إنجاز وعده الكريم النصر العظيم والبر العميم ؛ { أفطال عليكم العهد } هل تباعدت المدة فقست قلوبكم أم استبطأتم حلول الإنجاز ؟ ! { أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي } أم زين لكم أن تفعلوا ما يكون سببا في حلول غضب ربكم عليكم ، وأخلفتم وعدكم إياي بالثبات على الدين الذي أنزل على نبيكم ؟ !

{ قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا } وعدنا إياك بالثبات على الدين لم نخلفه ونحن نطيق الوفاء به ، ولكن خدعنا فيما سول لنا السامري فلم نتمالك أنفسنا ؛ { ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها } جاءنا تغرير السامري من جهة ما حملنا من حلي وعنوا بذلك ما استعاروه من القبط . . . وقيل هو ما ألقاه البحر على الساحل مما كان على الذين غرقوا ؛ فمثل الذي ذكرناه لك ألقى السامري إلينا قال لهم : إنما تأخر موسى عليه السلام عنكم لما معكم من حلي القوم وهو حرام عليكم ، فالرأي أن نحفر حفيرة ونسجر فيها أو نقذف فيها ما معنا منه ، ففعلوا ، وكان صنع في الحفيرة قالب عجل {[2055]} ؛ { فكذلك ألقى السامري . فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى } أخرج جسدا من ذهب لا روح فيه ؛ عن ابن عباس قال : كأن بني إسرائيل تأثموا من حلي آل فرعون الذي معهم فأخرجوه لتنزل النار فتأكله ، فلما جمعوه ألقى السامري القبضة{[2056]} ، وقال : كن عجلا جسدا له خوار ؛ فصار كذلك ؛ وكان يدخل الريح من دبره ويخرج من فيه فيسمع له صوت . اه ؛ { فنسي } عن مكحول : الضمير للسامري ، والنسيان مجاز عن الترك ، أي : فأظهر السامري النفاق فترك ما كان فيه من إسرار الكفر . ا ه .


[2054]:ما بين العارضتين من روح المعاني
[2055]:ما بين العارضتين من روح المعاني.
[2056]:أشار إليها الكتاب العزيز بقوله: {فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي} الآية 96.