{ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } : أي : { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا } كما زعم ذلك من زعمه ، من سفهاء الخلق . { لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } أي : لاصطفى بعض مخلوقاته التي يشاء اصطفاءه ، واختصه لنفسه ، وجعله بمنزلة الولد ، ولم يكن حاجة إلى اتخاذ الصاحبة . { سُبْحَانَهُ } عما ظنه به الكافرون ، أو نسبه إليه الملحدون .
{ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } أي : الواحد في ذاته ، وفي أسمائه ، وفي صفاته ، وفي أفعاله ، فلا شبيه له في شيء من ذلك ، ولا مماثل ، فلو كان له ولد ، لاقتضى أن يكون شبيها له في وحدته ، لأنه بعضه ، وجزء منه .
القهار لجميع العالم العلوي والسفلي ، فلو كان له ولد لم يكن مقهورا ، ولكان له إدلال على أبيه ومناسبة منه .
ووحدته تعالى وقهره متلازمان ، فالواحد لا يكون إلا قهارا ، والقهار لا يكون إلا واحدا ، وذلك ينفي الشركة له من كل وجه .
ثم أبطل - سبحانه - كل تصور للشرك والشركاء ، بأن نزه - تعالى - ذاته عن اتخاذ الولد فقال : { لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ الله الواحد القهار } .
أى : لو أراد الله - تعالى - على سبيل الفرض والتقدير - أن يتخذ ولدا ، لاختار من خلقه ما يريده هو ، لا ما يريده الضالون ، لكنه - سبحانه - لم يختر أحد اليكون ولدا له ، فدل ذلك على بطلان زعم الزاعمين بأن الملائكة بنات الله ، أو بأن عزيراً ابن الله ، أو بأن المسيح ابن الله .
{ سُبْحَانَهُ هُوَ الله الواحد القهار } أى : تنزه - عز وجل - عن كل شئ من ذلك ، فإنه هو الله الواحد فى ذاته وفى صفاته ، القهار لكل مخلوقاته .
قال الإِمام ابن كثير : بيَّن - تعالى - فى هذه الآية أنه لا ولد له كما يزعمه جهلة المشركين فى الملائكة ، والمعاندون من اليهود والنصارى فى العزيز وعيسى فقال : { لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } أى . لكان الأمر على خلاف ما يزعمون .
وهذا شرط لا يلزم وقوعه ولا جوازه ، بل هو محال ، وإنما قصد تجهيلهم فيما ادعوه وزعموه ، كما قال : { لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ } وكما قال : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } كل هذا من باب الشرط ، ويجوز تعليق الشرط على المستحيل لقصد المتكلم .
وقال بعض العلماء ما ملخصه : إرادة اتخاذ الولد هنا ممتنعة ، لأن الإِرادة لا تتعلق إلا بالممكنات ، واتخاذ الولد محال ، كما ثبت بالبرهان القطعى فتستحيل إرادته . وجعلها فى الآية شرطا وتعليق الجواب عليها ، لا يقتضى إمكانها فضلا عن وقوعها ، وقد عرف فى فصيح الكلام : تعليق المحال على المحال جوازا ووقوعا .
على أن الولدية تقتضى التجانس بين الوالد والولد . إذ هو قطعة منه . وقد ثبت أن كل ما عداه - سبحانه - مخلوق له . فيلزم بموجب التجانس أن يكون المخلوق من جنس الخالق ، وهو يستلزم حدوث الخالق ، أو قدم المخلوق ، وكلاهما محال
وقوله : ( لَوْ أرَادَ اللّهُ أنْ يَتّخِذَ وَلِدا ) : يقول تعالى ذكره : لو شاء الله اتخاذ ولد ، ولا ينبغي له ذلك ، لاصطفى مما يخلق ما يشاء ، يقول : لاختار من خلقه ما يشاء .
وقوله : ( سُبْحانَهُ هُوَ اللّهُ الوَاحِدُ القَهّارُ ) : يقول : تنزيها لله عن أن يكون له ولد ، وعما أضاف إليه المشركون به من شركهم هُوَ اللّهُ يقول : هو الذي يَعْبده كلّ شيء ، ولو كان له ولد لم يكن له عبدا ، يقول : فالأشياء كلها له ملك ، فأنى يكون له ولد ، وهو الواحد الذي لا شريك له في مُلكه وسلطانه ، والقهار لخلقه بقدرته ، فكل شيء له متذلّل ، ومن سطوته خاشع .
{ لو أراد الله أن يتخذ ولدا } كما زعموا . { لاصطفى مما يخلق ما يشاء } إذ لا موجود سواه إلا هو مخلوقه لقيام الدلالة على امتناع وجود واجبين ووجوب استناد ما عدا الواجب إليه ، ومن البين أن المخلوق لا يماثل الخالق فيقوم مقام الوالد له ثم قرر ذلك بقوله : { سبحانه هو الله الواحد القهار } فإن الألوهية الحقيقية تتبع الوجوب المستلزم للواحدة الذاتية ، وهي تنافي المماثلة فضلا عن التوالد لأن كل واحد من المثلين مركب من الحقيقة المشتركة ، والتعين المخصوص والقهارية المطلقة تنافي قبول الزوال المحوج إلى الولد .
قوله تعالى : { لو أراد الله أن يتخذ } . معناه : اتخاذ التشريف والتبني ، وعلى هذا يستقيم . قوله تعالى : { لاصطفى مما يخلق } .
وأما الاتخاذ المعهود في الشاهد فمستحيل أن يتوهم في جهة الله تعالى ، ولا يستقيم عليه معنى قوله : { لاصطفى } وقوله : { وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً } [ مريم : 92 ] لفظ يعم اتخاذ النسل واتخاذ الأصفياء ، فأما الأول فمعقول ، وأما الثاني فمعروف لخبر الشرع ، ومما يدل على أن معنى قوله : أن يتخذ الاصطفاء والتبني قوله : { مما يخلق } أي من موجوداته ومحدثاته . ثم نزه تعالى نفسه تنزيهاً مطلقاً عن جميع ما لا يكون مدحة ، واتصافه تعالى ب { القهار } اتصاف على الإطلاق ، لأن أحداً من البشر إن اتصف بالقهر فمقيد في أشياء قليلة ، وهي في حين قهره لغيره مقهور لله تعالى عن أشياء كثيرة .
موقع هذه الآية موقع الاحتجاج على أن المشركين كاذبون وكفّارون في اتخاذهم أولياء من دون الله ، وفي قولهم : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله } [ الزمر : 3 ] وأن الله حرمهم الهدى وذلك ما تضمنه قوله قبله : { إن الله لا يهدي من هو كاذبٌ كفَّارٌ } [ الزمر : 3 ] ، فقصد إبطال شركهم بإبطال أقواه وهو عدّهم في جملة شركائهم شركاءَ زعموا لهم بنوّة لله تعالى ، حيث قالوا : { اتخذ الله ولداً } [ البقرة : 116 ] فإن المشركين يزعمون اللاتَ والعزى ومناةَ بناتتِ الله قال تعالى : { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى } [ النجم : 19 21 ] .
قال في « الكشاف » هنالك : « كانوا يقولون : إن الملائكة وهذه الأصنام ( يعني هذه الثلاثة ) بناتُ الله » وذكر البغوي عن الكلبي كان المشركون بمكة يقولون : الأصنام والملائكة بنات الله فخص الاعتقاد بأهل مكة ، والظاهر أن ذلك لم يقولوه في غير اللات والعزّى ومناةَ ، لأن أسماءها مؤنثة ، وإلاّ فإن في أسماء كثير من أسماء أصنامهم ما هو مذكّر نحو ذي الخَلَصة ، وذكر في « الكشاف » عند ذكر البسملة أنهم كانوا يقولون عند الشروع في أعمالهم : باسم اللات ، باسم العزّى .
فالمقصود من هذه الآية إبطال إلهية أصنام المشركين على طريقة المذهب الكلامي . واعلم أن هذه الآية والآيات بعدها اشتملت على حجج انفراد الله .
ومعنى الآية : لو كان الله متخذاً ولداً لاختار من مخلوقاته ما يشاء اختياره ، أي لاختار ما هو أجدر بالاختيار ولا يختار لبنوته حجارة كما زعمتم لأن شأن الاختيار أن يتعلق بالأحسن من الأشياء المختار منها فبطل أن تكون اللاتُ والعُزّى ومناةُ بناتتٍ لله تعالى ، وإذا بطل ذلك عنها بطل عن سائر الأصنام بحكم المساواة أو الأحرى ، فتكون { لو هنا هي الملقبة لو الصهيبية ، أي التي شرطها مفروض فرضاً على أقصى احتمال وهي التي يُمثلون لها بالمثل المشهور : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ، فكان هذا إبطالاً لما تضمنه قوله : { والذين اتَّخذوا من دونه إولياء ما نعبدهم } إلى قوله : { كَفَّار } [ الزمر : 3 ] . وليس هو إبطالاً لمقالة بعض العرب : إن الملائكة بنات الله ، لأن ذلك لم يكن من عقيدة المشركين بمكة الذين وجه الخطاب إليهم ، ولا إبطالاً لبنوة المسيح عند النصارى لأن ذلك غير معتقَد عند المشركين المخاطبين ولا شعور لهم به ، وليس المقصود محاجّة النصارى ولم يتعرض القرآن المكي إلى محاجّة النصارى .
واعلم أنه بني الدليل على قاعدة استحالة الولد على الله تعالى إذ بُني القياس الشرطي على فرض اتخاذ الولد لا على فرض التولّد ، فاقتضى أن المراد باتخاذ الولد التبنّي لأن إبطال التبنّي بهذا الاستدلال يستلزم إبطال تولد الابن بالأولى .
وعزز المقصود من ذكر فعل الاتخاذ بتعقيبه بفعل الاصطفاء على طريقة مجاراة الخصم المخطىء ليغير في مهواة خطئه ، أي لو كان لأحد من الله نسبة بنوة لكانت تلك النسبة التبنِّيَ لا غير إذ لا تتعقل بنوة لله غير التبنّي ولو كان الله متبنِّياً لاختار ما هو الأليق بالتبنّي من مخلوقاته دون الحجارة التي زعمتموها بنات لله .
وإذا بطلت بنوة تلك الأصنام الثلاثة المزعومة بطلت إلهية سائر الأصنام الأخرى التي اعترفوا بأنها في مرتبة دون مرتبة اللات والعزّى ومناة بطريق الأوْلى واتفاققِ الخصمين فقد اقتضى الكلام دليلين : طوي أحدهما وهو دليل استحالة الولد بالمعنى الحقيقي عن الله تعالى ، وذكر دليل إبطال التبنّي لما لا يليق أن يتبناه الحكيم .
هذا وجه تفسير هذه الآية وبيان وقعها مما قبلها وبه تخرج عن نطاق الحيرة التي وقع فيها المفسرون فسلكوا مسالك تعسف في معناها ونظمها وموقعها ، ولم يتم لأحد منهم وجه الملازمة بين شرط { لو } وجوابها ، وسكت بعضهم عن تفسيرها . فوقع في « الكشاف » ما يفيد أن المقصود نفي زعم المشركين بنوة الملائكة وجعل جواب { لو } محذوفاً وجعل المذكور في موضع الجواب إرشاداً إلى الاعتقاد الصحيح في الملائكة فقال : يعني لو أراد الله اتخاذ الولد لامتنع ، ولم يصح لكونه ( أي ذلك الاتخاذ ) محالاً ولم يتأتَّ إلاّ أن يصطفي من خلقه بعضه ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده وقد فعل ذلك بالملائكة فغرّكم اختصاصه إياهم فزعمتم أنهم أولاده جهلاً منكم بحقيقته المخالفة لِحقائق الأجسام والأعراض . فجعل ما هو في الظاهر جواب لو مفيداً معنى الاستدراك الذي يَعقُب المقدَّمَ والتاليَ غالباً ، فلذلك فسره بمرادفه وهو الاستثناء الذي هو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده .
وللتفتزاني بحث يقتضي عدم استقامة تقرير « الكشاف » لدليل شرط { لو وجوابه ، واستظهر أن لو صهيبية تبعاً لتقرير ذكره صاحب « الكشف » . وبعد فإن كلام صاحب « الكشاف » يجعل هذه الآية منقطعة عن الآيات التي قبلها ، فيجعلُها بمنزلة غرض مستأنف مع أن نظم الآية نظم الاحتجاج لا نظم الإِفادة ، فكان محمل « الكشاف » فيها بعيداً . ومع قطع النظر عن هذا فإن في تقرير الملازمة في الاستدلال خفاء وتعسفاً كما أشار إليه الشَقَّار في كتابه « التقريب مختصرِ الكشاف » .
وقال ابن عطية : معنى اتخاذ الولد اتخاذ التشريف والتبنّي وعلى هذا يستقيم قوله : { لاصطفى } وأما الاتخاذ المعهود في الشاهد ( يعني اتخاذ النسل ) فمستحيل أن يتوهم في جهة الله ولا يستقيم عليه قوله : { لاصطفى } . ومما يدل على أن معنى أن يتخذ الاصطفاء والتبني قوله : { ممَّا يَخْلُقُ } أي من محداثته اهـ وتبعه عليه الفخر .
وبنى عليه صاحب « التقريب » فقال عقب تعقب كلام « الكشاف » « والأولى ما قيل : لو أراد أن يتخذ ولداً كما زعمتم لاختار الأفضل ( أي الذكور ) لا الأنقص وهنّ الإِناث » . وقال التفتزاني في « شرح الكشاف » : هذا معنى الآية بحسب الظاهر ، وذكر أن صاحب « الكشاف » لم يسلكه للوجه الذي ذكره التفتزاني هناك .
والذي سلكه ابن عطية وإن كان أقرب وأوضح من مسلك « الكشاف » في تقرير الدليل لكنه يشاركه في أنه لا يصل الآية بالآيات التي قبلها وبنبغي أن لا تقطع بينها الأواصر ، وكم ترك الأول للآخر .
وجملة { سبحانه } تنزيه له عما نسبوه إليه من الشركاء بعد أن أبطله بالدليل الامتناعي عوداً إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذي فارقه من قوله : { فاعبد الله مخلصاً له الدين } [ الزمر : 2 ] .
وجملة { هو الله الواحد القهَّارُ } دليل للتزيه المستفاد من { سبحانه } . فجملة { هُوَ الله } تمهيد للوصفين ، وذِكر اسمه العلم لإِحضاره في الأذهان بالاسم المختص به فلذلك لم يقل : هو الواحد القهّار كما قال بعدُ : { ألا هوَ العزيزُ الغفَّارُ } [ الزمر : 5 ] . وإثبات الوحدانية له يبطل الشريك في الإلهية على تفاوت مراتبه ، وإثبات { القَهَّارُ } يبطل ما زعموه من أن أولياءهم تقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم .
والقهر : الغلبة ، أي هو الشديد الغلبة لكل شيء لا يغلبه شيء ولا يصرفه عن إرادته .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"لَوْ أرَادَ اللّهُ أنْ يَتّخِذَ وَلِدا": يقول تعالى ذكره: لو شاء الله اتخاذ ولد، ولا ينبغي له ذلك، لاصطفى مما يخلق ما يشاء، يقول: لاختار من خلقه ما يشاء.
وقوله: "سُبْحانَهُ هُوَ اللّهُ الوَاحِدُ القَهّارُ": يقول: تنزيها لله عن أن يكون له ولد، وعما أضاف إليه المشركون به من شركهم "هُوَ اللّهُ "يقول: هو الذي يَعْبده كلّ شيء، ولو كان له ولد لم يكن له عبدا، يقول: فالأشياء كلها له ملك، فأنى يكون له ولد، وهو الواحد الذي لا شريك له في مُلكه وسلطانه، والقهار لخلقه بقدرته، فكل شيء له متذلّل، ومن سطوته خاشع.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ظاهر هذا أن إيجاد الولد له من المحتمل والممكن، ليس من الممتنع، لكن قوله عز وجل: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 90 و91] يدل على أن إيجاد الولد من الممتنع والعظيم في العقول والقلوب جميعا.
{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أي لو جاز، أو احتمل إيجاد الولد على ما تقولون أنتم، وتتوهمون لاصطفى، واختار مما يشاء هو ليس على ما تختارون أنتم له وتشاؤون، أن الملائكة بنات الله على ما تزعمون؛ إذ العرف في الخلق أن من اتخذ لنفسه شيئا إنما اتخذه من أعز الأشياء وأرفعها وأعظمها قدرا عندهم لا من أخس الأشياء وأذلها. والثاني: مبنى الإيجاد راجع إلى البنين؛ إذ كانت الكفرة ينسبونه إلى أنهم بناته، وإلى أن عيسى ابنه، وإنما تتخذ الأولاد وينسبون ليستنصر بهم، فبرأ الله عز وجل نفسه عن احتمال الشكل وخوف الغلبة، فقال: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} دفع ما قالوا فيه، وأحاله؛ ذلك لما أخبر أنه واحد في الذات. ولو كان له ما ذكر هؤلاء من الولد لم يكن واحدا في الذات؛ إذ كل محتمل الولد منه هو من شكل الولد. فإن عرفهم أنه واحد لم يحتمل الولد وما ذكروا.
{القهار}: دلالة إحالة ذلك؛ لأنه أخبر أنه قهار، والولد في الشاهد إنما يتخذ لأحد وجوه: إما لوحشة أصابته فيستأنس، وإما لحاجة تمسه فيدفع بالولد تلك، وإما لغلبة شهوة فيقضيها فيتولد من ذلك الولد، وإما لوراثة ملكه بعد موته، وهو دائم باق لا يزول ملكه، وإما لاستعانة به والنصرة على أعدائه. لأحد هذه الوجوه التي ذكرنا يحتاج المرء إلى اتخاذ الولد، وهو قادر بذاته قاهر غني، لا يحتمل ما ذكروا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{سبحانه} فنزه ذاته عن أن يكون له أحد ما نسبوا إليه من الأولاد والأولياء، ودلَّ على ذلك بما ينافيه، وهو أنه واحد، فلا يجوز أن يكون له صاحبة؛ لأنه لو كانت له صاحبة لكانت من جنسه ولا جنس له؛ وإذا لم يتأت أن يكون له صاحبة لم يتأت أن يكون له ولد، وهو معنى قوله: {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة} [الأنعام: 101].
قهار غلاب لكل شيء، ومن الأشياء آلهتهم، فهو يغلبهم، فكيف يكونون له أولياء وشركاء؟...
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
الولد يكون على وجهين: أحدهما: بالولادة الحقيقية وهذا محال على الله تعالى لا يجوز في العقل.
الثاني: التبني بمعنى الاختصاص والتقريب كما يتخذ الإنسان ولد غيره ولدا لإفراط محبته له وذلك ممتنع على الله بإخبار الشرع فإن قوله:
{وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} [مريم:92] يعم نفي الوجهين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر سبحانه بالحكم بينهم، فكان ذلك مع تضمنه التهديد وافياً بنفي الشريك، كافياً في ذلك؛ لأن المحكوم فيه لا يجوز أن يكون قسيماً للحاكم، فلم يبق في شيء من ذلك شبهة إلا عند ادعاء الولدية، قال نافياً لها على سبيل الاستئناف جواباً لمن يقول: فما حال من يتولى الولد؟ -قال القشيري: والمحال يذكر على جهة الإبعاد أن لو كان كيف حكمه -: {لو أراد الله} أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال {أن يتخذ} أي يتكلف كما هو دأبكم، ولا يسوغ في عقل أن الإله يكون متكلفاً {ولداً} أي كما زعم من زعم ذلك، ولما كان الولد لا يراد إلا أن يكون خياراً، وكان الله قادراً على كل شيء، عدل عن أن يقول {لاتخذ} إلى قوله: {لاصطفى} أي اختار على سبيل التبني {مما يخلق} أي يبدعه في أسرع من الطرف، وعبر بالأداة التي أكثر استعمالها فيما لا يعقل، إشارة إلى أنه قادر على جعل أقل الأشياء أجلّها على سبيل التكرار والاستمرار- كما أشار إليه التعبير بالمضارع فقال: {ما يشاء} أي مما يقوم مقام الولد، فإنه لا يحتاج إلى التطوير في إتيان الولد، إلا من لا يقدر على الإبداع بغير ذلك.
ولما كان لا يرضى إلا بأكمل الأولاد وهم الأبناء، لكنه لم يرد ذلك فلم يكن، فهذا أقصى ما يمكن أن يجوز في العقل أن يخلق خلقاً شريفاً ويسميه ولداً إشارة إلى شدة إكرامه له وتشريفه إياه، أو يقربه غاية التقريب كما فعل بالملائكة وعيسى عليهم السلام، فكان ذلك سبباً لغلطكم فيهم حتى دعيتم أنهم أولاد ثم زعمتم أنهم بنات، فكنتم كاذبين من جهتين، هذا غاية الإمكان، وأما أنه يجوز عليه التوليد فلا، بل هو مما يحيله العقل؛ لأن ذلك لا يكون إلا لمحتاج، والإله لا يتصور في عقل أن يكون محتاجاً أصلاً.
ولما كانت نسبة الولد إليه كنسبة الشريك أو أشنع، وانتفى الأمران بما تقدم من الدليل، نزه نفسه بما يليق بجلاله من التنزيه في هذا المقام فقال: {سبحانه} أي له التنزيه التام عن كل نقيصة، ثم أقام الدليل على هذا التنزيه المقتضي لتفرده فقال: {هو} أي الفاعل لهذا الفعال، والقائل لهذه الأقوال، ظاهراً وباطناً.
{الله} أي الجامع لجميع صفات الكمال، ثم ذكر من الأوصاف ما هو كالعلة لذلك فقال: {الواحد} أي الذي لا ينقسم أصلاً، ولا يكون له مثل فلا يكون له صاحبة ولا ولد، لأنه لو كان شيء من ذلك لما كان لا مجانساً ولا جنس له ولا شبه بوجه من الوجوه.
{القهار} أي الذي له هذه الصفة، فكل شيء تحت قهره آلهتهم وغيرها على سبيل التكرار والاستمرار، فصح من غير شك أنه لا يحتاج إلى شيء أصلاً، وجُعل ما لا حاجة إليه ولا داعي يبعث عليه عبث ينزه عنه العاقل فكيف من له الكمال كله...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{سبحانه} تقريرٌ لما ذُكر من استحالة اتِّخاذ الولد في حقِّه تعالى وتأكيدٌ له ببيانِ تنزُّهه تعالى عنه أي تنزّه بالذَّاتِ عن ذلك تنزهه الخاصّ به، على أنَّ السُّبحانَ مصدر من سبَح إذا بعُد، أو أسبِّحه تسبيحاً لائقاً به على أنَّه عَلَم للتَّسبيح مقولٌ على ألسنة العباد أو سبِّحوه تسبيحاً حقيقاً بشأنِه.
{هُوَ الله الواحد القهار} استئنافٌ مبيِّنٌ لتنزُّههِ تعالى بحسبِ الصِّفاتِ إثرَ بيانِ تنزُّههِ تعالى عنه بحسب الذَّاتِ؛ فإنَّ صفةَ الأُلوهيَّةِ المستتبعة لسائر صفاتِ الكمال النَّافيةِ لسماتِ النُّقصانِ والوحدة الذَّاتية، الموجبة لامتناعِ المُماثلة والمُشاركة بينه تعالى وبين غيرِه على الإطلاقِ، ممَّا يقضِي بتنزُّهه تعالى عمَّا قالوا قضاءً مُتقناً، وكذا وصف القهَّاريَّةِ.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
"لو": هنا هي الملقبة (لو) الصهيبية، أي التي شرطها مفروض فرضاً على أقصى احتمال، وهي التي يُمثلون لها بالمثل المشهور: نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه... فكان هذا إبطالاً لما تضمنه قوله: {والذين اتَّخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم} إلى قوله: {كَفَّار} [الزمر: 3]، وليس هو إبطالاً لمقالة بعض العرب: إن الملائكة بنات الله؛ لأن ذلك لم يكن من عقيدة المشركين بمكة الذين وجه الخطاب إليهم، ولا إبطالاً لبنوة المسيح عند النصارى؛ لأن ذلك غير معتقَد عند المشركين المخاطبين ولا شعور لهم به، وليس المقصود محاجّة النصارى؛ ولم يتعرض القرآن المكي إلى محاجّة النصارى.
واعلم أنه بني الدليل على قاعدة استحالة الولد على الله تعالى إذ بُني القياس الشرطي على فرض اتخاذ الولد لا على فرض التولّد، فاقتضى أن المراد باتخاذ الولد: التبنّي؛ لأن إبطال التبنّي بهذا الاستدلال يستلزم إبطال تولد الابن بالأولى. وعزز المقصود من ذكر فعل الاتخاذ بتعقيبه بفعل الاصطفاء على طريقة مجاراة الخصم المخطئ ليغير في مهواة خطئه، أي لو كان لأحد من الله نسبة بنوة لكانت تلك النسبة التبنِّيَ لا غير إذ لا تتعقل بنوة لله غير التبنّي ولو كان الله متبنِّياً، لاختار ما هو الأليق بالتبنّي من مخلوقاته دون الحجارة التي زعمتموها بنات لله، وإذا بطلت بنوة تلك الأصنام الثلاثة المزعومة، بطلت إلهية سائر الأصنام الأخرى التي اعترفوا بأنها في مرتبة دون مرتبة اللات والعزّى ومناة بطريق الأوْلى، واتفاقِ الخصمين فقد اقتضى الكلام دليلين: طوي أحدهما وهو دليل استحالة الولد بالمعنى الحقيقي عن الله تعالى، وذكر دليل إبطال التبنّي لما لا يليق أن يتبناه الحكيم، هذا وجه تفسير هذه الآية وبيان وقعها مما قبلها وبه تخرج عن نطاق الحيرة التي وقع فيها المفسرون فسلكوا مسالك تعسف في معناها ونظمها وموقعها، ولم يتم لأحد منهم وجه الملازمة بين شرط {لو} وجوابها، وسكت بعضهم عن تفسيرها...