ولما كان كثير من الناس يظلمون النساء ويهضمونهن حقوقهن ، خصوصا الصداق الذي يكون شيئا كثيرًا ، ودفعة واحدة ، يشق دفعه للزوجة ، أمرهم وحثهم على إيتاء النساء { صَدُقَاتِهِنَّ } أي : مهورهن { نِحْلَةً } أي : عن طيب نفس ، وحال طمأنينة ، فلا تمطلوهن أو تبخسوا منه شيئا . وفيه : أن المهر يدفع إلى المرأة إذا كانت مكلفة ، وأنها تملكه بالعقد ، لأنه أضافه إليها ، والإضافة تقتضي التمليك .
{ فَإِنْ طِبْنَ لَكُم عَنْ شَيْءٍ مِّنْهُ } أي : من الصداق { نَفْسًا } بأن سمحن لكم عن رضا واختيار بإسقاط شيء منه ، أو تأخيره أو المعاوضة عنه . { فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } أي : لا حرج عليكم في ذلك ولا تبعة .
وفيه دليل على أن للمرأة التصرف في مالها -ولو بالتبرع- إذا كانت رشيدة ، فإن لم تكن كذلك فليس لعطيتها حكم ، وأنه ليس لوليها من الصداق شيء ، غير ما طابت به .
وفي قوله : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء } دليل على أن نكاح الخبيثة غير مأمور به ، بل منهي عنه كالمشركة ، وكالفاجرة ، كما قال تعالى : { وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } وقال : { وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ }
ثم أمر الله تعالى الرجال أن يعطوا النساء مهورهن كاملة عن رضا وسماحة نفس ، وألا يطمعوا فى شيء مما أعطاه الله لهن فقال - تعالى - : { وَآتُواْ النسآء . . . } .
وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ( 4 )
وقوله { صَدُقَاتِهِنَّ } جمع صدقة - بضم الدال - وهى ما يعطى للزوجة من المهر . وقوله { نِحْلَةً } أى عطية واجبة وفريضة لازمة . إذ النحلة فى الأصل : العطية على سبيل التبرع . يقال : نحله كذا نحلة ونحلا ، إذا أعطاه إياه عن طيب نفس بلا مقابلة عوض .
والمعنى : وأعطوا النساء مهورهن عطية عن طيب نفس منكم ، لأن هذه المهور قد فرضها الله لهن ، فلا يجوز أن يطمع فيها طامع ، أويغتالها مغتال ، والخطاب للأزواج . قالوا : لأن الرجل كان يتزوج المرأة بلا مهر ويقول لها : أرثك وترثيننى ؟ فتقول : نعم . فأمروا أن يسرعوا إلى إعطاء المهور .
وقيل : الخطاب لأولياء النساء ، وذلك لأن العرب فى الجاهلية كانت لا عطى النساء من مهورهن شيئا ، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت : هنيئا لك النافجة . أى هنيئا لك هذه البنت التى تأخذ مهرها إبلا فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك أى تزيده وتكثره .
وقد رجح ابن جرير كون الخطاب للأزواج فقال : " وذلك لأن الله - تعالى - ابتدأ ذكر هذه الآية بخطاب الناكحين للنساء ، ونهاهم عن ظلمهن . ولا دلالة فى الآية على أن الخطاب قد صرف عنهم إلى غيرهم . فإذا كان ذلك كذلك ؛ فمعلوم أن الذين قيل لهم : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } هم الذين قيل لهم : { وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ } وأن معناه : وآتوا من نكحتم من النساء صدقاتهم نحلة ، لأنه قال فى الأول : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } ولم يقل " فأنحكوا " حتى يكون قوله : { وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ } مصروفا إلى أنه معنى به أولياء النساء دون أزواجهن . وهذا أمر من الله لأزواج النساء المسمى لهن الصداق أن يؤتوهن صدقاتهن والذي نراه أن الخطاب فى الآية الكريمة يتناول كل من له علاقة بالنساء من الأزواج أو الأولياء وغيرهم من الاحكام الذين اليهم المرجع في رد الحقوق إلى ذويها ، والضرب على أيدى المعتدين والطامعين فى حقوق النساء ، وذلك لأن الخطاب من أول السورة موجبة إلى الأولياء والأزواج فناسب أن يكون الخطاب هنا شاملا لكليهما فإن أعطوهن عن رضا كان حسنا وإلا أجبرهم الحكام على ذلك .
وقوله : { نِحْلَةً } منصوب على الحالية من قوله { صَدُقَاتِهِنَّ } أي : منحولة معطاة عن طيب نفس . أو منصوب على الحالية من المخاطبين . أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبى النفوس بالإعطاء .
وفي التعبير عن إيتاء المهور بالنحلة مع كونها واجبة الأداء . لإفادة معنى الإيتاء عن كمال الرضا وطيب الخاطر دون أن يكون لهذه النحلة مقابل .
وقوله - تعالى - { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } بيان للحكم فيما إذا تنازل النساء عن شيء مما أعطوا عن طيب خاطر منهن أى عليكم أيها الرجال أن تدفعوا للنساء مهورهن مناولة أو التزاما .
فإن حدث وتنازل لكم النساء عن شئ من هذه المهور بسماحة ورضا نفس ، فكلوه أكلا سائغا ، حميد المغبة ، حلال الطعمة ، خاليا من شائبة الحرام والشبهات :
والضمير المجرور في قوله { مِّنْهُ } يعود إلى الصدقات أي المهور .
وجئ به مفرداً مذكرا ، لجريانه مجرى اسم الاشارة كأنه قيل : فإن طابت أنفسهن لكم عن شئ من ذلك المذكور وهو الصدقات فكلوه .
قال صاحب الكشاف : وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط حيث بنى الشطر على طيب النفس فقيل : فإن طبن ولم يقل فإن وهبن أو سمحن ، إعلاما بأن المراعى هو تجافى نفسها عن الموهوب عن طيب خاطر .
والمعنى : فإن وهبن لكم شيئا من الصداق ، وتجافت عنه نفوسهن طيبات لا لحياء عرض لهن منكم أو من غيركم ، ولا لاضطرارهن إلى الذل من شكاسة أخلاقكم ، وسوء معاشرتكم فكلوه هنيئا مريئا .
وقوله { نَفْساً } منصوب على التمييز من الضمير وهو نون النسوة في قوله { طِبْنَ } . . وهو محول عن الفاعل والأصل فان طابت أنفسهن عن شئ منه فكلوه .
وجئ به مفرداً لأن الغرض بيان الجنس والواحد يدل عليه كقولك : عندى عشرون درهما . والمراد بالأكل في قوله { فَكُلُوهُ } مطلق التصرف والانتفاع .
وإنما خص الأكل بالذكر ، لأنه معظم وجوده التصرفات المالية .
وقوله { هَنِيئاً مَّرِيئاً } حالان من الضمير المنصوب في قوله { فَكُلُوهُ } أو منصوبان على أنهما نعت لمصدر محذوف . أي فكلوه أكلا هنيئا مريئا . وهما صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ . يقال : هنؤ الطعام وهنئ هناءة . إذا كان سائغا لاتنغيص فيه . وقيل الهنئ ما أناك بلا مشقة ولا تبعة .
ويقال مرأ الطعام - بتثليث الراء - مراءة فهو مرئ ، إذا كان حميد المغبة والمراد المبالغة في تحليل ما يأتيهم من نسائهم عن طيب خاطر منهن ، فقد كانوا يتأنمون من أخذ شئ من مهور نسائهم ، فقال الله - تعالى - لهم : إن طابت نفوسهن بالتنازل عن شئ من مهورهن لكم فكلوه هنيئا مريئا ، لأنه حلال خالص من الشوائب .
هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة : أنه لا بد في النكاح من صداق يعطى للمرأة سواء أسمى ذلك في العقد أم لم يسم . قال القرطبي : وهو مجمع عليه ولا خلاف عليه .
ومنها : أن هذا الصداق ملك لها ، ومن حقها أن تتصرف فيه بما شاءت . ولم تفصل الآية بين أن تقبضه أولا . ولذا قال بعض الفقهاء . لها أن تبيع مهرها قبل أن تقبضه لأنه ملك بلا عوض وقال آخرون : ليس لها أن تبيعه حتى تقبضه لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض .
ومنها أنه يجوز للمرأة أن تعطى زوجها - برضها واختيارها - مهرها أو جزاءاً منه سواء أكان مقبوضا معينا أم كان في الذمة .
فشمل ذلك الهبة والإبراء . وأنه ليس من حقها الرجوع فيما أعطت لأنها قد طابت نفسها بذلك . وهذا رأى جمهور العلماء . ويرى بعض العلماء أن من حقها الرجوع فيما أعطت .
قال الفخر الرازى : قال بعض العلماء : إن وهبت ثم طلبت بعد الهبة علم أنها لم تطب عنه نفسا . وعن الشعبى : أن أمرأة جاءت مع زوجها الى شريح القاضى فى عطية أعطتها إياه . وهي تطلب الرجوع . فقال شريحك رد عليها عطيتها . فقال الرجل : أليس قد قال الله - تعالى - : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ } ؟ فقال شريح : لو طابت نفسها لما رجعت فيه .
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كتب إلى قضائه . أن النساء يعطين رغبة ورهبة . فأيما امرأة اعطت ثم ارادت أن ترجع فذلك لها .
ثم يستطرد السياق في تقرير حقوق النساء - وقد أفرد لهن صدر هذه السورة وسماها باسمهن - قبل أن يستكمل الكلام عن رعاية اليتامى التي بدأ فيها :
( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة . فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ، فكلوه هنيئا مريئا )
وهذه الآية تنشىء للمرأة حقا صريحا ، وحقا شخصيا ، في صداقها . وتنبى ء بما كان واقعا في المجتمع الجاهلي من هضم هذا الحق في صور شتى . واحدة منها كانت في قبض الولي لهذا الصداق وأخذه لنفسه ؛ وكأنما هي صفقة بيع هو صاحبها ! وواحدة منها كانت في زواج الشغار . وهو أن يزوج الولي المرأة التي في ولايته ، في مقابل أن يزوجه من يأخذها امرأة هي في ولاية هذا الآخر . واحدة بواحدة . صفقة بين الوليين لا حظ فيها للمرأتين . كما تبدل بهيمة ببهيمة ! فحرم الإسلام هذا الزواج كلية ؛ وجعل الزواج التقاء نفسين عن رغبة واختيار ، والصداق حقا للمرأة تأخذه لنفسها ولا يأخذه الولي ! وحتم تسمية هذا الصداق وتحديده ، لتقبضه المرأة فريضة لها ، وواجبا لا تخلف فيه . وأوجب أن يؤديه الزوج " نحلة " - أي هبة خالصة لصاحبتها - وأن يؤديه عن طيب نفس ، وارتياح خاطر . كما يؤدي الهبة والمنحة . فإذا طابت نفس الزوجة بعد ذلك لزوجها عن شيء من صداقها - كله أو بعضه - فهي صاحبة الشأن في هذا ؛ تفعله عن طيب نفس ، وراحة خاطر ؛ والزوج في حل من أخذ ما طابت نفس الزوجة عنه ، وأكله حلالا طيبا هنيئا مريئا . فالعلاقات بين الزوجين ينبغي أن تقوم على الرضى الكامل ، والاختيار المطلق ، والسماحة النابعة من القلب ، والود الذي لا يبقى معه حرج من هنا أو من هناك .
وبهذا الإجراء استبعد الإسلام ذلك الراسب من رواسب الجاهلية في شأن المرأة وصداقها ، وحقها في نفسها وفي مالها ، وكرامتها ومنزلتها . وفي الوقت ذاته لم يجفف ما بين المرأة ورجلها من صلات ، ولم يقمها على مجرد الصرامة في القانون ؛ بل ترك للسماحة والتراضي والمودة أن تأخذ مجراها في هذه الحياة المشتركة ، وأن تبلل بنداوتها جو هذه الحياة .
فإذا انتهى من هذا الاستطراد - الذي دعا إليه الحديث عن الزواج من اليتيمات ومن غيرهن من النساء - عاد إلى أموال اليتامى ؛ يفصل في أحكام ردها إليهم ، بعد أن قرر في الآية الثانية من السورة مبدأ الرد على وجه الإجمال .
{ وَآتُواْ النّسَآءَ صَدُقَاتِهِنّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مّرِيئاً } .
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : وأعطوا النساء مهورهنّ عطية واجبة ، وفريضة لازمة¹ يقال منه : نحل فلان فلانا كذا ، فهو يَنْحَلُه نِحْلَةً ونُحْلاً . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نحْلَةً } يقول : فريضة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : أخبرني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نحْلَةً } يعني بالنحلة : المهر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نحْلَةً } قال : فريضة مسماة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نحْلَةً } قال : النحلة في كلام العرب : الواجب ، يقول : لا ينكحها إلا بشيء واجب لها صدقة ، يسميها لها واجبة ، وليس ينبغي لأحد أن ينكح امرأة بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا بصداق واجب ، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبا بغير حقّ .
وقال آخرون : بل عنى بقوله : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نحْلَةً } أولياء النساء ، وذلك أنهم كانوا يأخذون صدقاتهن . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن سيار ، عن أبي صالح ، قال : كان الرجل إذا زوّج أيمة أخذ صداقها دونها ، فنهاهم الله تبارك وتعالى عن ذلك ، وَنزلت : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نِحْلَةً } .
وقال آخرون : بل كان ذلك من أولياء النساء ، بأن يعطي الرجل أخته الرجل ، على أن يعطيه الاَخر أخته ، على أن لا كثير مهر بينهما ، فنهوا عن ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : زعم حضرميّ أن أناسا كانوا يعطي هذا الرجل أخته ويأخذ أخت الرجل ، ولا يأخذون كثير مهر ، فقال الله تبارك وتعالى : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نِحْلَةً } .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلات التي ذكرناها في ذلك التأويل الذي قلناه ، وذلك أن الله تبارك وتعالى ابتدأ ذكر هذه الاَية بخطاب الناكحين النساء ، ونهاهم عن ظلمهنّ والجور عليهنّ ، وعرفهم سبيل النجاة من ظلمهنّ¹ ولا دلالة في الاَية على أن الخطاب قد صرف عنهم إلى غيرهم . فإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الذين قيل لهم : { فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ } هم الذين قيل لهم : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ } وأن معناه : وآتوا من نكحتم من النساء صدقاتهنّ نحلة ، لأنه قال في الأوّل : { فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } ولم يقل : فانكحوا ، فيكون قوله : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ } مصروفا إلى أنه معنيّ به أولياء النساء دون أزواجهنّ ، وهذا أمر من الله أزواج النساء المدخول بهنّ والمسمى لهنّ الصداق أن يؤتوهنّ صدقاتهنّ دون المطلقات قبل الدخول ممن لم يسمّ لها في عقد النكاح صداق .
القول في تأويل قوله تعالى : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : فإن وهب لكم أيها الرجال نساؤكم شيئا من صدقاتهنّ ، طيبة بذلك أنفسهنّ ، فكلوه هنيئا مريئا . كما :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا عمارة ، عن عكرمة : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا } قال : المهر .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثني حرمي بن عمارة ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمارة ، عن عكرمة ، عن عمارة في قول الله تبارك وتعالى : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا } قال : الصدقات .
حدثني المثنى ، قال : ثني الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا } قال : الأزواج .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عبيدة ، قال : قال لي إبراهيم : أكلتَ من الهنيء المريء ! قلت : ما ذاك ؟ قال : امرأتك أعطتك من صداقها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : دخل رجل على علقمة وهو يأكل من طعام بين يديه ، من شيء أعطته امرأته من صداقها أو غيره ، فقال له علقمة : ادْنُ ، فكل من الهنيء المريء !
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئا } يقول : إذا كان غير إضرار ولا خديعة ، فهو هنيء مريء كما قال الله جلّ ثناؤه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا } قال : الصداق ، { فَكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئا } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا } .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : زعم حضرميّ أن أناسا كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء مما ساق إلى امرأته ، فقال الله تبارك وتعالى : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئا } .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئا } يقول : ما طابت به نفسا في غير كره أو هوان ، فقد أحلّ الله لك ذلك أن تأكله هنيئا مريئا .
وقال آخرون : بل عُني بهذا القول : أولياء النساء ، فقيل لهم : إن طابت أنفس النساء اللواتي إليكم عصمة نكاحهنّ بصدقاتهنّ نفسا ، فكلوه هنيئا مريئا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا سيار ، عن أبي صالح في قوله : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا } قال : كان الرجل إذا زوّج ابنته عمد إلى صداقها فأخذه ، قال : فنزلت هذه الاَية في الأولياء : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئا } .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك بالصواب ، التأويل الذي قلنا وأن الاَية مخاطب بها الأزواج¹ لأن افتتاح الاَية مبتدأ بذكرهم ، وقوله : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا } في سياقه .
وإن قال قائل : فكيف قيل : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ، وقد علمت أن معنى الكلام : فإن طابت لكم أنفسهن بشيء ؟ وكيف وحدت النفس والمعنى للجميع ، وذلك أنه تعالى ذكره قال : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نحْلَةً } ؟ قيل : أما نقل فعل النفوس إلى أصحاب النفوس ، فإن ذلك المستفيض في كلام العرب من كلامها المعروف : ضِقْتُ بهذا الأمر ذراعا وذرعا ، وَقَرِرْت بهذا الأمر عينا ، والمعنى : ضاق به ذرعي ، وقرّت به عيني ، كما قال الشاعر :
إذا التّيازُ ذُو العَضَلاتِ قُلْنا *** إليكَ إليكَ ضَاقَ بِها ذِرَاعا
فنقل صفة الذراع إلى ربّ الذراع ، ثم أخرج الذراع مفسرة لموقع الفعل . وكذلك وحد النفس في قوله : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا } إذ كانت النفس مفسرة لموقع الخبر . وأما توحيد النفس من النفوس ، لأنه إنما أراد الهوى ، والهوى يكون جماعة ، كما قال الشاعر :
بِها جِيَفُ الحَسْرَى فَأمّا عِظامُها *** فبِيضٌ وأمّا جلدُها فَصَلِيبُ
*** فِي حَلْقِكمْ عَظْمٌ وقد شجِينَا ***
وقال بعض نحويي الكوفة : جائز في النفس في هذا الموضع الجمع والتوحيد¹ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا وأنفسا ، وضقت به ذراعا وذرعا وأذرعا ، لأنه منسوب إليك ، وإلى من تخبر عنه ، فاكتفى بالواحد عن الجمع لذلك ، ولم يذهب الوهم إلى أنه ليس بمعنى جمع لأن قبله جمعا .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن النفس وقع موقع الأسماء التي تأتي بلفظ الواحد مؤدّية معناه إذا ذكر بلفظ الواحد ، وأنه بمعنى الجمع عن الجمع . وأما قوله : { هَنِيئا } فإنه مأخوذ من هنأت البعير بالقطران : إذا جرب فعولج به ، كما قال الشاعر :
مُتَبَذّلاً تَبْدُو مَحَاسِنُهُ *** يَضَعُ الهِنَاءَ مَوَاضِعَ النّقْبِ
فكان معنى قوله : { فَكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئا } : فكلوه دواء شافيا ، يقال منه : هنأني الطعام ومرأني : أي صار لي دواء وعلاجا شافيا ، وهنئني ومرئني بالكسر ، وهي قليلة ، والذين يقولون هذا القول يقولون يهنأني ويمرأني ، والذين يقولون هنأني ، يقولون : يهنئني ويمرئني ، فإذا أفردوا ، قالوا : قد أمرأني هذا الطعام إمراء ، ويقال : هنأت القوم : إذا عُلتهم ، سمع من العرب من يقول : إنما سميت هانئا لتهنأ ، بمعنى : لتعول وتكفى .
وقوله : { وءاتوا النساء صدقاتهن نحلة } قال ابن عباس وقتادة وابن جريج : إن الخطاب في هذه الآية للأزواج ، أمرهم الله أن يتبرعوا بإعطاء المهور نحلة منهم لأزواجهم ، وقال أبو صالح : الخطاب لأولياء النساء ، لأن عادة بعض العرب كانت أن يأكل ولي المرأة مهرها ، فرفع الله ذلك بالإسلام وأمر بأن يدفع ذلك إليهن ، وقال المعتمر بن سليمان عن أبيه : زعم حضرمي أن المراد بالآية المتشاغرون الذين كانوا يتزوجون امرأة بأخرى ، فأمروا أن يضربوا المهور .
قال القاضي أبو محمد : والآية تتناول هذه الفرق الثلاث ، قرأ جمهور الناس والسبعة «صَدٌقاتهن » بفتح الصاد وضم الدال ، وقرأ موسى بن الزبير وابن أبي عبلة وفياض بن غزوان وغيرهم «صُدُقاتهن » بضم الصاد والدال ، وقرأ قتادة وغيره «صُدْقاتهن » بضم الصاد وسكون الدال ، وقرأ ابن وثاب والنخعي «صدقتهن » بالإفراد وضم الصاد وضم الدال . والإفراد من هذا صدَقة . و { نحلة } : معناه : نحلة منكم لهن أي عطية ، وقيل التقدير : من الله عز وجل لهن ، وذلك لأن الله جعل الصداق{[3853]} على الرجال ولم يجعل على النساء شيئاً ، وقيل { نحلة } معناه : شرعة ، مأخوذ من النحل تقول : فلان ينتحل دين كذا ، وهذا يحسن مع كون الخطاب للأولياء ، ويتجه مع سواه ، ونصبها على أنها من الأزواج بإضمار فعل من لفظها ، تقديره - أنحلوهن نحلة ، ويجوز أن يعمل الفعل الظاهر ، وإن كان من غير اللفظ لأنه مناسب للنحلة في المعنى ونصبها على أنها من الله عز وجل بإضمار فعل مقدر من اللفظ لا يصح غير ذلك ، وعلى أنها شريعة هي أيضاً من الله وقوله : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } الخطاب حسبما تقدم من الاختلاف في الأزواج والأولياء ، والمعنى : إن وهبن غير مكرهات طيبة نفوسهن ، والضمير في { منه } راجع على الصداق ، وكذلك قال عكرمة وغيره ، أو على الإيتاء ، وقال حضرمي : سبب الآية أن قوماً تحرجوا أن يرجع إليهم شيء مما دفعوا إلى الزوجات ، و { نفساً } نصب على التمييز ، ولا يجوز تقدمه على العامل عند سيبويه إلا في ضرورة شعر مع تصرف العامل ، وإجازة غيره في الكلام .
ومنه قول الشاعر{[3854]} [ المخبل السعدي ] : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وما كان نفساً بالفراق تطيب . و_من - تتضمن الجنس ها هنا ، ولذلك يجوز أن تهب المهر كله ، ولو وقفت «من » على التبعيض لما جاز ذلك ، وقرىء «هنياً مرياً » دون همز ، وهي قراءة الحسن بن أبي الحسن والزهري ، قال الطبري : ومن هناء البعير أن يعطي الشفاء .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وإنما قال اللغويون : الطعام الهنيء هو السائغ المستحسن الحميد المغبة ، وكذلك المريء ، قال اللغويون : يقولون هنأني الطعام ومرأني على الإتباع ، فإذا أفردوا قالوا : أمرأني على وزن أفعل . قال أبو علي : وهذا كما جاء في الحديث «ارجعن مأزورات غير مأجورات »{[3855]} فإنما اعتلت الواو من موزورات إتباعاً للفظ مأجورات ، فكذلك مرأني اتباعاً لهنأني ، ودخل رجل على علقمة - وهو يأكل شيئاً مما وهبته امرأته من مهرها - فقال له : كل من الهنيء المريء ، قال سيبويه ؛ { هنيئاً مريئاً } صفتان نصبوهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره ، المختزل للدلالة التي في الكلام عليه ، كأنهم قالوا : ثبت ذلك «هنيئاً مريئاً » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وآتوا النساء صدقاتهن نحلة}، وذلك أن الرجل كان يتزوج بغير مهر، فيقول: أرثك وترثيني، وتقول المرأة: نعم، فأنزل الله عز وجل: {وآتوا النساء}: أعطوا الأزواج النساء {صدقاتهن}: مهورهن {نحلة}: فريضة، {فإن طبن لكم}: أحللن لكم، يعني الأزواج {عن شيء منه}: [من] المهر، {نفسا فكلوه هنيئا مريئا}: حلالا، مريئا: طيبا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وأعطوا النساء مهورهنّ عطية واجبة، وفريضة لازمة... فريضة مسماة.
[عن] ابن زيد قال: النحلة في كلام العرب: الواجب، يقول: لا ينكحها إلا بشيء واجب لها صدقة، يسميها لها واجبة، وليس ينبغي لأحد أن ينكح امرأة بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا بصداق واجب، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبا بغير حقّ.
وقال آخرون: بل عنى بقوله: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نحْلَةً} أولياء النساء، وذلك أنهم كانوا يأخذون صدقاتهن... كان الرجل إذا زوّج أيمة أخذ صداقها دونها، فنهاهم الله تبارك وتعالى عن ذلك، وَنزلت: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نِحْلَةً}.
وقال آخرون: بل كان ذلك من أولياء النساء، بأن يعطي الرجل أخته الرجل، على أن يعطيه الاَخر أخته، على أن لا كثير مهر بينهما، فنهوا عن ذلك.
وأولى التأويلات التي ذكرناها في ذلك التأويل الذي قلناه، وذلك أن الله تبارك وتعالى ابتدأ ذكر هذه الآية بخطاب الناكحين النساء، ونهاهم عن ظلمهنّ والجور عليهنّ، وعرفهم سبيل النجاة من ظلمهنّ، ولا دلالة في الآية على أن الخطاب قد صرف عنهم إلى غيرهم. فإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذين قيل لهم: {فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ} هم الذين قيل لهم: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ} وأن معناه: وآتوا من نكحتم من النساء صدقاتهنّ نحلة، لأنه قال في الأوّل: {فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ} ولم يقل: فأنكحوا، فيكون قوله: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ} مصروفا إلى أنه معنيّ به أولياء النساء دون أزواجهنّ، وهذا أمر من الله أزواج النساء المدخول بهنّ والمسمى لهنّ الصداق أن يؤتوهنّ صدقاتهنّ دون المطلقات قبل الدخول ممن لم يسمّ لها في عقد النكاح صداق.
{فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئا}: فإن وهب لكم أيها الرجال نساؤكم شيئا من صدقاتهنّ، طيبة بذلك أنفسهنّ، فكلوه هنيئا مريئا... إذا كان غير إضرار ولا خديعة، فهو هنيء مريء... ما طابت به نفسا في غير كره أو هوان، فقد أحلّ الله لك ذلك أن تأكله هنيئا مريئا.
وقال آخرون: بل عُني بهذا القول: أولياء النساء، فقيل لهم: إن طابت أنفس النساء اللواتي إليكم عصمة نكاحهنّ بصدقاتهنّ نفسا، فكلوه هنيئا مريئا. وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، التأويل الذي قلنا وأن الآية مخاطب بها الأزواج لأن افتتاح الآية مبتدأ بذكرهم، وقوله: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا} في سياقه.
{هَنِيئا} فإنه مأخوذ من هنأت البعير بالقطران: إذا جرب فعولج به،
فكان معنى قوله: {فَكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئا}: فكلوه دواء شافيا، يقال منه: هنأني الطعام ومرأني: أي صار لي دواء وعلاجا شافيا. ويقال: هنأت القوم: إذا عُلتهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{نحلة}: عطية لها لا لوليها، وهو من النُّحْلى، وقيل: نحلة: من نحل الدين أن تؤتوا النساء صداقتهن، ليس على ما كانوا يفعلون في الجاهلية؛ يتزوجون النساء بغير مهورهن.
وقوله تعالى: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} في الآية دلالة جواز هبة المرأة لزوجها وفساد قول من لا يجيز هبة المرأة مالها تلده وتبقى في بيته سنة فيجور أمرها. وفي الآية دليل أن المهر لها حين أضاف إحلال الهبة إليهن، بقوله: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا}، وفيه دليل أيضا أن هبة الديون والبراءة منها جائزة كما جازت هبة المرأة مهرها وهو دين.
وقيل: فيه وجه آخر وهو أن الآباء في الجاهلية والأولياء كانوا يأخذون مهور نسائهم فأمرهم عز وجل ألا يأخذوا ذلك وحكم أن المهر للمرأة دون وليها (إلا أن تهبه لوليها)، فيحل حينئذ.
وقوله عز وجل: {فكلوه هنيئا}: لا داء فيه، {مريئا}: لا إثم فيه. الهنيء هو: اللذيذ الشهي الذي يمتع عند تناوله وسيره. والمريء: الذي تحمد عاقبته.
ثم الحكمة في ذكر الهنيء والمريء هنا (في وجهين):
أحدهما: ما ذكر في الآيات من الوعيد بأخذه منها بقوله عز وجل: {فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا} إلى قوله: {بعضكم إلى بعض} (النساء 21-21) لئلا يمتنعوا عن قبول ذلك الوعيد الذي ذكر في الآيات.
والثاني: أن الامتناع عن قبول ما بذلت الزوجة يحمل على حدوث المكروه ويورث الضغائن، وذلك سبب قطع الزوجية فيما بينهما.
وقيل: قوله عز وجل: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} يعني بطيبة أنفسكم، يقول: لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون، ولكن آتوهن وأنفسكم به طيبة إذ كانت المهور لهن دونكم.
وصف بالهنيء المريء بما ربما يستثقل الطبع عن مالها كراهة الامتنان أو بما كان عليه كفايتها أو بما جرى من الوعيد الشديد في منع مهرها أو بما قد تحتشمه فتبذل له أو بما يوهم الطمع في مالها والرغبة في النكاح لذلك، فطيبه الله تعالى حتى وصفه بغاية ما يحتمل المال. وفيه بيان جواز معروفها وترغيب في حسن المعاشرة بينهما حتى أبقى ذلك بعد الفراق بقوله عز وجل: {إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} الآية (البقرة 137) وذلك أخذ ما يورث المحبة والمودة أو يديمها أن جعل الله بينهما {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها} (الروم 21).
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
وأما النِّحلة فهي العطية من غير بدل، وسمي الدِّين نِحْلَةَ، لأنه عطية من الله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء فكأنه قيل: وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة، أي أعطوهنّ مهورهنّ عن طيبة أنفسكم، أو على الحال من المخاطبين، أي آتوهنّ صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء، أو من الصدقات، أي منحولة معطاة عن طيبة الأنفس. وقيل: نحلة من الله عطية من عنده وتفضلاً منه عليهن، وقيل: النحلة الملة، ونحلة الإسلام خير النحل. وفلان ينتحل كذا: أي يدين به. والمعنى: آتوهن مهورهن ديانة..
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) هذا حكم آخر من أحكام النساء يرجح كون هذه الآية نزلت فيهن لا أن حكم تعددهن في الزوجية جاء عرضا وتبعا لأحكام اليتامى منهن. أي وأعطوا النساء اللواتي تعقدون عليهن مهورهن نحلة أي عطاء نحلة أي فريضة لازمة عليكم وهو المروي عن قتادة؛ وقال ابن جريج فريضة مسماة، وقيل ديانة من النحلة بمعنى الملة. وروى ابن جرير عن ابن عباس أن النحلة المهر. وتقدم في تفسير المفردات أن النحلة تطلق على ما ينحله الإنسان ويعطيه هبة عن طيب نفس بدون مقابلة عوض وهو الذي اختاره الأستاذ الإمام هنا قال: الصدقات جمع صدقة بضم الدال وفيه لغات منها الصداق وهو ما يعطى للمرأة قبل الدخول عن طيب نفس وينبغي أن يلاحظ في هذا العطاء معنى أعلى من المعنى الذي لاحظه الذين يسمون أنفسهم الفقهاء من أن الصداق والمهر بمعنى العوض عن البضع والثمن له. كلا إن الصلة بين الزوجين أعلى وأشرف من الصلة بين الرجل وفرسه أو جاريته ولذلك قال:"نحلة" فالذي ينبغي أن يلاحظ هو أن هذا العطاء آية من آيات المحبة وصلة القرب وتوثيق عرى المودة والرحمة وأنه واجب حتم لا تخيير فيه كما يتخير المشتري والمستأجر. وترى عرف الناس جاريا على عدم الاكتفاء بهذا العطاء بل يشفعه الزوج بالهدايا والتحف...
ولا مانع من جعل الخطاب للمسلمين جملة فالزوج يأخذ منه أنه مأمور بأداء المهر وأنه لا هوادة فيه والولي يأخذ منه أنه ليس له أن يزوج موليته بغير مهر لمنفعة له ولا أن يأكل من المهر شيئا إذا هو قبضه من الزوج باسمها إلا أن تسمح هي لأحد بشيء برضاها واختيارها كما قال عز وجل:
(فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) أي إن طابت نفوسهن بإعطائكم شيئا من الصداق ولو كله بناء على أن (من) في قوله: (منه) للبيان؛ وقيل هي للتبعيض ولا يجوز هبته كله ولا أخذه إن هي وهبته، وإليه ذهب الإمام الليث. فأعطينه من غير إكراه ولا إلجاء بسوء العشرة، ولا إخجال بالخلابة والخدعة، وقال ابن عباس: من غير ضرار ولا خديعة- فكلوه أكلا هنيئا مريئا، أو حال كونه هنيئا مريئا، من هنوء الطعام، ومرؤ إذا كان سائغا لا غصص فيه ولا تنغيص. وقال بعضهم: الهنيء ما يستلذه الآكل، والمريء ما تجمل عاقبته. كأنه يسهل هضمه وتحسن تغذيته. والمراد بالأكل مطلق التصرف وبكونه هنيئا مريئا لا تبعة فيه ولا عقاب عليه.
الأستاذ الإمام: لا يجوز للرجل أن يأكل شيئا من مال امرأته إلا إذا علم أن نفسها طيبة به، فإذا طلب منها شيئا فحملها الخجل أو الخوف على إعطائه ما طلب فلا يحل له. وعلامات الرضا وطيب النفس لا تخفى على أحد، وإن كان اللابسون لباس الصالحين المتحلون بعقود السبح الذين يحركون شفاهم ويلوكون ألسنتهم بما يسمونه ذكرا يستحلون أكل أموال نسائهم إذا أعطينها أو أجزن أخذها بالترهيب أو الخداع أو الخجل ويقولون إنهن أعطيننا ولنا الظاهر والله يتولى السرائر. وقد قال تعالى في الآية الآتية: (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) فإذا شدد هذا التشديد في طور المفارقة فكيف يكون الحكم في طور الاجتماع والمعاشرة؟؟
أقول: يعني أن طور المفارقة هو طور مغاضبة ففي الطبع داعية للمشاحة فيه وأما طور عقد المصاهرة فهو طور الرغبة والتحبب وإظهار الزوج أهليته لما يجب عليه من كفالة المرأة والنفقة عليها. ولكن غلب حب الدرهم والدينار في هذا الزمان على كل شيء حتى على العواطف الطبيعية وحب الشرف والكرامة فصار كل من الزوجين وأقوامهما يماكسون في المهر كما يماكسون في سلع التجارة وإلى الله المشتكى.
وأما قولهم: لنا الظاهر والله يتولى السرائر فهو لا يصدق على مثل الحال المذكورة لأن باطن المرأة فيها معلوم غير مجهول، فيدعي الأخذ بما ظهر منها، والله تعالى لم يقل فإن أعطينكم حتى يُقال حصل العطاء الذي ورد به النص، وإنما ناط الحل بطيب نفوسهن عنه، فلو لم يكن طيب النفس مما يمكن العلم به لما ناط سبحانه الحكم به فيقال لهؤلاء المحرفين: إذا كنتم تعلمون أن شرط جواز أكل ما تعطيه المرأة هو أن يكون عن طيب نفس منها وتعلمون أنها إنما أعطت ما أعطت كارهة أو مكرهة لما اتخذتموه من الوسائل، فكيف تخادعون ربكم وتكابرون أنفسكم؟.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يستطرد السياق في تقرير حقوق النساء -وقد أفرد لهن صدر هذه السورة وسماها باسمهن- قبل أن يستكمل الكلام عن رعاية اليتامى التي بدأ فيها:
(وآتوا النساء صدقاتهن نحلة. فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا، فكلوه هنيئا مريئا)
وهذه الآية تنشىء للمرأة حقا صريحا، وحقا شخصيا، في صداقها. وتنبى ء بما كان واقعا في المجتمع الجاهلي من هضم هذا الحق في صور شتى. واحدة منها كانت في قبض الولي لهذا الصداق وأخذه لنفسه؛ وكأنما هي صفقة بيع هو صاحبها! وواحدة منها كانت في زواج الشغار. وهو أن يزوج الولي المرأة التي في ولايته، في مقابل أن يزوجه من يأخذها امرأة هي في ولاية هذا الآخر. واحدة بواحدة. صفقة بين الوليين لا حظ فيها للمرأتين. كما تبدل بهيمة ببهيمة! فحرم الإسلام هذا الزواج كلية؛ وجعل الزواج التقاء نفسين عن رغبة واختيار، والصداق حقا للمرأة تأخذه لنفسها ولا يأخذه الولي! وحتم تسمية هذا الصداق وتحديده، لتقبضه المرأة فريضة لها، وواجبا لا تخلف فيه. وأوجب أن يؤديه الزوج "نحلة "-أي هبة خالصة لصاحبتها- وأن يؤديه عن طيب نفس، وارتياح خاطر. كما يؤدي الهبة والمنحة. فإذا طابت نفس الزوجة بعد ذلك لزوجها عن شيء من صداقها -كله أو بعضه- فهي صاحبة الشأن في هذا؛ تفعله عن طيب نفس، وراحة خاطر؛ والزوج في حل من أخذ ما طابت نفس الزوجة عنه، وأكله حلالا طيبا هنيئا مريئا. فالعلاقات بين الزوجين ينبغي أن تقوم على الرضى الكامل، والاختيار المطلق، والسماحة النابعة من القلب، والود الذي لا يبقى معه حرج من هنا أو من هناك.
وبهذا الإجراء استبعد الإسلام ذلك الراسب من رواسب الجاهلية في شأن المرأة وصداقها، وحقها في نفسها وفي مالها، وكرامتها ومنزلتها. وفي الوقت ذاته لم يجفف ما بين المرأة ورجلها من صلات، ولم يقمها على مجرد الصرامة في القانون؛ بل ترك للسماحة والتراضي والمودة أن تأخذ مجراها في هذه الحياة المشتركة، وأن تبلل بنداوتها جو هذه الحياة.
فإذا انتهى من هذا الاستطراد -الذي دعا إليه الحديث عن الزواج من اليتيمات ومن غيرهن من النساء- عاد إلى أموال اليتامى؛ يفصل في أحكام ردها إليهم، بعد أن قرر في الآية الثانية من السورة مبدأ الرد على وجه الإجمال.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جانبان مُسْتَضْعَفَان في الجاهلية: اليتيم والمرأة، وحقّان مغبون فيهما أصحابهما: مال الأيتام ومال النساء، فلذلك حرسهما القرآن أشدّ الحراسة فابتدأ بالوصاية بحق مال اليتيم، وثنّى بالوصاية بحقّ المرأة في مال ينجرّ إليها لا محالة، وكان توسّط حكم النكاح بين الوصايتين أحسن مناسبة تهَيّئ لعطف هذا الكلام.
فقوله: {وآتوا النساء} عطف على قوله: {وآتوا اليتامى أموالهم} [النساء: 2] والقول في معنى الإيتاء فيه سواء. وزاده اتّصالاً بالكلام السابق أنّ ما قبله جرى على وجوب القسط في يتامى النساء، فكان ذلك مناسبة الانتقال. والمخاطَب بالأمر في أمثال هذا كلّ من له نصيب في العمل بذلك، فهو خطاب لعموم الأمّة على معنى تناوله لكلّ من له فيه يد من الأزواج والأولياء ثم ولاة الأمور الذين إليهم المرجع في الضرب على أيدي ظلمة الحقوق أربابَها. والمقصود بالخطاب ابتداء هم الأزواج، لكيلا يتذرّعوا بحياء النساء وضعفهنّ وطلبهنّ مرضاتَهم إلى غمص حقوقهنّ في أكل مهورهنّ، أو يجعلوا حاجتهنّ للتزوّج لأجل إيجاد كافل لهنّ ذريعة لإسقاط المهر في النكاح، فهذا ما يمكن في أكل مهورهنّ، وإلاّ فلهنّ أولياء يطالبون الأزواج بتعيين المهور، ولكن دون الوصول إلى ولاة الأمور متاعب وكلف قد يملّها صاحب الحقّ فيترك طلبه، وخاصّة النساء ذوات الأزواج. وإلى كون الخطاب للأزواج ذهب ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وابن جريج، فالآية على هذا قرّرت دفع المهور وجعلته شرعاً، فصار المهر ركناً من أركان النكاح في الإسلام، وقد تقرّر في عدّة آيات كقوله: {فآتوهن أجورهن فريضة وغير ذلك} [النساء: 24].
والمهر علامة معروفة للتفرقة بين النكاح وبين المخادنة، لكنّهم في الجاهلية كان الزوج يعطي مالاً لولي المرأة ويسمّونه حلواناً بضم الحاء ولا تأخذ المرأة شيئاً، فأبطل الله ذلك في الإسلام بأن جعل المال للمرأة بقوله: {وآتوا النساء صداقتهن}.
وقال جماعة: الخطاب للأولياء، ونقل ذلك عن أبي صالح قال: لأنّ عادة بعض العرب أن يأكل وليّ المرأة مهرها فرفع الله ذلك بالإسلام. وعن الحضرمي: خاطبتْ الآية المتشاغرين الذين كانوا يتزوّجون امرأة بأخرى، ولعلّ هذا أخذ بدلالة الإشارة وليس صريحَ اللفظ، وكل ذلك ممّا يحتمله عموم النساء وعموم الصدقات.
والصدُقات جمع صدُقة بضمّ الدال والصدُقة: مهر المرأة، مشتقّة من الصدق لأنّها عطية يسبقها الوعد بها فيصدقه المعطي.
والنِّحلة بكسر النون العطيّة بلا قصد عوض، ويقال: نُحْل بضم فسكون. وانتصب نحلة على الحال من « صدقاتهنّ»، وإنّما صحّ مجيء الحال مفردة وصاحبها جمع لأنّ المراد بهذا المفرد الجنس الصالح للأفراد كلّها، ويجوز أن يكون نِحلة منصوباً على المصدرية لآتوا لبيان النوع من الإيتاء أي إعطاءَ كرامة.
وسمّيت الصدُقات نحلة إبعاداً للصدقات عن أنواع الأعواض، وتقريباً بها إلى الهدية، إذ ليس الصداق عوضاً عن منافع المرأة عند التحقيق، فإنّ النكاح عقد بين الرجل والمرأة قصد منه المعاشرة، وإيجاد آصرة عظيمة، وتبادل حقوق بين الزوجين، وتلك أغلى من أن يكون لها عوض مالي، ولو جعل لكان عوضُها جزيلاً ومتجدّداً بتجدّد المنافع، وامتداد أزمانها، شأن الأعواض كلّها، ولكنّ الله جعله هدية واجبة على الأزواج إكراماً لزوجاتهم، وإنّما أوجبه الله لأنّه تقرّر أنّه الفارق بين النكاح وبين المخادنة والسفاح، إذ كان أصل النكاح في البشر اختصاص الرجل بامرأة تكون له دون غيره، فكان هذا الاختصاص يُنال بالقُوّة، ثمّ اعتاض الناس عن القوّة بذْل الأثمان لأولياء النساء ببيعهم بناتهم ومَوْلَيَاتِهم، ثمّ ارتقى التشريع وكمُل عقد النكاح، وصارت المرأة حليلة الرجل شريكته في شؤونه وبقيت الصدُقات أمارات على ذلك الاختصاص القديم تميّز عقد النكاح عن بقية أنواع المعاشرة المذمومة شرعاً وعادة، وكانت المعاشرة على غير وجه النكاح خالية عن بذل المال للأولياء إذ كانت تنشأ عن الحبّ أو الشهوة من الرجل للمرأة على انفراد وخفية من أهلها، فمن ذلك الزنى الموقّت، ومنه المخادنة، فهي زنا مستمرّ، وأشار إليها القرآن في قوله: {محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان} [النساء: 25] ودون ذلك البغاء وهو الزنا بالإماء بأجور معيّنة، وهو الذي ذكر الله النهي عنه بقوله: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا} [النور: 33] وهنالك معاشرات أخرى، مثل الضماد وهو أن تتّخذ ذات الزوج رجلاً خليلاً لها في سنة القحط لينفق عليها مع نفقة زوجها. فلأجل ذلك سمّى الله الصداق نِحلة، فأبعد الذين فسّروها بلازم معناها فجعلوها كناية عن طيب نفس الأزواج أو الأولياء بإيتاء الصدقات، والذين فسروها بأنّها عطية من الله للنساء فرضها لهنّ، والذين فسّروها بمعنى الشرع الذي يُنتحل أي يُتَّبع.
وقوله: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً} الآية أي فإن طابت أنفسهنّ لكم بشيء منه أي المذكور. وأفرد ضمير « منه» لتأويله بالمذكور حملاً على اسم..
فقال له أبو عبيدة: إمّا أن تقول: كأنّها إن أردت الخطوط، وإما أن تقول: كأنّهما إن أردت السواد والبلَق فقال: أردْتُ كأنّ ذلك، ويْلَك أي أجرى الضمير كما يُجرى اسم الإشارة. وقد تقدّم عند قوله تعالى: {عوان بين ذلك} في سورة البقرة (68). وسيأتي الكلام على ضمير (مثله) عند قوله تعالى: {ومثله معه ليفتدوا به} في سورة العقود (36).
وجيء بلفظ نفساً مفرداً مع أنّه تمييز نسبة {طبن} إلى ضمير جماعة النساء لأنّ التمييز اسم جنس نكرة يستوي فيه المفرد والجمع. وأسند الطيب إلى ذوات النساء ابتداء ثم جيء بالتمييز للدلالة على قوّة هذا الطيب على ما هو مقرّر في علم المعاني: من الفرق بين واشتعل الرأس شيباً وبين اشتعل شيب رأسي، ليعلم أنه طيب نفس لا يشوبه شيء من الضغط والإلجاء.
وحقيقة فعل (طاب) اتّصاف الشيء بالملاءمة للنفس، وأصله طيب الرائحة لحسن مشمومها، وطيب الريح موافقتها للسائر في البحر: {وجرين بهم بريح طيّبة} [يونس: 22]، ومنه أيضاً ما ترضى به النفس كما تقدّم في قوله تعالى: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً} [البقرة: 168] ثم استعير لما يزكو بين جنسه كقوله: {ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} [النساء: 2] ومنه فعل {طبن لكم عن شيء منه نفساً} هنا أي رضين بإعطائه دون حرج ولا عسف، فهو استعارة.
وقوله: {فكلوه} استعمل الأكل هنا في معنى الانتفاع الذي لا رجوع فيه لصاحب الشيء المنتفع به، أي في معنى تمام التملّك. وأصل الأكل في كلامهم يستعار للاستيلاء على مال الغير استيلاء لا رجوع فيه، لأنّ الأكل أشدّ أنواع الانتفاع حائلاً بين الشيء وبين رجوعه إلى مستحقّه. ولكنّه أطلق هنا على الانتفاع لأجل المشاكلة مع قوله السابق: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} [النساء: 2] فتلك محسّن الاستعارة.
و {هنيئاً مريئاً}: ساغ ولم يعقب نغصاً... ويجوز كونهما مستعملين في انتفاء التبعة عن الأزواج في أخذ ما طابت لهم به نفوس أزواجهم، أي حلالاً مباحاً، أو حلالاً لا غرم فيه. وإنّما قال: {عن شيء منه} فجيء بحرف التبعيض إشارة إلى أن الشأن أنّ لا يَعرى العقد عن الصداق، فلا تسقطه كلّه إلاّ؛ أنّ الفقهاء لمّا تأوّلوا ظاهر الآية من التبعيض، وجعلوا هبة جميع الصداق كهبته كلّه أخذاً بأصل العطايا، لأنّها لمّا قبضته فقد تقرّر ملكها إيّاه، ولم يأخذ علماء المالكية في هذا بالتهمة لأنّ مبنى النكاح على المكارمة، وإلاّ فإنّهم قالوا في مسائل البيع: إنّ الخارج من اليد ثم الراجع إليها يعتبر كأنّه لم يخرج، وهذا عندنا في المالكات أمر أنفسهنّ دون المحجورات تخصيصاً للآية بغيرها من أدلّة الحجر فإنّ الصغيرات غير داخلات هنا بالإجماع. فدخل التخصيص للآية. وقال جمهور الفقهاء: ذلك للثيّب والبكر، تمسّكاً بالعموم، وهو ضعيف في حمل الأدلّة بعضها على بعض.
وانظر إلى اللمسات الإلهية والأداء الإلهي للمعاني، لأنك إن نظرت إلى الواقع فستجد الآتي:
الرجل يتزوج المرأة، وللرجل في المرأة متعة، وللمرأة أيضا متعة أي أن كلا منهما له متعة وشركة في ذلك، وفي رغبة الإنجاب، وكان من المفترض ألا تأخذ شيئا، لأنها ستستمتع وأيضا قد تجد ولدا لها، وهي ستعمل في المنزل والرجل سيكدح خارج البيت، ولكن هذه عطية قررها الله كرامة للنساء "وآتوا النساء صدقاتهن نحلة "والأمر في "آتوا" لمن؟ إما أن يكون للزوج فقوله: "وآتوا النساء صدقاتهن" يدل على أن المرأة صارت زوجة الرجل، وصار الرجل ملزما بالصداق ومن الممكن أن يكون دينا إذا تزوجها بمهر في ذمته يؤديه لها عند يساره، وإما أن يكون الأمر لولي أمرها فالذي كان يزوجه أخته مثلا، كان يأخذ المهر له ويتركها دون أن يعطيها مهرها، والأمر في هذه الآية إذن إما أن يكون للأزواج وإما أن يكون للأولياء. وحين يشرع الحق لحماية الحقوق فإنه يفتح المجال لأريحيات الفضل.
لذلك يقول: "فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا".
لقد عرف الحق الحقوق أولا بمخاطبة الزوج أو ولي الأمر في أن مهر الزوجة لها لأنه أجر البضع. ولكنه سبحانه فتح باب أريحية الفضل فإن تنازلت الزوجة فهذا أمر آخر، وهذا أدعى أن يؤصل العلاقة الزوجية أن يؤدم بينهما. والمراد هنا هو طيب النفس، وإياك أن تأخذ شيئا من مهر الزوجة التي تحث ولايتك بسبب الحياء، فالمهم أن يكون الأمر عن طيب نفس." فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا". والهنيء هو الشيء المأكول وتستسيغه حين يدخل فمك. لكنك قد تأكل شيئا هنيئا في اللذة وفي المضغ وفي الأكل ولكنه يورث متعبة صحية. إنه هنيء، لكنه غير مريء. والمقصود هو أن يكون طيب الطعم وليس له عواقب صحية رديئة. وهو يختلف عن الطعام الهنيء غير المريء الذي يأكله الإنسان فيطلب من بعده العلاج.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الصّداق دعامة اجتماعية للمرأة:
لمّا كانت المرأة في العصر الجاهلي لم تحظ بأية قيمة أو مكانة كان الرجل إِذا تزوج امرأة ترك أمر صداقها الذي هو حقها المسلّم إِلى أوليائها، فكان أولياؤها يأخذون صداقها، ويعتبرونه حقّاً مسلّماً لهم لا لها، وربّما جعلوا التزوج بامرأة صداقاً لامرأة أُخرى، مثل أن يزوج الرجل أخته بشخص على أن يزوج ذلك الشخص أخته بذلك الرجل، وكان هذا هو صداق الزوجتين.
ولقد أبطل الإِسلام كل هذه التقاليد والأعراف الظالمة، واعتبر الصداق حقّاً مسلّماً خاصاً بالمرأة، وأوصى الرجال مرّات عديدة وفي آيات الكتاب العزيز برعاية هذا الحق للمرأة.
على أنه ليس للصداق حدّ معين في الإِسلام، فهو أمر يتبع اتفاق الزوجين، وإِن تأكد في روايات كثيرة على التخفيف في المهور، ولكن هذا لا يكون حكماً إِلزامياً، بل هو أمر مستحب.
وها هنا ينطرح هذا السؤال، وهو إِذا كان الرجل والمرأة يستفيدان من الزواج بشكل متساو، وكانت رابطة الزوجية قائمة على أساس مصالح الطرفين فلماذا يجب على الرجل أن يدفع مبلغاً قليلا أو كثيراً إِلى المرأة بعنوان الصداق والمهر؟ ثمّ ألا ينطوي هذا الأمر على إِساءة إِلى شخصية المرأة، ألا يسبغ هذا الأمر صبغة البيع والشراء على مشروع الزواج؟
إِنّ هذه الأُمور هي التي تدفع بالبعض إِلى أن يعارضوا بشدّة مبدأ المهر ومسألة الصداق، ويقوى هذا الاتجاه لدى المتغربين خاصّة ما يجدونه من عدم الأخذ بهذا المبدأ في الزيجات الغربية، في حين أن حذف الصداق والمهر من مشروع الزواج ليس من شأنه رفع شخصية المرأة فقط، بل يعرض وضعها للخطر.
وتوضيح ذلك هو، أنّه صحيح أنّ المرأة والرجل يستفيدان من مشروع الزواج، وإقامة الحياة الزوجية على قدم المساواة، ولكن لا يمكن إنكار أنّ الأكثر تضرراً لدى افتراق الزوج عن زوجته هي المرأة، وذلك:
أوّلا: إِنّ الرجل بحكم قابليته الجسدية الخاصّة يمتلك عادة سلطاناً ونفوذاً وفرصاً أكثر في المجتمع، وهذه هي حقيقة ساطعة مهما حاول البعض إِنكارها عند الحديث حول المرأة، ولكن الوضع الاجتماعي وحياة البشر حتى في المجتمعات الغربية والأوروبية التي تحظى فيها النساء بما يسمّى بالحرّية الكاملة ترينا بوضوح وكما هو مشهود للجميع إنّ الفرص وأزمة الأعمال المربحة جدّاً هي في الأغلب في أيدي الرجال.
هذا مضافاً إِلى أنّ أمام الرجال إمكانيات أكثر لاختيار الزوجات، وإقامة حياة عائلية جديدة بينما لا تتوفر مثل هذه الإِمكانيات للمرأة، فإِن النساء الثيبات خاصّة تلك التي يصبن بهذه الحالة بعد مضي شطر من أعمارهنّ، وفقدان شبابهنّ وجمالهنّ يمتلكن فرصاً أقل للحصول على أزواج لهنّ.
بملاحظة هذه النقاط يتضح أنّ الإِمكانات التي تخسرها المرأة بالزواج أكثر من الإِمكانات التي يفقدها الرجل بذلك، ويكون الصداق والمهر في الحقيقة بمثابة التعويض عن الخسارة التي تلحق بالمرأة، ووسيلة لضمان حياتها المستقبلية، هذا مضافاً إِلى أنّ المهر والصداق خير وسيلة رادعة تردع الرجل عن التفكير في الطلاق والافتراق.
صحيح أنّ المهر في نظر القوانين الإِسلامية يتعلق بذمّة الرجل من لحظة انعقاد الرابطة الزوجية وقيامها بين الرجل والمرأة، ويحق للمرأة المطالبة به فوراً، ولكن حيث أن الغالب هو أن يتخذ الصداق صفة الدَّين المتعلق في الذّمة يكون لذلك بمثابة توفير للمرأة تستفيد منه في مستقبلها، كما يعتبر خير دعامة لحفظ حقوقها، إِلى جانب أنه يساعد على حفظ الرابطة الزوجية من التبعثر والتمزق (طبعاً هناك استثناءات لهذا الموضوع، ولكن ما ذكرناه صادق في أغلب الموارد).
وأمّا تفسير البعض لمسألة المهر بنحو خاطئ، واعتبار الصداق أنّه من قبيل ثمن المرأة فلا يرتبط بالقوانين الإِسلامية، لأن الإِسلام لا يعطي للصداق الذي يقدمه الرجل إِلى المرأة صفة الثمن كما لا يعطي المرأة صفة البضاعة القابلة للبيع والشراء، وأفضل دليل على ذلك هو صيغة عقد الزواج الذي يعتبر فيه الرجل والمرأة كركنين أساسيين في الرابطة الزوجية، في حين يقع الصداق والمهر على هامش هذا العقد، ويعتبر أمراً إِضافياً، بدليل صحّة العقد إذا لم يرد في صيغة البيع والشراء وغير ذلك من المعاملات المالية إِذ بدونه تبطل هذه المعاملات (طبعاً لابدّ من الانتباه إِلى أن على الزوج إِذا لم يذكر الصداق ضمن عقد الزواج أن يدفع إِلى المرأة مهر المثل في صورة الدخول بها).
من كلّ ما قيل نستنتج أنّ المهر بمثابة جبران للخسارة اللاحقة بالمرأة، وبمثابة الدعامة القوية التي تساعد على احترام حقوق المرأة، لا أنّه ثمن المرأة، ولعل التعبير بالنِّحلة التي هي بمعنى العطية في الآية إِشارة إِلى هذه النقطة.