{ 16-17 } { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا }
يخبر تعالى أنه إذا أراد أن يهلك قرية من القرى الظالمة ويستأصلها بالعذاب أمر مترفيها أمرا قدريا ففسقوا فيها واشتد طغيانهم ، { فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ } أي : كلمة العذاب التي لا مرد لها { فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا }
قال أبو حيان - رحمه الله - : لما ذكر - تعالى - فى الآية السابقة ، أنه لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا ، بين بعد ذلك علة إهلاكهم ، وهى مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، والتمادى على الفساد - فقال ، سبحانه - : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا . . } .
وقوله - سبحانه - : { أمرنا } من الأمر الذى هو ضد النهى ، والمأمور به هو الإِيمان والعمل الصالح ، والشكر لله رب العالمين ، وحذف لظهوره والعلم به .
وقوله { مترفيها } جمع مترف ، وهو المتنعم الذى لا يمنع من تنعمه ، بل يترك يفعل ما يشاء . يقال : ترف فلان - كفرح - أى : تنعم ، وفلان أترفته النعمة ، أى : أطغته وأبطرته لأنه لم يستعملها فى وجوهها المشروعة .
والمراد بهم ، أصحاب الجاه والغنى والسلطان ، الذين أحاطت بهم النعم من كل جانب ، ولكنهم استعملوها فى الفسوق والعصيان ، لا فى الخير والإِحسان .
والمعنى : وإذا قرب وقت إرادتنا إهلاك أهل قرية ، أمرنا مترفيها ، وأهل الغنى والسلطان فيها بالإِيمان والعمل الصالح ، والمداومة على طاعتنا وشكرنا ، فلم يستجيبوا لأمرنا ، بل فسقوا فيها ، وعاثوا فى الأرض فسادا .
وهذا الأمر إنما هو على لسان الرسول المبعوث إلى أهل تلك القرية ، وعلى ألسنة المصلحين المتبعين لهذا الرسول والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر .
وقال - سبحانه - : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً . . . } مع أن الهلاك لأهلها ، للإِشارة إلى أن هذا الهلاك لن يصيب أهلها فقط ، بل سيصيبهم ويصيب معهم مساكنهم وأموالهم وكل ما احتوته تلك القرية ، بحيث تصير هى وسكانها أثرا بعد عين .
وخص مترفيها بالذكر مع أن الأمر بالطاعة للجميع ، لأن هؤلاء المترفين هم الأئمة والقادة ، فإذا ما استجابوا للأمر استجاب غيرهم تبعا لهم فى معظم الأحيان ، ولأنهم فى أعم الأحوال هم الأسرع إلى ارتكاب ما نهى الله عنه ، وإلى الانغماس فى المتع والشهوات .
والحكمة من هذا الأمر ، هو الإِعذار والإِنذار ، والتخويف والوعيد .
كما قال - تعالى - : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل . . } وهذا التفسير للآية الكريمة ، سار عليه جمهور المفسرين .
ولصاحب الكشاف رأى يخالف ذلك ، فهو يرى أن الأمر فى الآية الكريمة مجاز عن إمدادهم بالنعم الكثيرة التى أبطرتهم .
قال - رحمه الله - : قوله - تعالى - : { وإذا أردنا } وإذا دنا وقت إهلاك قوم ، ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل أمرناهم { ففسقوا } أى : أمرناهم بالفسق ففعلوا .
والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم : افسقوا ، وهذا لا يكون ، فبقى أن يكون مجازا ، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صبا ، فجعلوها ذريعة إلى المعاصى واتباع الشهوات ، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه ، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ، ويتمكنوا من الإِحسان والبر ، كما خلقهم أصحاء أقوياء ، وأقدرهم على الخير والشر ، وطلب منهم إيثار الطاعة ، على المعصية ، فآثروا الفسوق ، فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمرهم .
ومن المفسرين من يرى أن قوله - تعالى - : { أمرنا } بمعنى كثّرنا - بتشديد الثاء - وقرئ { أمّرنا } بتشديد الميم ، أى : كثرنا مترفيها وجعلناهم أمراء مسلطين . .
ولكن هذه القراءة . وقراءة { آمرنا } بمعنى " كثرنا " أيضا ، ليستا من القراءات السبعة أو العشرة ، وإنما هما من القراءات الشاذة .
قال الإِمام ابن جرير : وأولى القراءات فى ذلك عندى بالصواب ، قراءة من قرأ { أمرنا } بقصر الألف وتخفيف الميم - لإِجماع الحجة من القراء بتصويبها دون غيرها وإذا كان ذلك هو الأولى بالصواب بالقراءة ، فأولى التأويلات به من تأوله : أمرنا أهلها بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها . فحق عليهم القول ، لأن الأغلب من معنى { أمرنا } الأمر الذى هو خلاف النهى دون غيره .
وتوجيه معانى كلام الله - جل ثناؤه - إلى الأشهر الأعرف من معانيه ، أولى ما وجد إليه سبيل من غيره . . .
ويبدو لنا أن الرأى الأول الذى سار عليه جمهور المفسرين ، وعلى رأسهم الإِمام ابن جرير ، أولى بالقبول ، لأسباب منها :
ان القرآن الكريم يؤيده فى كثير من آياته ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء . . } فقوله - تعالى - : { قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء } دليل واضح على أن قوله - سبحانه - : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا . . } معناه : أمرناهم بالطاعة ففسقوا ، وليس معناه أمرناهم بالفسق ففسقوا لأنه - سبحانه - لا يأمر لا بالفسق ولا بالفحشاء .
ومنها : أن الأسلوب العربى السليم يؤيده لأنك إذا قلت : أمرته فعصانى كان المعنى المتبارد والظاهر من هذه الجملة ، أمرته بالطاعة فعصانى ، وليس معناه . أمرته بالعصيان فعصانى .
ومنها : أن حمل الكلام على الحقيقة - كما سار جمهور المفسرين - أولى من حمله على المجاز - كما ذهب صاحب الكشاف - .
وقوله - سبحانه - : { فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } بيان لما نزل بهذه القرية وأهلها من عذاب محاها من الوجود ، إذ التدمير هو الإِهلاك مع طمس الأثر ، وهدم البناء .
أى : أمرنا مترفيها بطاعتنا وشكرنا ، فعصوا أمرنا وفسقوا فيها ، فثبت وتحقق عليها عذابنا ، فأهلكناها إهلاكا استأصل شأفتها ، وأزال آثارها .
وأكد - سبحانه - فعل التدمير بمصدره ، للمبالغة فى إبراز شدة الهلاك الواقع على تلك القرية الظالم أهلها .
قال الآلوسى ما ملخصه : والآية تدل على إهلاك أهل القرية على أتم وجه ، وإهلاك جميعهم ، لصدور الفسق منهم جميعا ، فإن غير المترف يتبع المترف عادة .
وقيل : هلاك الجميع لا يتوقف على التبعية فقد قال - تعالى - : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً . . . } " وقد صح عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أنها قالت : قلت ، يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم ، إذا كثر الخبث " .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمّرْنَاهَا تَدْمِيراً } .
اختلف القرّاء في قراءة قوله أمَرْنا مُتْرَفِيها فقرأت ذلك عامة قرّاء الحجاز والعراق أمَرْنا بقصر الألف وغير مدها وتخفيف الميم وفتحها . وإذا قرىء ذلك كذلك ، فإن الأغلب من تأويله : أمرنا مترفيها بالطاعة ، ففسقوا فيها بمعصيتهم الله ، وخلافهم أمره ، كذلك تأوّله كثير ممن قرأه كذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس أمَرْنا مُتْرَفيها قال : بطاعة الله ، فعصوا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا شريك ، عن سلمة أو غيره ، عن سعيد بن جبير ، قال : أمرنا بالطاعة فعصوا .
وقد يحتمل أيضا إذا قرىء كذلك أن يكون معناه : جعلناهم أمراء ففسقوا فيها ، لأن العرب تقول : هو أمير غير مأمور . وقد كان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول : قد يتوجّه معناه إذا قرىء كذلك إلى معنى أكثرنا مترفيها ، ويحتجّ لتصحيحه ذلك بالخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «خَيْرُ المَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ أوْ سِكّةٌ مَأْبُورَةٌ » ويقول : إن معنى قوله : مأمورة : كثيرة النسل . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين ينكر ذلك من قيله ، ولا يجيزنا أمرنا ، بمعنى أكثرنا إلا بمدّ الألف من أمرنا . ويقول في قوله «مهرة مأمورة » : إنما قيل ذلك على الاتباع لمجيء مأبورة بعدها ، كما قيل : «ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غيرَ مَأْجُورَات » فهمز مأزورات لهمز مأجورات ، وهي من وزرت إتباعا لبعض الكلام بعضا . وقرأ ذلك أبو عثمان «أمّرْنا » بتشديد الميم ، بمعنى الإمارة .
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم عن عوف ، عن أبي عثمان النهدي أنه قرأ : «أمّرْنا » مشدّدة من الإمارة .
وقد تأوّل هذا الكلام على هذا التأويل ، جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : «أمّرْنا مُترَفِيها » يقول : سلطنا أشرارها فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم بالعذاب ، وهو قوله : وكذلكَ جَعَلنا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : سمعت الكسائي يحدّث عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، أنه قرأها : «أمّرْنا » وقال : سلّطنا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي حفص ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : «أمّرْنا » مثقلة : جعلنا عليها مترفيها : مستكبريها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحرث قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى : «أمّرْنا مُترَفِيها » قال : بعثنا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وذكر عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك : «آمَرْنا » بمدّ الألف من أمرنا ، بمعنى : أكثرنا فسقتها . وقد وجّه تأويل هذا الحرف إلى هذا التأويل جماعة من أهل التأويل ، إلا أن الذين حدّثونا لم يميزوا لنا اختلاف القراءات في ذلك ، وكيف قرأ ذلك المتأوّلون ، إلا القليل منهم . ذكر من تأوّل ذلك كذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : «وَإذَا أرَدْنا أنْ نُهِلكَ قَرْيَةً آمَرْنا مُترَفِيها فَفَسَقُوا فِيها » يقول : أكثرنا عددهم .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة قوله : «آمَرْنا مُتْرَفِيها » قال : أكثرناهم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله أمَرْنا مُتْرَفِيها قال : أكثرناهم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله أمَرْنا مُتْرَفيها يقول : أكثرنا مترفيها : أي كبراءها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : «وَإذَا أرَدْنا أنْ نُهْلكَ قَرْيَةً آمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ، فَحَقّ عَلَيْها القَوْلُ » يقول : أكثرنا مترفيها : أي جبابرتها ، ففسقوا فيها وعملوا بمعصية الله فَدَمّرْناها تَدْميرا . وكان يقول : إذا أراد الله بقوم صلاحا ، بعث عليهم مصلحا . وإذا أراد بهم فسادا بعث عليهم مفسدا ، وإذا أراد أن يهلكها أكثر مترفيها .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة آمَرْنا مُتْرَفِيها قال : أكثرناهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على زينب وهو يقول : «لا إلَهَ إلاّ اللّهُ وَيْلٌ للْعَرَبِ مِنْ شَرَ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمأْجُوجَ مِثُلُ هَذَا » وحلق بين إبهامه والتي تليها ، قالت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : «نَعَمْ إذَا كَثُرَ الخَبَثُ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَإذَا أرَدْنا أنْ نُهْلكَ قَرْيَةٍ أمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها قال : ذكر بعض أهل العلم أن أمرنا : أكثرنا . قال : والعرب تقول للشيء الكثير أمِرَ لكثرته . فأما إذا وصف القوم بأنهم كثروا ، فإنه يقال : أمر بنو فلان ، وأمر القوم يأمرون أمرا ، وذلك إذا كثروا وعظم أمرهم ، كما قال لبيد .
إنْ يُغْبَطُوا يُهْبَطُوا وَإنْ أَمَرُوا *** يَوْما يَصِيرُوا للقُلّ والنّفَدِ
والأمر المصدر ، والاسم الإمر ، كما قال الله جلّ ثناؤه لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا قال : عظيما ، وحكي في مثل شرّ إمْر : أي كثير .
وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ أمَرْنا مُتْرَفِيها بقصر الألف من أمرنا وتخفيف الميم منها ، لإجماع الحجة من القرّاء على تصويبها دون غيرها . وإذا كان ذلك هو الأولى بالصواب بالقراءة ، فأولى التأويلات به تأويل من تأوّله : أمرنا أهلها بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها ، فحقّ عليهم القول : لأن الأغلب من معنى أمرنا : الأمر ، الذي هو خلاف النهي دون غيره ، وتوجيه معاني كلام الله جلّ ثناؤه إلى الأشهر الأعرف من معانيه ، أولى ما وجد إليه سبيل من غيره .
ومعنى قوله : فَفَسَقُوا فِيهَا : فخالفوا أمر الله فيها ، وخرجوا عن طاعته فَحَقّ عَلَيْها القَوْلُ يقول : فوجب عليهم بمعصيتهم الله وفسوقهم فيها ، وعيد لله الذي أوعد من كفر به ، وخالف رسله ، من الهلاك بعد الإعذار والإنذار بالرسل والحجج فَدَمّرْناها تَدْميرا يقول : فخرّبناها عند ذلك تخريبا ، وأهلكنا من كان فيها من أهلها إهلاكا ، كما قال الفرزدق :
وكانَ لَهُمْ كَبكْرِ ثَمُودَ لَمّا *** رَغا ظُهْرا فَدَمّرَهُمْ دَمارا
هذا تفصيل للحكم المتقدم قُصد به تهديد قادة المشركين وتحميلهم تبعة ضلال الذين أضلوهم . وهو تفريع لتبيين أسباب حلول التعذيب بعد بعثة الرسول أدمج فيه تهديد المضلين . فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بالفاء على قوله : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] ولكنه عطف بالواو للتنبيه على أنه خبر مقصود لذاته باعتبار ما يتضمنه من التحذير من الوقوع في مثل الحالة الموصوفة ، ويظهر معنى التفريع من طبيعة الكلام ، فالعطف بالواو هنا تخريج على خلاف مقتضى الظاهر في الفصل والوصل .
فهذه الآية تهديد للمشركين من أهل مكة وتعليم للمسلمين .
والمعنى أن بعثة الرسول تتضمن أمراً بشرع وأن سبب إهلاك المرسل إليهم بعد أن يبعث إليهم الرسول هو عدم امتثالهم لما يأمرهم الله به على لسان ذلك الرسول .
ومعنى إرادة الله إهلاك قرية التعلق التنجيزي لإرادته . وتلك الإرادة تتوجه إلى المراد عند حصول أسبابه وهي المشار إليها بقوله : { أمرنا مترفيها } إلى آخره .
ومتعلق { أمرنا } محذوف ، أي أمرناهم بما نأمرهم به ، أي بعثنا إليهم الرسول وأمرناهم بما نأمرهم على لسان رسولهم فعصوا الرسول وفسقوا في قريتهم .
واعلم أن تصدير هذه الجملة ب ( إذا ) أوجب استغلاق المعنى في الربط بين جملة شرط ( إذا ) وجملة جوابِه ، لأن شأن ( إذا ) أن تكون ظرفاً للمستقبل وتتضمن معنى الشرط أي الربط بين جملتيها . فاقتضى ظاهر موقع ( إذا ) أن قوله : { أمرنا مترفيها } هو جواب ( إذا ) فيقتضي أن إرادة الله إهلاكها سابقة على حصول أمر المترفين سَبْقَ الشرط لجوابه ، فيقتضي ذلك أن إرادة الله تتعلق بإهلاك القرية ابتداء فيأمر الله مترفي أهل القرية فيفسقوا فيها فيحق عليها القول الذي هو مظهر إرادة الله إهلاكهم ، مع أن مجرى العقل يقتضي أن يكون فسوق أهل القرية وكفرُهم هو سبب وقوع إرادة الله إهلاكهم ، وأن الله لا تتعلق إرادته بإهلاك قوم إلا بعد أن يصدر منهم ما توعدهم عليه لا العكس . وليس من شأن الله أن يريد إهلاكهم قبل أن يأتوا بما يسببه ، ولا من الحكمة أن يسوقهم إلى ما يفضي إلى مؤاخذتهم ليحقق سبباً لإهلاكهم .
وقرينة السياق واضحة في هذا ، فبنا أن نجعل الواو عاطفة فعل { أمرنا مترفيها } على { نبعث رسولاً } فإن الأفعال يعطف بعضها على بعض سواء اتحدت في اللوازم أم اختلفت ، فيكون أصل نظم الكلام هكذا : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ونأمر مترفي قرية بما نأمرهم به على لسان الرسول فيفسقوا عن أمرنا فيحق عليهم الوعيد فنهلكهم إذا أردنا إهلاكهم .
فكانَ { وإذا أردنا أن نهلك قرية } شريطة لحصول الإهلاك ، أي ذلك بمشيئة الله ولا مكره له ، كم دلت عليه آيات كثيرة كقوله : { أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم } [ آل عمران : 127 128 ] وقوله : { أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم } [ الأعراف : 100 ] وقوله : { وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا } [ الإنسان : 28 ] وقوله : { عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } [ الإسراء : 18 ] . فذُكر شريطة المشيئة مرتين .
وإنما عدل عن نظم الكلام بهذا الأسلوب إلى الأسلوب الذي جاءت به الآية لإدماج التعريض بتهديد أهل مكة بأنهم معرضون لمثل هذا مما حل بأهل القرى التي كذبت رسل الله .
وللمفسرين طرائق كثيرة تزيد على ثَمان لتأويل هذه الآية متعسفة أو مدخولة ، وهي متفاوتة ، وأقربُها قول من جعل جملة { أمرنا مترفيها } إلخ صفةً ل { قرية } وجعل جواب ( إذا ) محذوفاً .
والمترَفُ : اسم مفعول من أترفه إذا أعطاه التُرفةَ . بضم التاء وسكون الراء أي النعمة . والمترفون هم أهل النعمة وسعة العيش ، وهم معظم أهل الشرك بمكة . وكان معظم المؤمنين يومئذٍ ضعفاء قال الله تعالى : { وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا } [ المزمّل : 11 ] .
وتعليق الأمر بخصوص المترفين مع أن الرسل يخاطبون جميع الناس ، لأن عصيانهم الأمرَ الموجه إليهم هو سبب فسقهم وفسق بقية قومهم إذ هم قادة العامة وزعماء الكفر فالخطاب في الأكثر يتوجه إليهم ، فإذا فسقوا عن الأمر اتبعهم الدهماء فعم الفسق أو غلب على القرية فاستحقت الهلاك .
وقرأ الجمهور { أمرنا } بهمزة واحدة وتخفيف الميم ، وقرأ يعقوب { آمرنا } بالمد بهمزتين همزة التعدية وهمزة فاء الفعل ، أي جعلناهم آمرين ، أي داعين قومهم إلى الضلالة ، فسكنت الهمزة الثانية فصارت ألفاً تخفيفاً ، أو الألف ألف المفاعلة ، والمفاعلةُ مستعملة في المبالغة ، مثل عافاه الله .
والفسق : الخروج عن المقر وعن الطريق . والمراد به في اصطلاح القرآن الخروج عما أمر الله به ، وتقدم عند قوله تعالى : { وما يضل به إلا الفاسقين } في سورة [ البقرة : 26 ] .
و{ القول } هو ما يبلغه الله إلى الناس من كلام بواسطة الرسل وهو قول الوعيد كما قال : { فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون } [ الصافات : 31 ] .
والتدمير : هدم البناء وإزالة أثره ، وهو مستعار هنا للاستئصال إذ المقصود إهلاك أهلها ولو مع بقاء بنائهم كما في قوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] . وتقدم التدمير عند قوله تعالى : { ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه } في سورة [ الأعراف : 137 ] . وتأكيد دمرناها بالمصدر مقصود منه الدلالة على عظم التدمير لا نفي احتمال المجاز .