يتحدث القرآن الكريم من خلال ما يذكره من قصص عن سنن الله الكونية ، وعن العظات والعبر المستفادة ، ويبين في أثناء القصة الكثير من العقائد والأحكام والأخلاق . وقد ذكر في السورة السابقة طرفا من سيرة بني إسرائيل صور فيه الكثير من انحرافهم ، وفي هذه السورة يذكر جوانب أخرى من ضلالهم وانحرافهم ، ويرشد إلى ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن في عقيدته وسلوكه ، ويبين حقيقة الدين السماوي ، ويشير إلى آداب المجادلة ، ويذكر العادات في الانتصار والفشل أحيانا . ويبين مقام الشهداء يوم القيامة ، والجزاء وعمومه للذكر والأنثى ، وطريق الفلاح ، وتبتدئ هذه السورة الكريمة بما ابتدأت به السورة السابقة .
1- الم ، حروف صوتية سيقت لبيان أن القرآن المعجز من هذه الحروف .
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .
وبعد : فهذا تفسير مفصل لسورة آل عمران ، حاولت فيه أن أكشف عن بعض ما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات قويمة ، وهدايات جامعة . وإرشادات حكيمة . ووصايا جليلة ، وآداب عالية ، وحجج باهرة ، تقذف حقها على باطل الضالين فتدمغه فإذا هو زاهق .
وقد رأيت من الخير قبل أن أبدأ في تفسيرها أن أسوق كلمة بين يديها تكون بمثابة التعريف بها ، وبيان فضلها ومقاصدها الإجمالية ، والموضوعات التي اهتمت بالحديث عنها .
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه ، ونافعا لعباده ، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول .
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . .
سورة آل عمران هي السورة الثالثة في ترتيب المصحف ؛ إذ تسبقها في الترتيب سورتا الفاتحة والبقرة .
وتبلغ آياتها مائتي آية . وهي مدنية باتفاق العلماء .
وسميت بسورة آل عمران ، لورود قصة آل عمران بها بصورة فيها شيء من التفصيل الذي لا يوجد في غيرها .
والمراد بآل عمران عيسى ، ويحيى ومريم ، وأمها . والمراد بعمران والد مريم أم عيسى –عليه السلام- .
وقد ذكر العلماء أسماء أخرى لهذه السورة منها :
أنها تسمى بسورة الزهراء ، لأنها كشفت عما التبس على أهل الكتاب من شأن عيسى –عليه السلام- .
وتسمى بسورة الأمان ، من تمسك بها أمن الغلط في شأنه .
وتسمى بسورة الكنز لتضمنها الأسرار التي تتعلق بعيسى عليه السلام .
وتسمى بسورة المجادلة ، لنزول أكثر من ثمانين آية منها في شأن مجادلة الرسول صلى الله عليه وسلم لوفدي نصارى نجران .
وتسمى بسورة طيبة ، لجمعها الكثير من أصناف الطيبين في قوله –تعالى- [ الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ] .
قال القرطبي ما ملخصه : وهذه السورة ورد في فضلها آثار وأخبار . فمن ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان الكلابي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يؤتى بالقرآن يوم القيامة وبأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران –وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال : كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق- أي ضوء ، أو كأنهما فرقان –أي قطعتان من طير صواف- تحاجان عن صاحبهما " .
ثم قال : وصدر هذه السورة نزل بسبب وفد نجران ، وكانوا قد وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم إثر صلاة العصر ، عليهم ثياب الحبرات( {[1]} ) .
فقال بعض الصحابة : ما رأينا وفداً مثلهم جمالا وجلالة .
وحانت صلاتهم فقاموا فصلوا في المسجد إلى المشرق . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعوهم . ثم أقاموا بها أياماً يناظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بالبراهين الساطعة ونزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية ، إلى أن آل أمرهم إلى أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة( {[2]} ) .
أما النصف الثاني من سورة آل عمران فقد كان نزول ما يقرب من ستين آية منه( {[3]} ) في أعقاب غزوة أحد .
هذا ونرى من الخير قبل أن نبدأ في تفسير هذه السورة الكريمة بالتفصيل أن نذكر على سبيل الإجمال ما اشتملت عليه من توجيهات سامية ، وآداب عالية ، وأحكام جليلة ، وتشريعات قويمة .
إنك عندما تفتح كتاب الله –تعالى- وتطالع سورة آل عمران تراها في مفتتحها تثبت أن المستحق للعبادة إنما هو الله وحده ، وتقيم البراهين الساطعة على ذلك .
[ الَمَ الله لا إله إلا هو الحي القيوم . نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه ، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس ، وأنزل الفرقان ] .
ثم بعد أن مدحت أصحاب العقول السليمة لقوة إيمانهم ، وشدة إخلاصهم وكثرة تضرعهم إلى خالقهم –سبحانه- وبشرتهم بحسن العاقبة . . بعد أن فعلت ذلك ذمت الكافرين وتوعدتهم بسوء المصير فقالت : [ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ، وأولئك هم وقود النار ] .
[ قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ] .
ثم تحدثت عن الشهوات التي زينت للناس ، وبينت ما هو خير منها ، وصرحت بأن الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده هو دين الإسلام ، وأن أهل الكتاب ما تركوا الحق الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم إلا بسبب ما استولى على قلوبهم من بغي وجحود ، وأنهم بسبب ما ارتكبوه من كفر وجرائم في الدنيا ، سيكون حالهم يوم القيامة أسوأ حال وسيكون مصيرهم أشنع مصير ، [ فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ] .
ثم نهت السورة الكريمة المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصدقاء يلقون إليهم بالمودة ، وذكرتهم بأن الله –تعالى- لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا السماء ، وأنه –سبحانه- سيحاسب كل نفس بما كسبت [ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ] .
فإذا ما طالعت –أيها القارئ الكريم- الربعين : الثالث والرابع منها ، وجدت فيهما حديثا حكيما عن آل عمران .
فقد تحدثت السورة الكريمة عما قالته امرأة عمران –أم مريم- عندما أحست بالحمل في بطنها ، وعما قالته عندما وضعت حملها .
[ قالت ربِّ إني وضعتها أنثى ، والله أعلم بما وضعت ، وليس الذكر كالأنثى ، وإني سميتها مريم ] .
وتحدثت عن الدعوات الخاشعات التي تضرع بها زكريا إلى ربه ، سائلا إياه الذرية الطيبة ، وكيف أن الله –تعالى- أجاب له دعاءه فبشره [ بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبيّاً من الصالحين ] .
وتحدثت عن اصطفاء الله –تعالى- لمريم وتبشيرها بعيسى –عليه السلام- وتعجبها من أن يكون لها ولد دون أن يمسها بشر ؛ وكيف أن الله –تعالى- قد رد عليها بما يزيل عجبها .
[ قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ؟ قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ] .
وتحدثت عن الصفات الكريمة ، والمعجزات الباهرة التي منحها الله –تعالى- لعيسى –عليه السلام- وعن دعوته للناس إلى عبادة الله وحده وعن موقف أعدائه منه ؛ وعن صيانة الله له من مكرهم وعن تشابه عيسى وآدم في شأن خلقهما بدون أب . . وكيف أن الله –تعالى- أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أني تحدى كل من يجادله بالباطل في شأن عيسى فقال :
[ ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون . الحق من ربك فلا تكن من الممترين . فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ، ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ، إن هذا لهو القصص الحق ، وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم ] .
ثم وجهت السورة الكريمة أربع نداءات إلى أهل الكتاب ، دعتهم فيها إلى عبادة الله وحده ، وإلى ترك الجدال بالباطل في شأن أنبيائه ، ووبختهم على كفرهم وعلى خلطهم الحق بالباطل .
[ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ، ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ] [ يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ] .
[ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ] .
[ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ] .
ثم واصلت السورة الكريمة في الربعين : الخامس والسادس منها حديثها عن أهل الكتاب ، فمدحت القلة المؤمنة منهم ، وذمت من يستحق الذم منهم –وهم الأكثرون- وحكت بعض الرذائل التي عرفت عن أشرارهم وفريق من علمائهم .
[ وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ، ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ] .
ثم بينت أن الله _تعالى_ قد أخذ الميثاق على أنبيائه بأن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأنهم قد أقروا بذلك وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجابه مخالفيه بكلمة الحق التي جاء بها من عند الله ، وان يخبرهم بأن من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه .
[ قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون . ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ] .
ثم ساقت السورة الكريمة بعض الشبهات التي أثارها اليهود حول ما أحله الله وحرمه عليهم من الأطعمة . وردت عليهم بما يفضحهم ويثبت كذبهم ، ووبختهم على كفرهم وعلى صدهم الناس عن طريق الحق . . وحذرت المؤمنين من مسالكهم الخبيثة التي يريدون من ورائها تفريق كلمتهم وفصم عرى أخوتهم واعتصامهم بحبل الله . وذكرتهم بنعمة الإيمان التي بسببها نالوا ما نالوا من الخير [ واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ] .
ثم بشرت السورة الكريمة المؤمنين بأنهم خير أمة أخرجت للناس ، وأنهم هم الغالبون ما داموا معتصمين بدينهم . . وذكرت بعض العقوبات التي عاقب الله –تعالى- بها اليهود بسبب كفرهم بآياته ، وقتلهم أنبياءه ، وعصيانهم أوامره . . وأثنت على من يستحق الثناء من أهل الكتاب فقالت : [ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ، وتؤمنون بالله ، ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم ، منهم المؤمنون ، وأكثرهم الفاسقون لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون . ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون الأنبياء بغير حق ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . ليسوا سواء ] .
وبعد أن أقامت السورة الكريمة –في عشرات الآيات منها- الأدلة الواضحة ، وساقت الحجج الساطعة على صحة دين الإسلام . . انتقلت إلى الحديث عن معارك السيف والسنان التي دارت بين أهل الحق وأهل الباطل .
فتحدثت في الربع السابع والثامن والتاسع والعاشر منها عن غزوة أحد .
وكان حديثها عن هذه الغزوة زاخرا بالتوجيهات الحكيمة والتربية القويمة ، والوصايا الحميدة ، والعظات الجليلة والتشريعات السامية ، والآداب العالية .
كان حديثها عنها هاديا للمسلمين في كل زمان ومكان إلى الطريق الذي يوصلهم إلى النصر ليسلكوه ، موضحاً لهم طريق الفشل ليجتنبوه . كان حديثها عنها يدعو المسلمين كافة إلى الاعتبار بأحداث الحياة " وكيف أنها تسير على سنن وقوانين علينا أن نطلبها ونسلك السبيل إلى تعلمها ، وأن أحداث الحياة ليست مجموعة من المصادفات المتوالية ، أو التدفق العشوائي ، وإنما للنصر قوانين ، وللهزيمة قوانين . ومن الممكن أن ينهزم المسلمون في حرب ولو كان فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ما خالفوا عن أمره ، وسلكوا غير سبيل النصر ، وأن لهم النصر على عدوهم وإن فاقهم عدداً وعدة إذا ما استطاعوا أن يرتفعوا إلى ما فوق فاعلية عدوهم إيمانا وعلما وتنظيماً " ( {[4]} ) .
لقد بدأت سورة آل عمران حديثها عن غزوة أحد بتذكير المؤمنين بما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم قبل بدء المعركة من إعداد وتنظيم للصفوف ، وبما هم به بعضهم من فشل ، وبما تم لهم من نصر على أعدائهم في غزوة بدر . . استمع إلى القرآن وهو يحكي كل ذلك فيقول : [ وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم . إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون . ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ، فاتقوا الله لعلكم تشكرون ] .
وفي هذا الربط بين الغزوتين تذكير للمؤمنين بأسباب انتصارهم في بدر وأسباب هزيمتهم في أحد : حتى يسلكوا في مستقبل حياتهم السبيل التي توصلهم إلى الظفر ، ويهجروا الطريق التي تقودهم إلى الفشل .
ثم وجهت السورة نداء إلى المؤمنين نهتهم فيه عن التعامل بالربا ، وحثتهم على المسارعة إلى الأعمال الصالحة التي توصلهم إلى رضوان الله ، لأنه إذا كان أعداؤهم يجمعون المال من كل طريق لحربهم ، فعليهم هم أن يتحروا الحلال في جمعهم للمال ، وأن يتبعوا الوسائل الشريفة التي تبلغهم إلى غايتهم النبيلة ، ثم حضتهم على الاعتبار بسنن الله في خلقه ، وأمرتهم بالتجلد والصبر ، ونهتهم عن الوهن والضعف ، وبشرتهم بأنهم هم الأعوان ، وشجعتهم على مواصلة الجهاد في سبيل الله فإن العاقبة لهم ، وأخبرتهم بأن ما أصابهم من آلام وجراح في أحد ، قد أصيب أعداؤهم بمثلها ، وأن الأيام دول ، وأن هزيمتهم في أحد من ثمارها أنها ميزت قوى الإيمان من ضعيفه ، لأن المصائب كثيراً ما تكشف عن معادن النفوس ، وخفايا الصدور .
قال –تعالى- [ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين . ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين . إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ، وتلك الأيام نداولها بين الناس ، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين . وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ] .
ثم بينت السورة الكريمة أن الآجال بيد الله وحده ، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم قد خلت من قبله الرسل ، وسيدركه الموت كما أدركهم . وأن الأخيار من أتباع الرسل السابقين كانوا يقاتلون معهم بثبات وصبر من أجل إعلاء كلمة الله . . فعلى المؤمنين في كل زمان ومكان أن يقدموا على الجهاد في سبيل الله بعزيمة صادقة ، وبنفوس مخلصة ؛ لأن الإقدام لا ينقص شيئا من الحياة ، كما أن الإحجام لا يؤخرها ، [ وما كان لنفس أن نموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ] .
ثم حذرت السورة الكريمة المؤمنين من طاعة الكافرين ؛ لأن طاعتهم تفضي بهم إلى الخسران ، وبشرتهم بأن الله –تعالى- سيلقى الرعب في قلوب أعدائهم ، وأخبرتهم بأنه –سبحانه- قد صدق وعده معهم ، حيث مكنهم في أول معركة أحد من الانتصار على خصومهم وأنهم –أي المؤمنين- ما أصيبوا بما أصيبوا به في أحد إلا بسبب فشلهم وتنازعهم وتطلعهم إلى الغنائم ، ومخالفتهم لوصايا رسولهم صلى الله عليه وسلم .
قال –تعالى- [ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون ، منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ، ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ، ولقد عفا عنكم ، والله ذو فضل على المؤمنين ] .
ولقد ذكرت السورة الكريمة المؤمنين بما حدث من بعضهم من فرار عن المعركة حتى لا يعودوا إلى ذلك مرة أخرى فقالت :
[ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم ] وبينت لهم كيف أن الله –تعالى- قد شملهم برحمته ، حيث أنزل عليهم النعاس في أعقاب المعركة ليكون أمانا لهم من الخوف ، وراحة لهم من الآلام التي أصابتهم . . وكيف أنه –سبحانه- قد فضح المنافقين ، ورد على أقوالهم وأراجيفهم بما يدحضها ويبطلها .
قال –تعالى- [ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية . يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله ، يخفون في أنفسهم مالا يبدون لك ، يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ، قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ] ثم وجهت السورة الكريمة حديثها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوصفته بأكرم الصفات وأفضلها ، ونزهته عن كل قول أو فعل يتنافى مع منزلته الرفيعة . . وأمرته باللين مع أتباعه وبالعفو عنهم وبالاستغفار لهم ، وبمشاورتهم في الأمر .
ثم عادت السورة الكريمة فأكدت للمؤمنين أن ما أصابهم في أحد سببه من عند أنفسهم ، فهم الذين خالفوا ما أمرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم .
قال –تعالى- [ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ، قل هو من عند أنفسكم ] .
ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن غزوة أحد ببيان فضل الشهداء ، وما أعده الله لهم من ثواب جزيل ، وبالثناء على المؤمنين الصادقين [ الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ] والذين لم يرهبهم قول المرجفين : [ إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ] بل إن هذا القول زادهم إيمانا على إيمانهم ، وجعلهم يفوضون أمورهم إلى الله ويقولون : [ حسبنا الله ونعم الوكيل ] .
ولقد ذكر –سبحانه- أن حكمته قد اقتضت أن يحدث ما حدث في أحد حتى يتميز الخبيث من الطيب فقال –تعالى :
[ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ، وما كان الله ليطلعكم على الغيب ، ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ، فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ] .
وبعد هذا الحديث الحكيم المستفيض عن غزوة أحد ، عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن أهل الكتاب فذكرت جانبا من رذائل اليهود ، الذين حكى الله –تعالى- عنهم أنهم قالوا [ إن الله فقير ونحن أغنياء ] وأنهم قالوا : [ لن نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ] .
وأنهم قد نقضوا عهودهم مع الله وباعوا دينهم بدنياهم الفانية .
وقد توعدهم الله –تعالى- على ارتكابهم لهذه الرذائل والمنكرات بالعذاب المهين [ وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ] .
ثم تحدثت السورة الكريمة في أواخرها عن صفات أولى الألباب ، وحكت عنهم ما كانوا يتضرعون به إلى الله من دعوات خاشعات ، وابتهالات طيبات ، وكيف أنه –سبحانه- قد أجاب لهم دعاءهم ببركة قوة إيمانهم ، وصفاء نفوسهم ، وطهارة قلوبهم .
وكانت الآية الخاتمة فيها تدعو المؤمنين إلى الصبر والمصابرة والمرابطة وتقوى الله ، لأن المؤمن الذي تتوفر فيه هذه الصفات يكون أهلا للفلاح في الدنيا والآخرة . قال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ، واتقوا الله لعلكم تفلحون ] .
هذا ونستطيع بعد هذا العرض الإجمالي لأهم المقاصد التي اشتملت عليها سورة آل عمران أن نستخلص ما يأتي :
أولا : أن السورة الكريمة قد اهتمت بإثبات وحدانية الله –تعالى- وإقامة الأدلة الساطعة على ذلك ، وإثبات أن الدين الحق الذي ارتضاه الله –تعالى- لعباده هو دين الإسلام ، الذي أرسل به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم .
وقد ساقت السورة الكريمة لإثبات هذه الحقائق آيات كثيرة منها قوله تعالى : [ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ] .
وقوله –تعالى : [ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط . لا إله إلا هو العزيز الحكيم . إن الدين عند الله الإسلام ] .
وقوله – تعالى : [ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين ] .
ثانياً : أن السورة الكريمة قد فصلت الحديث عن أحوال أهل الكتاب ، بأسلوب مقنع حكيم يحق الحق ويبطل الباطل .
فأنت إذا طالعتها بتدبر تراها تارة تتحدث عن الكفر الذي ارتكسوا فيه بسبب اختلافهم وبغيهم . [ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ] .
وتارة تتحدث عن نبذهم لكتاب الله وتحاكمهم إلى غيره . [ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ] .
وتارة توبخهم على كفرهم بآيات الله . وعلى مجادلتهم بالباطل ، وعلى سوء أدبهم مع الله –تعالى- وعلى نقضهم لعهودهم ومواثيقهم ، وعلى كتمانهم لما أمرهم الله بإظهاره من حقائق .
وقد توعدتهم السورة الكريمة بسوء العذاب بسبب هذه الرذائل والمنكرات [ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلاً فبئس ما يشترون ] .
وتارة تحذر المؤمنين من شرورهم فتقول : [ لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ] .
ولا تغفل السورة الكريمة عن مدح من يستحق المدح منهم ، لأن القرآن الكريم لا يذم إلا من يستحق الذم ، فقد قال –تعالى- [ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ] .
وقال –تعالى- [ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ] .
وقال –تعالى- : [ منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ] .
هذا جانب من حديث سورة آل عمران عن أهل الكتاب ، وهو حديث يكشف عن حقيقتهم حتى يكون المؤمنون على بينة من أمرهم .
وقد تحدثت السورة . أيضاً عن المشركين وعن المنافقين إلا أن حديثها عن أهل الكتاب كان أكثر وأشمل .
ثالثا : أن السورة الكريمة قد اهتمت اهتماما بارزا بتربية المؤمنين تربية ينالون باتباعها النصر والسعادة في الدنيا والفوز والفلاح في الآخرة .
فقد وجهت إليهم سبعة نداءات أمرتهم فيها بتقوى الله ، وبالصبر والمصابرة والمرابطة ، ونهتهم عن طاعة الكافرين ، ون التشبه بهم ، وعن اتخاذهم أولياء كما نهتهم عن تعاطي الرب وعن كل ما يتنافى مع آداب دينهم وتعاليمه .
وهذه النداءات السبعة تراها في قوله تعالى :
1- [ يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ] .
2- [ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حتى تقاته ] .
3- [ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ] .
4- [ يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ] .
5- [ يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين ] .
6- [ يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزًّى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ] .
7- [ يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ] .
وبجانب هذه النداءات التي اشتملت على أسمى ألوان التربية الفاضلة ، والتوجيه القويم . . نرى السورة الكريمة تسوق للمؤمنين في آيات كثيرة منها ما يهدى بهم إلى الخير والرشاد ويبعدهم عن الشر والفساد . فهي تحكي لهم ألوانا من الدعوات التي يتضرع بها الأخيار من الناس لكي يتأسوا بهم . وتبين لهم أن حب الشهوات طبيعة في الناس إلا أن العقلاء منهم يجعلون حبهم لما يرضى الله فوق أي شيء آخر . وتحرضهم على الاعتصام بحبل الله وتحثهم على المسارعة إلى الأعمال الصالحة التي توصلهم إلى رضا الله .
إلى غير ذلك من التوجيهات الحكيمة التي زخرت بها سورة آل عمران والتي من شأنها أن تزيد المؤمنين إيمانا مع إيمانهم ، وأن تهديهم إلى الصراط المستقيم .
رابعا : أن السورة الكريمة عرضت أحداث غزوة أحد عرضاً حكيما زاخراً بالعظات والعبر وفصلت الحديث عنها تفصيلا لا يوجد في غيرها من السور ، وساقت ما دار فيها بأسلوب بليغ مؤثر يخاطب العقول والعواطف ، ويكشف عن خفايا القلوب ونوازعها ، وطوايا النفوس وخواطرها ، ويعالج الأخطاء التي وقع فيها بعض المسلمين حتى لا يعودوا لمثلها ويشجعهم على المضي في طريق الجهاد حتى لا يؤثر في عزيمتهم ما حدث لهم في أحد ، ويبشرهم بأن الله –تعالى- قد عفا عمن فر منهم ، ويذكرهم بمظاهر فضل الله عليهم خلال المعركة وبعدها ، ويبصرهم بسنن الله التي لا تتخلف ، وبقوانينه التي لا تتبدل ، وبتعاليمه التي من سار عليها أفلح وانتصر ، ومن أعرض عنها خاب وخسر [ فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ] .
أما بعد ، فهذا عرض إجمالي لسورة آل عمران رأينا أن نسوقه قبل البدء في التفسير المفصل لآياتها ، ولعلنا بذلك نكون قد قدمنا تعريفاً موجزا نافعا عن هذه السورة الكريمة يعين على فهم بعض أسرارها ومقاصدها وتوجيهاتها .
والله نسأل أن يهدينا جميعا إلى صراطه المستقيم ، وأن يجنبنا فتنة القول والعمل ، وأن يجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه ونافعة لعباده .
افتتحت سورة آل عمران ببعض حروف التهجي وهو قوله - تعالى - : { الم }
ويبلغ عدد السور القرآنية التي افتتحت بالحروف المقطعة تسعا عشرين سورة .
وقد وقع خلاف بين العلماء في المعنى المقصود من حروف التهجي التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ويمكن إجمال اختلافهم فى رأيين رئيسيين :
الرأي الأول يرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها غير معروف ، فهى من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه .
وإلى هذا الرأي ذهب ابن عباس - في إحدى الروايات عنه - كما ذهب إليه الشعبي ، وسفيان الثورى وغيرهما من العلماء ، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبى أنه سئل عن فواتح السور فقال : " إن لكل كتاب سراً ، وإن سر هذا القرآن فواتح السور " وروى عن ابن عباس أنه قال : " عجزت العلماء عن إدراكها " .
وعن على بن أبى طالب أنه قال : " إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجى " وفى رواية أخرى للشعبى أنه قال : " سر الله فلا تطلبوه " .
ومن الاعتراضات التى وجهت إلى هذا الرأى أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس ؛ لأنه من المتشابه فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل ، أو مثله كمثل التكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها .
وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإِفهام عنها عند كل الناس . فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يفهم المراد بها ، وكذلك بعض الصحابة المقربين ، ولكن الذى ننفيه أن يكون الناس جميعا فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة فى أوائل بعض السور . وهناك مناقشات للعلماء حول هذا الرأى لا مجال لذكرها هنا .
أما الرأى الثانى فيرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها معلوم . وأنها ليست من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه . وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم فى تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة من أهمها :
1- أن هذه الحروف أسماء للسور ، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح " وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها ، كسورة " ص " وسورة " يس " وسورة " ق " . . الخ .
ولا يخلو هذا القول من ضعف لأنه لا يلزم من التسمية ببعضها أن تكون جميع الحروف المقطعة أسماء للسور التي بدئت بها ، ولأن كثيراً من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح ، فلو كانت أسماء للسور لم تتكرر لمعان مختلفة ؛ لأن الغرض من التسمية رفع الاشتباه .
2- وقيل : إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى .
3- وقيل : إنها حروف مقطعة بعضها من أسماء الله - تعالى - وبعضها من صفاته ، فمثلا : { الاما } أصلها أنا الله أعلم .
4- وقيل : إنها اسم الله الأعظم . إلى غير ذلك من الأقوال التى لا تخلو من مقال ، والتى أوصلها السيوطى فى كتابه " الإِتقان " إلى أكثر من عشرين قولا .
5- ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت فى افتتاح بعض سور القرآن على سبيل الإِيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن .
فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك المعارضين فى أن القرآن من عند الله : هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم فى شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم فى ذلك .
ومما يشهد لصحة هذا الرأى : أن الآيات التى تلى هذه الحروف المقطعة تتحدث عن الكتاب المنزل ، وعن كونه معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم فى أغلب المواضع .
وأنت ترى هذه الآيات كثيرا ما تتصدر صراحة باسم الإِشارة الذى يعود إلى القرآن كما فى قوله - تعالى - : ( الم ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ ) أو ضمنا كما فى قوله - تعالى - : ( المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ ) وأيضا فإن هذه السور التى افتتحت بالحروف المقطعة إذا ما تأملتها من أولها إلى آخرها ترى من أهدافها الأساسية إثبات صحة الرسالة المحمدية عن طريق هذا الكتاب الذى جعله الله - تعالى - معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم .
هذه خلاصة موجزة لآراء العلماء فى المراد بالحروف المقطعة التى افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع إلى ما كتبه العلماء فى هذا الموضوع .
{ الله لا إله إلا هو } إنما فتح الميم في المشهور وكان حقها أن يوقف عليها لإلقاء حركة الهمزة عليها ليدل على أنها في حكم الثابت ، لأنها أسقطت للتخفيف لا للدرج ، فإن الميم في حكم الوقف كقولهم واحد اثنان بإلقاء حركة الهمزة على الدال لا لالتقاء الساكنين ، فإنه غير محذور في باب الوقف ، ولذلك لم تحرك الميم في لام . وقرئ بكسرها على توهم التحريك لالتقاء الساكنين . وقرأ أبو بكر بسكونها والابتداء بما بعدها على الأصل . { الحي القيوم } روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور في البقرة الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، وفي آل عمران الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، وفي طه وعنت الوجوه للحي القيوم " .
سميت هذه السورة ، في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة : سورة آل عمران ، ففي صحيح مسلم ، عن أبي أمامة : قال سمعت رسول الله يقول أقرأوا الزهراوين : البقرة وآل عمران وفيه عن النواس بن سمعان : قال سمعت النبي يقول يؤتى بالقرآن يوم القيامة تقدمه سورة البقرة وآل عمران وروى الدارمي في مسنده : أن عثمان بن عفان قال : من قرأ سورة آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة وسماها ابن عباس ، في حديثه في الصحيح ، قال : بت في بيت رسول الله فنام رسول الله حتى إذا كان نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله فقرأ الآيات من آخر سورة آل عمران . ووجه تسميتها بسورة آل عمران أنها ذكرت فيها فضائل آل عمران وهو عمران بن ماتان أبو مريم وآله هم زوجه حنة وأختها زوجة زكريا النبي ، وزكريا كافل مريم إذ كان أبوها عمران توفي وتركها حملا فكفلها زوج خالتها .
ووصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزهراء في حديث أبي أمامة المتقدم .
وذكر الآلوسي أنها تسمى : الأمان ، والكنز ، والمجادلة ، وسورة الاستغفار . ولم أره لغيره ، ولعله اقتبس ذلك من أوصاف وصفت بها هذه السورة مما ساقه القرطبي ، في المسألة الثالثة والرابعة ، من تفسير أول السورة .
وهذه السورة نزلت بالمدين بالاتفاق ، بعد سورة البقرة ، فقيل ، أنها ثانية لسورة البقرة على أن البقرة أول سورة نزلت بالمدينة ، وقيل : نزلت بالمدينة سورة المطففين أولا ، ثم البقرة ، ثم نزلت سورة آل عمران ، ثم نزلت الأنفال في وقعة بدر ، وهذا يقتضي : أن سورة آل عمران نزلت قبل وقعة بدر ، للاتفاق على أن الأنفال نزلت في وقعة بدر ، ويبعد ذلك أن سورة آل عمران اشتملت على التذكير بنصر المسلمين يوم بدر ، وأن فيها ذكر يوم أحد ، ويجوز أن يكون بعضها نزل متأخرا . وذكر الواحدي في أسباب النزول ، عن المفسرين : أن أول هذه السورة إلى قوله { ونحن له مسلمون } نزل بسبب وفد نجران ، وهو وفد السيد والعاقب ، أي سنة اثنين من الهجرة ، ومن العلماء من قالوا : نزلت سورة آل عمران بعد سورة الأنفال ، وكان نزولها في وقعة أحد ، أي شوال سنة ثلاث ، وهذا أقرب ، فقد أتفق المفسرون على أن قوله تعالى { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال } أنه قتال يوم أحد . وكذلك قوله { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } فإنه مشير إلى الإرجاف يوم أحد بقتل النبي صلى الله عليه وسلم .
ويجوز أن يكون أولها نزل بعد البقرة إلى نهاية ما يشير إلى حديث وفد نجران ، وذلك مقدار ثمانين آية من أولها إلى قوله { وإذ غدوت من أهلك } قاله القرطبي في أول السورة ، وفي تفسير قوله { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } الآية . وقد تقدم القول في صدر سورة الفاتحة : إننا بينا إمكان تقارن نزول السور عدة في مدة واحدة ، فليس معنى قولهم : نزلت سورة كذا بعد سورة كذا ، مرادا منه أن المعدودة نازلة بعد أخرى أنها ابتدئ نزولها بعد نزول الأخرى ، بل المراد أنها ابتدئ نزولها بعد ابتداء نزول التي سبقتها .
وقد عدت هذه السورة الثامنة والأربعين في عداد سور القرآن .
وعدد آيها مائتان في عد الجمهور وعددها عند أهل العدد بالشام مائة وتسع وتسعون .
واشتملت هذه السورة ، من الأغراض : على الابتداء بالتنويه بالقرآن ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وتقسيم آيات القرآن ، ومراتب الأفهام في تلقيها ، والتنويه بفضيلة الإسلام وأنه لا يعدله دين ، وأنه لا يقبل دين عند الله ، بعد ظهور الإسلام ، غير الإسلام ، والتنويه بالتوراة والإنجيل ، والإيماء إلى أنهما أنزلا قبل القرآن ، تمهيدا لهذا الدين فلا يحق للناس أن يكفروا به ، وعلى التعريف بدلائل إلهية الله تعالى ، وانفراده ، وإبطال ضلالة الذين اتخذوا آلهة من دون الله : من جعلوا له شركاء ، أو اتخذوا له أبناء ، وتهديد المشركين بأن أمرهم إلى زوال ، وألا يغرهم ما هم فيه من البذخ ، وأن ما أعد للمؤمنين خير من ذلك ، وتهديدهم بزوال سلطانهم ، ثم الثناء على عيسى عليه السلام وآل بيته ، وذكر معجزة ظهوره ، وأنه مخلوق لله ، وذكر الذين آمنوا به حقا ، وإبطال إلهية عيسى ، ومن ثم أفضى إلى قضية وفد نجران ولجاجتهم ، ثم محاجة أهل الكتابين في حقيقة الحنفية وأنهم بعداء عنها ، وما أخذ الله من العهد على الرسل كلهم : أن يؤمنوا بالرسول الخاتم ، وأن الله جعل الكعبة أول بيت وضع للناس ، وقد أعاد إليه الدين الحنيف كما ابتدأه فيه ، وأوجب حجه على المؤمنين ، وأظهر ضلالات اليهود ، وسوء مقالتهم ، وافترائهم في دينهم وكتمانهم ما أنزل إليهم . وذكر المسلمين بنعمته عليهم بدين الإسلام ، وأمرهم بالاتحاد والوفاق ، وذكرهم بسابق سوء حالهم في الجاهلية ، وهون عليهم تظاهر معانديهم من أهل الكتاب والمشركين ، وذكرهم بالحذر من كيدهم وكيد الذين أظهروا الإسلام ثم عادوا إلى الكفر فكانوا مثلا لتمييز الخبيث من الطيب ، وأمرهم بالاعتزاز بأنفسهم ، والصبر على تلقي الشدائد ، والبلاء ، وأذى العدو ، ووعدهم على ذلك بالنصر والتأييد وإلقاء الرعب منهم في نفوس عدوهم ، ثم ذكرهم بيوم أحد ، ويوم بدر ، وضرب لهم الأمثال بما حصل فيهما ، ونوه ، بشأن الشهداء من المسلمين ، وأمر المسلمين بفضائل الأعمال : من بذل المال في مواساة الأمة ، والإحسان ، وفضائل الأعمال ، وترك البخل ، ومذمة الربا وختمت السورة بآيات التفكير في ملكوت الله .
وقد علمت أن سبب نزول هذه السورة قضية وفد نجران من بلاد اليمن .
ووفد نجران هم قوم من نجران بلغهم مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أهل نجران متدينين بالنصرانية ، وهم من أصدق العرب تمسكا بدين المسيح ، وفيهم رهبان مشاهير ، وقد أقاموا للمسيحية كعبة ببلادهم هي التي أشار إليها الأعشى حين مدحهم بقوله :
فكعبة نجران حتم عليكِ *** حتى تناخي بأبوابها
فاجتمع وفد منهم يرأسه العاقب فيه ستون رجلا وأسمه عبد المسيح ، وهو أمير الوفد ، ومعه السيد واسمه الأيهم ، وهو ثمال القوم وولي تدبير الوفد ، ومشيره وذو الرأي فيه ، وفيهم أبو حارثة بن علقمة البكري وهو أسقفهم وصاحب مدارسهم وولي دينهم ، وفيهم أخو أبي حارثة ، ولم يكن من أهل نجران ، ولكنه كان ذا رتبة : شرفه ملوك الروم ومولوه . فلقوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وجادلهم في دينهم ، وفي شأن ألوهية المسيح ، فلما قامت الحجة عليهم أصروا على كفرهم وكابروا ، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة ، فأجابوا ثم استعظموا ذلك ، وتخلصوا منه ، ورجعوا إلى أوطانهم ، ونزلت بضع وثمانون آية من أول هذه السورة في شأنهم كما في سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق . وذكر ذلك الواحدي والفخر ، فمن ظن من أهل السير أن وفد نجران وفدوا في سنة تسع فقد وهِم وهْمًا انجرَّ إليه من اشتهار سنة تسع بأنها سنة الوفود . والإجماع على أن سورة آل عمران من أوائل المدنيات ، وترجيح أنها نزلت في وفد نجران يعينان أن وفد نجران كان قبل سنة الوفود .
لما كان أول أغراض هذه السورة ، الذي نزلت فيه ، هو قضية مجادلة نصارى نجران حين وفدوا إلى المدينة ، وبيان فضل الإسلام على النصرانِيَّة ، لا جرم افتتحت بحروف التهجّي ، المرموز بها إلى تحدّي المكذّبين بهذا الكتاب ، وكان الحظّ الأوفر من التكذيب بالقرآن للمشركين منهم ، ثم للنصارى من العَرب ؛ لأنّ اليهود الذين سكنوا بلاد العرب فتكلّموا بلسانهم لم يكونوا معدودين من أهل اللسان ، ويندر فيهم البلغاء بالعربية مثلُ السَّمَوْأل ، وهذا وما بعده إلى قوله : { إن الله اصطفى ءادم ونوحا } [ آل عمران : 33 ] تمهيد لِما نزلت السورة بسببه وبراعة استهلال لذلك .