القول في تأويل قوله تعالى : { وَللّهِ الأسْمَآءُ الْحُسْنَىَ فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيَ أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } . .
يقول تعالى ذكره ولِلّهِ الأسْماءُ الحُسْنَى ، وهي كما قال ابن عباس .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ولِلّهِ الأسْماءُ الحُسْنَى فادْعُوهُ بِها ومن أسمائه : العزيز الجبار ، وكلّ أسماء الله حسن .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام بن حسان ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ لِلّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْما ، مِئَةً إلاّ وَاحِدا ، مَنْ أحْصَاها كُلّها دَخَلَ الجَنّةَ » .
وأما قوله : وَذَرُوا الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أسْمائِهِ فإنه يعني به المشركين . وكان إلحادهم في أسماء الله أنهم عدلوا بها عما هي عليه ، فسموا بها آلهتهم وأوثانهم ، وزادوا فيها ونقصوا منها ، فسموا بعضها اللات اشتقاقا منهم لها من اسم الله الذي هو الله ، وسموا بعضها العزّى اشتقاقا لها من اسم الله الذي هو العزيز .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَذَرُوا الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أسْمائِهِ قال : إلحاد الملحدين أن دعوا اللات في أسماء الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَذَرُوا الّذينَ يُلْحِدُونَ فِي أسْمائِهِ قال : اشتقوا العُزّى من العزيز ، واشتقوا اللات من الله .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله يُلْحِدُونَ فقال بعضهم : يكذّبون . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَذَرُوا الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أسْمائِهِ قال : الإلحاد : التكذيب .
وقال آخرون : معنى ذلك : يشركون . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا أبو ثور ، عن معمر ، عن قتادة : يُلْحِدُونَ قال : يشركون .
وأصل الإلحاد في كلام العرب : العدول عن القصد ، والجور عنه ، والإعراض ، ثم يستعمل في كلّ معوجّ غير مستقيم ، ولذلك قيل للحد القبر لحد ، لأنه في ناحية منه وليس في وسطه ، يقال منه : ألحد فلان يُلْحِد إلحادا ، ولَحد يَلْحَدُ لَحْدا ولُحُودا . وقد ذكر عن الكسائي أنه كان يفرّق بين الإلحاد واللحد ، فيقول في الإلحاد : إنه العدول عن القصد ، وفي اللحد إنه الركون إلى الشيء ، وكان يقرأ جميع ما في القرآن «يُلحدون » بضمّ الياء وكسر الحاء ، إلاّ التي في النحل ، فإنه كان يقرؤها : «يَلحَدون » بفتح الياء والحاء ، ويزعم أنه بمعنى الركون . وأما سائر أهل المعرفة بكلام العرب فيرون أن معناهما واحد ، وأنهما لغتان جاءتا في حرف واحد بمعنى واحد .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء أهل المدينة وبعض البصريين والكوفيين : يُلْحِدون بضمّ الياء وكسر الحاء من ألحد يُلحِد في جميع القرآن . وقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الكوفة : «يَلْحَدون » بفتح الياء والحاء من لحد يلحد .
والصواب من القول في ذلك أنهما لغتان بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب في ذلك . غير أني أختار القراءة بضمّ الياء على لغة من قال : «ألحد » ، لأنها أشهر اللغتين وأفصحهما . وكان ابن زيد يقول في قوله : وَذرُوا الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أسْمائِهِ إنه منسوخ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَذَرُوا الّذِينَ يُلْحِدونَ فِي أسْمائِهِ قال : هؤلاء أهل الكفر ، وقد نسخ ، نسخه القتال .
ولا معنى لما قال ابن زيد في ذلك من أنه منسوخ ، لأن قوله : وَذَرُوا الّذِينَ يُلْحِدونَ فِي أسْمائِهِ ليس بأمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بترك المشركين أن يقولوا ذلك حتى يأذن له في قتالهم ، وإنما هو تهديد من الله للملحدين في أسمائه ووعيد منه لهم ، كما قال في موضع آخر : ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ . . . الاَية ، وكقوله : لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وهو كلام خرج مخرج الأمر بمعنى الوعيد والتهديد ، ومعناه : إن تُمهل الذين يُلحدون يا محمد في أسماء الله إلى أجل هم بالغوه ، فسوف يجزون إذا جاءهم أجل الله الذي أجّله إليهم جزاء أعمالهم التي كانوا يعملونها قبل ذلك من الكفر بالله والإلحاد في أسمائه وتكذيب رسوله .
{ ولله الأسماء الحسنى } لأنها دالة على معان هي أحسن المعاني ، والمراد بها الألفاظ وقيل الصفات . { فادعوه بها } فسموه بتلك الأسماء . { وذروا الذين يُلحدون في أسمائه } واتركوا تسمية الزائغين فيها الذين يسمونه بما لا توقيف فيه ، إذ ربما يوهم معنى فاسدا كقولهم يا أبا المكارم يا أبيض الوجه ، أو لا تبالوا بإنكارهم ما سمى به نفسه كقولهم : ما نعرف إلا رحمان اليمامة ، أو وذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام واشتقاق أسمائها منها كاللات من " الله " ، والعزى من " العزيز " ولا توافقوهم عليه أو أعرضوا عنهم فإن الله مجازيهم كما قال : { سيُجزون ما كانوا يعملون } وقرأ حمزة هنا وفي " فصلت " { يلحدون } بالفتح يقال : لحد وألحد إذا مال عن القصد .
وقوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى } الآيات ، السبب في هذه الآية على ما روي ، أن أبا جهل سمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فيذكر الله في قراءته ومرة يقرأ فيذكر الرحمن ونحو هذا فقال : محمد يزعم أن الإله واحد وهو إنما يعبد لآهلة كثيرة فنزلت هذه و { الأسماء } هنا بمعنى التسميات إجماعاً من المتأولين لا يمكن غيره ، و { الحسنى } : مصدر وصف به ، ويجوز أن تقدر { الحسنى } فعلى مؤنثه أحسن ، فأفرد وصف جميع ما لا يعقل كما قال { مآرب أخرى } وكما قال { يا جبال أوبي معه } وهذا كثير ، وحسن الأسماء إنما يتوجه بتحسين الشرع لإطلاقها ، والنص عليها ، وانضاف إلى ذلك أيضاً أنها إنما تضمنت معاني حساناً شريفة .
واختلف الناس في الاسم الذي يقتضي مدحاً خالصاً ولا يتعلق به شبهة ولا اشتراك ، إلا أنه لم ير منصوصاً هل يطلق ويسمى الله به ؟ فنص ابن الباقلاني على جواز ذلك ونص أبو الحسن الأشعري على منع ذلك ، والفقهاء والجمهور على المنع ، وهو الصواب أن لا يسمى الله تعالى إلا باسم قد أطلقته الشريعة ووقفت عليه أيضاً ، فإن هذه الشريطة التي في جواز إطلاقه من أن تكون مدحاً خالصاً لا شبهة فيه ولا اشتراك أمر لا يحسنه إلا الأقل من أهل العلوم فإذا أبيح ذلك تسور عليه من يظن بنفسه الإحسان وهو لا يحسن فأدخل في أسماء الله ما لا يجوز إجماعاً ، واختلف أيضاً في الأفعال التي في القرآن مثل قوله :
{ الله يستهزىء بهم } { ومكر الله } ونحو ذلك هل يطلق مها اسم الفاعل ؟ فقالت فرقة : لا يطلق ذلك بوجه ، وجوزت فرقة أن يقال ذلك مقيداً بسببه فيقال : الله مستهزىء بالكافرين وماكر بالذين يمكرون بالدين ، وأما إطلاق ذلك دون تقييد فممنوع إجماعاً ، والقول الأول أقوى ولا ضرورة تدفع إلى القول الثاني لأن صيغة الفعل الواردة في كتاب الله تغني ومن أسماء الله تعالى ما ورد في القرآن ومنها ما ورد في الحديث وتواتر ، وهذا هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه ، وقد ورد في الترمذي حديث عن أبي هريرة ونص فيه تسعة وتسعين اسماً ، وفي بعضها شذوذ وذلك الحديث ليس بالمتواتر وإنما المتواتر منه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة » ، ومعنى أحصاها :عدها وحفظها ، وتضمن ذلك الإيمان بها والتعظيم لها والرغبة فيها والعبرة في معانيها ، وهذا حديث البخاري ، والمتحصل منه أن لله تعالى هذه الأسماء مباحاً إطلاقها وورد في بعض دعاء النبي صلى الله عليه وسلم «يا حنان يا منان » ولم يقع هذا الاسمان في تسمية الترمذي .
وقوله : { فادعوه بها } إباحة بإطلاقها ، وقوله تعالى : { وذروا الذين } قال ابن زيد : معناه اتركوهم ولا تحاجوهم ولا تعرضوا لهم ، فالآية على هذا منسوخة بالقتال ، وقيل معناه الوعيد كقوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيداً } وقوله : { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا } ويقال ألحد ولحد بمعنى جار ومال وانحرف ، وألحد أشهر ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
****** *** ليس الإمام بالشحيحٍ الملحِد .
قال أبو علي : ولا يكاد يسمع لأحد وفي القرآن { ومن يرد فيه بإلحاد } ومنه لحد القبر المائل إلى أحد شقيه ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «يُلحِدون » بضم الياء وكسر الحاء وكذلك في النحل والسجدة ، وقرأ حمزة الأحرف الثلاثة «يَلحَدون » بفتح الياء والحاء وكذلك ابن وثاب وطلحة وعيسى والأعمش ، ومعنى الإلحاد في أسماء الله عز وجل أن يسموا اللات نظيراً إلى اسم الله تعالى قاله ابن عباس : والعزى نظيراً إلى العزيز ، قاله مجاهد ، ويسمون الله رباً ويسمون أوثانهم أرباباً ونحو هذا ، وقوله : { سيجزون ما كانوا يعملون } وعيد محض بعذاب الآخرة ، وذهب الكسائي إلى الفرق بين ألحد ولحد ، وزعم أن ألحد بمعنى مال وانحرف ، ولحد بمعنى ركن وانضوى ، قال الطبري : وكان الكسائي يقرأ جميع ما في القرآن بضم الياء وكسر الحاء إلا التي في النحل فإنه كان يقرؤها بفتح الياء والحاء ويزعم أنها بمعنى الركون وكذلك ذكر عنه أبوعلي .