القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَىَ مَكَانَتِكُمْ إِنّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدّارِ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الظّالِمُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لقومك من قريش ، الذين يجعلون مع الله إلها آخر : اعْمَلُوا على مَكانَتِكُمْ يقول : اعملوا على حيالكم وناحيتكم . كما :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يا قَوْمِ اعْمَلُوا على مَكانَتِكُمْ يعني على ناحيتكم .
يقال منه : هو يعمل على مكانته ومكينته . وقرأ ذلك بعض الكوفيين : «على مَكاناتِكُمْ » على جمع المكانة . والذي عليه قرّاء الأمصار : على مَكانَتِكُمْ على التوحيد . إنّي عامِلٌ يقول جلّ ثناؤه لنبيه : قل لهم : اعملوا ما أنتم عاملون ، فإني عامل ما أنا عامله مما أمرني به ربي . فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ يقول : فسوف تعلمون عند نزول نقمة الله بكم ، أينا كان المحقّ في عمله والمصيب سبيل الرشاد ، أنا أم أنتم ؟ وقوله تعالى ذكره لنبيه : قل لقومك يا قَوْمِ اعْمَلُوا على مَكانَتِكُمْ أمر منه له بوعيدهم وتهديدهم ، لا إطلاق لهم في عمل ما أرادوا من معاصي الله .
القول في تأويل قوله تعالى : مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّارِ إنّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّارِ فسوف تعلمون أيها الكفرة بالله عند معاينتكم العذاب ، من الذي تكون له عاقبة الداء منا ومنكم ، يقول : من الذي قعب دنياه ما هو خير له منها أو شرّ منها بما قدّم فيها من صالح أعماله أو سيئها . ثم ابتدأ الخبر جلّ ثناؤه فقال : إنّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمونَ يقول : إنه لا ينجح ولا يفوز بحاجته عند الله من عمل بخلاف ما أمره الله به من العمل في الدنيا ، وذلك معنى ظلم الظالم في هذا الموضع . وفي «مَنْ » التي في قوله : مَنْ تكُونُ له وجهان من الإعراب : الرفع على الابتداء ، والنصب بقوله : تَعْلَمُونَ لإعمال العلم فيه والرفع فيه أجود ، لأن معناه : فسوف تعلمون أينا له عاقبة الدار ، فالابتداء في أن من أصحّ وأفصح من إعمال العلم فيه .
{ قل يا قوم أعملوا على مكانتكم } على غاية تمكنكم واستطاعتكم يقال مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن ، أو على ناحيتكم وجهتكم التي أنتم عليها من قولهم مكان ومكانة كمقام ومقامة . وقرأ أبو بكر عن عاصم " مكاناتكم " بالجمع في كل القرآن وهو أمر تهديد ، والمعنى : اثبتوا على كفركم وعداوتكم . { إني عامل } ما كنت عليه من المصابرة والثبات على الإسلام ، والتهديد بصيغة الأمر مبالغة في الوعيد كأن المهدد يريد تعذيبه مجمعا عليه فيحمله بالأمر على ما يفضي به ، إليه ، وتسجيل بأن المهدد لا يتأتى منه إلا الشر كالمأمور به الذي لا يقدر أن ينقضي عنه . { فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار } إن جعل { من } استفهامية بمعنى أينا تكون له عاقبة الدار الحسنى التي خلق الله لها هذه الدار ، فمحلها الرفع وفعل العلم معلق عنه وإن جعلت خبرية فالنصب ب{ تعلمون } أي فسوف تعرفون الذي تكون له عاقبة الدار ، وفيه مع الإنذار إنصاف في المقال وحسن الأدب ، وتنبيه على وثوق المنذر بأنه محق ، وقرأ حمزة والكسائي " يكون " بالياء لأنه تأنيث العاقبة غير حقيقي . { إنه لا يفلح الظالمون } وضع الظالمين موضع الكافرين لأنه أعم وأكثر فائدة .
ثم أمر الله عز وجل نبيه عليه السلام أن يتوعدهم بقوله { اعملوا } أي فسترون عاقبة عملكم الفاسد ، وصيغة افعل هاهنا بمعنى الوعيد والتهديد ، و { على مكانتكم } معناه على حالكم وطريقتكم ، وقرأ أبو بكر عن عاصم «على مكاناتكم » بجمع المكانة في كل القرآن ، وقرأ الجميع بالإفراد في كل القرآن ، و { مَنْ } يتوجه أن يكون بمعنى الذي ، فتكون في موضع نصب ب { تعلمون } ، ويتوجه أن يكون استفهاماً في موضع رفع بالابتداء والخبر في قوله { تكون له } ، و { عاقبة الدار } أي مآل الآخرة ، ويحتمل أن يراد مآل الدنيا بالنصر والظهور ففي الآية إعلام بغيب{[5103]} ، ثم جزم الحكم ب { إنه لا يفلح الظالمون } أي ينجح سعيهم ، وقرأ حمزة والكسائي من «يكون له عاقبة » بالياء ها هنا وفي القصص{[5104]} على تذكير معنى العاقبة .
استئناف ابتدائي بعد قوله : { إنَّ ما توعدون لآتٍ } [ الأنعام : 134 ] فإنّ المقصود الأوّل منه هو وعيد المشركين ، كما مرّ ، فأعقبه بما تمحّض لوعيدهم : وهو الأمر المستعمل في الإنذار والتّهديد ، لِيُمْلِيَ لَهُمْ في ضلالهم إملاء يشعر ، في متعارف التّخاطُب ، بأنّ المأمور به ممّا يزيد المأمور استحقاقاً للعقوبة ، واقتراباً منها . أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يُناديهم ويُهَدّدهم . وأمر أن يبتدىء خطابهم بالنّداء للاهتمام بما سيقال لهم ، لأنّ النّداء يسترعي إسماع المنادَيْن ، وكان المنادي عنوانَ القوم لما يشعر به من أنّه قد رقّ لحالهم حين توعدهم بقوله : { إنَّ ما توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين } [ الأنعام : 134 ] لأنّ الشأن أنّه يحبّ لقومه ما يحبّ لنفسه .
والنّداء : للقوم المعاندين بقرينة المقام ، الدالّ على أنّ الأمر للتّهديد ، وأنّ عملهم مخالف لعمله ، لقوله : { اعملوا } مع قوله { إني عامل } .
فالأمر في قوله : { اعملوا } للتسوية والتخلية لإظهار اليأس من امتثالهم للنّصح بحيث يغيِّر ناصِحهم نُصحهم إلى الإطلاق لهم فيما يحبّون أن يفعلوا ، كقوله تعالى : { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] وهذا الاستعمال استعارة إذ يشبَّه المغضوب عليه المأيوس من ارعوائهِ بالمأمور بأن يَفعل ما كان يُنهى عنه ، فكأنّ ذلك المنهي صار واجباً ، وهذا تهكّم .
والمكانة : المَكان ، جاء على التّأنيث مثل ما جاء المقامة للمقام ، والدارةُ اسماً للدار ، والماءة للماءِ الذّي يُنزل حوله ، يقال : أهل الماء وأهل المَاءة . والمكانة هنا مستعارة للحالة الّتي تلبّس بها المرء ، تشبَّه الحالة في إحاطتها وتلبّس صاحبها بها بالمكان الّذي يحوي الشّيء ، كما تقدّم اطلاق الدّار آنفاً في قوله تعالى : { لهم دار السّلام } [ الأنعام : 127 ] ، أو تكون المكانة كناية عن الحالة لأنّ أحوال المرء تظهر في مكانه ومقرّه ، فلذلك يقال : « يا فلان على مَكانتك » أي أثبت على ما أنت عليه لا تنحرفْ عنه .
ومفعول { اعملوا } محذوف لأنّ الفعل نزّل منزلة اللاّزم ، أي اعملوا عملكم المألوف الّذي هو دأبكم ، وهو الإعراض والتّكذيب بالحقّ .
و { عَلَى } مستعملة في التمكّن على وجه الاستعارة التّبعيّة ، وهي مناسبة لاستعارة المكانة للحالة . لأنّ العلاوة تناسب المكان ، فهي ترشيح للاستعارة ، مستعار من ملائم المشبه به لملائم المشبه . والمعنى : الزموا حالكم فلا مَطمع لي في اتِّباعكم .
وقرأ الجمهور : { على مكانتكم } بالإفراد . وقرأه أبو بكر عن عاصم : { مَكانَاتِكم } جمعَ مكانة . والجمع باعتبار جمع المضاف إليه .
وجملة : { إني عامل } تعليل لمفاد التّسوية من الأمر في قوله : { اعملوا } أي لا يضرّني تصميمكم على ما أنتم عليه ، لكنّي مستمرّ على عملي ، أي أنِّي غير تارك لما أنا عليه من الإيمان والدّعاء إلى الله . وحذف متعلّق : { إني عامل } للتّعميم مع الاختصار ، وسيأتي تفصيله في نظيره من سورة الزمر .
ورُتِّب على عملهم وعَمَلِه الإنذارُ بالوعيد { فسوف تعلمون } بفاء التّفريع للدّلالة على أنّ هذا الوعيد متفرّع على ذلك التّهديد .
وحرف التّنفيس مراد منه تأكيد الوقوع لأنّ حرفَي التّنفيس يؤكّدان المستقبل كما تؤكّد ( قَدْ ) الماضي ، ولذلك قال سيبويه في الكلام على ( لَن ) : إنَّها لنفي سَيفعل ، فأخذ منه الزمخشري إفادتها تأكيد النّفي . وهذا صريح في التّهديد ، لأنّ إخبارهم بأنَّهم سيعلمون يفيد أنّه يعلم وقوع ذلك لا محالة ، وتصميمه على أنَّه عامل على مكانته ومخالف لعملهم يدلّ على أنّه موقن بحسن عقباه وسوء عقباهم ، ولولا ذلك لعَمِل عملهم ، لأنّ العاقل لا يرضى الضرّ لنفسه ، فدلّ قوله : { فسوف تعلمون } على أنّ علمهم يقع في المستقبل ، وأمّا هُو فَعَالِم من الآن ، ففيه كناية عن وثوقه بأنَّه مُحِقّ ، وأنَّهم مبطلون ، وسيجيء نظِير هذه الآية في قصّة شعيب من سورة هود .
وقوله : { من تكون له عاقبة الدار } استفهام ، وهو يُعلِّق فعل العِلم عن العمل ، فلا يعطَى مفعولين استغناء بمُفاد الاستفهام ؛ إذ التّقديرُ : تعلمون أحدَنا تكون له عاقبة الدار . وموضع : { من } رفع على الابتداء ، وجملة : { تكون له عاقبة الدار } خبره .
والعاقبة ، في اللّغة : آخر الأمر ، وأثر عمل العامل ، فعاقبة كلّ شيء هي ما ينجلي عنه الشّيء ويظهرُ في آخره من أثر ونتيجة ، وتأنيثه على تأويل الحالة فلا يقال : عاقب الأمر ، ولكن عاقبة وعُقْبى .
وقد خصّص الاستعمال لفظ العاقبة بآخرة الأمر الحَسَنَةِ ، قال الراغب : العاقبة والعقبى يختصّان بالثّواب نحو { والعاقبة للمتّقين } [ الأعراف : 128 ] ، وبالإضافة قد يستعمل في العقوبة نحو { ثمّ كان عاقبة الّذين أساءوا السُّوأى } [ الروم : 10 ] وقَلّ من نبَّه على هذا ، وهو من تدقيقه ، وشواهدُه في القرآن كثيرة .
والدّار الموضع الّذي يحلّ به النّاس من أرض أو بناء ، وتقدّم آنفاً عند قوله تعالى : { لهم دار السّلام } [ الأنعام : 127 ] ، وتعريف الدّار هنا تعريف الجنس . فيجوز أن يكون لفظ { الدار } مطلقاً ، على المعنى الحقيقي ، فإضافةُ { عاقبة } إلى { الدار } إضافة حقيقية ، أي حُسن الأخارة الحاصلُ في الدّار ، وهي الفوز بالدّار ، والفلج في النّزاع عليها ، تشبيهاً بما كان العرب يتنازعون على المنازل والمَراعي ، وبذلك يكون قوله : { من تكون له عاقبة الدار } استعارة تمثيلية مكنية ، شُبّهت حالة المؤمنين الفائزين في عملهم ، مع حالة المشركين ، بحالة الغالب على امتلاك دار عَدُوّه ، وطُوي المركَّب الدالّ على الهيئة المشبَّه بها ، ورُمز إليه بذكر ما هو من رَوادفه ، وهو { عاقبة الدار } ، فإنّ التّمثيليّة تكون مصرّحة ، وتكون مكنية ، وإن لم يُقسِّمُوهَا إليهما ، لكنّه تقسيم لا محيص منه . ويجوز أن تكون { الدار } مستعارة للحالة الّتي استقرّ فيها أحد ، تشبيها للحالة بالمكان في الاحتواء ، فتكون إضافة عاقبَة إلى الدار إضافة بيانية ، أي العاقبة الحسنى الّتي هي حالُه ، فيكون الكلام استعارة مصرّحة .
ومن محاسنها هنا : أنّها بنت على استعارة المكانة للحالة في قوله : { اعملوا على مكانتكم } فصار المعنى : اعملوا في داركم ما أنتم عاملون فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار .
وفي الكلام مع ذلك إيماء إلى أنّ عاقبة تلك الدار ، أي بلد مكة ، أن تكون للمسلمين ، كقوله تعالى : { أنّ الأرض يرثها عبادي الصّالحون } [ الأنبياء : 105 ] وقد فسّر قوله : { من تكون له عاقبة الدار } بغير هذا المعنى .
وقرأ الجمهور : { مَن تكون } بتاء فوقيّة وقرأه حمزة ، والكسائي ، بتحتيّة ، لأنّ تأنيث عاقبة غير حقيقي ، فلمّا وقع فاعلاً ظاهراً فيجوز فيه أن يقرن بعلامة التّأنيث وبدونها .
وجملة : { إنه لا يفلح الظالمون } تذييل للوعيد يتنزّل منزلة التّعليل ، أي لأنّه لا يفلح الظّالمون ، ستكون عقبى الدار للمسلمين ، لا لكم ، لأنّكم ظالمون .
والتّعريف في { الظالمون } للاستغراق ، فيشمل هؤلاء الظّالمين ابتداء ، والضّمير المجعول اسم ( إنّ ) ضميرُ الشأن تنبيها على الاهتمام بهذا الخبر وأنّه أمر عظيم .