القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمّ ائْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَىَ } .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : " فأجْمِعُوا كَيْدَكُمْ " فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة فأجْمِعُوا كَيْدَكُمْ بهمز الألف من فأجْمِعُوا ، ووجّهوا معنى ذلك إلى : فأحكموا كيدكم ، واعزموا عليه من قولهم : أجمع فلان الخروج ، وأجمع على الخروج ، كما يقال : أزمع عليه ومنه قول الشاعر :
يا لَيْت شعْرِي والمُنى لا تَنْفَعُ *** هَلْ أغْدُوَنْ يَوْما وأمْرِيَ مُجْمَعُ
يعني بقوله : «مجمع » قد أحكم وعزم عليه ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ لَمْ يُجْمِعْ عَلى الصّوْمِ مِن اللّيْلِ فَلا صَوْم لَهُ » .
وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل البصرة : «فاجْمِعُوا كَيْد كُمْ » بوصل الألف ، وترك همزها ، من جمعت الشيء ، كأنه وجّهه إلى معنى : فلا تدَعوا من كيدكم شيئا إلا جئتم به . وكان بعض قارئي هذه القراءة يعتلّ فيما ذُكر لي لقراءته ذلك كذلك بقوله : " فَتَوّلى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ " .
قال أبو جعفر : والصواب في قراءة ذلك عندنا همز الألف من أجمع ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، وأن السحرة هم الذين كانوا به معروفين ، فلا وجه لأن يقال لهم : اجمعوا ما دعيتم له مما أنتم به عالمون ، لأن المرء إنما يجمع ما لم يكن عنده إلى ما عنده ، ولم يكن ذلك يوم تزيد في علمهم بما كانوا يعملونه من السحر ، بل كان يوم إظهاره ، أو كان متفرّقا مما هو عنده ، بعضه إلى بعض ، ولم يكن السحر متفرّقا عندهم فيجمعونه . وأما قوله : " فَجَمَعَ كَيْدَهُ " فغير شبيه المعنى بقوله " فَأجِمعُوا كَيْدَكُمْ " وذلك أن فرعون كان هو الذي يجمع ويحتفل بما يغلب به موسى مما لم يكن عنده مجتمعا حاضرا ، فقيل : فتولى فرعون فجمع كيده .
وقوله : " ثُمّ ائْتُوا صَفّا " يقول : احضروا وجيئوا صفا والصفّ ههنا مصدر ، ولذلك وحد ، ومعناه : ثم ائتوا صفوفا ، وللصفّ في كلام العرب موضع آخر ، وهو قول العرب : أتيت الصفّ اليوم ، يعني به المصلى الذي يصلى فيه .
وقوله : " وَقَدْ أفْلَحَ اليَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى " يقول : قد ظفر بحاجته اليوم من علا على صاحبه فقهره ، كما :
حدثنا ابن حميد ، قلا : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حُدثت عن وهب بن منبه ، قال : جمع فرعون الناس لذلك الجمع ، ثم أمر السحرة فقال : ائْتُوا صَفّا " وَقَدْ أفْلَحَ اليَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى " أي قد أفلح من أفلج اليوم على صاحبه .
وقرأ الجمهور { فأجمِعوا } بهمزة قطع وكسر الميم أمراً من : أجمع أمره ، إذا جعله متفقاً عليه لا يختلف فيه .
وقرأ أبو عمرو { فاجمَعوا } بهمزة وصل وبفتح الميم أمراً من جمع ، كقوله فيما مضى { فجَمَع كيْدَه } [ طه : 60 ] . أطلق الجمع على التعاضد والتعاون ، تشبيهاً للشيء المختلف بالمتفرّق ، وهو مقابل قوله { فتنازعوا أمرهم } .
وسموا عملهم كيداً لأنهم تواطئوا على أن يظهروا للعامة أن ما جاء به موسى ليس بعجيب ، فهم يأتون بمثله أو أشدّ منه ليصرفوا الناس عن سماع دعوته فيكيدوا له بإبطال خصيصية ما أتى به .
والظاهر أنّ عامة الناس تسامعوا بدعوة موسى ، وما أظهره الله على يديه من المعجزة ، وأصبحوا متحيّرين في شأنه ؛ فمن أجل ذلك اهتمّ السحرة بالكيد له ، وهو ما حكاه قوله تعالى : في آية سورة الشعراء ( 38 40 ) : { فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين } .
ودبروا لإرهاب الناس وإرهاب موسى وهارون بالاتفاق على أن يأتوا حين يتقدمون لإلقاء سحرهم مصطفين لأن ذلك أهيبُ لهم .
ولم يزل الذين يرومون إقناع العموم بأنفسهم يتخيّرون لذلك بَهاء الهيبة وحسن السمت وجلال المظهر . فكان من ذلك جلوس الملوك على جلود الأسود ، وربما لبس الأبطال جلود النمور في الحرب . وقد فسر به فعل تنمّروا في قول ابن معد يكرب :
قوم إذا لبِسوا الحديد *** تنَمروا حَلَقاً وقَدّاً
وقيل : إن ذلك المراد من قولهم الجاري مجرى المثل لبس لي فلان جلد النمر . وثبت في التاريخ المستند للآثار أنّ كهنة القبط في مصر كانوا يلبسون جلود النمور .
والصفّ : مصدر بمعنى الفاعل أو المفعول ، أي صافّين أو مصفوفين ، إذا ترتبوا واحد حذو الآخر بانتظام بحيث لا يكونون مختلطين ، لأنهم إذا كانوا الواحد حذو الآخر وكان الصف منهم تلو الآخر كانوا أبهر منظراً ، قال تعالى : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً } [ الصفّ : 4 ] . وكان جميع سحرة البلاد المصريّة قد أحضروا بأمر فرعون فكانوا عدداً كثيراً . فالصفّ هنا مراد به الجنس لا الواحدة ، أي ثم ائتوا صفوفاً ، فهو كقوله تعالى : { يوم يقوم الروح والملائكة صفاً } [ النبأ : 38 ] وقال : { والملك صفاً صفاً } [ الفجر : 22 ] .
وانتصب { صَفّاً } على الحال من فاعل { ائتُوا } والمقصود الإتيان إلى موضع إلقاء سحرهم وشعوذتهم ، لأنّ التناجي والتآمر كان في ذلك اليوم بقرينة قولهم { وقَدْ أفْلَحَ اليَوْمَ مَننِ اسْتَعلَى } .
وجملة { وقَدْ أفلحَ اليومَ مَنِ استَعْلى } تذييل للكلام يجمع ما قصدوه من تآمرهم بأن الفلاح يكون لمن غلب وظهر في ذلك الجمع . ف { استعلى } مبالغة في عَلا ، أي علا صاحبَه وقهره ، فالسين والتاء للتأكيد مثل استأخر .
وأرادوا الفلاح في الدنيا لأنّهم لم يكونوا يؤمنون بأنّ أمثال هذه المواقف مما يؤثر في حال الحياة الأبديّة وإن كانوا يؤمنون بالحياة الثانية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.