12- وما يستوي البحران في علمنا وتقديرنا وإن اشتركا في بعض منافعهما ، هذا ماؤه عذب يقطع العطش لشدة عذوبته وحلاوته وسهولة تناوله ، وهذا ملح شديد الملوحة . ومن كل منهما تأكلون لحماً طريا مما تصيدون من الأسماك وتستخرجون ما تتخذونه زينة كاللؤلؤ والمرجان . وترى - أيها المشاهد - السفن تجرى فيه شاقة الماء بسرعتها ، لتطلبوا شيئاً من فضل الله بالتجارة ، ولعلكم تشكرون لربكم هذه النعم{[184]} .
{ 12 - 14 } { وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ }
هذا إخبار عن قدرته وحكمته ورحمته ، أنه جعل البحرين لمصالح العالم الأرضي كلهم ، وأنه لم يسوِّ بينهما ، لأن المصلحة تقتضي أن تكون الأنهار عذبة فراتا ، سائغا شرابها ، لينتفع بها الشاربون والغارسون والزارعون ، وأن يكون البحر ملحا أجاجا ، لئلا يفسد الهواء المحيط بالأرض بروائح ما يموت في البحر من الحيوانات ولأنه ساكن لا يجري ، فملوحته تمنعه من التغير ، ولتكون حيواناته أحسن وألذ ، ولهذا قال : { وَمِنْ كُلٍ } من البحر الملح والعذب { تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا } وهو السمك المتيسر صيده في البحر ، { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } من لؤلؤ ومرجان وغيرهما ، مما يوجد في البحر ، فهذه مصالح عظيمة للعباد .
ومن المصالح أيضا والمنافع في البحر ، أن سخره اللّه تعالى يحمل الفلك من السفن والمراكب ، فتراها تمخر البحر وتشقه ، فتسلك من إقليم إلى إقليم آخر ، ومن محل إلى محل ، فتحمل السائرين وأثقالهم وتجاراتهم ، فيحصل بذلك من فضل اللّه وإحسانه شيء كثير ، ولهذا قال : { وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
ثم ذكر - سبحانه - نوعا آخر من أنواع بديع صنعه ، وعجيب قدرته ، فقال : { وَمَا يَسْتَوِي البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ . . . } .
والماء العذب الفرات : هو الماء السائغ للشرب ، الذى يشعر الإِنسان عند شربه باللذة وهو ماء الأنهار . وسمى فراتا لأنه يفرت العطش ، أى : يقطعه ويزيله ويسكره .
ولاماء الملح الأجاج : هو الشديد الملوحة والمرارة وهو ماء البحار . سمى أجاجا من الأجيج وهو تهلب النار ، لأن شربه يزيد العطشان عطشا وتعبا .
قالوا : والآية الكريمة مثل للمؤمن والكافر . فالبحر العذب : مثل للمؤمن ، والبحر الملح : مثل للكافر .
فكما أن البحرين اللذين أحدهما عذب فرات سائغ شرابه . والآخر ملح أجاج . لا يتساويان فى طعمهما ومذاقهما . وإن اشتركا فى بعض الفوائد - فكذلك المؤمن والكافر ، لا يتساويان فى الخاصية العظمى التى خلقا من أجلها ، وهى إخلاص العبادة لله الواحد القهار ، وإن اشتركا فى بعض الصفات الأخرى كالسخاء والشجاعة - لأن المؤمن استجاب لفطرته فآمن بالحق ، أما الكافر فقد عاند فطرته ، فاصر على الكفر .
وقوله : { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } بيان لبعض النعم التى وهبها - سبحانه - لعباده من وجود البحرين .
أى : ومن كل واحد منهما تأكلون لحماً طريا ، أى : غضا شهيا مفيداً لأجسادكم ، عن طريق ما تصطادونه منهما من أسماء وما يشبهها .
قال بعض العلماء . وفى وصفه بالطراوة ، تنبيه إلى أن ينبغى المسارعة إلى أكله ، لأنه يسرع إليه الفاسد والتغيير . وقد أثبت الطب أن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر المأكولات فسبحان الخبير بشئون خلقه . .
وفيه - أيضاً - إيماء إلى كمال قدرته - تعالى- حيث أوجد هذا اللحم الطرى النافع فى الماء الملح الأجاج الذى لا يشرب .
وقد كره العلماء أكل الطافى منه على وجه الماء ، وهو الذى يموت حتف أنفه فى الماء فيطفو على وجهه ، لحديث جابر بن عبد الله ، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما نضب عنه الماء فكلوه . وما لفظ الماء فكلوه ، وما طفا - على وجه الماء -فلا تأكلوه " .
فالمراد من ميتة البحر فى حديث : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " ما لفظه البحر لا مامات فيه من غير آفة .
وقوله - تعالى - : { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } بيان لنعمة ثانية من النعم التى تصل إلى الناس عن طريق البحرين .
والحلية - بكسر الحاء - : اسم لما يتجلى به الناس ، ويتزينون بلبسه ، وجمع حلية : حِلًى وحُلًى - بسكر الحاء وضمها - يقال : تحلت المراة إذا لبست الحلى .
أى : ومن النعم التى تصل إليكم عن طريق البحرين ، استخراجكم منهما ما ينفعكم ، وما تتحلى به نساؤكم ، كاللؤلؤ والمرجان وغيرهما .
والتعبير بقوله : { وَتَسْتَخْرِجُونَ } يشير إلى كثرة الإِخراج . فالسين والتاء للتأكيد . كما يشير بأن من الواجب على المسلمين ، أن يباشروا بأنفسهم استخراج ما فى البحرين من كنوز نافعة ، وأن لا يتركوا ذلك لأعدائهم .
وأسند - سبحانه - لباس الحلية إلى ضمير جمع الذكرو ، فقال { تَلْبَسُونَهَا } على سبيل التغليب ، وإلا فإن هذه الحلية يلبسها النساء فى الأعم الأغلب من الأحوال .
قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله : { تَلْبَسُونَهَا } أى : تلبسها نساؤكم وأسند الفعل إلى ضمير الرجال ، لاختلاطهم بهن ، وكونهم متبوعين ، أو لأنهم سبب لتزينهن فإن النساء يتزين - فى الغالب - ليحسن فى أعين الرجال . .
وقال بعض العلماء : وفى الآية دليل قرآن واضح على بطلان دعوى بعض العلماء من أن اللؤلؤ والمرجان ، لا يستخرجان إلا من البحر الملح خاصة .
وقوله - تعالى - { وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ } بيان لنعمة ثالثة من نعمه - تعالى - عن طريق وجود البحار فى الأرض .
وأصل المخر : الشق . يقال مخرت السفينة البحر إذا شقته وسارت بين أمواجه ، ومخر الماء الأرض إذا شقها .
أى : وترى - أيها العاقل - ببصرك السفن فى كل من البحرين { مَوَاخِرَ } أى تشق الماء بمقدوماتها ، وتسرع السير فيه من جهة إلى جهة . .
والضمير فى قوله { فِيهِ } يعود إلى البحر الملح ، لأن أمر الفلك فيه أعظم من أمرها فى البحر العذب ، وإن كانت السفن تجرى فى البحرين .
ويجوز أن يكون الضمير فى قوله { فِيهِ } يعود إلى جنس البحر . أى : وترى السفن تشق كل بحر ، لتسير فيه من مكان إلى مكان . .
واللام فى قوله - تعالى - : { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام السابق .
أى : أوجدنا البحرين ، وسخرناهما لمنفعتكم ، لتطلبوا أرزاقكم فيهما ، وهذه الأرزاق هى من فضل الله - تعالى - عليكم ، ومن رحمته بكم ، ولعلكم بعد ذلك تشكروننا على آلائنا ونعمنا ، فإن من شكرنا زدناه من خيرنا وعطائنا .