نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{لَّوۡ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدٗا لَّٱصۡطَفَىٰ مِمَّا يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ سُبۡحَٰنَهُۥۖ هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ} (4)

لما أخبر سبحانه بالحكم بينهم ، فكان ذلك مع تضمنه التهديد وافياً بنفي الشريك ، كافياً في ذلك لأن المحكوم فيه لا يجوز أن يكون قسيماً للحاكم ، فلم يبق في شيء من ذلك شبهة إلا عند ادعاء الولدية ، قال نافياً لها على سبيل الاستئناف جواباً لمن يقول : فما حال من يتولى الولد ؟ - قال القشيري : والمحال يذكر على جهة الإبعاد أن لو كان كيف حكمه - : { لو أراد الله } أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال { أن يتخذ } أي يتكلف كما هو دأبكم ، ولا يسوغ في عقل أن الإله يكون متكلفاً { ولداً } أي كما زعم من زعم ذلك ، ولما كان الولد لا يراد إلا أن يكون خياراً ، وكان الله قادراً على كل شيء ، عدل عن أن يقول { لاتخذ } إلى قوله : { لاصطفى } أي اختار على سبيل التبني { مما يخلق } أي يبدعه في أسرع من الطرف ، وعبر بالأداة التي أكثر استعمالها فيما لا يعقل إشارة إلى أنه قادر على جعل أقل الأشياء أجلّها على سبيل التكرار والاستمرار - كما أشار إليه التعبير بالمضارع فقال : { ما يشاء } أي مما يقوم مقام الولد فإنه لا يحتاج إلى التطوير في إتيان الولد إلا من لا يقدر على الإبداع بغير ذلك .

ولما كان لا يرضى إلا بأكمل الأولاد وهم الأبناء ، لكنه لم يرد ذلك فلم يكن ، فهذا أقصى ما يمكن أن يجوز في العقل أن يخلق خلقاً شريفاً ويسميه ولداً إشارة إلى شدة إكرامه له وتشريفه إياه ، أو يقربه غاية التقريب كما فعل بالملائكة وعيسى عليهم السلام ، فكان ذلك سبباً لغلطكم فيهم حتى دعيتم أنهم أولاد ثم زعمتم أنهم بنات ، فكنتم كاذبين من جهتين ، هذا غاية الإمكان ، وأما أنه يجوز عليه التوليد فلا ، بل هو مما يحيله العقل ، لأن ذلك لا يكون إلا لمحتاج ، والإله لا يتصور في عقل أن يكون محتاجاً أصلاً ، قال ابن برجان ما معناه : كان معهود الولادة على وجهين ، فولد منسوب إلى والده بنوة وولادة ورحماً ، فهذا ليس له في الوجود العلي وجود ، ولا في الإمكان تمكن ، ولا في الفعل مساغ بوجه من الوجوه ، وولد بمعنى التبني والاتخاذ ، وقد كانت العرب وغيرها من الأمم يفعلونه حتى نسخة القرآن ، فلا يبعد أن تكون هذه العبارة كانت جائزة في الكتب قبلنا ، فلما أعضل بهم الداء وألحدوا في ذلك عن سواء القصد الذي هو الاصطفاء إلى بنوة الولادة أضلهم الله وأعمى أبصارهم وسد السبيل عن العبادة عن ذلك ، وكشف معنى الاصطفاء ، وأظهر معنى الولاية ، ونسخ ذلك بهذا ، لأن هذا لا يداخله لبس ، وذلك كله لبيان كمال هذه الأمة وعلوها في كل أمر .

ولما كانت نسبة الولد إليه كنسبة الشريك أو أشنع ، وانتفى الأمران بما تقدم من الدليل باالحكم باعترافهم بأن حكمه سبحانه نافذ في كل شيء لشهادة الوجود ، ولقيام الأدلة على عدم الحاجة إلى شيء أصلاً فضلاً عن الولد ، نزه نفسه بما يليق بجلاله من التنزيه في هذا المقام ، فقال : { سبحانه } أي له التنزيه التام عن كل نقيصة ، ثم أقام الدليل على هذا التنزيه المقتضي لتفرده فقال : { هو } أي الفاعل لهذا الفعال ، والقائل لهذه الأقوال ، ظاهراً وباطناً { الله } أي الجامع لجميع صفات الكمال ، ثم ذكر من الأوصاف ما هو كالعلة لذلك فقال : { الواحد } أي الذي لا ينقسم أصلاً ، ولا يكون له مثل فلا يكون له صاحبة ولا ولد ، لأنه لو كان شيء من ذلك لما كان لا مجانساً ولا جنس له ولا شبه بوجه من الوجوه { القهار * } أي الذي له هذه الصفة ، فكل شيء تحت قهره آلهتهم وغيرها على سبيل التكرار والاستمرار ، فصح من غير شك أنه لا يحتاج إلى شيء أصلاً ، وجُعل ما لا حاجة إليه ولا داعي يبعث عليه عبث ينزه عنه العاقل فكيف من له الكمال كله .