45- الله خالق كل شيء ، وأبدع الأشياء بإرادته ، وخلق كل حي يدب من أصل مشترك هو الماء ، لذلك لا يخلو الحي منه ، ثم خالف بينها في الأنواع والاستعدادات ووجوه الاختلاف الأخرى ، فمن الدواب نوع يزحف علي بطنه كالأسماك والزواحف ، ومنها نوع يمشى علي رجليه كالإنسان والطير ، ومنها نوع يمشى علي أربع كالبهائم ، يخلق الله ما يشاء من خلقه علي أية كيفية تكون للدلالة علي قدرته وعلمه ، فهو المريد المختار ، وهو القادر علي كل شيء{[153]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَآبّةٍ مّن مّآءٍ فَمِنْهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللّهُ مَا يَشَآءُ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَاللّهُ خَلَق كُلّ دابّةٍ مِنْ ماءٍ فقرأته عامة قرّاء الكوفة غير عاصم : «وَاللّهْ خالِقُ كُلّ دَابّةٍ » . وقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وعاصم : وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دابّةٍ بنصب «كلّ » ، و«خَلَقَ » على مثال «فَعَل » . وهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، وذلك أن الإضافة في قراءة من قرأ ذلك «خالق » تدلّ على أن معنى ذلك المضيّ ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . وقوله : خَلَقَ كُلّ دَابّةٍ مِنْ ماءٍ يعني : من نطفة . فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحياة وما أشبهها . وقيل إنما قيل : فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ والمشي لا يكون على البطن لأن المشي إنما يكون لما له قوائم ، على التشبيه ، وأنه لما خالط ما له قوائمُ ما لا قوائمَ له ، جاز ، كما قال : وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالطير ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أرْبَعٍ كالبهائم .
فإن قال قائل : فكيف قيل : فمنهم من يمشي ، و«مَن » للناس ، وكلّ هذه الأجناس أو أكثرها لغيرهم ؟ قيل : لأنه تفريق ما هو داخل في قوله : وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَابّةٍ وكان داخلاً في ذلك الناس وغيرهم ، ثم قال : فمنهم لاجتماع الناس والبهائم وغيرهم في ذلك واختلاطهم ، فكنى عن جميعهم كنايته عن بني آدم ، ثم فسرهم ب«مَن » ، إذ كان قد كنى عنهم كناية بني آدم خاصة . يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ يقول : يحدث الله ما يشاء من الخلق . إنّ اللّهَ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَديرٌ يقول : إن الله على إحداث ذلك وخلقه وخلق ما يشاء من الأشياء غيره ، ذو قدرة لا يتعذّر عليه شيء أراد .
هذه آية اعتبار ، وقرأ حمزة والكسائي «والله خالق كل » على الإضافة ، وقرأ الجمهور «والله خلق كل » ، و «الدابة » كل من يدب من الحيوان أي تحرك منتقلاً أمامه قدماً ، ويدخل فيه الطير إذ قد يدب ومنه قول الشاعر : «دبيب قطا البطحاء في كل منهل »{[8746]} ، ويدخل في الحوت وفي الحديث «دابة من البحر مثل الظرب »{[8747]} ، وقوله { من ماء } قال النقاش أراد أمنية الذكور ، وقال جمهور النظرة أراد أن خلقة كل حيوان أن فيها ماء كما خلق آدم من الماء والطين ، وعلى هذا يتخرج قول النبي عليه السلام للشيخ الذي سأل في غزاة بدر ممن أنتما ؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم «نحن من ماء . . . »{[8748]} الحديث ، و «المشي علي البطن » للحيات والحوت ونحوه من الدود وغيره ، و «على الرجلين » للإِنسان والطير إذا مشى ، و «الأربع » لسائر الحيوان ، وفي مصحف أبي بن كعب «ومنهم من يمشي على أكثر » فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان ، ولكنه قرآن لم يثبته الإجماع ، لكن قال النقاش : إنما اكتفى لقول بذكر ما { يمشي على أربع } عن ذكر ما يمشي على الأكثر لأن جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع وهي قوام مشيه وكثرة الأرجل في بعضه زيادة في الخلقة لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلاً بل هي محتاج إليها في تنقل الحيوان وفي كلها تتحرك في تصرفه .
لما كان الاعتبار بتساوي أجناس الحيوان في أصل التكوين من ماء التناسل مع الاختلاف في أول أحوال تلك الأجناس في آثار الخلقة وهو حال المشي إنما هو باستمرار ذلك النظام بدون تخلف وكان ذلك محققاً كان إفراغ هذا المعنى بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي مفيداً لأمرين : التحقق بالتقديم على الخبر الفعلي . والتجدد بكون الخبر فعلياً .
وإظهار اسم الجلالة دون الإضمار للتنويه بهذا الخلق العجيب .
واختير فعل المضي للدلالة على تقرير التقوّي بأن هذا شأن متقرر منذ القدم مع عدم فوات الدلالة على التكرير حيث عقب الكلام بقوله : { يخلق الله ما يشاء } .
وقرأ الجمهور { والله خلق كل دابة } بصيغة فعل المضي ونصب { كل } . وقرأه الكسائي { والله خالق كل دابة } بصيغة اسم الفاعل وجر { كل } بإضافة اسم الفاعل إلى مفعوله .
والدابة : ما دبّ على وجه الأرض ، أي مشى . وغُلب هنا الإنسان فأتي بضمير العقلاء مراداً به الإنسان وغيره مرتين .
وتنكير { ماء } لإرادة النوعية تنبيهاً على اختلاف صفات الماء لكل نوع من الدواب إذ المقصود تنبيه الناس إلى اختلاف النطف للزيادة في الاعتبار .
وهذا بخلاف قوله : { وجعلنا من الماء كل شيء حي } [ الأنبياء : 30 ] إذ قُصد ثمة إلى أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من جنس الماء وهو جنس واحد اختلفت أنواعه ، فتعريف الجنس هناك إشارة إلى ما يعرفه الناس إجمالاً ويعهدونه من أن الحيوان كله مخلوق من نطف أصوله . وهذا مناط الفرق بين التنكير كما هنا وبين تعريف الجنس كما في آية { وجعلنا من الماء كل شيء حيّ } [ الأنبياء : 30 ] .
و { من } ابتدائية متعلقة ب { خلق } .
ورتب ذكر الأجناس في حال المشي على ترتيب قوة دلالتها على عظم القدرة لأن الماشي بلا آلة مشيٍ متمكنةٍ أعجب من الماشي على رجلين ، وهذا المشي زحفاً . أطلق المشي على الزحف بالبطن للمشاكلة مع بقية الأنواع . وليس في الآية ما يقتضي حصر المشي في هذه الأحوال الثلاثة لأن المقصود الاعتبار بالغالب المشاهد .
وجملة : { يخلق الله ما يشاء } زيادة في العبرة ، أي يتجدد خلق الله ما يشاء أن يخلقه مما علمتم وما لم تعلموا . فهي جملة مستأنفة .
وجملة : { إن الله على كل شيء قدير } تعليل وتذييل . ووقع فيه إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار ليكون كلاماً مستقلاً بذاته لأن شأن التذييل أن يكون كالمثل .