المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (197)

197- والحج يقع في أشهر معلومة لكم ، إذ كان أمره معروفاً عندكم من عهد إبراهيم - عليه السلام - وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة ، فمن فرض الحج على نفسه في هذه الأشهر ودخل فيه فليراع آدابه ، ومن آداب الحج أن يتنزه المحرم عن مباشرة النساء ، وعن المعاصي من السباب وغيره ، وعن الجدل والمراء مع غيره من الحجيج ، وعن كل ما يجر إلى الشحناء والخصام حتى يخرج المحرم مهذب النفس ، وليجتهد في فعل الخير ، وطلب الأجر من الله بالعمل الصالح فإن الله عليم بذلك ومجاز عليه ، وتزودوا لآخرتكم بالتقوى والائتمار بأوامر الله واجتناب نواهيه ، فإن ذلك خير الزاد ، واستشعروا خشية الله فيما تأتون وما تذرون كما هو مقتضى العقل والحكمة ، فلا تشوبوا أفعالكم بدواعي الهوى والغرض الدنيوي .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (197)

{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }

يخبر تعالى أن { الْحَجَّ } واقع في { أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } عند المخاطبين ، مشهورات ، بحيث لا تحتاج إلى تخصيص ، كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره ، وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس .

وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم ، التي لم تزل مستمرة في ذريته معروفة بينهم .

والمراد بالأشهر المعلومات عند جمهور العلماء : شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة ، فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالبا .

{ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } أي : أحرم به ، لأن الشروع فيه يصيره فرضا ، ولو كان نفلا .

واستدل بهذه الآية الشافعي ومن تابعه ، على أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره ، قلت لو قيل : إن فيها دلالة لقول الجمهور ، بصحة الإحرام [ بالحج ] قبل أشهره لكان قريبا ، فإن قوله : { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } دليل على أن الفرض قد يقع في الأشهر المذكورة وقد لا يقع فيها ، وإلا لم يقيده .

وقوله : { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } أي : يجب أن تعظموا الإحرام بالحج ، وخصوصا الواقع في أشهره ، وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه ، من الرفث وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية ، خصوصا عند النساء بحضرتهن .

والفسوق وهو : جميع المعاصي ، ومنها محظورات الإحرام .

والجدال وهو : المماراة والمنازعة والمخاصمة ، لكونها تثير الشر ، وتوقع العداوة .

والمقصود من الحج ، الذل والانكسار لله ، والتقرب إليه بما أمكن من القربات ، والتنزه عن مقارفة السيئات ، فإنه بذلك يكون مبرورا والمبرور ، ليس له جزاء إلا الجنة ، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان ، فإنها{[132]}  يتغلظ المنع عنها في الحج .

واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر ، ولهذا قال تعالى : { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } أتى ب " من " لتنصيص على العموم ، فكل خير وقربة وعبادة ، داخل في ذلك ، أي : فإن الله به عليم ، وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير ، وخصوصا في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة ، فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه فيها ، من صلاة ، وصيام ، وصدقة ، وطواف ، وإحسان قولي وفعلي .

ثم أمر تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك ، فإن التزود فيه الاستغناء عن المخلوقين ، والكف عن أموالهم ، سؤالا واستشرافا ، وفي الإكثار منه نفع وإعانة للمسافرين ، وزيادة قربة لرب العالمين ، وهذا الزاد الذي المراد منه إقامة البنية بلغة ومتاع .

وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه ، في دنياه ، وأخراه ، فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار ، وهو الموصل لأكمل لذة ، وأجل نعيم دائم أبدا ، ومن ترك هذا الزاد ، فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر ، وممنوع من الوصول إلى دار المتقين . فهذا مدح للتقوى .

ثم أمر بها أولي الألباب فقال : { وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } أي : يا أهل العقول الرزينة ، اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول ، وتركها دليل على الجهل ، وفساد الرأي .


[132]:- في ب: فإنه.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (197)

ثم بين - سبحانه - وقت الحج وما يجب على المسلم عند أدائه لهذه الفريضة من آداب فقال - تعالى - :

{ الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ . . . }

قوله : { الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } .

أي : وقت الحج أشهر معلومات أو أشهر الحج أشهر معلومات فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه .

وجعلت النسبة إلى الحج نفسه لا إلى وقته ، للإِشعار بأن هذه الأشهر لكونها تؤدي فيها هذه الفريضة قد اكتسبت تقديساً وبركة منها ، حتى لكأن هذه الأشهر هي الفريضة نفسها قال القرطبي ما ملخصه : وأشهر الحج هي شوال وذي القعدة والعشرة الأولى من ذي الحجة . وقيل هي شوال وذو القعدة وذو الحجة كله وفائدة الفرق تعلق الدم ؛ فمن قال : إن ذا الحجة كله من أشهر الحج لم يوجب دماً على من أخر طواف الإِفاضة إلى آخر ذي الحجة لأنه وقع في أشهر الحج ، ومن قال بأن وقت الحج ينقضي بالعشرة الأولى من ذي الحجة يوجب الدم عليه لتأخيره عن وقته . ولفظ الأشهر قد يقع على شهرين وبعض الثالث ، لأن بعض الشهر ينزل منزلة كله ، كما يقال : رأيتك سنة كذا ولعله إنما رآه في ساعة منها " .

وعبر - سبحانه - عن هذه الأشهر بأنها معلومات ، لأن العرب كانوا يعرفون أشهر الحج من كل عام منذ عهد إبراهيم - عليه السلام - وقد جاء الإِسلام مقرراً لما عرفوه . أو المراد بكونها معلومات أنها مؤقتة بأوقات معينة لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها عنها ، وهو يتضمن بطلان النسئ الذي كان يفعله الجاهليون تبعاً لأهوائهم .

وقوله : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } بيان لما يحب أن يتحلى به المسلم من فضائل عند أدائه لهذه الفريضة .

قال الإِمام الرازي : ومعنى { فَرَضَ } في اللغة ألزم وأوجب . يقال : فرضت عليك كذا ، أي أوجبته . وأصل معنى الفرض في اللغة الحز الذي يقع فيه الوتر ، ومنه فرض الصلاة وغيرها لأنها لازمة للعبد كلزوزم الحز للقدح ففرض هنا بمعنى أوجب وألزم . . . " .

والرفث في الأصل : الفحش من القول . والمراد به هنا الجماع . أو الكلام المتضمن لما يستقبح ذكره من الجماع ودواعيه .

قال القرطبي : وأجمع العلماء على أن الجماع قبل الوقوف بعرفة مفسد للحج وعليه حج قابل والهدي .

والفسوق : الخروج عن طاعة الله بارتكاب المعاصي ، ومن ذلك السباب وفعل محظورات الإِحرام ، وغير ذلك مما نهى الله عنه ،

والجدال على وزن فعال من المجادلة وهي مشقة من الجدل وهو الفتل ومنه : زمام مجدول .

وقيل : هي مشقة من الجدالة التي هي الأرض . فكأن كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه ، فيكون كمن ضرب به الجدالة .

والمراد النهي عن الممارة والمنازعة التي تؤدي إلى البغضاء وتغير القلوب .

والمعنى : أوقات الحج أشهر معلومات ، فمن نوى وأوجب على نفسه فيهن الحج وأحرم به فعليه أن يجتنب الجماع بالنساء ودواعيه ؛ وأن يبتعد عن كل قول أو فعل يكون خارجاً عن آداب الإِسلام ، ومؤدياً إلى التنازع بيين الرفقاء والإِخوان ، فإن الجميع قد اجتمعوا على مائدة الرحمن ، فعليهم أن يجتمعوا على طاعته ، وأن يتعاونوا على البر والتقوى لا على الإِثم والعدوان .

روى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " .

قال الآلوسي : وقال - سبحانه - { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } بالإِظهار ولم يقل فيه مع أن المقام يقتضي الإِضمار ، لإِظهار كمال الاعتناء بشأنه ، وللإِشعار بعلة الحكم ، فإن زيارة البيت المعظم والتقرب بها إلى الله - تعالى - من موجبات ترك الأمور المذكورة المدنسة لمن قصد السير والسلوك إلى ملك الملوك . وإيثار النفي للمبالغة في النهي ، والدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون ، فإن ما كان منكراً مستقبحاً في نفسه منهياً عنه مطلقاصار في حق المحرم بأشرف العبادات وأشقها أنكر وأقبح .

والضمير في قوله : { فِيهِنَّ } للأشهر ، لأنه جمع لغير العاقل فيجرى على التأنيث .

وجملة { فَلاَ رَفَثَ . . } إلخ في محل جزم جواب من الشرطية والرابط بين جملة الشرط والجواب ما في معنى { فَلاَ رَفَثَ } من ضمير يعود على " من " ، لأن التقدير فلا يرفث . ويجوز أن تكون جملة { فَلاَ رَفَثَ . . } وما عطف عليها في محل رفع خبر لمن على أنها موصولة .

وقد أخذ الشافعية من هذه الآية أنه لا يجوز الإِحرام بالحج في غير أشهر الحج ، لأن الإِحرام به في غير أشهره يكون شروعاً في العبادة في غير وقتها فلا تصح .

ويرى الأحناف والحنابلة ، أنه يجوز الإِحرام قبل أشهره ولكنه مع الكراهة : والإِمام مالك لا يرى كراهة في ذلك .

ويبدو أن رأي الشافعية هنا أرجح ، لأن قوله - تعالى - : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج . . . } يشهد لهم ، فقد جعل - سبحانه - هذه الأشهر وعاء لهذه الفريضة وظرفاً لها .

أي : اتركوا الأقوال والأفعال القبيحة ، وسارعوا إلى الأعمال الصالحة خصوصاً في تلك الأزمنة والأمكنة المفضلة ، والله - تعالى - لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، وهو - سبحانه - سيجازيكم على فعل الخير بما تستقحون من جزاء .

ثم قال - تعالى : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } .

قال الإِمام الرازي : في هذه الجملة الكريمة قولان :

أحدهما : أن المراد وتزودوا من التقوى - أي الأعمال الصالحة - والدليل عليه قوله بعد ذلك { فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } وتحقيق الكلام فيه أن الإِنسان له سفران : سفر في الدنيا وسفر من الدنيا لا بد له أيضاً من زاد وهو معرفة الله ومحبته والإِعراض عما سواه ، وهذا الزاد خير من الزاد الأول لأن زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم .

. قال الأعشى مقرراً هذا المعنى :

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى . . . ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله . . . وأنك لم ترصد بما كان أرصدا

والقول الثاني : أن هذه الآية نزلت في أناس من أهل اليمن كانوا يحجون بغير زاد ويقولون إنا متوكلون ، ثم كانوا يسألون الناس ، وربما ظلموا الناس وغصبوهم فأمرهم الله - تعالى - أن يتزودوا بالمال والطعام الذي يغنيهم عن سؤال الناس .

والذي نراه أن الجملة الكريمة تسع القولين . فهي تدعو الناس إلى أن يتزودوا بالزاد المعنوي النفسي الذي يسعدهم ألا وهو تقوى الله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والاكثار من العمل الصالح وفي الوقت نفسه هي تأمرهم - أيضاً - بأن يتزودوا بالزاد المادي الحقيقي الذي يغنيهم عن سؤال الناس ، ويصون لهم ماء وجوههم .

وبذلك نكون قد استعملنا اللفظ في حقيقته ومجازه ، وهو استعمال شائع مستساغ عند كثير من العلماء .

ثم ختم - سبحانه - الآية بتأكيد أمر التقوى ووجوب الإِخلاص فقال : { واتقون ياأولي الألباب } والألباب : جمع لب وهو العقل واللب من كل شيء : هو الخالص منه . وسمى به العقل ، لأنه أشرف ما في الإِنسان .

أي : أخلصوا لي يا أصحاب العقول السليمة ، والمدارك الواعية ، لأنكم لما كنتم كذلك كان وجوبها عليكم أثبت ، واعراضكم عنها أقبح . ورحم الله القائل :

ولم أر في عيوب الناس عيباً . . . كنقص القادرين على التمام

والجملة الكريمة ليست تكرارا لسابقتها ، لأن الأولى حث على التقوى وهذه حث على الإِخلاص فيها .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (197)

القول في تأويل قوله تعالى : { الْحَجّ أَشْهُرٌ مّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنّ الْحَجّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوّدُواْ فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَىَ وَاتّقُونِ يَأُوْلِي الألْبَابِ }

يعني جل ثناؤه بذلك : وقت الحجّ أشهر معلومات . «والأشهر » مرفوعات بالحجّ ، وإن كان له وقتا لا صفة ونعتا ، إذ لم تكن محصورات بتعريف بإضافة إلى معرفة أو معهود ، فصار الرفع فيهن كالرفع في قول العرب في نظير ذلك من المحلّ «المسلمون جانب والكفار جانب » ، برفع الجانب الذي لم يكن محصورا على حدّ معروف ، ولو قيل جانب أرضهم أو بلادهم لكان النصب هو الكلام .

ثم اختلف أهل التأويل في قوله : الحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فقال بعضهم : يعني بالأشهر المعلومات : شوّالاً ، وذا القعدة ، وعشرا من ذي الحجة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قوله : الحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ قال : شوّال ، وذو القعدة ، وعشر ذي الحجة .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان وشريك ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن خصيف ، عن مقسم عن ابن عباس ، مثله .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر السلمي ، قال : حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة ، عن داود بن حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : أشهر الحجّ شوّال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : الحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ وهنّ : شوّال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة ، جعلهنّ الله سبحانه للحجّ ، وسائر الشهور للعمرة ، فلا يصلح أن يحرم أحد بالحجّ إلا في أشهر الحجّ ، والعمرة يحرم بها في كل شهر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : الحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ قال : شوّال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن وأبو عامر قالا : حدثنا سفيان ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري عن المغيرة ، عن إبراهيم ، مثله .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي مثله .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان وإسرائيل ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، مثله .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، مثله .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني هشيم ، قال : أخبرنا الحجاج ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس . وأخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي . وأخبرنا يونس ، عن الحسن . وأخبرنا جويبر ، عن الضحاك . وأخبرنا حجاج ، عن عطاء ومجاهد ، مثله .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا حماد ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : شوّال ، وذو القعدة ، وعشر ذي الحجة في الحجّ أشهر معلومات .

حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا ورقاء ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، قال : الحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ قال : شوّال ، وذو القعدة ، وعشر ذي الحجة .

حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا حسين بن عقيل ، عن الضحاك ، قال : شوّال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة .

حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا حسين بن عقيل الخراساني ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول ، فذكر مثله .

وقال آخرون : بل يعني بذلك شوّالاً ، وذا القعدة ، وذا الحجة كله . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قلت لنافع : أكان عبد الله يسمي أشهر الحجّ ؟ قال : نعم ، شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجة .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قلت لنافع : أسمعت ابن عمر يسمي أشهر الحجّ ؟ قال : نعم ، كان يسمي شوّالاً ، وذا القعدة ، وذا الحجة .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجة .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : الحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ، قال عطاء : فهي شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : الحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أشهر الحج : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة . وربما قال : وعشر ذي الحجة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : الحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ قال : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أشهر الحج : شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجة .

فإن قال لنا قائل : وما وجه قائلي هذه المقالة ، وقد علمت أن عمل الحجّ لا يعمل بعد تقضي أيام منى ؟ قيل : إن معنى ذلك غير الذي توهمته ، وإنما عنوا بقيلهم الحج ثلاثة أشهر كوامل ، أنهنّ الحجّ لا أشهر العمرة ، وأن شهور العمرة سواهن من شهور السنة . ومما يدل على أن ذلك معناهم في قيلهم ذلك ما :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن نافع ، قال : قال ابن عمر : أن تفصلوا بين أشهر الحجّ والعمرة فتجعلوا العمرة في غير أشهر الحجّ ، أتمّ لحجّ أحدكم وأتمّ لعمرته .

حدثني نصر بن عليّ الجهضمي ، قال : أخبرني أبي ، قال : حدثنا شعبة ، قال : ما لقيني أيوب أو قال : ما لقيت أيوب إلا سألني عن حديث قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : قلت لعبد الله : امرأة منا قد حجت ، أو هي تريد أن تحجّ ، أفتجعل مع حجها عمرة ؟ فقال : ما أرى هؤلاء إلا أشهر الحجّ . قال : فيقول لي أيوب ومن عنده : مثل هذا الحديث حدثك قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أنه سأل عبد الله .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن ابن عون ، قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : إن العمرة في أشهر الحجّ ليست بتامة . قال : فقيل له : العمرة في المحرّم ؟ فقال : كانوا لا يرونها تامة .

حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق بن يوسف ، عن ابن عون ، قال : سألت القاسم بن محمد عن العمرة في أشهر الحج ، قال : كانوا لا يرونها تامة .

حدثنا ابن بيان الواسطي ، قال : أخبرنا إسحاق عن عبد الله بن عون ، عن ابن سيرين أنه كان يستحبّ العمرة في المحرّم ، قال : تكون في أشهر الحجّ . قال : كانوا لا يرونها تامة .

حدثنا ابن بيان ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، قال : قال ابن عمر للحكم بن الأعرج أو غيره : إن أطعتني انتظرت حتى إذا أهلّ المحرّم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي يعقوب ، قال : سمعت ابن عمر يقول : لأن أعتمر في عشر ذي الحجة أحبّ إليّ من أن أعتمر في العشرين .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : سألت ابن مسعود عن امرأة منا أرادت أن تجمع مع حجها عمرة ، فقال : أسمع الله يقول : الحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ما أراها إلا أشهر الحجّ .

حدثني أحمد بن المقدام ، قال : حدثنا حزام القطعي ، قال : سمعت محمد بن سيرين يقول : ما أحد من أهل العلم شكّ أن عمرة في غير أشهر الحجّ أفضل من عمرة في أشهر الحجّ .

ونظائر ذلك مما يطول باستيعاب ذكره الكتاب ، مما يدلّ على أن معنى قيل من قال : وقت الحجّ ثلاثة أشهر كوامل ، أنهنّ من غير شهور العمرة ، وأنهنّ شهور لعمل الحجّ دون عمل العمرة ، وإن كان عمل الحجّ إنما يعمل في بعضهنّ لا في جميعهن .

وأما الذين قالوا : تأويل ذلك : شوّال ، وذو القعدة ، وعشر ذي الحجة ، فإنهم قالوا : إنما قصد الله جل ثناؤه بقوله : الحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ إلى تعريف خلقه ميقات حجهم ، لا الخبر عن وقت العمرة .

قالوا : فأما العمرة ، فإن السنة كلها وقت لها ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر في بعض شهور الحجّ ، ثم لم يصحّ عنه بخلاف ذلك خبر .

قالوا : فإذا كان ذلك كذلك ، وكان عمل الحجّ ينقضي وقته بانقضاء العاشر من أيام ذي الحجة ، علم أن معنى قوله : الحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ إنما هو ميقات الحجّ شهران وبعض الثالث .

والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال : إن معنى ذلك الحج شهران وعشر من الثالث لأن ذلك من الله خبر عن ميقات الحجّ ولا عمل للحج يعمل بعد انقضاء أيام منى ، فمعلوم أنه لم يعن بذلك جميع الشهر الثالث ، وإذا لم يكن معنيا به جميعه صحّ قول من قال : وعشر ذي الحجة .

فإن قال قائل : فكيف قيل : الحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ وهو شهران وبعض الثالث ؟ قيل إن العرب لا تمتنع خاصة في الأوقات من استعمال مثل ذلك ، فتقول له اليوم يومان منذ لم أره . وإنما تعني بذلك يوما وبعض آخر ، وكما قال جل ثناؤه : فَمَنْ تَعَجّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ وإنما يتعجل في يوم ونصف . وقد يفعل الفاعل منهم الفعل في الساعة ، ثم يخرجه عاما على السنة والشهر ، فيقول : زرته العام وأتيته اليوم ، وهو لا يريد بذلك أن فعله أخذ من أول الوقت الذي ذكره إلى آخره ، ولكنه يعني أنه فعله إذ ذاك وفي ذلك الحين ، فكذلك الحجّ أشهر ، والمراد منه الحجّ شهران وبعض آخر .

فمعنى الآية إذا : ميقات حجكم أيها الناس شهران وبعض الثالث ، وهو شوّال وذو القعدة وعشر ذي الحجة .

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ .

يعني بقوله جل ثناؤه : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ فمن أوجب الحجّ على نفسه وألزمها إياه فيهن ، يعني في الأشهر المعلومات التي بينها . وإيجابه إياه على نفسه العزم على عمل جميع ما أوجب الله على الحاجّ عمله وترك جميع ما أمره الله بتركه .

وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي يكون به الرجل فارضا الحجّ بعد إجماع جميعهم ، على أن معنى الفرض : الإيجاب والإلزام ، فقال بعضهم : فرض الحجّ الإهلال . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا ورقاء ، عن عبد الله المدني بن دينار ، عن ابن عمر قوله : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ قال : من أهلّ بحج .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن العلاء بن المسيب ، عن عطاء ، قال : التلبية .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، وحدثنا عليّ ، قال : حدثنا زيد جميعا ، عن سفيان الثوري : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ قال : فالفريضة الإحرام ، والإحرام : التلبية .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن إبراهيم ، يعني ابن مهاجر ، عن مجاهد : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ قال : الفريضة : التلبية .

حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا ورقاء عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ قال : أهلّ .

حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا شريك ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : الفرض التلبية ، ويرجع إن شاء ما لم يحرم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ قال : الفرض : الإهلال .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ قال : التلبية .

حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن مسلم ، قال : حدثنا أبو عمرو الضرير ، قال : أخبرنا حماد بن سلمة ، عن جبر بن حبيب ، قال : سألت القاسم بن محمد عمن فرض فيهنّ الحج ، قال : إذا اغتسلت ولبست ثوبك ولبيت ، فقد فرضت الحج .

وقال آخرون : فرض الحج إحرامه . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ يقول : من أحرم بحجّ أو عمرة .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قالوا جميعا : حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ قال : فمن أحرم . واللفظ لحديث ابن بشار .

حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك والحسن بن صالح ، عن ليث ، عن عطاء ، قال : الفرض : الإحرام .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا الحجاج ، عن عطاء وبعض أشياخنا عن الحسن في قوله : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ قالا : فرض الحجّ : الإحرام .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ فهذا عند الإحرام .

حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا حسين بن عقيل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : قال : الفرض : الإحرام .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا حسين بن عقيل الخراساني ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول ، فذكر مثله .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، قال : أخبرنا المغيرة ، عن إبراهيم : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ قال : من أحرم .

وهذا القول الثاني يحتمل أن يكون بمعنى ما قلنا من أن يكون الإحرام كان عند قائله الإيجاب بالعزم .

ويحتمل أن يكون كان عنده بالعزم والتلبية ، كما قال القائلون القول الأول .

وإنما قلنا : إن فرض الحجّ الإحرام لإجماع الجميع على ذلك . وقلنا : إن الإحرام هو إيجاب الرجل ما يلزم المحرم أن يوجبه على نفسه ، على ما وصفنا آنفا ، لأنه لا يخلو القول في ذلك من أحد أمور ثلاثة :

- إما أن يكون الرجل غير محرم إلا بالتلبية وفعل جميع ما يجب على الموجب الإحرام على نفسه فعله ، فإن يكن ذلك كذلك ، فقد يجب أن لا يكون محرما إلا بالتجرّد للإحرام ، وأن يكون من لم يكن له متجرّدا فغير محرم . وفي إجماع الجميع على أنه قد يكون محرما وإن لم يكن متجرّدا من ثيابه بإيجابه الإحرام ما يدل على أنه قد يكون محرما وإن لم يلبّ ، إذ كانت التلبية بعض مشاعر الإحرام ، كما التجرّد له بعض مشاعره . وفي إجماعهم على أنه قد يكون محرما بترك بعض مشاعر حجه ما يدلّ على أن حكم غيره من مشاعره حكمه .

- أو يكون إذ فسد هذا القول قد يكون محرما وإن لم يلبّ ولم يتجرّد ولم يعزم العزم الذي وصفنا . وفي إجماع الجميع على أنه لا يكون محرما من لم يعزم على الإحرام ويوجبه على نفسه إذا كان من أهل التكليف ، ما ينبىء عن فساد هذا القول ، وإذ فسد هذان الوجهان فبينة صحة الوجه الثالث ، وهو :

- أن الرجل قد يكون محرما بإيجابه الإحرام بعزمه على سبيل ما بينا ، وإن لم يظهر ذلك بالتجرّد والتلبية وصنيع بعض ما عليه عمله من مناسكه . وإذا صحّ ذلك صحّ ما قلنا من أن فرض الحجّ هو ما قُرن إيجابه بالعزم على نحو ما بينا قبل .

القول في تأويل قوله تعالى : فَلا رَفَثَ .

اختلف أهل التأويل في معنى الرفث في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هو الإفحاش للمرأة في الكلام ، وذلك بأن يقول : إذا حللنا فعلت بك كذا وكذا لا يكني عنه ، وما أشبه ذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن حماد الدولابي ويونس . قالا : حدثنا سفيان ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : سألت ابن عباس عن الرفث في قول الله : فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ قال : هو التعريض بذكر الجماع ، وهي العِرابة من كلام العرب ، وهو أدنى الرفث .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن روح بن القاسم ، عن ابن طاوس في قوله : فَلا رَفَثَ قال : الرفث : العِرَابة والتعريض للنساء بالجماع .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عون ، قال : حدثنا زياد بن حصين ، قال : ثني أبي حصين بن قيس ، قال : أصعدت مع ابن عباس في الحاج ، وكنت له خليلاً ، فلما كان بعدما أحرمنا قال ابن عباس ، فأخذ بذنب بعيره ، فجعل يلويه ، وهو يرتجز ويقول :

وَهُنّ يَمْشِينَ بِنا هَمِيسَا *** إنْ تَصْدُقِ الطّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا

قال : فقلت : أترفث وأنت محرم ؟ قال : إنما الرفث ما قيل عند النساء .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن رجل ، عن أبي العالية الرياحي ، عن ابن عباس أنه كان يحدو وهو محرم ، ويقول :

وَهُنّ يَمْشِينَ بِنا هَميسَا *** إنْ تَصْدِقِ الطّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا

قال : قلت : تتكلم بالرفث وأنت محرم ؟ قال : إنما الرفث ما قيل عند النساء .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس أن نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر كان يقول : الرفث : إتيان النساء والتكلم بذلك للرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي ، مثله .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : أيحلّ للمحرم أن يقول لامرأته : إذا حللت أصبتك ؟ قال : لا ، ذاك الرفث . قال : وقال عطاء : الرفث ما دون الجماع .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثني محمد بن بكر ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : الرفث : الجماع وما دونه من قول الفحش .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : قول الرجل لامرأته : إذا حللت أصبتك ، قال : ذاك الرفث .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن زياد بن حصين ، عن أبي العالية ، قال : كنت أمشي مع ابن عباس وهو محرم ، وهو يرتجز ويقول :

وَهُنْ يَمْشِينَ بِنا هَمِيسَا إنْ تَصْدُقِ الطّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا

قال : قلت : أترفث يا ابن عباس وأنت محرم ؟ قال : إنما الرفث ما روجع به النساء .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا سفيان ويحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرنا ابن الزبير السبائي وعطاء ، أنه سمع طاوسا قال : سمعت ابن الزبير يقول : لا يحلّ للمحرم الإعرابة . فذكرته لابن عباس ، فقال : صدق . قلت لابن عباس : وما الإعراب ؟ قال : التعريض .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يحيى ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني الحسن بن مسلم ، عن طاوس أنه كان يقول : لا يحلّ للمحرم الإعرابة . قال طاوس : والإعرابة : أن يقول وهو محرم : إذا حللت أصبتك .

حدثني أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا فطر ، عن زياد بن حصين ، عن أبي العالية ، قال : لا يكون رفث إلا ما واجهت به النساء .

حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن عطاء قال : كانوا يكرهون الإعرابة يعني التعريض بذكر الجماع وهو محرم .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، عن ابن طاوس أنه سمع أباه أنه كان يقول : لا تحلّ الإعرابة ، والإعرابة : التعريض .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : سألت ابن عباس عن قول الله تعالى : فَلا رَفَثَ قال : الرفث الذي ذكر ههنا ليس بالرفث الذي ذكر في : أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيام الرّفَثُ إلى نِسائِكُمْ ومن الرفث : التعريض بذكر الجماع ، وهي الإعراب بكلام العرب .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو معاوية : قال : حدثنا ابن جريج ، عن عطاء : أنه كره التعريب للمحرم .

حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني ابن طاوس أن أباه كان يقول : الرفث : الإعرابة مما رواه من شأن النساء ، والإعرابة : الإيضاح بالجماع .

حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، قال : حدثنا الحسن بن مسلم أنه سمع طاوسا يقول : لا يحلّ للمحرم الإعرابة .

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : فَلا رَفَثَ قال : الرفث : غشيان النساء والقُبَل والغَمْز ، وأن يعرّض لها بالفحش من الكلام ونحو ذلك .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد قال : كان ابن عمر يقول للحادي : لا تعرّض بذكر النساء .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر وابن جريج ، عن ابن طاوس عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : الرفث في الصيام : الجماع ، والرفث في الحجّ : الإعرابة ، وكان يقول : الدخول والمسيس : الجماع .

وقال آخرون : الرفث في هذا الموضع : الجماع نفسه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن خصيف ، عن مقسم ، قال : الرفث : الجماع .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن خصيف ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، مثله .

حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن خصيف ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : الرفث : إتيان النساء .

حدثنا عبد الحميد قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، قال : سألت ابن عباس عن الرفث ، فقال : الجماع .

حدثنا عبد الحميد ، قال : حدثنا إسحاق ، عن سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن بكر بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : الرفث : هو الجماع ، ولكن الله كريم يكني عما شاء .

حدثنا عبد الحميد ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن زياد بن حصين ، عن أبي العالية قال : سمعت ابن عباس يرتجز وهو محرم ، يقول :

خَرَجْنَ يَسْرينَ بِنا هَمِيسَا إنْ تَصْدُقِ الطّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا

قال شريك : إلا أنه لم يكن عن الجماع لميسا . فقلت : أليس هذا الرفث ؟ قال : لا إنما الرفث : إتيان النساء والمجامعة .

حدثنا عبد الحميد ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن عون ، عن زياد بن حصين ، عن أبي العالية ، عن ابن عباس بنحوه ، إلا أن عونا صرّح به .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن بكر ، عن ابن عباس ، قال : الرفث : الجماع .

حدثنا عبد الحميد ، قال : حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قوله : فَلا رَفَثَ قال : الرفث : إتيان النساء .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا حماد بن مسعدة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن في قوله : فَلا رَفَثَ قال : الرفث : غشيان النساء .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عمرو بن دينار الرفث : الجماع فما دونه من شأن النساء .

حدثنا عبد الحميد ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار بنحوه .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء في قوله : فَلا رَفَثَ قال : الرفث : الجماع .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن مجاهد : فَلا رَفَثَ قال : الرفث : الجماع .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد ، عن قتادة في قوله : فَلا رَفَثَ قال : كان قتادة يقول : الرفث : غشيان النساء .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة ، مثله .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : الرفث : الجماع .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس ، قال : الرفث : الجماع .

حدثنا أحمد ، حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : الرفث : الجماع .

حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، قال : الرفث : المجامعة .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فَلا رَفَثَ فلا جماع .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فَلا رَفَثَ قال : الرفث : الجماع .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَلا رَفَثَ قال : جماع النساء .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم في قوله : فَلا رَفَثَ قال : الرفث : الجماع .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن الحجاج ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : الرفث : الجماع .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : الرفث : الجماع .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن يحيى بن بشر ، عن عكرمة قال : الرفث : الجماع .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة ، قال : الرفث : الجماع .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن حسين بن عقيل . وحدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم . وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قالا : أخبرنا حسين بن عقيل ، عن الضحاك ، قال : الرفث : الجماع .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، مثله . قال : وأخبرنا عبد الملك ، عن عطاء ، مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يونس ، عن الحسن ، وأخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم قالا : مثل ذلك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، وأخبرنا مغيرة ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : الرفث : النكاح .

حدثنا أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : ثني ثوير ، قال : سمعت ابن عمر يقول الرفث : الجماع .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الرفث : غشيان النساء . قال معمر : وقال مثل ذلك الزهري عن قتادة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الرفث : إتيان النساء ، وقرأ : أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيّامِ الرّفَثُ إلى نِسائِكُمْ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله : فَلا رَفَثَ قال : الرفث : الجماع .

حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله .

والصواب من القول في ذلك عندي أن الله جل ثناؤه نهى من فرض الحجّ في أشهر الحجّ عن الرفث ، فقال : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ فَلا رَفَثَ . والرفث في كلام العرب : أصله الإفحاش في المنطق على ما قد بينا فيما مضى ، ثم تستعمله في الكناية عن الجماع . فإذ كان ذلك كذلك ، وكان أهل العلم مختلفين في تأويله ، وفي هذا النهي من الله عن بعض معاني الرفث أم عن جميع معانيه ، وجب أن يكون على جميع معانيه ، إذ لم يأت خبر بخصوص الرفث الذي هو بالمنطق عند النساء من سائر معاني الرفث يجب التسليم له ، إذ كان غير جائز نقل حكم ظاهر آية إلى تأويل باطن إلا بحجة ثابتة .

فإن قال قائل : إن حكمها من عموم ظاهرها إلى الباطن من تأويلها منقول بإجماع ، وذلك أن الجميع لا خلاف بينهم في أن الرفث عند غير النساء غير محظور على محرم ، فكان معلوما بذلك أن الآية معنيّ بها بعض الرفث دون بعض . وإذا كان ذلك كذلك ، وجب أن لا يحرّم من معاني الرفث على المحرم شيء إلا ما أجمع على تحريمه عليه ، أو قامت بتحريمه حجة يجب التسليم لها . قيل : إن ما خصّ من الآية فأبيح خارج من التحريم ، والحظر ثابت لجميع ما لم تخصصه الحجة من معنى الرفث بالآية ، كالذي كان عليه حكمه لو لم يخصّ منه شيء ، لأن ما خصّ من ذلك وأخرج من عمومه إنما لزمنا إخراج حكمه من الحظر بأمر من لا يجوز خلاف أمره ، فكان حكم ما شمله معنى الآية بعد الذي خصّ منها على الحكم الذي كان يلزم العباد فرضه بها لو لم يخصص منها شيء ، لأن العلة فيما لم يخصص منها بعد الذي خصّ منها نظير العلة فيه قبل أن يخصّ منها شيء .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا فُسُوقَ } .

اختلف أهل التأويل في معنى الفسوق التي نهى الله عنها في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هي المعاصي كلها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن خصيف ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال الفسوق : المعاصي .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء : وَلا فُسُوقَ قال : الفسوق : المعاصي .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثني محمد بن بكر ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : الفسوق : المعاصي كلها ، قال الله تعالى : وَإنْ تَفْعَلُوا فإنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ .

حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، مثله .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا حماد بن مسعدة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن في قوله : وَلا فُسُوقَ قال : الفسوق : المعاصي .

حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن جريج ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : الفسوق : المعصية .

حدثنا عبد الحميد ، قال : حدثنا إسحاق ، عن أبي بشر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الفسوق : المعاصي كلها .

حدثني يعقوب قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن روح بن القاسم ، عن ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : وَلا فُسُوقَ قال : الفسوق : المعاصي .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي في قوله : وَلا فُسُوق َقال : الفسوق : المعاصي .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد جميعا ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة : وَلا فُسُوقَ قال : الفسوق : المعاصي .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلا فُسُوقَ قال : المعاصي .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شبل ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، قال : الفسوق : المعاصي . قال : وقال مجاهد مثل قول سعيد .

حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : الفسوق : المعاصي .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَلا فُسُوقَ قال : الفسوق : عصيان الله .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم في قوله : وَلا فُسُوقَ قال : الفسوق : المعاصي .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن الحجاج ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : الفسوق : المعاصي .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري وقتادة وابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا الحجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : وَلا فُسُوقَ قال : المعاصي . قال : وأخبرنا عبد الملك ، عن عطاء ، مثله .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن يحيى بن بشر ، عن عكرمة قال : الفسوق : معصية الله ، لا صغير من معصية الله .

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَلا فُسُوق َقال : الفسوق : معاصي الله كلها .

حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، وعن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الفسوق : المعاصي . وقال مثل ذلك الزهري وقتادة .

وقال آخرون : بل الفسوق في هذا الموضع ما عصي الله به في الإحرام مما نهى عنه فيه من قتل صيد وأخذ شعر وقلم ظفر ، وما أشبه ذلك مما خصّ الله به الإحرام وأمر بالتجنب منه في خلال الإحرام . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس أن نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر كان يقول : الفسوق : إتيان معاصي الله في الحرم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : الفسوق : ما أصيب من معاصي الله به ، صيد أو غيره .

وقال آخرون : بل الفسوق في هذا الموضع : السباب . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : الفسوق : السباب .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : الفسوق : السباب .

حدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا ثوير ، قال : سمعت ابن عمر يقول : الفسوق : السباب .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام عن عمرو ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن مجاهد : وَلا فُسُوقَ قال : الفسوق : السباب .

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : وَلا فُسُوقَ قل : أما الفسوق : فهو السباب .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا المعلى بن أسد ، قال : حدثنا خالد ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، قال : الفسوق : السباب .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا معلى ، قال : حدثنا عبد العزيز ، عن موسى بن عقبة ، قال : سمعت عطاء بن يسار يحدّث نحوه .

حدثنا القاسم ، قال : ثني الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يونس ، عن الحسن ، قال : وأخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم قالا : الفسوق : السباب .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن خصيف ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : الفسوق : السباب .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله : وَلا فُسُوقَ قال : الفسوق : السباب .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور عن إبراهيم ، مثله .

وقال آخرون : الفسوق : الذبح للأصنام . ذكر من قال ذلك :

2936حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في الفسوق : الذبح للأنصاب ، وقرأ : ( أوْ فِسْقا أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ) فقطع ذلك أيضا قطع الذبح للأنصاب بالنبيّ صلى الله عليه وسلم حين حجّ فعلّم أَمته المناسك .

وقال آخرون : الفسوق : التنابز بالألقاب . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا حسين بن عقيل ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول ، فذكر مثله .

وأولى الأقوال التي ذكرنا بتأويل الآية في ذلك ، قول من قال : معنى قوله : وَلا فُسُوقَ النهي عن معصية الله في إصابة الصيد وفعل ما نهى الله المحرم عن فعله في حال إحرامه وذلك أن الله جل ثناؤه قال : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ يعني بذلك فلا يرفث ، ولا يفسق : أي لا يفعل ما نهاه الله عن فعله في حال إحرامه ، ولا يخرج عن طاعة الله في إحرامه . وقد علمنا أن الله جل ثناؤه قد حرّم معاصيَه على كل أحد ، محرما كان أو غير محرم ، وكذلك حرّم التنابز بالألقاب في حال الإحرام وغيرها بقوله : وَلا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بالألْقاب وحرم على المسلم سباب أخيه في كل حال فرض الحجّ أو لم يفرضه . فإذ كان ذلك كذلك ، فلا شك أن الذي نهى الله عنه العبد من الفسوق في حال إحرامه وفرضه الحجّ هو ما لم يكن فسوقا في حال إحلاله وقبل إحرامه بحجه كما أن الرفث الذي نهاه عنه في حال فرضه الحجّ ، هو الذي كان له مطلقا قبل إحرامه لأنه لا معنى لأن يقال فيما قد حرّم الله على خلقه في كل الأحوال : لا يفعلنّ أحدكم في حال الإحرام ما هو حرام عليه فعله في كل حال ، لأن خصوص حال الإحرام به لا وجه له وقد عمّ به جميع الأحوال من الإحلال والإحرام .

فإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الذي نهى عنه المحرم من الفسوق فخصّ به حال إحرامه ، وقيل له : «إذا فرضت الحجّ فلا تفعله » ، هو الذي كان له مطلقا قبل حال فرضه الحجّ ، وذلك هو ما وصفنا وذكرنا أن الله جل ثناؤه خصّ بالنهي عنه المحرم في حال إحرامه مما نهاه عنه من الطيب واللباس والحلق وقصّ الأظفار وقتل الصيد ، وسائر ما خصّ الله بالنهي عنه المحرم في حال إحرامه .

فتأويل الآية إذًا : فمن فرض الحجّ في أشهر الحجّ فأحرم فيهنّ . فلا يرفث عند النساء فيصرّح لهنّ بجماعهن ، ولا يجامعهن ، ولا يفسق بإتيان ما نهاه الله في حال إحرامه بحجه ، من قتل صيد ، وأخذ شعر ، وقلم ظفر ، وغير ذلك مما حرّم الله عليه فعله وهو محرم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ . }

اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : النهي عن أن يجادل المحرم أحدا .

ثم اختلف قائلو هذا القول ، فقال بعضهم : نهى عن أن يجادل صاحبه حتى يغضبه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله : وَلا جِدالَ فِي الحَجّ قال : أن تماري صاحبك حتى تغضبه .

حدثنا عبد الحميد ، قال : حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، قال : سألت ابن عباس ، عن الجدال ، فقال : أن تماري صاحبك حتى تغضبه .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن خصيف ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : الجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، قال : الجدال : أن يماري الرجل أخاه حتى يغضبه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير : وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ قال : أن تَمْحَنَ صاحبك حتى تغضبه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عمرو ، عن شعيب بن خالد ، عن سلمة بن كهيل ، قال : سألت مجاهدا عن قوله : وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ قال : أن تماري صاحبك حتى تغضبه .

حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، قال : الجدال : هو أن تماري صاحبك حتى تغضبه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا حماد بن مسعدة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، قال : الجدال : المراء .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : الجدال : أن تجادل صاحبك حتى تغضبه .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، قال : الجدال : أن تصخب على صاحبك .

حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ قال : المراء .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، وحدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قالا : حدثنا حسين بن عقيل ، عن الضحاك ، قال : الجدال : أن تماري صاحبك حتى تغضبه .

حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا واقد الخلقاني ، عن عطاء ، قال : أما الجدال : فتماري صاحبك حتى تغضبه .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : الجدال : المراء ، أن تماري صاحبك حتى تغضبه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا المعلى بن أسد ، قال : حدثنا خالد ، عن المغيرة ، عن إبراهيم قال : الجدال : المراء .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا المعلى ، قال : حدثنا عبد العزيز ، عن موسى بن عقبة ، قال : سمعت عطاء بن يسار يحدّث نحوه .

حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن أبي جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم بمثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن الحجاج ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : الجدال : أن يماري بعضهم بعضا حتى يغضبوا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن يحيى بن بشر ، عن عكرمة : وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ الجدال : الغضب ، أن تغضب عليك مسلما ، إلا أن تستعتب مملوكا فتعظه من غير أن تغضبه ، ولا أمْر عليك إن شاء الله تعالى في ذلك .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة ، قال : الجدال : أن تماري صاحبك حتى يغضبك أو تغضبه .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري وقتادة قالا : الجدال : هو الصخب والمراء وأنت محرم .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : الجدال : ما أغضب صاحبك من الجدل .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ قال : الجدال : المراء والملاحاة حتى تغضب أخاك وصاحبك ، فنهى الله عن ذلك .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن خصيف ، عن مقسم عن ابن عباس ، قال : الجدال : أن تماري صاحبك حتى تغضبه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : الجدال : المراء .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري وقتادة قالا : هو الصخب والمراء وأنت محرم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ كانوا يكرهون الجدال .

وقال آخرون منهم : الجدال في هذا الموضع معناه : السباب . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس أن نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر كان يقول : الجدال في الحجّ : السباب والمراء والخصومات .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : الجدال : السباب والمنازعة .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : الجدال : السباب .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، وحدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية جميعا ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال : الجدال : السباب .

وقال آخرون منهم : بل عنى بذلك خاصا من الجدال والمراء ، وإنما عنى الاختلاف فيمن هو أتمّ حجّا من الحجّاج . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : الجدال : كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء : حجنا أتمّ من حجكم ، وقال هؤلاء : حجنا أتمّ من حجكم .

وقال آخرون منهم : بل ذلك اختلاف كان يكون بينهم في اليوم الذي فيه الحجّ ، فنهوا عن ذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن جبير بن حبيب ، عن القاسم بن محمد أنه قال : الجدال في الحجّ أن يقول بعضهم : الحجّ اليوم ، ويقول بعضهم : الحج غدا .

وقال آخرون : بل اختلافهم ذلك في أمر مواقف الحجّ أيهم المصيب موقف إبراهيم . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ قال : كانوا يقفون مواقف مختلفة يتجادلون ، كلهم يدّعي أن موقفه موقف إبراهيم . فقطعه الله حين أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بمناسكهم .

وقال آخرون : بل قوله جل ثناؤه : وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ خبر من الله تعالى عن استقامة وقت الحجّ على ميقات واحد لا يتقدمه ولا يتأخره ، وبطول فعل النسيء . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن مجاهد في قوله : وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ قال : قد استقام الحجّ ولا جدال فيه .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : أخبرنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ قال : لا شهر ينسأ ، ولا شك في الحجّ قد بين ، كانوا يسقطون المحرم ثم يقولون صفران لصفر وشهر ربيع الأول ، ثم يقولون شهرا ربيع لشهر ربيع الاَخر وجمادى الأولى ، ثم يقولون جماديان لجمادى الاَخرة ولرجب ، ثم يقولون لشعبان رجب ، ثم يقولون لرمضان شعبان ، ثم يقولون لشوّال رمضان ، ويقولون لذي القعدة شوّال ، ثم يقولون لذي الحجة ذا القعدة ، ثم يقولون للمحرّم ذا الحجة ، فيحجون في المحرّم ثم يأتنفون ، فيحسبون على ذلك عدة مستقبلة على وجه ما ابتدءوا ، فيقولون المحرّم وصفر وشهرا ربيع ، فيحجون في المحرّم ليحجوا في كل سنة مرّتين ، فيسقطون شهرا آخر ، فيعدون على العدة الأولى ، فيقولون صفران وشهرا ربيع نحو عدتهم في أول ما أسقطوا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : صاحب النسيء الذي ينسأ لهم أبو ثمامة رجل من بني كنانة .

حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا ابن إسحاق ، عن أبي بشر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ قال : لا شبهة في الحجّ قد بين الله أمر الحجّ .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ قال : قد استقام أمر الحجّ فلا تجادلوا فيه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ قال : لا شهر ينسأ ، ولا شك في الحجّ قد بُيّن .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد : وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ قال : قد علم وقت الحجّ فلا جدال فيه ، ولا شك .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد العزيز والعلاء ، عن مجاهد ، قال : هو شهر معلوم لا تنازع فيه .

حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سالم ، عن مجاهد : وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ قال : لا شكّ في الحج .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ قال : المراء بالحجّ .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ فقد تبين الحجّ . قال : كانوا يحجون وفي ذي الحجة عامين ، وفي المحرّم عامين ، ثم حجوا في صفر عامين ، وكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين ، ثم وافقت حجة أبي بكر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم بسنة ، ثم حجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم من قابل في ذي الحجة فذلك حين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَةِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ » .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله : وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ قال : بين الله أمر الحجّ ومعالمه فليس فيه كلام .

وأولى هذه الأقوال في قوله وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : قد بطل الجدال في الحجّ ووقته ، واستقام أمره ووقته على وقت واحد ، ومناسك متفقة غير مختلفة ، ولا تنازع فيه ولا مراء وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أن وقت الحجّ أشهر معلومات ، ثم نفى عن وقته الاختلاف الذي كانت الجاهلية في شركها تختلف فيه .

وإنما اخترنا هذا التأويل في ذلك ورأيناه أولى بالصواب مما خالفه لما قد قدمنا من البيان آنفا في تأويل قوله : وَلا فُسُوقَ أنه غير جائز أن يكون الله خصّ بالنهي عنه في تلك الحال إلا ما هو مطلق مباح في الحال التي يخالفها ، وهي حال الإحلال وذلك أن حكم ما خصّ به من ذلك حكم حال الإحرام إن كان سواء فيه حال الإحرام وحال الإحلال ، فلا وجه لخصوصه به حالاً دون حال ، وقد عمّ به جميع الأحوال . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان لا معنى لقول القائل في تأويل قوله : وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ أن تأويله : لا تمار صاحبك حتى تغضبه ، إلا أحد معنيين : إما أن يكون أراد لا تماره بباطل حتى تغضبه . فذلك ما لا وجه له ، لأن الله عز وجل قد نهي عن المراء بالباطل في كل حال محرما كان المماري أو محلاّ ، فلا وجه لخصوص حال الإحرام بالنهي عنه لاستواء حال الإحرام والإحلال في نهى الله عنه . أو يكون أراد : لا تماره بالحق ، وذلك أيضا ما لا وجه له لأن المحرم لو رأى رجلاً يروم فاحشة كان الواجب عليه مراءه في دفعه عنها ، أو رآه يحاول ظلمه والذهاب منه بحقّ له قد غصبه عليه كان عليه مراؤه فيه وجداله حتى يتخلصه منه .

والجدال والمراء لا يكون بين الناس إلا من أحد وجهين : إما من قبل ظلم ، وإما من قبل حق ، فإذا كان من أحد وجهيه غير جائز فعله بحال ، ومن الوجه الاَخر غير جائز تركه بحال ، فأيّ وجوهه التي خصّ بالنهي عنه حال الإحرام ؟ وكذلك لا وجه لقول من تأوّل ذلك أنه بمعنى السباب ، لأن الله تعالى ذكره قد نهى المؤمنين بعضهم عن سباب بعض على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام في كل حال ، فقال صلى الله عليه وسلم : «سباب المُسْلِمِ فُسُوقٌ ، وَقِتالُهُ كُفْرٌ » فإذا كان المسلم عن سبّ المسلم منهيا في كل حال من أحواله ، محرما كان أو غير محرم ، فلا وجه لأن يقال : لا تسبه في حال الإحرام إذا أحرمت .

وفيما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخبر الذي :

حدثنا به محمد بن المثنى ، قال : ثني وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن سيار ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مِنْ حَجّ هَذَا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلْم يَفْسُقْ خَرَجَ مِثْلَ يَوْمَ وَلَدتَهْ أُمّهُ » .

حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا شعبة ، عن سيار ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ حَجّ هَذَا البَيْتَ فَلمْ يَرْفُثْ وَلمْ يُفْسُقْ ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمّهُ » .

حدثنا أحمد بن الوليد ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سيار ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثل حديث ابن المثنى ، عن وهب بن جرير .

حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثله أيضا .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني منصور ، قال : سمعت أبا حازم يحدّث عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه .

حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : أخبرنا محمد بن عبيد الله ، عن الأعمش ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ حَجّ هَذَا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كمَا وَلَدَتْهُ أُمّهُ » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وأبو أسامة ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله ، إلا أنه قال : «رَجَعَ كمَا وَلدَتهُ أمّهُ » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن شعبة ، عن سيار ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه ، إلا أنه قال : «رَجَعَ إلى أهْلِه مِثْلَ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أمّهُ » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن منصور ، عن هلال بن يسار ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، فذكر نحوه ، إلا أنه قال : «رَجَعَ إلى أهْلِهِ مِثْلَ يَوْمَ وَلَدتْهُ أُمّهُ » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن منصور عن هلال بن يسار ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ حَجّ هَذَا البَيْتَ » يعني الكعبة «فَلَمْ يَرْفُثْ وَلْم يَفْسُقْ ، رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدتْهُ أُمّهُ » .

حدثنا الفضل بن الصباح ، قال : حدثنا هشيم بن بشير ، عن سيار ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ حَجّ لِلّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلمْ يَفْسُقْ ، رَجَعَ كَهَيْئَةِ وَلَدَتْهُ أُمّهُ » .

دلالة واضحة على أن قوله : وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ بمعنى النفي عن الحجّ بأن يكون في وقته جدال ومراء دون النهي عن جدال الناس بينهم فيما يعنيهم من الأمور أو لا يعنيهم . وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه من حجّ فلم يرفث ولم يفسق استحقّ من الله الكرامة ما وصف أنه استحقه بحجه تاركا للرفث والفسوق اللذين نهى الله الحاجّ عنهما في حجه من غير أن يضمّ إليهما الجدال .

فلو كان الجدال الذي ذكره الله في قوله : وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ مما نهاه الله عنه بهذه الآية ، على نحو الذي تأوّل ذلك من تأوله من أنه المراء والخصومات أو السباب وما أشبه ذلك ، لما كان صلى الله عليه وسلم ليخصّ باستحقاق الكرامة التي ذكر أنه يستحقها الحاج الذي وصف أمره باجتناب خلتين مما نهاه الله عنه في حجه دون الثالثة التي هي مقرونة بهما .

ولكن لما كان معنى الثالثة مخالفا معنى صاحبتيها في أنها خبر على المعنى الذي وصفنا ، وأن الأخريين بمعنى النهي الذي أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن مجتنبهما في حجه مستوجب ما وصف من إكرام الله إياه مما أخبر أنه مكرمه به إذا كانتا بمعنى النهي ، وكان المنتهي عنهما لله مطيعا بانتهائه عنهما ، ترك ذكر الثالثة إذ لم تكن في معناهما ، وكانت مخالفة سبيلها سبيلهما .

فإذ كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بالقراءة من القراءات المخالفة بين إعراب الجدال وإعراب الرفث والفسوق ، ليعلم سامع ذلك إذا كان من أهل الفهم باللغات أن الذي من أجله خولف بين إعرابيهما اختلاف معنييهما ، وإن كان صوابا قراءة جميع ذلك باتفاق إعرابه على اختلاف معانيه ، إذ كانت العرب قد تُتبع بعض الكلام بعضا بإعراب مع اختلاف المعاني ، وخاصة في هذا النوع من الكلام .

فأعجب القراءات إليّ في ذلك إذ كان الأمر على ما وصفت ، قراءة من قرأ «فَلا رَفَثٌ وَلا فُسُوقٌ وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ » برفع الرفث والفسوق وتنوينهما ، وفتح الجدال بغير تنوين . وذلك هو قراءة جماعة البصريين وكثير من أهل مكة ، منهم عبد الله بن كثير وأبو عمرو بن العلاء .

وأما قول من قال : معناه النهي عن اختلاف المختلفين في أتمهم حجا ، والقائلين معناه : النهي عن قول القائل : غدا الحجّ ، مخالفا به قول الاَخر : اليوم الحجّ ، فقولٌ في حكايته الكفاية عن الاستشهاد على وهائه وضعفه ، وذلك أنه قول لا تدرك صحته إلا بخبر مستفيض وخبر صادق يوجب العلم أن ذلك كان كذلك ، فنزلت الآية بالنهي عنه . أو أن معنى ذلك في بعض معاني الجدال دون بعض ، ولا خبر بذلك بالصفة التي وصفنا .

وأما دلالتنا على قول ما قلنا من أنه نفيٌ من الله جل وعز عن شهور الحج ، فالاختلاف الذي كانت الجاهلية تختلف فيها بينها قبل كما وصفنا .

وأما دلالتنا على أن الجاهلية كانت تفعل ذلك فالخبر المستفيض في أهل الأخبار أن الجاهلية كانت تفعل ذلك مع دلالة قول الله تقدس اسمه : إنّمَا النّسيءُ زِيادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا يُحِلّونَهُ عاما ويُحَرّمُونَهُ عاما .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ } .

يعني بذلك جل ثناؤه : افعلوا أيها المؤمنون ما أمرتكم به في حجكم من إتمام مناسككم فيه ، وأداء فرضكم الواجب عليكم في إحرامكم ، وتجنب ما أمرتكم بتجنبه من الرفث والفسوق في حجكم لتستوجبوا به الثواب الجزيل ، فإنكم مهما تفعلوا من ذلك وغيره من خير وعمل صالح ابتغاء مرضاتي وطلب ثوابي ، فأنا به عالم ولجميعه محص حتى أوفيكم أجره وأجازيكم عليه ، فإني لا تخفى عليّ خافية ولا ينكتم عني ما أردتم بأعمالكم ، لأني مطلع على سرائركم وعالم بضمائر نفوسكم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَزوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى . }

ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يحجون بغير زاد ، وكان بعضهم إذا أحرم رمى بما معه من الزاد واستأنف غيره من الأزودة ، فأمر الله جل ثناؤه من لم يكن يتزوّد منهم بالتزوّد لسفره ، ومن كان منهم ذا زاد أن يتحفظ بزاده فلا يرمي به . ذكر الأخبار التي رويت في ذلك :

حدثني الحسين بن علي الصدائي ، قال : حدثنا عمرو بن عبد الغفار ، قال : حدثنا محمد بن سوقة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كانوا إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها واستأنفوا زادا آخر ، فأنزل الله : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّاد التّقْوَى فنهوا عن ذلك وأمروا أن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق .

حدثنا محمد بن عبد الله المخزومي ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : كانوا يحجون ولا يتزوّدون ، فنزلت : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن سوقة ، عن سعيد بن جبير في قوله : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى ، قال : الكعك والزيت .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن ابن سوقة ، عن سعيد بن جبير ، قال : هو الكعك والسويق .

حدثنا عمرو ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة ، قال : كان أناس يحجون ، ولا يتزوّدون ، فأنزل الله : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى .

حدثنا عمرو ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : حدثنا عبد الملك بن عطاء البكالي . وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن عبد الملك ، عن الشعبي في قوله : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال : التمر والسويق .

حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا حنظلة ، قال : سئل سالم عن زاد الحاج ، فقال : الخبز واللحم والتمر . قال عمرو : وسمعت أبا عاصم مرة يقول : حدثنا حنظلة سئل سالم عن زاد الحاج ، فقال الخبز والتمر .

حدثنا عمرو ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن هشيم ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، قال : كان ناس من الأعراب يحجون بغير زاد ويقولون : نتوكل على الله ، فأنزل الله جل ثناؤه : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى .

حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن عمر بن ذر ، عن مجاهد ، قال : كان الحاج منهم لا يتزوّد ، فأنزل الله : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى .

حدثنا عمرو ، قال : حدثنا يحيى عن عمر بن ذر وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عمر بن ذر ، عن مجاهد قال : كانوا يسافرون ولا يتزوّدون ، فنزلت : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى . وقال الحسن بن يحيى في حديثه : كانوا يحجون ولا يتزوّدون .

حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا المحاربي ، عن عمر بن ذر ، عن مجاهد نحوه .

حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عمر بن ذر ، قال : سمعت مجاهدا يحدث فذكر نحوه .

حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن أبي بشر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : كان أهل الاَفاق يخرجون إلى الحجّ يتوصلون بالناس بغير زاد ، يقولون : نحن متكلون فأنزل الله : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : وَتَزَوّدُوا قال : كان أهل الاَفاق يخرجون إلى الحجّ يتوصلون بالناس بغير زاد ، فأمروا أن يتزوّدوا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال : كان أهل اليمن يتوصلون بالناس ، فأمروا أن يتزوّدوا ولا يستمتعوا قال : وخير الزاد التقوى .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال : كانوا لا يتزوّدون ، فأمروا بالزاد ، وخير الزاد التقوى .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى فكان الحسن يقول : إن ناسا من أهل اليمن كانوا يحجون ويسافرون ، ولا يتزوّدون ، فأمرهم الله بالنفقة والزاد في سبيل الله ، ثم أنبأهم أن خير الزاد التقوى .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد بن أبي عروبة في قوله : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال : قال قتادة : كان ناس من أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ، ثم ذكر نحو حديث بشر عن يزيد .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى كان ناس من أهل اليمن يخرجون بغير زاد إلى مكة ، فأمرهم الله أن يتزوّدوا ، وأخبرهم أن خير الزاد التقوى .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال : كان ناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة يقولون : نحجّ بيت الله ولا يطعمنا ؟ فقال الله : تزوّدوا ما يكفّ وجوهكم عن الناس .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى فكان ناس من أهل اليمن يحجون ولا يتزوّدون ، فأمرهم الله أن يتزوّدوا ، وأنبأ أن خير الزاد التقوى .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن محمد بن سوقة ، عن سعيد بن جبير : وَتَزَوّدُوا قال : السويق والدقيق والكعك .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن محمد بن سوقة ، عن سعيد بن جبير : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال : الخُشْكنانج والسويق .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن عبد الملك بن عطاء البكالي ، قال : سمعت الشعبي يقول في قوله : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال : هو الطعام ، وكان يومئذٍ الطعام قليلاً . قال : قلت : وما الطعام ؟ قال : التمر والسويق .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى وخير زاد الدنيا المنفعة من اللباس والطعام والشراب .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال : كان ناس يتزوّدون إلى عُقْبة ، فإذا انتهوا إلى تلك العقبة توكلوا ولم يتزوّدوا .

حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا المحاربي ، قال : قال سفيان في قوله : وَتَزَوّدوا قال : أمروا بالسويق والكعك .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرني أبي أنه سمع عكرمة يقول في قوله : وَتَزَودُوا قال : هو السويق والدقيق .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال : كانت قبائل من العرب يحرّمون الزاد إذا خرجوا حجاجا وعمارا لأن يتضيفوا الناس ، فقال الله تبارك تعالى لهم : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى .

حدثنا عمرو بن عبد الحميد الاَملي ، قال : حدثنا سفيان عن عمرو ، عن عكرمة ، قال : كان الناس يقدمون مكة بغير زاد ، فأنزل الله : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى .

فتأويل الآية إذا : فمن فرض في أشهر الحجّ الحجّ فأحرم فيهنّ فلا يرفثن ولا يفسقن ، فإن أمر الحجّ قد استقام لكم ، وعرفّكم ربكم ميقاته وحدوده . فاتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من أمر حجكم ومناسككم ، فإنكم مهما تفعلوا من خير أمركم به أو ندبكم إليه يعلمه . وتزوّدوا من أقواتكم ما فيه بلاغكم إلى أداء فرض ربكم عليكم في حجكم ومناسككم ، فإنه لا برّ لله جل ثناؤه في ترككم التزوّد لأنفسكم ومسألتكم الناس ولا في تضييع أقواتكم وإفسادها ، ولكن البرّ في تقوى ربكم باجتناب ما نهاكم عنه في سفركم لحجكم وفعل ما أمركم به ، فإنه خير التزوّد ، فمنه تزوّدوا .

وبنحو الذي قلنا في ذلك رُوي الخبر عن الضحاك بن مزاحم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال : والتقوى عمل بطاعة الله .

وقد بينا معنى التقوى فيما مضى بما أغنى عن إعادته .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتّقُون يا أُولي الألْبابج .

يعني بذلك جل ثناؤه : واتقون يا أَهل العقول والأفهام بأداء فرائضي عليكم التي أوجبتها عليكم في حجكم ومناسككم وغير ذلك من ديني الذي شرعته لكم ، وخافوا عقابي باجتناب محارمي التي حرمتها عليكم تنجوا بذلك مما تخافون من غضبي عليكم وعقابي ، وتدركوا ما تطلبون من الفوز بجناتي . وخصّ جل ذكره بالخطاب بذلك أولي الألباب ، لأنهم أهل التمييز بين الحق والباطل ، وأهل الفكر الصحيح والمعرفة بحقائق الأشياء التي بالعقول تدرك وبالألباب تفهم ، ولم يجعل لغيرهم من أهل الجهل في الخطاب بذلك حظا ، إذ كانوا أشباحا كالأنعام ، وصورا كالبهائم ، بل هم منها أضلّ سبيلاً . والألباب : جمع لبّ ، وهو العقل .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (197)

{ الحج أشهر معلومات } أي وقته . كقولك البرد شهران . { معلومات } معروفات وهي : شوال وذو القعدة وتسعة من ذي الحجة بليلة النحر عندنا ، والعشر عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، وذي الحجة كله عند مالك . وبناء على الخلاف على أن المراد بوقته وقت إحرامه ، أو وقت أعماله ومناسكه ، أو ما لا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقا ، فإن مالكا كره العمرة في بقية ذي الحجة . وأبو حنيفة رحمه الله وإن صحح الإحرام به قبل شوال فقد استكرهه . وإنما سمي شهران وبعض شهر أشهرا إقامة للبعض مقام الكل ، أو إطلاقا للجمع على ما فوق الواحد . { فمن فرض فيهن الحج } فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن عندنا ، أو بالتلبية أو سوق الهدي عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهو دليل على ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى وأن من أحرم بالحج لزمه الإتمام . { فلا رفث } فلا جماع ، أو فلا فحش من الكلام . { ولا فسوق } ولا خروج عن حدود الشرع بالسيئات وارتكاب المحظورات . { ولا جدال } ولا مراء مع الخدم والرفقة . { في الحج } في أيامه ، نفي الثلاثة على قصد النهي للمبالغة وللدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون ، وما كانت منها مستقبحة في أنفسها ففي الحج أقبح كلبسة الحرير في الصلاة . والتطريب بقراءة القرآن لأنه خروج عن مقتضى الطبع والعادة إلى محض العبادة . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والأولين بالرفع على معنى : لا يكونن رفث ولا فسوق . والثالث بالفتح على معنى إلا خبار بانتفاء الخلاف في الحج ، وذلك أن قريشا كانت تحالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام ، فارتفع الخلاف بأن أمروا أن يقفوا أيضا بعرفة . { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } حث على الخير عقب به النهي عن الشر ليستدل به ويستعمل مكانه . { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } وتزودوا لمعادكم فإنه خير زاد ، وقيل : نزلت في أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون ويقولون : نحن متوكلون فيكونون كلا على الناس ، فأمروا أن يتزودوا ويتقوا الإبرام في السؤال والتثقيل على الناس ، { واتقون يا أولي الألباب } فإن قضية اللب خشية الله وتقواه ، حثهم على التقوى ثم أمرهم بأن يكون المقصود بها هو الله تعالى فيتبرأ من كل شيء سواه ، وهو مقتضى العقل المعري عن شوائب الهوى فلذلك خص أولي الألباب بهذا الخطاب .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (197)

{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }( 197 )

وقوله تعالى : { الحج أشهر معلومات } ، في الكلام حذف تقديره : أشهر الحج أشهر ، أو : وقت الحج أشهر ، أو : وقت عمل الحج أشهر( {[1850]} ) ، والغرض إنما هو أن يكون الخبر عن الابتداء هو الابتداء نفسه( {[1851]} ) ، والحج ليس بالأشهر فاحتيج إلى هذه التقديرات ، ومن قدر الكلام : الحج في أشهر ، فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر ، ولم يقرأ بنصبها أحد( {[1852]} ) .

وقال ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري : أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة كله .

وقال ابن عباس والشعبي والسدي وإبراهيم : هي شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة ، والقولان لمالك رحمه الله ، حكى الأخير ابن حبيب ، وجمع على هذا القول الأخير الاثنان وبعض الثالث( {[1853]} ) كما فعلوا في جمع عشر فقالوا عشرون لعشرين ويومين من الثالث( {[1854]} ) ، وكما قال امرؤ القيس : [ الطويل ]

ثلاثون شهراً في ثلاثةِ أَحْوَال( {[1855]} ) . . . فمن قال إن ذا الحجة كله من أشهر الحج لم ير دماً فيما يقع من الأعمال بعد يوم النحر لأنها في أشهر الحج ، وعلى القول الآخر ينقضي الحج بيوم النحر ويلزم الدم فيما عمل بعد ذلك( {[1856]} ) .

وقوله تعالى : { فمن فرض فيهن الحج } أي من ألزم نفسه( {[1857]} ) ، وأصل الفرض الحز الذي يكون في السهام والقسي وغيرها ، ومنه فرضة النهر والجبل ، فكأن من التزم شيئاً وأثبته على نفسه قد فرضه ، وفرض الحج هو بالنية والدخول في الإحرام ، والتلبية تبع لذلك ، و { من } رفع بالابتداء ، ومعناها الشرط ، والخبر قوله { فرض } لأن { من } ليست بموصولة فكأنه قال فرجل فرض ، وقوله { فلا رفث } يحتمل أن يكون الخبر ، وتكون { فرض } صفة( {[1858]} ) .

وقوله تعالى : { فيهن } ولم يجيء الكلام فرض فيها : فقال قوم : هما سواء في الاستعمال .

وقال أبو عثمان المازني( {[1859]} ) : «الجميع الكثير لما لا يعقل يأتي كالواحدة المؤنثة ، والقليل ليس كذلك ، تقول الأجذاع انكسرن والجذوع انكسرت »( {[1860]} ) ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : { إن عدة الشهور }( {[1861]} ) [ التوبة : 36 ] ، ثم قال : { منها } ، وقرأ نافع «فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدالَ » بنصب الجميع ، وهي قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدالَ » بالرفع في الاثنين ونصب الجدال ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بالرفع في الثلاثة ، ورويت عن عاصم في بعض الطرق( {[1862]} ) ، و { لا } بمعنى ليس في قراءة الرفع( {[1863]} ) وخبرها محذوف على قراءة أبي عمرو( {[1864]} ) ، و { في الحج } خبر { لا جدال } وحذف الخبر هنا هو مذهب أبي علي ، وقد خولف في ذلك ، بل { في الحج } هو خبر الكل ، إذ هو في موضع رفع في الوجهين( {[1865]} ) ، لأن { لا } إنما تعمل على بابها فيما يليها وخبرها مرفوع باق على حاله من خبر الابتداء( {[1866]} ) ، وظن أبو علي أنها بمنزلة ليس في نصب الخبر ، وليس كذلك ، بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر ، و { في الحج } هو الخبر في قراءة كلها بالرفع وفي قراءتها بالنصب( {[1867]} ) ، والتحرير أن { في الحج } في موضع نصب بالخبر المقدر كأنك قلت موجود في الحج ، ولا فرق بين الآية وبين قولك زيد في الدار .

وقال ابن عباس وابن جبير والسدي وقتادة ومالك ومجاهد وغيرهم : الرفث الجماع .

وقال عبد الله بن عمر وطاوس وعطاء وغيرهم : الرفث الإعراب والتعريب( {[1868]} ) ، وهو الإفحاش بأمر الجماع عند النساء خاصة ، وهذا قول ابن عباس أيضاً ، وأنشد وهو محرم :

وَهُنَّ يَمْشينَ بِنَا هَمِيساً . . . إنْ تَصْدُقِ الطِّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا

فقيل له : ترفث وأنت محرم ؟ فقال : إنما الرفث ما كان عند النساء( {[1869]} ) وقال قوم : الرفث الإفحاش بذكر النساء كان ذلك بحضرتهن أم لا ، وقد قال ابن عمر للحادي : «لا تذكر النساء » .

قال القاضي أبو محمد : وهذا يحتمل أن تحضر امرأة فلذلك نهاه ، وإنما يقوي القول من جهة ما يلزم من توقير الحج .

وقال أبو عبيدة : «الرفث اللغا من الكلام » ، وأنشد :

وَرُبَّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظُمِ . . . عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ( {[1870]} )

قال القاضي أبو محمد : ولا حجة في البيت ، وقرأ ابن مسعود «ولا رفوث » .

وقال ابن عباس وعطاء والحسن وغيرهم : الفسوق المعاصي كلها لا يختص بها شيء دون شيء .

وقال ابن عمر وجماعة معه : الفسوق المعاصي في معنى الحج كقتل الصيد وغيره( {[1871]} ) .

وقال ابن زيد ومالك : الفسوق الذبح للأصنام ، ومنه قول الله تعالى : { أو فسقاً أهل لغير الله به }( {[1872]} ) [ الأنعام : 145 ] .

وقال الضحاك : الفسوق التنابز بالألقاب ، ومنه قول الله تعالى : { بئس الاسم الفسوق }( {[1873]} ) [ الحجرات : 11 ] .

وقال ابن عمر أيضاً ومجاهد وعطاء وإبراهيم : الفسوق السباب ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر »( {[1874]} ) .

قال القاضي أبو محمد : وعموم جميع المعاصي أولى الأقوال .

وقال قتادة وغيره : الجدال هنا السباب .

وقال ابن مسعود وابن عباس وعطاء ومجاهد : الجدال هنا أن تماري مسلماً حتى تغضبه .

وقال مالك وابن زيد : الجدال هنا أن يختلف الناس أيهم صادف موقف إبراهيم عليه السلام كما كانوا يفعلون في الجاهلية حين كانت قريش تقف في غير موقف سائر العرب ثم يتجادلون بعد ذلك .

وقال محمد بن كعب القرظي : الجدال أن تقول طائفة حجنا أبر من حجكم وتقول الأخرى مثل ذلك .

وقالت فرقة : الجدال هنا أن تقول طائفة : الجح اليوم وتقول طائفة بل الحج غداً ، وقيل : الجدال كان في الفخر بالآباء .

وقال مجاهد وجماعة معه : الجدال أن تنسىء العرب الشهور حسبما كان النسيء عليه ، فقرر الشرع وقت الحج وبينه ، وأخبر أنه حتم لا جدال فيه ، وهذا أصح الأقوال وأظهرها ، والجدال مأخوذ من الجدل وهو الفتل ، كأن كل مجادل يفاتل( {[1875]} ) صاحبه في الكلام .

وأما ما كان النسيء عليه فظاهر سير ابن إسحاق وغيرها من الدواوين أن الناسىء كان يحل المحرم لئلا تتوالى على العرب ثلاثة أشهر لا إغارة فيها ، ويحرم صفر ، وربما سموه المحرم ، وتبقى سائر الأشهر بأسمائها حتى يأتي حجهم في ذي الحجة على الحقيقة ، وأسند الطبري عن مجاهد أنه قال : كانوا يسقطون المحرم ثم يقولون صفران لصفر وشهر ربيع الأول ، ثم كذلك ينقلون أسماء الشهور ، ويتبدل وقت الحج في الحقيقة ، لكنه يبقى في ذي الحجة بالتسمية لا في حقيقة الشهر ، قال : فكان حج أبي بكر سنة تسع في ذي القعدة على الحقيقة( {[1876]} ) ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة على الحقيقة ، وحينئذ قال : «إن الزمان قد استدار » الحديث( {[1877]} ) ، ونزلت { ولا جدال في الحج } أي قد تبين أمره فلا ينتقل شهر البتة أبداً .

وقوله تعالى : { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } المعنى فيثيب عليه ، وفي هذا تخصيص على فعل الخير .

وقوله تعالى : { وتزودوا } الآية ، قال ابن عمر وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد : نزلت الآية في طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد ويقول بعضهم : نحن المتوكلون ، ويقول بعضهم : كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا ، فكانوا يبقون عالة على الناس ، فنهوا عن ذلك وأمروا بالتزود .

وقال بعض الناس : المعنى تزودوا الرفيق الصالح ، وهذا تخصيص ضعيف ، والأولى في معنى الآية : وتزودوا لمعادكم من الأعمال الصالحة( {[1878]} ) ، وفي قوله تعالى : { فإن خير الزاد التقوى } حض على التقوى ، وخص أولو الألباب بالخطاب وإن كان الأمر يعم الكل لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله وهم قابلو أوامره ، والناهضون بها ، وهذا على أن اللب لب( {[1879]} ) التجارب وجودة النظر ، وإن جعلناه لب التكليف فالنداء ب { أولي الألباب } عام لجيمع المكلفين ، واللب العقل ، تقول العرب لبُبْت بضم الباء الأولى ألُب بضم اللام ، حكاه سيبويه ، وليس في الكلام فعل يفعل بضم العين فيهما غير هذه الكلمة( {[1880]} ) .


[1850]:- والحذف إما في المبتدأ كما قدر ابن عطية، أو في الخبر: ويكون التقدير الحج حج أشهر معلومات.
[1851]:- أي في المعنى لأن الوقت هو الشهر، وليس الحج شهرا.
[1852]:- الذي عند البصريين أن ظرف الزمان إذا كان نكرة خبرا عن مصدر يجوز رفعه إتباعا، وعليه فلا يلزم نصبه.
[1853]:- هذا من باب إطلاق الكل على البعض، وهذا شائع في لغة العرب، تقول: رأيتك سنة كذا، وإنما رأيته في يوم منها مثلا.
[1854]:- في لسان العرب، قال الليث: قلت للخليل: ما معنى العشرين ؟ قال جماعة عشر، قلت فالعشر كم يكن ؟ قال: تسعة أيام، قلت: فعشرون إنما عشران ويومان قال: لما كان من العشر الثالث يومان جمعته بالعشرين. قلت: وإن لم يستوعب الجزء الثالث ؟ قال: نعم. ألا ترى إلى قول أبي حنيفة: إذا طلقها تطليقتين وعشر تطليقة فإنه يجعلها ثلاثا وإنما من الطلقة الثالثة فيه جزء فالعشرون هذا قياسه. ا هـ.
[1855]:- البيت هو: وهل يَنْعَمْنَ مَنْ كَانَ أَحْدَثُ عَهْــدِهِ ثَلاَثِينَ شَهْراً في ثلاثَةِ أَحْــوَالِ وانظر ابن عطية عند قوله تعالى: [والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين].
[1856]:- أشار بهذا إلى ثمرة الخلاف في أشهر الحج، هل هي: ثلاثة أشهر كاملة، أو شهران وعشر ذي الحجة.
[1857]:- وقال ابن عباس رضي الله عنه: فرض فيهن الحج: أي أحرم به فيهن، ومآل القولين واحد. وفي "المعجم الوسيط" فرض الشيء – فيه – فرضا: حزّ فيه حزّأ، يقال: فرض الأمر: أوجبه – يقال: فرضه عليه: كتبه عليه- وله: خصّه به، وفي التنزيل العزيز [ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له].
[1858]:- هذا أظهر مما قبله وأفيد. قال (ح): وهذه الجملة في موضع جواب الشرط إن كانت (من) شرطية، وفي موضع الخبر إن كانت (مِنْ) شرطية، وفي موضع الخبر إن كانت (مِنْ) موصولة، وعلى كلا التقديرين لا بد من رابط يربط بين الجملة الشرطية أو الجملة الخبرية فيجب تقديره. انظره.
[1859]:- هو أبو عثمان بكر بن محمد المازني النحوي البصري المشهور، كان إماما في النحو والأدب، أخذ عن أبي عبيدة الأصمعي والأخفش، وهو أستاذ للمبرد، وقد قيل عنه: لم يكن أحد بعد سيبويه أعلم بالنحو من المازني – توفي سنة 249هـ.
[1860]:- قوله: «الأجذاع انكسرت» عائد على الجمع القليل، وقوله «والجذوع انكسرت» عائد على الجمع الكثير، فهو لف ونشر غير مرتب.
[1861]:- من الآية (36) من سورة (التوبة).
[1862]:- قال الإمام ابن العربي في أحكامه: قوله تعالى: [فلا رفث ولا فسوق] أراد نفيه مشروعا لا موجودا، فإنا نجد الرفث فيه ونشاهده، وخبر الله لا يقع بخلاف مخبره ا هـ.، وقال غيره: الآية بمعنى النهي. وقراءة ابن كثير وأبي عمرو برفع (رفث وفسوق) إنما هي بالرفع مع التنوين كما نص عليه (ح) في البحر المحيط.
[1863]:- قال (ح): «وهذا الذي جوزه وجزم به ابن عطية ضعيف لأن إعمال لا عمل (ليس) قليل جدا لم يجئ منه في لسان العرب إلا مالا بال له، والذي يحفظ من ذلك قوله: تعَزَّ فلا شيْءٌ على الأرض باقِيَــا ولا وزَرٌ مِمَّـا قَضى الله واقِيــا وقول النابغة الجعدي: وحَلَّت سَواد القلْـب لا أنا باغِيــا سِواها ولا في حُبِّهَـا مُتَرَاخِيــا
[1864]:- قال (ح) تعقيبا على ذلك: «وقد نصّ الناس على أن خبر كان وأخواتها ومنها (ليس) لا يجوز حذفه لا اختصارا ولا اقتصارًا، ثم ذكروا أنه قد حذف خبر ليس في الشعر في قوله: .................................. يرجو جوارك حين ليس مجيــر على طريق الضرورة أو الندور، وما كان كذلك فلا يحمل القرآن عليه.
[1865]:- يعني بهما كونها بمعنى ليس، وكونها مبنية مع (لا)، قال (ح) وهذا لا يصح لأنها إذا كانت بمعنى ليس احتاجت إلى خبر منصوب، وإذا بنيت مع (لا) احتاجت إلى خبر مرفوع. انظره.
[1866]:- هذا تعليل لكون [في الحج] خبر للكل إذ هي في موضع رفع في الوجهين على ما ذهب إليه. وذلك لا يجوز لأنها إذا كانت بمعنى (ليس) كان خبرها في موضع نصب – ولا يناسب هذا التعليل إلا كونها تعمل عمل (إن) فقط على مذهب سيبويه.
[1867]:- ظن أبي علي صحيح، والدليل على ذلك أن العرب جاءت بخبر (لا) التي بمعنى (ليس) منصوبا في أشعارها فدل ذلك على أن ما فهمه أبو علي صحيح، انظر أبا حيان في مناقشاته لابن عطية.
[1868]:- يقال عرب وأعرب إذا أفحش في القول، ومنه لا تحل العرابة للمحرم.
[1869]:- قول ابن عباس رضي الله عنه: (ننك لميسا) صريح في الجماع مع أن مثل ذلك يكني عنه لقبحه ولكنه لما جاء بقصد البيان والفرق بين ما يكره وما لا يكره سهل أمره، وكأنه رأى مظنة ذلك الاعتقاد فنفاه بذلك القول الصريح بيانا لمعنى قوله تعالى: [فلا رفث ولا فسوق] الآية، ومتى كان الشيء للبيان كان مطلوبا غير محظور. وقد سبق ذكر هذا الشاهد.
[1870]:- تقدم هذا البيت بتمامه مع بيان معناه، وهو للعجاج.
[1871]:- على ما قاله ابن عباس ومن معه، وابن عمر ومن معه يكون الفسوق جمعا لا مصدرا، وعلى ما قال غيرهما يكون مصدرا لا جمعا.
[1872]:- من الآية (145) من سورة (الأنعام).
[1873]:- من الآية (11) من سورة (الحجرات).
[1874]:- هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. ورواه أحمد في مسنده.
[1875]:- أي يخاتله ويخادعه.
[1876]:- هذا قول مجاهد، وقد رده الحافظ ابن كثير، والقسطلاني بقوله تعالى : [وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر]. وقد نودي بهذا في حجة أبي بكر، فلو لم يكن حجه في ذي الحجة لما قال تعالى: (يوم الحجّ الأكبر).
[1877]:- أخرجه البخاري، ومسلم، والإمام أحمد، عن أبي بكرة الثقفي، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الزمان قد استدار كهيئته) الخ أن السنة قد عاد الحج فيها إلى ذي الحجة بسبب استدارتها. فحجة الوداع كانت على حساب السنة التي استقامت ورجعت إلى الأصل الموضوع يوم خلق الله السموات والأرض، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم إذ أخبر بأمر دقيق وهو مسامته رأس الحمل لأول قسم من أقسام الفلك الأطلس وهو نقطة الاعتدال الربيعي، فأخبر صلى الله عليه وسلم بذلك في الزمن الذي وقعت فيه المسامتة المذكورة، فصار الأمر من ذلك الوقت – في عدة الشهور وفي تحريم ما هو محرم منها على ما سبق في كتاب الله من العدد والتوالي لا على ما كانت تفعله العرب من فعلهم تحريم بعضها بالنسيء عن بعض، والله أعلم.
[1878]:- قيل: المراد بالزاد الزاد الظاهر، وهو سبب النزول كما قاله ابن عمر، وعكرمة، وغيرهما، وقيل: المراد الزاد الباطن، وقال ابن عطية: وهذا هو الأولى في معنى الآية، أي لأنه المناسب، فقد جمعت الآية الزاد الظاهر والزاد الباطن، وذلك من زينة القرآن الباطنة المضافة إلى زينة ألفاظه الظاهرة، وقوله تعالى: [فإن خير الزاد التقوى] معناه: اتقاء كل ما فيه إثم، ومن ذلك إراقة ماء الوجه، والتطلع إلى ما في أيدي الناس، مع التملق والتذلل لهم والاعتماد عليهم، وكالتساهل في أداء الصلوات وعدم التحري في المأكولات، فعلى المرء أن يرضى بحاله، وألا يتبع هوى نفسه، حتى يكون العمل لله لا لغيره، فإذا أوجب الله عليك أمرا فافعل ما دام في وسعك أن تفعل، وإذا أسقطه عنك فاترك ولا تحرص.
[1879]:- اللَّبّ هو العقل، والعقل إما تجريبي وإما تكليفي، فإن نظرنا إلى المعنى الأول فأولوا الألباب خصوص، وإن نظرنا إلى المعنى الآخر فأولوا الألباب عموم.
[1880]:- أي مضاعفا، وهذا هو الوصف الذي يجعل هذه الكلمة لا نظير لها في اللغة العربية، ولعلّ هذا القيد سقط من الكلام، انظر القاموس والمصباح.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (197)

استئناف ابتدائي للإِعلام بتفصيل مناسك الحج ، والذي أراه أن هذه الآيات نزلت بعد نزول قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } في [ سورة آل عمران : 97 ] فإن تلك الآية نزلت بفرض الحج إجمالاً ، وهذه الآية فيها بيان أعماله ، وهو بيان مؤخر عن المبين ، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة واقع غير مرة ، فيظهر أن هذه الآية نزلت في سنة تسع ، تهيئة لحج المسلمين مع أبي بكر الصديق .

وبين نزول هذه الآية ونزول آية { وأتموا الحج والعمرة لله } [ البقرة : 196 ] نحو من ثلاث سنين فتكون فيما نرى من الآيات التي أمر الرسول عليه السلام بوضعها في هذا الموضع من هذه السورة للجمع بين أعمال الحج وأعمال العمرة .

وهي وصاية بفرائض الحج وسننه ومما يحق أن يراعى في أدائه ، وذكر ما أراد الله الوصاية به من أركانه وشعائره . وقد ظهرت عناية الله تعالى بهذه العبادة العظيمة ، إذ بسط تفاصيلها وأحوالها مع تغيير ما أدخله أهل الجاهلية فيها .

ووصف الأشهر بمعلومات حوالة على ما هو معلوم للعرب من قبل ، فهي من الموروثة عندهم عن شريعة إبراهيم ، وهي من مبدأ شوال إلى نهاية أيام النحر ، وبعضها بعض الأشهر الحرم ، لأنهم حرموا قبل يوم الحج شهراً وأياماً وحرموا بعده بقية ذي الحجة والحرام كلّه ، لتكون الأشهر الحرم مدة كافية لرجوع الحجيج إلى آفاقهم ، وأما رجب فإنما حَرَّمته مُضر لأنه شهر العمرة .

فقوله : { الحج أشهر معلومات } أي في أشهر ، لقوله بعده : { فمن فرض فيهن الحج } ولك أن تقدر : مدة الحج أشهر ، وهو كقول العرب « الرطب شهرا ربيع » .

والمقصود من قوله : { الحج أشهر } يحتمل أن يكون تمهيداً لقوله : { فلا رفث ولا فسوق } تهويناً لمدة تر ك الرفث والفسوق والجدال ، لصعوبة ترك ذلك على الناس ، ولذلك قُللت بجمع القلة ، فهو نظير ما روى مالك في « الموطأ » : أن عائشة قالت لعروة بن الزبير يا ابن أختي إنما هي عشر ليال فإن تخلج في نفسك شيء فدعه ، تعني أكل لحم الصيد ، ويحتمل أن يكون تقريراً لما كانوا عليه في الجاهلية من تعيين أشهر الحج فهو نظير قوله : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً } [ التوبة : 36 ] الآية ، وقيل : المقصود بيان وقت الحج ولا أَنثلج له .

والأَشهر المقصودة هي شوال وذو القعدة وذو الحجة لا غير ، وإنما اختلفوا في أن ذا الحجة كله شهر أو العشر الأوائل منه أو التسع فقط ، أو ثلاثة عشر يوماً منه ، فقال بالأول ابن مسعود وابن عمر والزهري وعروة بن الزبير وهو رواية ابن المنذر عن مالك ، وقال بالثاني ابن عباس والسدي وأبو حنيفة وهو رواية ابن حبيب عن مالك .

وقال بالثالث الشافعي ، والرابع قول في مذهب مالك ذكره ابن الحاجب في « المختصر » غير معزو .

وإطلاق الأشهر على الشهرين وبعض الشهر عند أصحاب القولين الثالث والرابع مخرَّج على إطلاق الجمع على الاثنين أو على اعتبار العرب الدخول في الشهر أو السنة كاستكماله ، كما قالوا : ابن سنتين لمن دخل في الثانية ، وكثرة هذا الخلاف تظهر فيمن أوقع بعض أعمال الحج مما يصح تأخيره كطواف الزيارة بعد عاشر ذي الحجة ، فمن يراه أوقعه في أيام الحج لم ير عليه دماً ومن يرى خلافه يرى خلافه .

وقد اختلفوا في الإهلال بالحج قبل دخول أشهر الحج ، فقال مجاهد وعطاء والأوزاعي والشافعي وأبو ثور : لا يجزىء ويكون له عمرة كمن أحرم للصلاة قبل وقتها ، وعليه : يجب عليه إعادة الإحرام من الميقات عند ابتداء أشهر الحج ، واحتج الشافعي بقوله تعالى : { الحج أشهر معلومات } ، وقال أحمد : يجزىء ولكنه مكروه ، وقال مالك وأبو حنيفة والنخعي : يجوز الإحرام في جميع السنة بالحج والعمرة إلاّ أن مالكاً كره العمرة في بقية ذي الحجة ، لأن عمر بن الخطاب كان ينهى عن ذلك ويضرب فاعله بالدِّرة ، ودليل مالك في هذا ما مضى من السنة ، واحتج النخعي بقوله تعالى : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } [ البقرة : 189 ] إذ جعل جميع الأهلة مواقيت للحج ولم يفصل ، وهذا احتجاج ضعيف ، إذ ليس في الآية تعميم جميع الأهلة لتوقيت الحج بل مساق الآية أن جميع الأهلة صالحة للتوفيق إجمالاً ، مع التوزيع في التفصيل فيوقت كل عمل بما يقارنه من ظهور الأهلة على ما تبينه أدلة أخرى من الكتاب والسنة . ولاحتمال الآية عدة محامل في وجه ذكر أشهر الحج لا أرى للأئمة حجة فيها لتوقيت الحج .

وقوله تعالى : { فمن فرض فيهن الحج } تفريع على هاته المقدمة لبيان أن الحج يقع فيها وبيان أهم أحكامه .

ومعنى فرض : نوى وعزم ، فنية الحج هي العزم عليه وهو الإحرام ، ويشترط في النية عند مالك وأبي حنيفة مقارنتها لقول من أقوال الحج وهو التلبية ، أو عمل من أعماله كسَوْق الهدي ، وعند الشافعي يدخل الحج بنية ولو لم يصاحب قولاً أو عملاً وهو أرجح ؛ لأن النية في العبادات لم يشترط فيها مقارنتها لجزء من أعمال العبادة ، ولا خلاف أن السنة مقارنة الإهلال للاغتسال والتلبية واستواء الراحلة براكبها .

وضمير { فيهن } للأشهر ، لأنه جمع لغير عاقل فيجري على التأنيث .

وقوله : { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } جواب من الشرطية ، والرابط بين جملة الشرط والجواب ما في معنى { لا رفث } من ضمير يعود على ( من ) ؛ لأن التقدير فلا يرفث .

وقد نفى الرفث والفسوق والجدال نفي الجنس مبالغة في النهي عنها وإبعادها عن الحاج ، حتى جعلت كأنها قد نهي الحاج عنها فانتهى فانتفت أجناسها ، ونظير هذا كثير في القرآن كقوله تعالى :

{ والمطلقات يتربصن } [ البقرة : 228 ] وهو من قبيل التمثيل بأن شبهت حالة المأمور وقت الأمر بالحالة الحاصلة بعد امتثاله فكأنه امتثل وفعل المأمور به فصار بحيث يخبر عنه بأنه فَعَل كما قرره في « الكشاف » في قوله : { والمطلقات يتربصن } ، فأطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة .

وقرأ الجمهور بفتح أواخر الكلمات الثلاث المنفية بلا ، على اعتبار ( لا ) نافية للجنس نصاً ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع ( رفث ) و ( فسوق ) على أن ( لا ) أخت ليس نافية للجنس غير نص وقرآ ( ولا جدال ) بفتح اللام على اعتبار ( لا ) نافية للجنس نصاً وعلى أنه عطف جملة على جملة فروي عن أبي عمرو أنه قال : الرفع بمعنى لا يكون رفث ولا فسوق يعني أن خبر ( لا ) محذوف وأن المصدرين نائبان عن فعليهما وأنهما رفعا لقصد الدلالة على الثبات مثل رفع { الحمد لله } [ الفاتحة : 2 ] وانتهى الكلام ثم ابتدأ النفي فقال : { ولا جدال في الحج } على أن في الحج خبر ( لا ) ، والكلام على القراءتين خبرٌ مستعمل في النهي .

والرفث اللغو من الكلام والفحش منه قاله أبو عبيدة واحتج بقول العجاج :

وَربِّ أَسْرابِ حجيجٍ كُظَّم *** عن اللَّغَا ورَفَثِ التَّكَلُّــم

وفعله كنصر وفرح وكرم والمراد به هنا الكناية عن قربان النساء . وأحسب أن الكناية بهذا اللفظ دون غيره لقصد جمع المعنيين الصريح والكناية ، وكانوا في الجاهلية يتوقون ذلك ، قال النابغة :

حَيَّاكِ رَبِّي فإنَّا لاَ يحِلُّ لنا *** لَهْوُ النساءٍ وإِنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَما

يريد من الدين الحج وقد فسروا قوله : لهو النساء بالغزل .

وهذا خبر مراد به مبالغة النهي اقتضى أن الجماع في الحج حرام ، وأنه مفسد للحج وقد بينت السنة ذلك بصراحة ، فالدخول في الإحرام يمنع من الجماع إلى الإحلال بطواف الإفاضة وذلك جميع وقت الإحرام ، فإن حصل نسيان فقال مالك هو مفسد ويعيد حجه إذا لم يمض وقوف عرفة ، وإلاّ قضاه في القابل نظراً إلى أن حصول الالتذاذ قد نافى تجرد الحج والزهد المطلوب فيه بقطع النظر عن تعمد أو نسيان ، وقال الشافعي في أحد قوليه وداود الظاهري : لا يفسد الحج وعليه هدي ، وأما مغازلة النساء والحديث في شأن الجماع فذريعة ينبغي سدها ، لأنه يصرف القلب عن الانقطاع إلى ذكر الله في الحج .

وليس من الرفث إنشاد الشعر القديم الذي فيه ذكر الغزل ؛ إذ ليس القصد منه إنشاء الرفث ، وقد حدا ابن عباس راحلته وهو محرم ببيت فيه ذكر لفظ من الرفث فقال له صاحبه حصين بن قيس : أترفُث وأنت محرم ؟ فقال : إن الرفث ما كان عند النساء أي الفعل الذي عند النساء أي الجماع .

والفسوق معروف وقد تقدم القول فيه غير مرة ، وقد قيل أراد به هنا النهي عن الذبح للأصنام وهو تفسير مروي عن مالك ، وكأنه قاله لأنه يتعلق بإبطال ما كانوا عليه في الجاهلية غير أن الظاهر شمول الفسوق لسائر الفسق وقد سكت جميع المفسرين عن حكم الإتيان بالفسوق في مدة الإحرام .

وقرن الفسوق بالرفث الذي هو مفسد للحج يقتضي أن إتيان الفسوق في مدة الإحرام مفسد للحج كذلك ، ولم أر لأحد من الفقهاء أن الفسوق مفسد للحج ، ولا أنه غير مفسد سوى ابن حزم فقال في « المحلَّى » : إن مذهب الظاهرية أن المعاصي كلها مفسدة للحج ، والذي يظهر أن غير الكبائر لا يفسد الحج وأن تعمد الكبائر مفسد للحج وهو أحرى بإفساده من قربان النساء الذي هو التذاذ مباح والله أعلم .

والجدال مصدر جادله إذا خاصمه خصاماً شديداً وقد بسطنا الكلام عليه عند قوله تعالى : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } [ في سورة النساء : 107 ] ، إذ فاتنا بيانه هنا .

واختلف في المراد بالجدال هنا فقيل السباب والمغاضبة ، وقيل تجادل العرب في اختلافهم في الموقف ؛ إذ كان بعضهم يقف في عرفة وبعضهم يقف في جمع وروي هذا عن مالك .

واتفق العلماء على أن مدارسة العلم والمناظرة فيه ليست من الجدال المنهي عنه ، وقد سمعت من شيخنا العلامة الوزير أن الزمخشري لما أتم تفسير وضعه في الكعبة في مدة الحج بقصد أن يطالعه العلماء يحضرون الموسم وقال : من بدا له أن يجادل في شيء فليفعل ، فزعموا أن بعض أهل العلم اعترض عليه قائلاً : بماذا فسرت قوله تعالى : { ولا جدال في الحج } وأنه وجم لها ، وأنا أحسب إن صحت هذه الحكاية أن الزمخشري أعرض عن مجاوبته ، لأنه رآه لا يفرق بين الجدال الممنوع في الحج وبين الجدال في العلم .

واتفقوا على أن المجادلة في إنكار المنكر وإقامة حدود الدين ليست من المنهي عنه فالمنهي عنه هو ما يجر إلى المغاضبة والمشاتمة وينافي حرمة الحج ولأجل ما في أحوال الجدال من التفصيل كانت الآية مجملة فيما يفسد الحج من أنواع الجدال فيرجع في بيان ذلك إلى أدلة أخرى .

وقوله : { وما تفعلوا خير يعلمه الله } عُقب به النهي عن المنهيات لقصد الاتصاف بأضداد تلك المنهيات فكأنه قال : لا تفعلوا ما نهيتم عنه وافعلوا الخير فما تفعلوا يعلمه الله ، وأطلق علم الله وأريد لازمه وهو المجازاة على المعلوم بطريق الكناية فهو معطوف على قوله : { فلا رفث } الخ .

معطوف على جملة : { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } باعتبار ما فيها من الكناية عن الترغيب في فعل الخير ، والمعنى وأكثروا من فعل الخير .

والتزود إعداد الزاد وهو الطعام الذي يحمله المسافر ، وهو تفعُّل مشتق من اسم جامد وهو الزاد كما يقال تَعَمَّم وتقَمَّص أي جعل ذلك معه .

فالتزود مستعار للاستكثار من فعل الخير استعداداً ليوم الجزاء شبه بإعداد المسافر الزاد لسفره بناء على إطلاق اسم السفر والرحيل على الموت .

قال الأعشى في قصيدته التي أنشأها لمدح النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيها بعض ما يدعو النبي إليه أخذاً من هذه الآية وغيرها :

إذا أنْتَ لم تَرْحَلْ بزاد من التقى *** ولاَقَيْتَ بعد الموت من قَد تَزودا

نَدِمْتَ أَنْ لا تكونَ كمِثْلِــــه *** وأَنَّك لم تُرْصِدْ بما كان أرْصَدا

فقوله : { فإن خير الزاد التقوى } بمنزلة التذييل أي التقوى أفضل من التزود للسفر فكونوا عليها أحرص .

ويجوز أن يستعمل التزود مع ذلك في معناه الحقيقي على وجه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه فيكون أمراً بإعداد الزاد لسفر الحج تعريضاً بقوم من أهل اليمن كانوا يجيئون إلى الحج دون أي زاد ويقولون نحن متوكلون على الله{[179]} فيكونون كلاً على الناس بالإلحاف .

فقوله : { فإن خير الزاد } الخ إشارة إلى تأكيد الأمر بالتزود تنبيهاً بالتفريع على أنه من التقوى لأن فيه صيانة ماء الوجه والعرض .

وقوله : { واتقون } بمنزلة التأكيد لقوله { فإن خير الزاد التقوى } ولم يزد إلا قوله { يا أولى الألباب } المشير إلى أن التوقى مما يرغب فيه أهل العقول .

والألباب : جمع لب وهو العقل ، واللب من كل شيء : الخالص منه ، وفعله لَبُب يلُب بضم اللام قالوا وليس في كلام العرب فَعُل يفعُل بضم العين في الماضي والمضارع من المضاعف إلا عذا الفعل حكاه سيبويه عن يونس وقال ثعلب ما أعرف له نظيراً .

فقوله { فإن خير الزاد التقوى } بمنزلة التذييل أي التقوء أفضل من التزود للسفر فكونوا عليها أحرص ، وموقع قوله : { واتقون يا أولي الألباب } على احتمال أن يُرَاد بالتزود معناه الحقيقي مع المجازي إفادةُ الأمر بالتقوى التي هي زاد الآخرة بمناسبة الأمر بالتزود لحصول التقوَى الدنيوية بصَوْن العرض .

والتقوى مصدر اتقى إذا حذر شيئاً ، وأصلها تقيي قلبوا ياءها واواً للفرق بين الاسم والصفة ، فالصفة بالياء كامرأةٍ تَقْيَى كخَزْبى وصَدْيَى ، وقد أطلقت شرعاً على الحذر من عقاب الله تعالى باتباع أوامره واجتناب نواهيه وقد تقدمت عند قوله تعالى : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] .


[179]:- كانوا يقولون : كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا؟ وكانوا يقدمون مكة بثيابهم التي قطعوا بها سفرهم بين اليمن ومكة فيطوفون فيها، وكان بقية العرب يسمونهم الطلس، لأنهم يأتون طلسا من الغبار.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (197)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{الحج أشهر معلومات}: من أحرم بالحج، فليحرم في شوال، أو في ذي القعدة، أو في عشر ذي الحجة، فمن أحرم في سوى هذه الأشهر، فقد أخطأ السنة، وليجعلها عمرة.

{فمن فرض}: فمن أحرم {فيهن الحج}: أي للحج.

{فلا رفث}: فلا جماع.

{ولا فسوق}: ولا سباب. {ولا جدال في الحج}: ولا مراء، يعني ما يماري حتى يغضب وهو محرم، أو يغضب صاحبه وهو محرم، فمن فعل ذلك فليطعم مسكينا...

{وما تفعلوا من خير}: ما نهى من ترك الرفث والفسوق والجدال. {يعلمه الله}: فيجزيكم به.

{وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}: وذلك أن ناسا من أهل اليمن وغيرهم كانوا يحجون بغير زاد، وكانوا يصيبون من أهل الطريق ظلما، فأنزل الله عز وجل:

{وتزودوا}: من الطعام ما تكفون به وجوهكم عن الناس وطلبهم. {فإن خير الزاد التقوى}: التقوى خير زاد من غيره، ولا تظلموا من تمرون عليه،

{واتقون}: ولا تعصون. {يا أولي الألباب}: يعني يا أهل اللب والعقل.

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

قوله تعالى: {ولا فسوق} [البقرة: 197]. 113- يحيى: قال مالك: والفسوق: الذبح للأصنام، والله أعلم. قال الله تبارك وتعالى: {أو فسقا أهل لغير الله به}...

يحيى: قال مالك: والجدال في الحج أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة بقزح. وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة. فكانوا يتجادلون. يقول هؤلاء نحن أصوب، ويقول هؤلاء نحن أصوب. فقال الله تعالى: {لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم}، فهذا الجدال فيما نرى والله أعلم. وقد سمعت ذلك من أهل العلم...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في قوله:"الحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ"؛ فقال بعضهم: يعني بالأشهر المعلومات: شوّالاً، وذا القعدة، وعشرا من ذي الحجة.

وقال آخرون: بل يعني بذلك شوّالاً، وذا القعدة، وذا الحجة كله... وقت الحجّ ثلاثة أشهر كوامل، أنهنّ من غير شهور العمرة، وأنهنّ شهور لعمل الحجّ دون عمل العمرة، وإن كان عمل الحجّ إنما يعمل في بعضهنّ لا في جميعهن.

وأما الذين قالوا: تأويل ذلك: شوّال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة، فإنهم قالوا: إنما قصد الله جل ثناؤه بقوله: الحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ إلى تعريف خلقه ميقات حجهم، لا الخبر عن وقت العمرة.

قالوا: فأما العمرة، فإن السنة كلها وقت لها، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر في بعض شهور الحجّ، ثم لم يصحّ عنه بخلاف ذلك خبر.

قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، وكان عمل الحجّ ينقضي وقته بانقضاء العاشر من أيام ذي الحجة، علم أن معنى قوله: "الحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ "إنما هو ميقات الحجّ شهران وبعض الثالث.

والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: إن معنى ذلك الحج شهران وعشر من الثالث لأن ذلك من الله خبر عن ميقات الحجّ ولا عمل للحج يعمل بعد انقضاء أيام منى، فمعلوم أنه لم يعن بذلك جميع الشهر الثالث، وإذا لم يكن معنيا به جميعه صحّ قول من قال: وعشر ذي الحجة.

فإن قال قائل: فكيف قيل: الحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ وهو شهران وبعض الثالث؟ قيل إن العرب لا تمتنع خاصة في الأوقات من استعمال مثل ذلك، فتقول له اليوم يومان منذ لم أره. وإنما تعني بذلك يوما وبعض آخر، وكما قال جل ثناؤه: "فَمَنْ تَعَجّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ" وإنما يتعجل في يوم ونصف. وقد يفعل الفاعل منهم الفعل في الساعة، ثم يخرجه عاما على السنة والشهر، فيقول: زرته العام وأتيته اليوم، وهو لا يريد بذلك أن فعله أخذ من أول الوقت الذي ذكره إلى آخره، ولكنه يعني أنه فعله إذ ذاك وفي ذلك الحين، فكذلك الحجّ أشهر، والمراد منه الحجّ شهران وبعض آخر.

فمعنى الآية إذا: ميقات حجكم أيها الناس شهران وبعض الثالث، وهو شوّال وذو القعدة وعشر ذي الحجة.

"فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ": فمن أوجب الحجّ على نفسه وألزمها إياه فيهن، يعني في الأشهر المعلومات التي بينها. وإيجابه إياه على نفسه العزم على عمل جميع ما أوجب الله على الحاجّ عمله وترك جميع ما أمره الله بتركه.

وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي يكون به الرجل فارضا الحجّ بعد إجماع جميعهم، على أن معنى الفرض: الإيجاب والإلزام؛ فقال بعضهم: فرض الحجّ: الإهلال... التلبية... إذا اغتسلت ولبست ثوبك ولبيت، فقد فرضت الحج.

وقال آخرون: فرض الحج إحرامه... وهذا القول الثاني يحتمل أن يكون بمعنى ما قلنا من أن يكون الإحرام كان عند قائله الإيجاب بالعزم. ويحتمل أن يكون كان عنده بالعزم والتلبية، كما قال القائلون القول الأول.

وإنما قلنا: إن فرض الحجّ الإحرام لإجماع الجميع على ذلك. وقلنا: إن الإحرام هو إيجاب الرجل ما يلزم المحرم أن يوجبه على نفسه، على ما وصفنا آنفا، لأنه لا يخلو القول في ذلك من أحد أمور ثلاثة:

- إما أن يكون الرجل غير محرم إلا بالتلبية وفعل جميع ما يجب على الموجب الإحرام على نفسه فعله، فإن يكن ذلك كذلك، فقد يجب أن لا يكون محرما إلا بالتجرّد للإحرام، وأن يكون من لم يكن له متجرّدا فغير محرم. وفي إجماع الجميع على أنه قد يكون محرما وإن لم يكن متجرّدا من ثيابه بإيجابه الإحرام ما يدل على أنه قد يكون محرما وإن لم يلبّ، إذ كانت التلبية بعض مشاعر الإحرام، كما التجرّد له بعض مشاعره. وفي إجماعهم على أنه قد يكون محرما بترك بعض مشاعر حجه ما يدلّ على أن حكم غيره من مشاعره حكمه.

- أو يكون إذ فسد هذا القول قد يكون محرما وإن لم يلبّ ولم يتجرّد ولم يعزم العزم الذي وصفنا. وفي إجماع الجميع على أنه لا يكون محرما من لم يعزم على الإحرام ويوجبه على نفسه إذا كان من أهل التكليف، ما ينبئ عن فساد هذا القول، وإذ فسد هذان الوجهان فبينة صحة الوجه الثالث، وهو:

- أن الرجل قد يكون محرما بإيجابه الإحرام بعزمه على سبيل ما بينا، وإن لم يظهر ذلك بالتجرّد والتلبية وصنيع بعض ما عليه عمله من مناسكه. وإذا صحّ ذلك صحّ ما قلنا من أن فرض الحجّ هو ما قُرن إيجابه بالعزم على نحو ما بينا قبل.

"فَلا رَفَثَ":

اختلف أهل التأويل في معنى الرفث في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: هو الإفحاش للمرأة في الكلام، وذلك بأن يقول: إذا حللنا فعلت بك كذا وكذا لا يكني عنه، وما أشبه ذلك. [عن] ابن عباس قول الله: "فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ": قال: هو التعريض بذكر الجماع، وهي العِرابة من كلام العرب، وهو أدنى الرفث.

[وعن] عبد الله بن عمر كان يقول: الرفث: إتيان النساء والتكلم بذلك للرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم... وقال عطاء: الرفث ما دون الجماع... الرفث: الجماع وما دونه من قول الفحش... لا يكون رفث إلا ما واجهت به النساء.

[عن] ابن عباس قول الله تعالى: "فَلا رَفَثَ" قال: الرفث الذي ذكر ههنا ليس بالرفث الذي ذكر في: "أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيام الرّفَثُ إلى نِسائِكُمْ" ومن الرفث: التعريض بذكر الجماع، وهي الإعراب بكلام العرب.

وقال آخرون: الرفث في هذا الموضع: الجماع نفسه.

والصواب من القول في ذلك عندي أن الله جل ثناؤه نهى مَنْ فرض الحجّ في أشهر الحجّ عن الرفث، فقال: "فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ فَلا رَفَثَ"؛ والرفث في كلام العرب: أصله الإفحاش في المنطق على ما قد بينا فيما مضى، ثم تستعمله في الكناية عن الجماع. فإذ كان ذلك كذلك، وكان أهل العلم مختلفين في تأويله، وفي هذا النهي من الله عن بعض معاني الرفث أم عن جميع معانيه، وجب أن يكون على جميع معانيه، إذ لم يأت خبر بخصوص الرفث الذي هو بالمنطق عند النساء من سائر معاني الرفث يجب التسليم له، إذ كان غير جائز نقل حكم ظاهر آية إلى تأويل باطن إلا بحجة ثابتة.

فإن قال قائل: إن حكمها من عموم ظاهرها إلى الباطن من تأويلها منقول بإجماع، وذلك أن الجميع لا خلاف بينهم في أن الرفث عند غير النساء غير محظور على محرم، فكان معلوما بذلك أن الآية معنيّ بها بعض الرفث دون بعض. وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن لا يحرّم من معاني الرفث على المحرم شيء إلا ما أجمع على تحريمه عليه، أو قامت بتحريمه حجة يجب التسليم لها. قيل: إن ما خصّ من الآية فأبيح خارج من التحريم، والحظر ثابت لجميع ما لم تخصصه الحجة من معنى الرفث بالآية، كالذي كان عليه حكمه لو لم يخصّ منه شيء، لأن ما خصّ من ذلك وأخرج من عمومه إنما لزمنا إخراج حكمه من الحظر بأمر من لا يجوز خلاف أمره، فكان حكم ما شمله معنى الآية بعد الذي خصّ منها على الحكم الذي كان يلزم العباد فرضه بها لو لم يخصص منها شيء، لأن العلة فيما لم يخصص منها بعد الذي خصّ منها نظير العلة فيه قبل أن يخصّ منها شيء.

{وَلا فُسُوقَ}: اختلف أهل التأويل في معنى الفسوق التي نهى الله عنها في هذا الموضع؛

فقال بعضهم: هي المعاصي كلها. وقال آخرون: بل الفسوق في هذا الموضع ما عصي الله به في الإحرام مما نهى عنه فيه من قتل صيد وأخذ شعر وقلم ظفر، وما أشبه ذلك مما خصّ الله به الإحرام وأمر بالتجنب منه في خلال الإحرام. وقال آخرون: بل الفسوق في هذا الموضع: السباب. وقال آخرون: الفسوق: الذبح للأصنام. وقال آخرون: الفسوق: التنابز بالألقاب. وأولى الأقوال التي ذكرنا بتأويل الآية في ذلك، قول من قال: معنى قوله: "وَلا فُسُوقَ": النهي عن معصية الله في إصابة الصيد وفعل ما نهى الله المحرم عن فعله في حال إحرامه وذلك أن الله جل ثناؤه قال: "فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنّ الحَجّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ" يعني بذلك فلا يرفث، ولا يفسق: أي لا يفعل ما نهاه الله عن فعله في حال إحرامه، ولا يخرج عن طاعة الله في إحرامه. وقد علمنا أن الله جل ثناؤه قد حرّم معاصيَه على كل أحد، محرما كان أو غير محرم، وكذلك حرّم التنابز بالألقاب في حال الإحرام وغيرها بقوله: "وَلا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بالألْقاب" وحرم على المسلم سباب أخيه في كل حال فرض الحجّ أو لم يفرضه. فإذ كان ذلك كذلك، فلا شك أن الذي نهى الله عنه العبد من الفسوق في حال إحرامه وفرضه الحجّ هو ما لم يكن فسوقا في حال إحلاله وقبل إحرامه بحجه كما أن الرفث الذي نهاه عنه في حال فرضه الحجّ، هو الذي كان له مطلقا قبل إحرامه لأنه لا معنى لأن يقال فيما قد حرّم الله على خلقه في كل الأحوال: لا يفعلنّ أحدكم في حال الإحرام ما هو حرام عليه فعله في كل حال، لأن خصوص حال الإحرام به لا وجه له وقد عمّ به جميع الأحوال من الإحلال والإحرام.

فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذي نهى عنه المحرم من الفسوق فخصّ به حال إحرامه، وقيل له: «إذا فرضت الحجّ فلا تفعله»، هو الذي كان له مطلقا قبل حال فرضه الحجّ، وذلك هو ما وصفنا وذكرنا أن الله جل ثناؤه خصّ بالنهي عنه المحرم في حال إحرامه مما نهاه عنه من الطيب واللباس والحلق وقصّ الأظفار وقتل الصيد، وسائر ما خصّ الله بالنهي عنه المحرم في حال إحرامه.

فتأويل الآية إذًا: فمن فرض الحجّ في أشهر الحجّ فأحرم فيهنّ. فلا يرفث عند النساء فيصرّح لهنّ بجماعهن، ولا يجامعهن، ولا يفسق بإتيان ما نهاه الله في حال إحرامه بحجه، من قتل صيد، وأخذ شعر، وقلم ظفر، وغير ذلك مما حرّم الله عليه فعله وهو محرم.

{وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ}:

اختلف أهل التأويل في ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: النهي عن أن يجادل المحرم أحدا.

ثم اختلف قائلو هذا القول، فقال بعضهم: نهى عن أن يجادل صاحبه حتى يغضبه... عن عبد الله: "وَلا جِدالَ فِي الحَجّ" قال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه.

وقال آخرون منهم: الجدال في هذا الموضع معناه: السباب والمراء والخصومات والمنازعة.

وقال آخرون منهم: بل عنى بذلك خاصا من الجدال والمراء، وإنما عنى الاختلاف فيمن هو أتمّ حجّا من الحجّاج. وقال آخرون منهم: بل ذلك اختلاف كان يكون بينهم في اليوم الذي فيه الحجّ، فنهوا عن ذلك...يقول بعضهم: الحجّ اليوم، ويقول بعضهم: الحج غدا.

وقال آخرون: بل اختلافهم ذلك في أمر مواقف الحجّ أيهم المصيب موقف إبراهيم. وقال آخرون: بل قوله جل ثناؤه: "وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ" خبر من الله تعالى عن استقامة وقت الحجّ على ميقات واحد لا يتقدمه ولا يتأخره، وبطول فعل النسيء. وأولى هذه الأقوال في قوله "وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ" بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: قد بطل الجدال في الحجّ ووقته، واستقام أمره ووقته على وقت واحد، ومناسك متفقة غير مختلفة، ولا تنازع فيه ولا مراء وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أن وقت الحجّ أشهر معلومات، ثم نفى عن وقته الاختلاف الذي كانت الجاهلية في شركها تختلف فيه.

وإنما اخترنا هذا التأويل في ذلك ورأيناه أولى بالصواب مما خالفه لما قد قدمنا من البيان آنفا في تأويل قوله: "وَلا فُسُوقَ" أنه غير جائز أن يكون الله خصّ بالنهي عنه في تلك الحال إلا ما هو مطلق مباح في الحال التي يخالفها، وهي حال الإحلال وذلك أن حكم ما خصّ به من ذلك حكم حال الإحرام إن كان سواء فيه حال الإحرام وحال الإحلال، فلا وجه لخصوصه به حالاً دون حال، وقد عمّ به جميع الأحوال. وإذ كان ذلك كذلك، وكان لا معنى لقول القائل في تأويل قوله: وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ أن تأويله: لا تمار صاحبك حتى تغضبه، إلا أحد معنيين: إما أن يكون أراد لا تماره بباطل حتى تغضبه. فذلك ما لا وجه له، لأن الله عز وجل قد نهي عن المراء بالباطل في كل حال محرما كان المماري أو محلاّ، فلا وجه لخصوص حال الإحرام بالنهي عنه لاستواء حال الإحرام والإحلال في نهى الله عنه. أو يكون أراد: لا تماره بالحق، وذلك أيضا ما لا وجه له لأن المحرم لو رأى رجلاً يروم فاحشة كان الواجب عليه مراءه في دفعه عنها، أو رآه يحاول ظلمه والذهاب منه بحقّ له قد غصبه عليه كان عليه مراؤه فيه وجداله حتى يتخلصه منه.

والجدال والمراء لا يكون بين الناس إلا من أحد وجهين: إما من قبل ظلم، وإما من قبل حق، فإذا كان من أحد وجهيه غير جائز فعله بحال، ومن الوجه الاَخر غير جائز تركه بحال، فأيّ وجوهه التي خصّ بالنهي عنه حال الإحرام؟ وكذلك لا وجه لقول من تأوّل ذلك أنه بمعنى السباب، لأن الله تعالى ذكره قد نهى المؤمنين بعضهم عن سباب بعض على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام في كل حال، فقال صلى الله عليه وسلم: «سباب المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتالُهُ كُفْرٌ» فإذا كان المسلم عن سبّ المسلم منهيا في كل حال من أحواله، محرما كان أو غير محرم، فلا وجه لأن يقال: لا تسبه في حال الإحرام إذا أحرمت.

وفيما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخبر الذي:

حدثنا به محمد بن المثنى، قال: ثني وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «منْ حَجّ هَذَا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلْم يَفْسُقْ خَرَجَ مِثْلَ يَوْمَ وَلَدتَهْ أُمّهُ».

حدثني عليّ بن سهل، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا شعبة، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَجّ هَذَا البَيْتَ فَلمْ يَرْفُثْ وَلمْ يُفْسُقْ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمّهُ»،

دلالة واضحة على أن قوله: "وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ" بمعنى النفي عن الحجّ بأن يكون في وقته جدال ومراء دون النهي عن جدال الناس بينهم فيما يعنيهم من الأمور أو لا يعنيهم. وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه من حجّ فلم يرفث ولم يفسق استحقّ من الله الكرامة ما وصف أنه استحقه بحجه تاركا للرفث والفسوق اللذين نهى الله الحاجّ عنهما في حجه من غير أن يضمّ إليهما الجدال.

فلو كان الجدال الذي ذكره الله في قوله: "وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ" مما نهاه الله عنه بهذه الآية، على نحو الذي تأوّل ذلك من تأوله من أنه المراء والخصومات أو السباب وما أشبه ذلك، لما كان صلى الله عليه وسلم ليخصّ باستحقاق الكرامة التي ذكر أنه يستحقها الحاج الذي وصف أمره باجتناب خلتين مما نهاه الله عنه في حجه دون الثالثة التي هي مقرونة بهما.

ولكن لما كان معنى الثالثة مخالفا معنى صاحبتيها في أنها خبر على المعنى الذي وصفنا، وأن الأخريين بمعنى النهي الذي أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن مجتنبهما في حجه مستوجب ما وصف من إكرام الله إياه مما أخبر أنه مكرمه به إذا كانتا بمعنى النهي، وكان المنتهي عنهما لله مطيعا بانتهائه عنهما، ترك ذكر الثالثة إذ لم تكن في معناهما، وكانت مخالفة سبيلها سبيلهما.

فإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بالقراءة من القراءات المخالفة بين إعراب الجدال وإعراب الرفث والفسوق، ليعلم سامع ذلك إذا كان من أهل الفهم باللغات أن الذي من أجله خولف بين إعرابيهما اختلاف معنييهما، وإن كان صوابا قراءة جميع ذلك باتفاق إعرابه على اختلاف معانيه، إذ كانت العرب قد تُتبع بعض الكلام بعضا بإعراب مع اختلاف المعاني، وخاصة في هذا النوع من الكلام.

فأعجب القراءات إليّ في ذلك إذ كان الأمر على ما وصفت، قراءة من قرأ «فَلا رَفَثٌ وَلا فُسُوقٌ وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ» برفع الرفث والفسوق وتنوينهما، وفتح الجدال بغير تنوين. وذلك هو قراءة جماعة البصريين وكثير من أهل مكة، منهم عبد الله بن كثير وأبو عمرو بن العلاء.

وأما قول من قال: معناه النهي عن اختلاف المختلفين في أتمهم حجا، والقائلين معناه: النهي عن قول القائل: غدا الحجّ، مخالفا به قول الاَخر: اليوم الحجّ، فقولٌ في حكايته الكفاية عن الاستشهاد على وهائه وضعفه، وذلك أنه قول لا تدرك صحته إلا بخبر مستفيض وخبر صادق يوجب العلم أن ذلك كان كذلك، فنزلت الآية بالنهي عنه. أو أن معنى ذلك في بعض معاني الجدال دون بعض، ولا خبر بذلك بالصفة التي وصفنا.

وأما دلالتنا على قول ما قلنا من أنه نفيٌ من الله جل وعز عن شهور الحج، فالاختلاف الذي كانت الجاهلية تختلف فيها بينها قبل كما وصفنا.

وأما دلالتنا على أن الجاهلية كانت تفعل ذلك فالخبر المستفيض في أهل الأخبار أن الجاهلية كانت تفعل ذلك مع دلالة قول الله تقدس اسمه: إنّمَا النّسيءُ زِيادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا يُحِلّونَهُ عاما ويُحَرّمُونَهُ عاما.

{وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ}: افعلوا أيها المؤمنون ما أمرتكم به في حجكم من إتمام مناسككم فيه، وأداء فرضكم الواجب عليكم في إحرامكم، وتجنب ما أمرتكم بتجنبه من الرفث والفسوق في حجكم لتستوجبوا به الثواب الجزيل، فإنكم مهما تفعلوا من ذلك وغيره من خير وعمل صالح ابتغاء مرضاتي وطلب ثوابي، فأنا به عالم ولجميعه محص حتى أوفيكم أجره وأجازيكم عليه، فإني لا تخفى عليّ خافية ولا ينكتم عني ما أردتم بأعمالكم، لأني مطلع على سرائركم وعالم بضمائر نفوسكم.

{وَتَزوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى}

ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يحجون بغير زاد، وكان بعضهم إذا أحرم رمى بما معه من الزاد واستأنف غيره من الأزودة، فأمر الله جل ثناؤه من لم يكن يتزوّد منهم بالتزوّد لسفره، ومن كان منهم ذا زاد أن يتحفظ بزاده فلا يرمي به... عن ابن عباس، قال: كانوا يحجون ولا يتزوّدون، فنزلت: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى.

عن إبراهيم، قال: كان ناس من الأعراب يحجون بغير زاد ويقولون: نتوكل على الله، فأنزل الله جل ثناؤه: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى.

عن مجاهد قال: كان أهل الاَفاق يخرجون إلى الحجّ يتوصلون بالناس بغير زاد، يقولون: نحن متكلون فأنزل الله: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى.

عن ابن عباس قوله: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال: كان ناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة يقولون: نحجّ بيت الله ولا يطعمنا؟ فقال الله: تزوّدوا ما يكفّ وجوهكم عن الناس.

عن سعيد بن جبير: "وَتَزَوّدُوا" قال: السويق والدقيق والكعك.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير: "وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى" قال: الخُشْكنانج والسويق.

[عن] الشعبي "وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى" قال: هو الطعام، وكان يومئذٍ الطعام قليلاً. قال: قلت: وما الطعام؟ قال: التمر والسويق.

عن الضحاك قوله: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى وخير زاد الدنيا المنفعة من اللباس والطعام والشراب.

عكرمة يقول في قوله: "وَتَزَودُوا" قال: هو السويق والدقيق.

فتأويل الآية إذا: فمن فرض في أشهر الحجّ الحجّ فأحرم فيهنّ فلا يرفثن ولا يفسقن، فإن أمر الحجّ قد استقام لكم، وعرفّكم ربكم ميقاته وحدوده. فاتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من أمر حجكم ومناسككم، فإنكم مهما تفعلوا من خير أمركم به أو ندبكم إليه يعلمه. وتزوّدوا من أقواتكم ما فيه بلاغكم إلى أداء فرض ربكم عليكم في حجكم ومناسككم، فإنه لا برّ لله جل ثناؤه في ترككم التزوّد لأنفسكم ومسألتكم الناس ولا في تضييع أقواتكم وإفسادها، ولكن البرّ في تقوى ربكم باجتناب ما نهاكم عنه في سفركم لحجكم وفعل ما أمركم به، فإنه خير التزوّد، فمنه تزوّدوا.

عن الضحاك في قوله: "وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى" قال: والتقوى عمل بطاعة الله.

{وَاتّقُون يا أُولي الألْباب}: واتقون يا أَهل العقول والأفهام بأداء فرائضي عليكم التي أوجبتها عليكم في حجكم ومناسككم وغير ذلك من ديني الذي شرعته لكم، وخافوا عقابي باجتناب محارمي التي حرمتها عليكم تنجوا بذلك مما تخافون من غضبي عليكم وعقابي، وتدركوا ما تطلبون من الفوز بجناتي. وخصّ جل ذكره بالخطاب بذلك أولي الألباب، لأنهم أهل التمييز بين الحق والباطل، وأهل الفكر الصحيح والمعرفة بحقائق الأشياء التي بالعقول تدرك وبالألباب تفهم، ولم يجعل لغيرهم من أهل الجهل في الخطاب بذلك حظا، إذ كانوا أشباحا كالأنعام، وصورا كالبهائم، بل هم منها أضلّ سبيلاً. والألباب: جمع لبّ، وهو العقل.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{الحج أشهر معلومات}؛ يتوجه وجهين: أحدهما: أن لفعل الحج (أشهر معلومات) دليله قوله [تعالى]: (فمن فرض فيهن الحج) سماه حجا بأبعد مسبب الإلزام، فثبت أن ما بعد الإحرام حج. والوجه الثاني: أن للحج (أشهر معلومات) لا يدل فيها غيره، ثم أدخل فيها العمرة رخصة. دليله قوله [عليه السلام]:"دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وشبك بين أصابعه" [مسلم: 1241]؛ فيكون معناه: إن للحج أشهرا، أي لفعله (أشهر معلومات)، والله أعلم...

وقوله: (ولا جدال في الحج)؛ قيل: [الجدال]: المراء؛ وذلك أن العرب كانت تؤخر الأشهر الحرم، وتعجل؛ وفي ذلك نزل قوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) [التوبة: 37]، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إن السنة قد استدارت كهيئتها يوم خلق السماوات والأرض، فعلى ذلك استدار وقت الحج إلى حيث جعل؛ لا يتقدم أبدا، ولا يتأخر، فلا تماروا فيه "[بنحوه البخاري: 4662]. وأشبه الأمور، والله أعلم، بتأويل الآية أن الله عز وجل أمر بحفظ اللسان والفرج في الإحرام عن كل ما يذكر من فسوق ومعصية ومجادلة ومخاصمة، وعن الرفث بالفعل والقول؛ لأنه يروى أن الفضل بن العباس كان روق النبي صلى الله عليه وسلم وكان الفتى يلاحظ النساء، فينظر إليهن، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجهه بيده من خلقه، فقال النبي "إن هذا يوم: من ملك سمعه وبصره ولسانه غفر له" [الطبراني في الكبير: 12974] وكما قال. وروي عنه أنه قال: "من حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه" [البخاري: 1521]...

وقوله: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله} ويجزه، ترغيب منه في كل خير. وقوله: {وتزودوا} قيل: تزودوا للحج والعمرة ما تكفون به وجوهكم عن المسألة، ولا تخرجوا بلا زاد لتكنوا عيالا على الناس.

ويحتمل أن يكون الأمر بالتزود للمعاد؛ يدل عليه قوله: {فإن خير الزاد التقوى}؛ يقول: إن تقوى الله خير من زاد الدنيا...

وقوله: {واتقون يا أولي الألباب}؛ يحتمل {واتقون} المعاصي والمناهي وكل فسق، ويحتمل على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: تزودوا يا أولي الألباب، واتقوني في المسألة من الناس...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{معلومات} معروفات عند الناس لا يشكلن عليهم. وفيه أن الشرع لم يأت على خلاف ما عرفوه، وإنما جاء مقرّراً له...

{وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله}: حث على الخير عقيب النهي عن الشر؛ وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن، ومكان الفسوق البرّ والتقوى؛ ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة. أو جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم حتى لا يوجد منهم ما نهوا عنه، وينصره قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} أي اجعلوا زادكم إلى الآخرة اتقاء القبائح فإن خير الزاد اتقاؤها...

{واتقون}: وخافوا عقابي {ياأولي الألباب} يعني أن قضية اللب تقوى الله، ومن لم يتقه من الألباء فكأنه لا لب له...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

وأما الجدال فهو فعال من المجادلة، وأصله من الجدل الذي من الفتل، يقال: زمام مجدول وجديل، أي مفتول، والجديل اسم الزمام لأنه لا يكون إلا مفتولا، وسميت المخاصمة مجادلة لأن كل واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه، وذكر المفسرون وجوها في هذا الجدال.

فالأول: قال الحسن: هو الجدال الذي يخاف منه الخروج إلى السباب والتكذيب والتجهيل...

.

السابع: أنهم كانوا مختلفين في السنين فقيل لهم: لا جدال في الحج فإن الزمان استدار وعاد إلى ما كان عليه الحج في وقت إبراهيم عليه السلام، وهو المراد بقوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع:"ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" فهذا مجموع ما قاله المفسرون في هذا الباب.

وذكر القاضي كلاما حسنا في هذا الموضع فقال: قوله تعالى: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} يحتمل أن يكون خبرا وأن يكون نهيا كقوله: {لا ريب فيه} أي لا ترتابوا فيه، وظاهر اللفظ للخبر فإذا حملناه على الخبر كان معناه أن الحج لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال بل يفسد لأنه كالضد لها وهي مانعة من صحته، وعلى هذا الوجه لا يستقيم المعنى، إلا أن يراد بالرفث الجماع المفسد للحج، ويحمل الفسوق على الزنا لأنه يفسد الحج، ويحمل الجدال على الشك في الحج ووجوبه لأن ذلك يكون كفرا فلا يصح معه الحج وإنما حملنا هذه الألفاظ الثلاثة على هذه المعاني حتى يصح خبر الله بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج، فإن قيل: أليس أن مع هذه الأشياء يصير الحج فاسدا ويجب على صاحبه المضي فيه، وإذا كان الحج باقيا معها لم يصدق الخبر بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج، قلنا: المراد من الآية حصول المضادة بين هذه الأشياء وبين الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء وتلك الحجة الصحيحة لا تبقى مع هذه الأشياء بدليل أنه يجب قضاؤها، والحجة الفاسدة التي يجب عليه المضي فيها شيء آخر سوى تلك الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء، وأما الجدال الحاصل بسبب الشك في وجوب الحج فظاهر أنه لا يبقى معه عمل الحج لأن ذلك كفر وعمل الحج مشروط بالإسلام فثبت أنا إذا حملنا اللفظ على الخبر وجب حمل الرفث والفسوق والجدال على ما ذكرناه، أما إذا حملناه على النهي وهو في الحقيقة عدول عن ظاهر اللفظ فقد يصح أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته وقول الفحش، وأن يراد بالفسوق جميع أنواعه، وبالجدال جميع أنواعه، لأن اللفظ مطلق ومتناول لكل هذه الأقسام فيكون النهي عنها نهيا عن جميع أقسامها، وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية كالحث على الأخلاق الجميلة، والتمسك بالآداب الحسنة، والاحتراز عما يحبط ثواب الطاعات...

المسألة الثالثة: الحكمة في أن الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة لا أزيد ولا أنقص، وهو قوله: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} هي أنه قد ثبت في العلوم العقلية أن الإنسان فيه قوى أربعة: قوة شهوانية بهيمية، وقوة غضبية سبعية، وقوة وهمية شيطانية، وقوة عقلية ملكية، والمقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاثة، أعني الشهوانية، والغضبية، والوهمية، فقوله {فلا رفث} إشارة إلى قهر القوة الشهوانية، وقوله: {ولا فسوق} إشارة إلى قهر القوة الغضبية التي توجب التمرد والغضب، وقوله: {ولا جدال} إشارة إلى القوة الوهمية التي تحمل الإنسان على الجدال في ذات الله، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، وأسمائه، وهي الباعثة للإنسان على منازعة الناس ومماراتهم، والمخاصمة معهم في كل شيء، فلما كان منشأ الشر محصورا في هذه الأمور الثلاثة لا جرم قال: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} أي فمن قصد معرفة الله ومحبته والاطلاع على نور جلاله، والانخراط في سلك الخواص من عباده، فلا يكون فيه هذه الأمور، وهذه أسرار نفسية هي المقصد الأقصى من هذه الآيات، فلا ينبغي أن يكون العاقل غافلا عنها، ومن الله التوفيق في كل الأمور...

{وما تفعلوا من خير يعلمه الله} وقد كان الأولى في الظاهر أن يقال: وما تفعلوا من شيء يعلمه الله، حتى يتناول كل ما تقدم من الخير والشر، إلا أنه تعالى خص الخير بأنه يعلمه الله لفوائد ولطائف:

أحدها: إذا علمتُ منك الخير ذكرتُه وشهرته، وإذا علمتُ منك الشر سترتُه وأخفيته لتعلم أنه إذا كانت رحمتي بك في الدنيا هكذا، فكيف في العقبى...

وثالثها أن السلطان العظيم إذا قال لعبده المطيع: كل ما تتحمله من أنواع المشقة والخدمة في حقي فأنا عالم به ومطلع عليه، كان هذا وعدا له بالثواب العظيم، ولو قال ذلك لعبده المذنب المتمرد كان توعدا بالعقاب الشديد، ولما كان الحق سبحانه أكرم الأكرمين لا جرم ذكر ما يدل على الوعد بالثواب، ولم يذكر ما يدل على الوعيد بالعقاب.

ورابعها: أن جبريل عليه السلام لما قال: ما الإحسان؟ فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» فههنا بين للعبد أنه يراه ويعلم جميع ما يفعله من الخيرات لتكون طاعة العبد للرب من الإحسان الذي هو أعلى درجات العبادة، فإن الخادم متى علم أن مخدومه مطلع عليه ليس بغافل عن أحواله كان أحرص على العمل وأكثر التذاذا به وأقل نفرة عنه

وخامسها: أن الخادم إذا علم اطلاع المخدوم على جميع أحواله وما يفعله كان جده واجتهاده في أداء الطاعات وفي الاحتراز عن المحظورات أشد مما إذا لم يكن كذلك، فلهذه الوجوه أتبع تعالى الأمر بالحج والنهي عن الرفث والفسوق والجدال بقوله: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله}...

أما قوله تعالى: {يا أولي الألباب} فاعلم أن لباب الشيء ولبه هو الخالص منه، ثم اختلفوا بعد ذلك،

فقال بعضهم: إنه اسم للعقل لأنه أشرف ما في الإنسان، والذي تميز به الإنسان عن البهائم وقرب من درجة الملائكة، واستعد به للتمييز بين خير الخيرين، وشر الشرين،

وقال آخرون: أنه في الأصل اسم للقلب الذي هو محل العقل، والقلب قد يجعل كناية عن العقل قال تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} فكذا ههنا جعل اللب كناية عن العقل، فقوله: {يا أولي الألباب} معناه: يا أولي العقول، وإطلاق اسم المحل على الحال مجاز مشهور، فإنه يقال لمن له غيرة وحمية: فلان له نفس، ولمن ليس له حمية: فلان لا نفس له فكذا ههنا.

فإن قيل: إذا كان لا يصح إلا خطاب العقلاء فما الفائدة في قوله: {يا أولي الألباب}. قلنا: معناه: إنكم لما كنتم من أولي الألباب كنتم متمكنين من معرفة هذه الأشياء والعمل بها فكان وجوبها عليكم أثبت وإعراضكم عنها أقبح... ولهذا قال تعالى: {أولئك كالأنعام بل هم أضل} يعني الأنعام معذورة بسبب العجز، أما هؤلاء القادرون فكان إعراضهم أفحش، فلا جرم كانوا أضل...

جهود القرافي في التفسير 684 هـ :

{وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}: قال ابن يونس: أكره للمحتاج الخروج للحج أو الغزو ويسأل الناس، لقوله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} نزلت في هؤلاء، أي: "خير الزاد ما وقاكم السؤال والسرقة"، وليس المراد التقوى المعهودة. (الذخيرة: 6/290)...

122- أي: الواقية لكم من الحاجة إلى السؤال والسرقة، فإنهم كانوا يسافرون إلى الجهاد والحج بغير زاد"، فربما بعضهم في إحدى المفسدتين المذكورتين؛ فأمرهم الله بالتزام العوائد، وحرم عليهم تركها، فإن المأمور به منهي عن ضده، بل أضداده. (الفروق: 4/273)...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فقال بعضهم: [تقديره] الحج حَجُّ أشهر معلومات، فعلى هذا التقدير يكون الإحرام بالحج فيها أكمل من الإحرام به فيما عداها، وإن كان ذاك صحيحا...

والذين قالوا: الفسوق هاهنا هو جميع المعاصي، معهم الصواب، كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم، وإن كان في جميع السنة منهيًا عنه، إلا أنه في الأشهر الحرم آكَدُ؛ ولهذا قال: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]، وقال في الحرم: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]. واختار ابن جرير أن الفسوق هاهنا: هو ارتكاب ما نُهي عنه في الإحرام، من قتل الصيد، وحَلْق الشعر، وقَلْم الأظفار، ونحو ذلك، كما تقدم عن ابن عمر. وما ذكرناه أولى، والله أعلم.

تفسير ابن عرفة 803 هـ :

{فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج...}... فإن قلت لم أعيد لفظ الحجّ مظهرا، وهلا قيل: فمن فرضه فيهن؟ فأجاب عن ذلك بأنه لو قيل كذلك لكان فيه عود الضمير على اللفظ لا على المعنى... لأن الحج الأول مطلق يصدق بصورة فيتناول حج زيد وعمرو بالتعيين الواقع منهما وحجمها القابل لأن يفعلاه.

وقول الله جل جلاله: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} مقيد بحج كل واحدٍ واحدٍ بعينه، والشخص المعين حجه مقيد لا مطلق، فلذلك أعيد لفظ الحج مظهرا فيتناول الفرض والتطوع... قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله...}. إن قلت: المتقدم نهي وامتثاله بالترك كما أنّ امتثال الأمر بالفعل، فهلا عقب بأن يقال: وما تتركوا من شيء يَعْلَمَهُ اللهُ؟ قيل لابن عرفة: نقول إن الترك فعل؟ فقال: البحث على أنّه غير فعل. قال: وإنّما الجواب بما قال ابن الحاجب من أنّ نقيض الجلي (جلي)، ونقيض الخفي خفي فالإخبار بأن الله تعالى يعلم الفعل يستلزم معرفته نقيض ذلك وهو الترك وإنّما عدل على التنصيص على ذلك بالمطابقة إلى دلالة الالتزام ليفيد الكلام أمرين، وهو الحض على عدم الاقتصار على ترك ذلك فقط فيتضمن طلب تركه وطلب تعويضه بفعل الخير المحصل للثواب فإنه تعالى عالم بمن يترك ذلك ويفعل الخير فنبه على الترك والفعل...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما ذكر سبحانه وتعالى أن الحج موقت بالأهلة ولم يعين له وقتاً من شهور السنة وختم ذلك بالتفرقة في بعض أحكام الحج بسبب الأماكن تشوفت النفس إلى تعيين وقته وأنه هل هو كالمكان أو عام الحكم فقال {الحج} أي وقته {أشهر} فذكره بصيغة من جموع القلة الذي أدناه ثلاث وهي ثلاث بجر المنكسر: شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة وليلة العيد بدليل أنه يفوت بطلوع الفجر يوم النحر؛

ولما أبهم عين فقال: {معلومات} أي قبل نزول الشرع فأذن هذا أن الأمر بعد الشرع على ما كان عليه ولا شك أن في الإبهام ثم التعيين إجلالاً وإعظاماً للمحدث عنه...

ولما كان في الإنسان قوى أربع: شهوانية بهيمية، وغضبية سَبُعية و وهمية شيطانية تبعث مع مساعدة القوتين الأخريين على المنازعة والمغالبة في كل شيء، وعقلية ملكية؛ وكان المقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاث لأن منشأ الشرور كلها محصور فيها بالعقلية قال دالاً عليها محذراً منها مرتبة: {فلا رفث} أي مواجهة للنساء بشيء من أمور النكاح.

ولما كان الرفث هو داعياً إلى الوقاع الذي هو فسق بالخروج عن الإحرام الصحيح قال ضاماً إليه كل ما دخل في هذا الاسم: {ولا فسوق} قال الحرالي: هو الخروج عن إحاطة العلم والعقل والطبع...

ولما كان المراء قد يجر إلى الفسق بما يثير من الإحن وتوغير الصدور فكان فسقاً خاصاً عظيماً ضرره قال: {ولا جدال} أي مدافعة بالقول بفتل عن القصد كمدافعة الجلاد باليد أو السيف ولعله عبر بهذا المصدر الذي شأنه أن يكون مزيداً دون الجدل الذي معناه الدرء في الخصومة لأن ينصب النفي على المبالغة فيفهم العفو عن أصله لأنه لا يكاد يسلم منه أحد، وكذا الحال في الفسوق {في الحج} فصار الفسق واسطة بين أمرين جارين إليه والجدال لكونه قد يفسد ذات البين أعظمها خطراً ويجمع ما في الرفث من الشهوة وقد يكون فسقاً فقد اشتمل على قبائح الكل؛ فلذلك أجمع القراء السبعة على بنائه مع لا على الفتح دون ما قبله لأن البناء دال على نفي الماهية ونفيها موجب لنفي جميع أفرادها، وأما الرفع فإنما يدل على نفي فرد منكر من تلك الماهية وهو لا يوجب نفي جميع الأفراد، ولأن العرب كانوا يبنون الحج على النسيء ويتخالفون فيه في الموقف، فزال الجدال فيه بعد البيان بكل اعتبار من جهة الخدم والعيال وغيرهم والنسيء والموقف وغيرهما من حيث إنه قد علمت مشاعره وتقررت شرائعه وأحكمت شعائره وأوضحت جميع معالمه فارتفع النزاع أصلاً في أمره...

ولما كانت هذه المنفيات شراً وكان التقدير: فما فعلتم من هذه المنهيات على هذا الوجه الأبلغ عوقبتم عليه عطف عليه: {وما}.

قال الحرالي: ولما حمي من سوء معاملة الخلق مع الخلق عرض بأن يوضع موضع ذلك الإحسان فيقع في محل إخراج الأنفس أن يتودد إليها بإسداء الخير وهو الإحسان من خير الدنيا، ففي إعلامه تحريض على إحسان الحج بعضهم لبعض لما يجمع وفده من الضعيف والمنقطع فقال: وما {تفعلوا}...

أي يوجد لكم فعله في وقت من الأوقات {من خير} في الحج أو غيره بتوكل في تجرد أو تزود في تزهد أو غير ذلك من القول الحسن عوض الرفث، والبر والتقوى مكان الفسق، والأخلاق الجميلة واليسر والوفاق مكان الجدال {يعلمه الله} الذي له جميع صفات الكمال فيجازيكم عليه فهو أشد ترغيب و ترهيب ولما عمم في الحث على الخير على وجه شامل للتزود وتركه بعد التخصيص أشار إلى أن الخير هو الزاد على وجه يعم الحسي والمعنوي زيادة في الحث عليه إذ لا أضر من إعواز الزاد لأكثر -العباد فقال: {وتزودوا} أي التقوى لمعادكم الحاملة على التزود الحسي لمعاشكم الحامل على الزهد فيما في أيدي الناس، والمواساة لمحتاجهم الواقية للعبد من عذاب الله "اتقوا النار ولو بشق تمرة "وذلك هو ثمرة التقوى؛ والزاد هو متعة المسافر.

ثم علل ذلك بما أنتجه بقوله {فإن خير}، ويجوز أن يكون التقدير: وتزودوا واتقوا الله في تزودكم {فإن خير الزاد التقوى} وفي التجرد مداخل خلل في بعض نيات الملتبسين بالمتوكلين من الاتكال على الخلق، فأمر الكل بالتزود ستراً للصنفين، إذ كل جمع لا بد فيه من كلا الطرفين- قاله الحرالي و قال: وفي ضمنه تصنيفهم ثلاثة أصناف: متكل لا زاد معه فمعه خير الزادين، ومتمتع لم يتحقق تقواه فلا زاد له في الحقيقة، وجامع بين التقوى والمتعة فذلك على كمال السنة؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: "[أعقلها] وتوكل" لأن ذلك أستر للطرفين؛

وحقيقة التقوى في أمر التزود النظر إلى الله تعالى في إقامة خلقه وأمره، قال بعض أهل المعرفة: من عوده الله سبحانه وتعالى دوام النظر إليه بالغيبة عما سواه فقد ملك الزاد فليذهب حيث شاء فقد استطاع سبيلاً...

ولما علم من ذلك أن التقدير: فأكثروا من الزاد مصحوباً بالتقوى وكان الإنسان محل النقصان فكان الإكثار حاملاً له في العادة على الطغيان إلاّ من عصم الله وقليل ما هم قال سبحانه وتعالى مؤكداً لأمر التقوى مشرفاً لها بالإضافة إلى نفسه الشريفة تنبيهاً على الإخلاص لأجل ذاته السنية لا بالنظر إلى شيء من رجاء أو خوف أو اتصاف بحج أو غيره عاطفاً على ما أرشد إلى تقديره السياق: {واتقون} أي في تقواكم بالتزود، وزاد الترغيب فيها بقوله: {يا أولي الألباب} أي العقول الصافية والأفهام النيرة الخالصة التي تجردت عن جميع العلائق الجسمانية فأبصرت جلالة التقوى فلزمتها...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}: قالوا إن هذا نزل في ردع أهل اليمن عن ترك التزود زعما أنه من مقتضى التوكل على الله...قال الأستاذ الإمام: وهو غير ظاهر من العبارة، بل المتبادر منها أن الزاد هو زاد الأعمال الصالحة وما تدخر من الخير والبر كما يرشد إليه التعليل في قوله: {فإن خير الزاد التقوى} والمعنى من التقوى معروف وهو ما به يتقى سخط الله، وليس ذلك إلا البر والتنزه عن المنكر، ولا يعلل بأن التقوى خير زاد إلا وهو يريد التزود منها...ولذلك أتمها بقوله {واتقون يا أولي الألباب} يعني ما كان له لب وعقل فليتقني فإنه يكون على نور من فائدة التقوى وأهلا للانتفاع بها [أقول] ويدخل في فعل الخير والطاعة الأخذ بالأسباب كالتزود، وتحامي وسائل الحاجة إلى السؤال المذموم والله أعلم...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

و عندي أن مرمى القول الكريم والنهي عن كل قول يجعل اللسان غير نزه، وكل قول يؤدي إلى النزاع، والجدال يؤدي إلى الخصام، لأنهم اجتمعوا على مائدة الرحمان الروحية ليتعارفوا، وليتلاقوا، وليقوى اتحادهم، ويعتزوا بعزة الله، فيجب اجتناب كل ما يؤدي إلى النزاع والخصام...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

إذن فالحياة في الحج غير طبيعية، وظروف الناس غير طبيعية، لذلك يحذرنا الحق من الدخول في جدل؛ لأنه ربما كان الضيق من تغيير نظام الحياة سبباً في إساءة معاملة الآخرين، والحق يريد أن يمنع هذا الضيق من أن يؤثر في علاقتنا بالآخرين. وقد أثبتت التجربة أن من يذهبون للحج في جماعة إما أن يعودوا متحابين جداً، وإما أعداء ألداء. ولذلك يطلب إلينا الحق أن يصبر كل إنسان على ما يراه من عادات غيره في أثناء الحج، وليحتسب خروجه عن عاداته وعن رتابة أموره وعن أنسه بأهله يحتسب ذلك عند الله، وليشتغل بأنس الله، وليتحمل في جانبه كل شيء، ويكفي أنه في بيت الله وفي ضيافته...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{وَاتَّقُونِ يا أُوْلِي الأَلْبَابِ}. وكان هذا النداء انطلاقة رائعة توحي للإنسان بأنَّ كلّ هذه القضايا هي من وحي العقل الذي لا يدعو إلاَّ إلى ما فيه الخير كلّ الخير في الدنيا والآخرة، ليستنفر الإنسان عقله في كلّ وقت، فلا يغيب عنه في أي مجال حتى لا تنهار حياته في لحظات الجنون...