96- هو الذي يشق غبش الصبح بضوء النهار ، ليسعى الأحياء إلى تحصيل أسباب حياتهم ، وجعل الليل ذا راحة للجسم والنفس ، وجعل سير الشمس والقمر بنظام دقيق يعرف به الناس مواقيت عباداتهم ومعاملاتهم .
ذلك النظام المحكم ، تدبير القادر المسيطر على الكون المحيط بكل شيء علماً{[62]} .
ولما ذكر تعالى مادة خلق الأقوات ، ذكر منته بتهيئة المساكن ، وخلقه كل ما يحتاج إليه العباد ، من الضياء والظلمة ، وما يترتب على ذلك من أنواع المنافع والمصالح فقال : { فَالِقُ الْإِصْبَاحِ } أي : كما أنه فالق الحب والنوى ، كذلك هو فالق ظلمة الليل الداجي ، الشامل لما على وجه الأرض ، بضياء الصبح الذي يفلقه شيئا فشيئا ، حتى تذهب ظلمة الليل كلها ، ويخلفها الضياء والنور العام ، الذي يتصرف به الخلق في مصالحهم ، ومعايشهم ، ومنافع دينهم ودنياهم .
ولما كان الخلق محتاجين إلى السكون والاستقرار والراحة ، التي لا تتم بوجود النهار والنور { جَعَلَ } الله { اللَّيْلَ سَكَنًا } يسكن فيه الآدميون إلى دورهم ومنامهم ، والأنعام إلى مأواها ، والطيور إلى أوكارها ، فتأخذ نصيبها من الراحة ، ثم يزيل الله ذلك بالضياء ، وهكذا أبدا إلى يوم القيامة { و } جعل تعالى { الشمس وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا } بهما تعرف الأزمنة والأوقات ، فتنضبط بذلك أوقات العبادات ، وآجال المعاملات ، ويعرف بها مدة ما مضى من الأوقات التي لولا وجود الشمس والقمر ، وتناوبهما واختلافهما - لما عرف ذلك عامة الناس ، واشتركوا في علمه ، بل كان لا يعرفه إلا أفراد من الناس ، بعد الاجتهاد ، وبذلك يفوت من المصالح الضرورية ما يفوت .
{ ذَلِكَ } التقدير المذكور { تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } الذي من عزته انقادت له هذه المخلوقات العظيمة ، فجرت مذللة مسخرة بأمره ، بحيث لا تتعدى ما حده الله لها ، ولا تتقدم عنه ولا تتأخر { الْعَلِيمُ } الذي أحاط علمه ، بالظواهر والبواطن ، والأوائل والأواخر .
ومن الأدلة العقلية على إحاطة علمه ، تسخير هذه المخلوقات العظيمة ، على تقدير ، ونظام بديع ، تحيُّرُ العقول في حسنه وكماله ، وموافقته للمصالح والحكم .
ثم بين - سبحانه - ألوانا أخرى من مظاهر قدرته وحكمته فقال : { فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً والشمس والقمر حُسْبَاناً } .
الإصباح : مصدر سمى به الصبح ، أى : شاق ظلمة الصبح - وهى الغبش فى آخر الليل الذى يلى الفجر المستطيل الكاذب - عن بياض النهار فيضىء الوجود ، ويضمحل الظلام ، ويذهب الليل بسواده ، ويجىء النهار بضيائه .
وجملة " فالق الإصباح " خبر لمبتدأ محذوف أى : هو فالق ، أو خبر آخر لإنّ { وَجَعَلَ الليل سَكَناً } أى وجعل الليل محلا لسكون الخلق فيه ، وراحة لهم بعد معاشهم بالنهار وسعيهم للحصول على رزقهم .
قال صاحب الكشاف : السكن : ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناسا به واسترواحا إليه ، من زوج أو حبيب . ومنه قيل للنار سكن لأنه يستأنس بها ، ألا تراهم سموها المؤنسة ، والليل يطمئن إليه المتعب بالنهار لاستراحته فيه ، ويجوز أن يراد : وجعل الليل مسكونا فيه من قوله : ( لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ) .
{ والشمس والقمر حُسْبَاناً } الحسبان فى الأصل مصدر حسب - بفتح السين - كالغفران والشكران تقول حسبت المال حسبانا : أى أحصيته عددا . والمعنى : وجعل الشمس والقمر يجريان فى الفلك بحساب مقدر معلوم لا يتغير ولا يضطرب حتى ينتهى إلى أقصى منازلهما بحيث تتم الشمس دورتها فى سنة ويتم القمر دورته فى شهر ، وبذلك تنتظم المصالح المتعلقة بالفصول الأربعة وغيرها ، قال - تعالى - { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } وقوله { ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم } أى : ذلك الجعل والتسيير البديع الشأن تقدير العزيز ، أى : الغالب القاهر الذى لا يتعاصاه شىء من الأشياء التى من جملتها تسييرهما على الوجه المخصوص ، العليم بكل شىء فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء .
قال الإمام الرازى عند تفسيره لهذه الآية الكريمة ما ملخصه :
" اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته فالنوع المتقدم - أى قوله { إِنَّ الله فَالِقُ } . . . إلخ - كان مأخوذا من دلالة أحوال النبات والحيوان ، والنوع المذكور فى هذه الآية مأخوذ من الأحوال الفلكية ، وذلك لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم فى كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر ولأن من المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم فى القلوب وأكثر وقعاً من الأحوال الأرضية " .
وبعد أن ساق - رحمه الله - الأدلة على ذلك قال : والعزيز إشارة إلى كمال قدرته ، والعليم إشارة إلى كمال علمه ، ومعناه : أن تقدير الأفلاك بصفاتها المخصوصة ، وهيآتها المحدودة ، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة فى البطء والسرعة ، لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات ، وعلم نافذ فى جميع المعلومات من الكليات والجزئيات ، وذلك تصريح بأن حصول هذه الأحوال والصفات ليس بالطبع والخاصة ، وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار والله أعلم .
( فالق الإصباح ، وجعل الليل سكنا ، والشمس والقمر حسبانا . ذلك تقدير العزيز العليم )
إن فالق الحب والنوى هو فالق الإصباح أيضا ، وهو الذي جعل الليل للسكون ، وجعل الشمس والقمر محسوبة حركاتهما مقدرة دوراتهما . . مقدرا ذلك كله بقدرته التي تهيمن على كل شيء ، وبعلمه الذي يحيط بكل شيء .
وانفلاق الإصباح من الظلام حركة تشبه في شكلها انفلاق الحبة والنواة . وانبثاق النور في تلك الحركة ، كانبثاق البرعم في هذه الحركة . . وبينهما من مشابه الحركة والحيوية والبهاء والجمال سمات مشتركة ، ملحوظة في التعبير عن الحقائق المشتركة في طبيعتهما وحقيقتهما كذلك . .
وبين انفلاق الحب والنوى وانفلاق الإصباح وسكون الليل صلة أخرى . . إن الإصباح والإمساء ، والحركة والسكون ، في هذا الكون - أو في هذه الأرض - ذات علاقة مباشرة بالنبات والحياة .
إن كون الأرض تدور دورتها هذه حول نفسها أمام الشمس ؛ وكون القمر بهذا الحجم وبهذا البعد من الأرض ؛ وكون الشمس كذلك بهذا الحجم وهذا البعد وهذه الدرجة من الحرارة . . هي تقديرات من ( العزيز ) ذي السلطان القادر( العليم ) ذي العلم الشامل . . ولولا هذه التقديرات ما انبثقت الحياة في الأرض على هذا النحو ، ولما انبثق النبت والشجر ، من الحب والنوى . .
إنه كون مقدر بحساب دقيق . ومقدر فيه حساب الحياة ، ودرجة هذه الحياة ، ونوع هذه الحياة . . كون لا مجال للمصادفة العابرة فيه - وحتى ما يسمونه المصادفة خاضع لقانون ومقدر بحساب
والذين يقولون : إن هذه الحياة فلتة عابرة في الكون . وأن الكون لا يحفلها . بل يبدو أنه يعاديها . وأن ضآلة الكوكب الذي قام عليه هذا النوع من الحياة توحي بهذا كله . بل يقول بعضهم : إن هذه الضآلة توحي بأنه لو كان للكون إله ما عنى نفسه بهذه الحياة ! . . إلى آخر ذلك اللغو ، الذي يسمونه أحيانا " علمًا ! " ويسمونه أحيانا " فلسفة " ! وهو لا يستأهل حتى مناقشته !
إن هؤلاء إنما يحكمون أهواء مستقرة في نفوسهم ؛ ولا يحكمون حتى نتائج علمهم التي تفرض نفسها عليهم ! ويقرأ لهم الإنسان فيجد كأنما هم هاربون من مواجهة حقيقة قرروا سلفا ألا يواجهوها ! . . إنهم هاربون من الله الذي تواجههم دلائل وجوده ووحدانيته وقدرته المطلقة في كل اتجاه ! وكلما سلكوا طريقا يهربون بها من مواجهة هذه الحقيقة وجدوا الله في نهايتها ، فعادوا في ذعر إلى سكة أخرى . ليواجهوا الله - سبحانه - في نهايتها كذلك !
إنهم مساكين ! بائسون ! لقد فروا ذات يوم من الكنيسة وإلهها الذي تستذل به الرقاب . . فروا( كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ) . . ثم ما زالوا في فرارهم التقليدي حتى أوائل هذا القرآن . . دون أن يتلفتوا وراءهم ليروا إن كانت الكنيسة ما تزال تتابعهم . أم انقطعت منها - كما انقطعت منهم - الأنفاس .
إنهم مساكين بائسون لأن نتائج علومهم ذاتها تواجههم اليوم أيضا . . فإلى أين الفرار ؟ . .
يقول " فرانك أللن " العالم الطبيعي الذي اقتطفنا فقرات من مقاله في الفقرة السابقة عن نشأة الحياة :
" إن ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صورا عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة أو العشوائية . فالأرض كرة معلقة في الفضاء تدور حول نفسها ، فيكون في ذلك تتابع الليل والنهار ، وهي تسبح حول الشمس مرة في كل عام ، فيكون في ذلك تتابع الفصول ، الذي يؤدي بدوره إلى زيادة مساحة الجزء الصالح للسكنى من سطح كوكبنا ، ويزيد من اختلاف الأنواع النباتية أكثر مما لو كانت ساكنة . ويحيط بالأرض غلاف غازي يشتمل على الغارات اللازمة للحياة ، ويمتد حولها إلى ارتفاع كبير [ يزيد على 500ميل ] .
" ويبلغ هذا الغلاف الغازي من الكثافة درجة تحول دون وصول ملايين الشهب القاتلة يوميا إلينا ، منقضة بسرعة ثلاثين ميلا في الثانية . والغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض يحفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة ، ويحمل بخار الماء من المحيطات إلى مسافات بعيدة داخل القارات ، حيث يمكن أن يتكاثف مطر يحيي الأرض بعد موتها . والمطر مصدر الماء العذب ، ولولاه لأصبحت الأرض صحراء جرداء خالية من كل أثر للحياة . ومن هنا نرى أن الجو والمحيطات الموجودة على سطح الأرض تمثل عجلة التوازن في الطبيعة " . .
إن الأدلة " العلمية " تتكاثر في وجوههم وتتجمع لتعلن عجز المصادفة عجزا كاملا عن تعليل نشأة الحياة ، بما يلزم لهذه النشأة - وللنمو والبقاء والتنوع بعدها - من موافقات لا تحصى في تصميم الكون . . منها هذه الموافقات التي ذكرها العالم الطبيعي السابق ، ووراءها من نوعها كثير . فلا يبقى إلا تقدير العزيز العليم . الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . والذي خلق كل شيء فقدره تقديرا . .
{ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلّيْلَ سَكَناً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } .
يعني بقوله : فالِقُ الإصْباحِ شاقّ عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده . والإصباح : مصدر من قول القائل : أصبحنا إصباحاً .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال عامة أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : فالِقُ الإصْباحِ قال : إضاءة الصبح .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فالِقُ الإصْباحِ قال : إضاءة الفجر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : فالِقُ الإصْباحِ قال : فالق الصبح .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في قوله : فالِقُ الإصْباحِ يعني بالإصباح : ضوء الشمس باالنهار ، وضوء القمر بالليل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن القاسم ابن أبي بزّة ، عن مجاهد : فالِقُ الإصْباحِ قال : فالق الصبح .
حدثنا به ابن حميد مرّة بهذا الإسناد ، عن مجاهد ، فقال في قوله : فالِقُ الإصْباحِ قال : إضاءة الصبح .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا بن وهب ، قال : قال بن زيد ، في قوله : فالِقُ الإصْباحِ قال : فلق الإصباح عن الليل .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فالِقُ الإصْباحِ يقول : خالق النور ، نور النهار .
وقال آخرون : معنى ذلك : خالق الليل والنهار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : «فالقُ الإصباحِ وجاعلُ الليلِ سكَنا » يقول : خلق الليل والنهار ، وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ في قوله : فالِقُ الإصْباحِ بفتح الألف كأنه تأوّل ذلك بمعنى جمع صبح ، كأنه أراد صبح كلّ يوم ، فجعله أصباحاً ولم يبلغنا عن أحد سواه أنه قرأ كذلك . والقراءة التي لا نستجيز غيرها بكسر الألف فالِقُ الإصْباحِ لإجماع الحجة من القراءة وأهل التأويل على صحة ذلك ورفض خلافه .
وأما قوله : «وَجاعِلُ اللّيْلِ سَكَناً » فإن القرّاء اختلفت في قراءته ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز والمدينة وبعض البصريين : «وَجاعِلُ اللّيْلِ » بالألف . على لفظ الاسم ورفعه عطفاً على «فالق » ، وخفض «الليل » بإضافة «جاعل » إليه ، ونصب «الشمس » و «القمر » عطفاً على موضع «الليل » لأن «الليل » وإن كان مخفوضاً في اللفظ فإنه في موضع النصب ، لأنه مفعول «جاعل » ، وحَسُن عطف ذلك على معنى الليل لا على لفظه ، لدخول قوله : سَكَناً بينه وبين الليل قال الشاعر :
قُعُوداً لَدَى الأبْوَابِ طُلاّبَ حاجَةٍ ***عَوَانٍ مِنَ الحاجاتِ أوْ حاجَةً بِكْرَا
فنصب الحاجة الثانية عطفاً بها على معنى الحاجة الأولى ، لا على لفظها لأن معناها النصب وإن كانت في اللفظ خفضاً . وقد يجيء مثل هذا أيضاً معطوفاً بالثاني على معنى الذي قبله لا على لفظه ، وإن لم يكن بينهما حائل ، كما قال بعضهم :
فَبَيْنَا نَحْنُ نَنْظُرُهُ أتانَا ***مُعَلّقَ شَكْوَةٍ وزِنادَ رَاعِ
وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : وَجَعَلَ اللّيْلَ سَكَناً والشّمْسَ على «فَعَلَ » بمعنى الفعل الماضي ونصب «الليل » . والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار ، متفقتا المعنى غير مختلفتيه ، فبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب في الإعراب والمعنى . وأخبر جلّ ثناؤه أنه جعل الليل سكناً ، لأنه يسكن فيه كلّ متحرك بالنهار ويهدأ فيه ، فيستقرّ في مسكنه ومأواه .
القول في تأويل قوله تعالى : والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً .
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وجعل الشمس والقمر يجريان في أفلاكهما بحساب . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن بن عباس : والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً يعني : عدد الأيام والشهور والسنين .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه عن بن عباس : والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً قال : يجريان إلى أجل جُعِل لهما .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً يقول : بحساب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً قال : الشمس والقمر في حساب ، فإذا خلت أيامهما فذاك آخر الدهر وأوّل الفزع الأكبر ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً قال : يدوران في حساب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن بن جريج ، عن مجاهد : والشّمْسُ والقَمَرُ حُسْباناً قال : هو مثل قوله : كُلّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ، ومثل قوله : والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً .
وقال آخرون : معنى ذلك : وجعل الشمس والقمر ضياء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً أي ضياء .
وأولى القولين في تأويل ذلك عندي بالصواب تأويل من تأوّله : وجعل الشمس والقمر يجريان بحساب وعدد لبلوغ أمرها ونهاية آجالهما ، ويدوران لمصالح الخلق التي جُعِلا لها .
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالاَية ، لأن الله تعالى ذِكره ذكر قبله أياديه عند خلقه وعظم سلطانه ، بفلقه الإصباح لهم وإخراج النبات والغراس من الحبّ والنوى ، وعقب ذلك بذكره خلق النجوم لهدايتهم في البرّ والبحر ، فكان وصفه إجراء الشمس والقمر لمنافعهم أشبه بهذا الموضع من ذكر إضاءتهما لأنه قد وصف ذلك قبلُ قوله : فالِقُ الإصْباحِ فلا معنى لتكريره مرّة أخرى في آية واحدة لغير معنى . والحسبان في كلام العرب : جمع حساب ، كما الشبهان جمع شهاب وقد قيل : إن الحسبان في هذا الموضع مصدر من قول القائل : حَسَبْتُ الحِساب أحْسُبه حِساباً وحُسْباناً . وحُكي عن العرب على الله حُسْبان فلان وحِسْبَته : أي حسابه . وأحسب أن قتادة في تأويل ذلك بمعنى الضياء ، ذهب إلى شيء يرْوَى عن ابن عباس في قوله : أوْ يُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السّماءِ قال : ناراً ، فوجه تأويل قوله : والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً إلى ذلك التأويل . وليس هذا من ذلك المعنى في شيء . وأما «الحِسْبان » بكسر الحاء : فإنه جمع الحِسبانة : وهي الوسادة الصغيرة ، وليست من الأوليين أيضاً في شيء ، يقال : حَسِبته : أجلسته عليها ، ونصب قوله : حُسْباناً بقوله : وَجَعَلَ . وكان بعض البصريين يقول : معناه : و والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً أي بحساب ، فحذف الباء كما حذفها من قوله : هُوَ أعْلَمُ مَنْ يَضِلّ عَنْ سَبِيلهِ : أي أعلم بمن يضلّ عن سبيله .
القول في تأويل قوله تعالى : ذلك تَقْدِيرُ العَزِيرِ العَلِيمِ .
يقول تعالى ذكره : وهذا الفعل الذي وصفه أنه فعله ، وهو فَلْقُه الإصباح وَجَعْلُه الليل سكَناً والشمس والقمر حُسباناً ، تقدير الذي عزّ سلطانه ، فلا يقدر أحد أراده بسوء وعقاب أو انتقام من الامتناع منه ، العليم بمصالح خلقه وتدبيرهم لا تقدير الأصنام والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تفقه شيئاً ولا تعلقه ولا تضرّ ولا تنفع ، وإن أريدت بسوء لم تقدر على الامتناع منه ممن أرادها به . يقول جلّ ثناؤه : وأخلِصوا أيها الجهلة عبادتكم لفاعل هذه الأشياء ، ولا تشركوا في عبادته شيئاً غيره .
{ فالق الإصباح } شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل أو عن بياض النهار ، أو شاق ظلمة الإصباح وهو الغبش الذي يليه والإصباح في الأصل مصدر أصبح إذا دخل في الصباح سمي به الصبح . وقرئ بفتح الهمزة على الجمع وقرئ { فالق الإصباح } بالنصب على المدح . { وجاعل الليل سكنا } يسكن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه من سكن إليه إذا اطمأن إليه استئنافا به ، أو يسكن فيه الخلق من قوله تعالى : { لتسكنوا فيه } ونصبه بفعل دل عليه جاعل لا به ، فإن في معنى الماضي . ويدل عليه قراءة الكوفيين { وجعل الليل } حملا على معنى المعطوف عليه ، فإن فالق بمعنى فلق ولذلك قرئ به ، أو به على أن المراد منه جعل مستمر في الأزمنة المختلفة وعلى هذا يجوز أن يكون { والشمس والقمر } عطفا على محل الليل ويشهد له قراءتهما بالجر والأحسن نصبهما بجعل مقدرا . وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي مجعولان { حسبانا } أي على أدوار مختلفة يحسب بهما الأوقات ويكونان علمي الحسبان ، وهو مصدر حسب بالفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب . وقيل جمع حساب كشهاب وشهبان . { ذلك } إشارة إلى جعلهما حسبانا أي ذلك التيسير بالحساب المعلوم . { تقدير العزيز } الذي قهرهما وسيرهما على الوجه المخصوص . { العليم } بتدبيرهما والأنفع من التداوير الممكنة لهما .
{ فالق الإصباح } يجوز أن يكون خبراً رابعاً عن اسم ( إنّ ) ، ويجوز أن يكون صفة لاسم الجلالة المخبر به عن اسم الإشارة ، فيكون قوله : { فأنّى تؤفكون } اعتراضاً .
والإصباح بكسر الهمزة في الأصل مصدر أصبح الأفُق ، إذا صار ذا صباح ، وقد سمّي به الصباح ، وهو ضياء الفجر فيقابل اللّيلَ وهو المراد هنا .
وفلْق الإصباح استعارة لظهور الضّياء في ظلمة اللّيل ، فشبّه ذلك بفلق الظلمة عن الضّياء ، كما استعير لذلك أيضاً السّلخ في قوله تعالى : { وآية لهم اللّيل نسلخ منه النّهار } [ يس : 37 ] . فإضافة { فالق } إلى { الإصباح } حقيقيّة وهي لأدنى ملابسة على سبيل المجاز . وسنبيّنه في الآية الآتية لأنّ اسم الفاعل له شائبة الاسميّة فيضاف إضافة حقيقيّة ، وله شائبة فعلية فيضاف إضافة لفظيّة . وهو هنا لمّا كان دالاً على وصف في الماضي ضعف شبهه بالفعل لأنّه إنّما يشبه المضارع في الوزن وزمننِ الحال أو الاستقبال . وقد يعتبر فيه المفعوليّة على التّوسّع فحُذف حرف الجرّ ، أي فالق عن الإصباح فانتصب على نزع الخافض ، ولذلك سمَّوْا الصّبح فَلَقاً بفتحتين بزنة ما بمعنى المفعول كما قالوا مسكَن ، أي مسكون إليه فتكون الإضافة على هذا لفظية بالتأويل وليست إضافته من إضافة الوصف إلى معموله إذ ليس الإصباح مفعول الفلْق والمعنى فالق عن الإصباح فيعلم أنّ المفلوق هو الليل ولذلك فسّروه فالق ظلمة الإصباح ، أي الظلمة التي يعقبها الصبح وهي ظلمة الغَبَش ، فإنّ فلق الليل عن الصبح أبدع في مظهر القدرة وأدخل في المنّة بالنعمة ، لأنّ الظلمة عدم والنور وجود . والإيجاد هو مظهر القدرة ولا يكون العدم ومظهراً للقدرة إلاّ إذا تسلّط على موجود وهو الإعدام ، وفلق الإصباح نعمة أيضاً على النّاس لينتفعوا بحياتهم واكتسابهم .
{ وجاعل اللّيل سكناً } عطف على { فالق الإصباح } .
وقرأه الجمهور بصيغة اسم الفاعل وجرّ { اللّيلِ } لمناسبة الوصفين في الاسميّة والإضافة . وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلَف . { وجَعَل } بصيغة فعل الماضي وبنصب { اللّيل } .
وعُبّر في جانب اللّيل بمادة الجعل لأنّ الظلمة عدم فتعلّق القدرة فيها هو تعلّقها بإزالة ما يمنع تلك الظلمة من الأنوار العارضة للأفق . والمعنى أنّ الله فلق الإصباح بقدرته نعمة منه على الموجودات ولم يجعل النّور مستمراً في الأفق فجعله عارضاً مجزءاً أوقاتاً لتعود الظّلمة إلى الأفق رحمة منه بالموجودات ليسكنوا بعد النّصَب والعمل فيستجمّوا راحتهم .
والسكَن بالتَّحريك على زنة مُرادف اسم المفعول مثل الفَلَق على اعتباره مفعولاً بالتوسّع بحذف حرف الجرّ وهو ما يسكن إليه ، أي تسكن إليه النّفس ويطمئنّ إليه القلب ، والسّكون فيه مجاز . وتسمّى الزّوجة سكَناً والبيتُ سكناً قال تعالى : { والله جعل لكم من بيوتكم سكناً } [ النحل : 80 ] ، فمعنى جَعْل اللّيل سكناً أنّه جعل لتحصل فيه راحة النّفس من تعب العمل .
وعُطف { الشمس والقمر } على { اللّيل } بالنّصب رعياً لمحلّ اللّيل لأنّه في محلّ المفعول ل { جاعل } بناء على الإضافة اللّفظيّة . والعطف على المحلّ شائع في مواضع من كلام العرب مثل رفع المعطوف على اسم ( إنّ ) ، ونصب المعطوف على خبَر ليس المجرور بالباء .
والحسبان في الأصل مصدر حَسَب بفتح السّين كالغُفران ، والشُّكران ، والكفران ، أي جعلها حساباً ، أي علامة حساببٍ للنّاس يحسبون بحركاتها أوقات اللّيل والنّهار ، والشّهور ، والفصول ، والأعوام . وهذه منّة على النّاس وتذكير بمظهر العلم والقدرة ، ولذلك جعل للشّمس حسبان كما جُعل للقمر ، لأنّ كثيراً من الأمم يحسبون شهورهم وأعوامهم بحساب سير الشّمس بحلولها في البروج وبتمام دورتها فيها . والعرب يحسبون بسير القمر في منازله . وهو الذي جاء به الإسلام ، وكان العرب في الجاهليّة يجعلون الكبس لتحويل السنة إلى فصول متماثلة ، فموقع المنّة أعمّ من الاعتبار الشّرعي في حساب الأشهر والأعوام بالقمري ، وإنّما استقام ذلك للنّاس بجعل الله حركات الشّمس والقمر على نظام واحد لا يختلف ، وذلك من أعظم دلائل علم الله وقدرته ، وهذا بحسب ما يظهر للنّاس منه ولو اطّلعوا على أسرار ذلك النّظام البديع لكانت العبرة به أعظم .
والإخبار عنهما بالمصدر إسناد مجازي لأنّه في معنى اسم الفاعل ، أي حاسبين . والحاسب هم النّاس بسبب الشّمس والقمر .
والإشارة ب { ذلك } إلى الجعل المأخوذ من { جاعل } .
والتّقدير : وضع الأشياء على قدْر معلوم كقوله تعالى : { وخلق كلّ شيء فقدّره تقديراً } [ الفرقان : 2 ] .
والعزيز : الغالب ، القاهر ، والله هو العزيز حقّاً لأنّه لا تتعاصى عن قدرته الكائنات كلّها . والعليم مبالغة في العلم ، لأنّ وضع الأشياء على النّظام البديع لا يصدر إلاّ عن عالم عظيم العلم .