قوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون }
اعلم أنه تعالى لما وصف المخلوقين لجهنم بقوله : { أولئك هم الغافلون } أمر بعده بذكر الله تعالى فقال : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } وهذا كالتنبيه على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكر الله . والمخلص عن عذاب جهنم هو ذكر الله تعالى وأصحاب الذوق والمشاهدة يجدون من أرواحهم أن الأمر كذلك فإن القلب إذا غفل عن ذكر الله ، وأقبل على الدنيا وشهواتها وقع في باب الحرص وزمهرير الحرمان ، ولا يزال ينتقل من رغبة إلى رغبة ومن طلب إلى طلب ، ومن ظلمة إلى ظلمة ، فإذا انفتح على قلبه باب ذكر الله ومعرفة الله تخلص عن نيران الآفات وعن حسرات الخسارات ، واستشعر بمعرفة رب الأرض والسموات وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى } مذكور في سور أربعة : أولها : هذه السورة . وثانيها : في آخر سورة بني إسرائيل في قوله : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى }
وثالثها : في أول طه وهو قوله : { الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى } ورابعها : في آخر الحشر وهو قوله : { هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى } .
إذا عرفت هذا فنقول : { الأسماء } ألفاظ دالة على المعاني فهي إنما تحسن بحسن معانيها ومفهوماتها ، ولا معنى للحسن في حق الله تعالى إلا ذكر صفات الكمال ونعوت الجلال ، وهي محصورة في نوعين : عدم افتقاره إلى غيره ، وثبوت افتقار غيره إليه .
واعلم أن لنا في تفسير أسماء الله كتابا كبيرا كثير الدقائق شريف الحقائق سميناه «بلوامع البينات في تفسير الأسماء والصفات » ، من أراد الاستقصاء فيه فليرجع إليه ، ونحن نذكر ههنا لمعا ونكتا منها . فنقول : إن أسماء الله يمكن تقسيمها من وجوه كثيرة .
الوجه الأول : أن نقول : الاسم إما أن يكون اسما للذات ، أو لجزء من أجزاء الذات ، أو لصفة خارجة عن الذات قائمة بها . أما اسم الذات فهو المسمى بالاسم الأعظم ، وفي كشف الغطاء عما فيه من المباحثات أسرار . وأما اسم جزء الذات فهو في حق الله تعالى محال ، لأن هذا إنما يفعل في الذات المركبة من الأجزاء ، وكل ما كان كذلك فهو ممكن ، فواجب الوجود يمتنع أن يكون له جزء .
وأما اسم الصفة فنقول : الصفة إما أن تكون حقيقية أو إضافية أو سلبية ، أو ما يتركب عن هذه الثلاثة ، وهي أربعة ، لأنه إما أن يكون صفة حقيقية مع إضافة أو مع سلب أو صفة سلبية مع إضافة أو مجموع صفة حقيقية وإضافة وسلبية . أما الصفة الحقيقية العارية عن الإضافة فكقولنا موجود عند من يقول : الوجود صفة ، أو قولنا واحد ، عند من يقول : الوحدة صفة ثانية ، وكقولنا حي ، فإن الحياة صفة حقيقية عارية عن النسب والإضافات ، وأما الصفة الإضافية المحضة فكقولنا : مذكور ومعلوم ، وأما الصفة السلبية ، فكقولنا : القدوس السلام . وأما الصفة الحقيقية مع الإضافة ، فكقولنا : عالم وقادر ، فإن العلم صفة حقيقية ، وله تعلق بالمعلوم والقادر ، فإن القدرة صفة حقيقية ، ولها تعلق بالمقدور ، وأما الصفة الحقيقية مع السلبية . فكقولنا : قديم أزلي ، لأنه عبارة عن موجود لا أول له . وأما الصفة الإضافية مع السلبية ، فكقولنا : أول . فإنه هو الذي سبق غيره وما سبقه غيره ، وأما الصفة الحقيقية مع الإضافة والسلب ، فكقولنا : حكيم ، فإنه هو الذي يعلم حقائق الأشياء ، ولا يفعل ما لا يجوز فعله فصفة العلم صفة حقيقية ، وكون هذه الصفة متعلقة بالمعلومات ، نسب وإضافات ، وكونه غير فاعل لما لا ينبغي سلب .
إذا عرفت هذا فنقول : السلوب ، غير متناهية ، والإضافات أيضا غير متناهية ، فكونه خالقا للمخلوقات صفة إضافية ، وكونه محييا ومميتا إضافات مخصوصة ، وكونه رازقا أيضا إضافة أخرى مخصوصة . فيحصل بسبب هذين النوعين من الاعتبارات أسماء لا نهاية لها لله تعالى ، لأن مقدوراته غير متناهية ، ولما كان لا سبيل إلى معرفة كنه ذاته ، وإنما السبيل إلى معرفته بمعرفة أفعاله فكل من كان وقوفه على أسرار حكمته في مخلوقاته أكثر ، كان علمه بأسماء الله أكثر . ولما كان هذا بحرا لا ساحل له ولا نهاية له ، فكذلك لا نهاية لمعرفة أسماء الله الحسنى .
النوع الثاني : في تقسيم أسماء الله ما قاله المتكلمون : وهو أن صفات الله تعالى ثلاثة أنواع : ما يجب ، ويجوز ، ويستحيل على الله تعالى . ولله تعالى بحسب كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة أسماء مخصوصة .
والنوع الثالث : في تقسيم أسماء الله أن صفات الله تعالى إما أن تكون ذاتية ، أو معنوية ، أو كانت من صفات الأفعال .
والنوع الرابع : في تقسيم أسماء الله تعالى إما أن يجوز إطلاقها على غير الله تعالى ، أو لا يجوز ، أما القسم الأول ؛ فهو كقولنا : الكريم الرحيم العزيز اللطيف الكبير الخالق ، فإن هذه الألفاظ يجوز إطلاقها على العباد ، وإن كان معناها في حق الله تعالى مغايرا لمعناها في حق العباد . وأما القسم الثاني فهو كقولنا : الله الرحمن . أما القسم الأول : فإنها إذا قيدت بقيود مخصوصة صارت بحيث لا يمكن إطلاقها إلا في حق الله تعالى كقولنا : يا أرحم الراحمين ، ويا أكرم الأكرمين ، ويا خالق السموات والأرضين .
النوع الخامس : في تقسيم أسماء الله أن يقال : من أسماء الله ما يمكن ذكره وحده ، كقولنا : يا الله يا رحمن يا حي يا حكيم ، ومنها ما لا يكون كذلك ، كقولنا : مميت وضار ، فإنه لا يجوز إفراده بالذكر ، بل يجب أن يقال : يا محيي يا مميت يا ضار يا نافع .
النوع السادس : في تقسيم أسماء الله تعالى أن يقال : أول ما يعلم من صفات الله تعالى كونه محدثا للأشياء مرجحا لوجودها على عدمها ، وذلك لأنا إنما نعلم وجوده سبحانه بواسطة الاستدلال بوجود الممكنات عليه ، فإذا دل الدليل على أن هذا العالم المحسوس ممكن الوجود والعدم لذاته ، قضى العقل بافتقاره إلى مرجح يرجح وجوده على عدمه ، وذلك المرجح ليس إلا الله سبحانه ، فثبت أن أول ما يعلم منه تعالى هو كونه مرجحا ومؤثرا ، ثم نقول ذلك المرجح إما أن يرجح على سبيل الوجوب أو على سبيل الصحة ، والأول باطل ، وإلا لدام العالم بدوامه ، وذلك باطل ، فبقي أنه إنما رجح على سبيل الصحة وكونه مرجحا على سبيل الصحة ، ليس إلا كونه تعالى قادرا ، فثبت أن المعلوم منه بعد العلم بكونه مرجحا ، هو كونه قادرا . ثم إنا بعد هذا نستدل بكون أفعاله محكمة متقنة على كونه عالما ، ثم إنا إذا علمنا كونه تعالى قادرا عالما ، وعلمنا أن العالم القادر يمتنع أن يكون إلا حيا ، علمنا من كونه قادرا عالما ، كونه حيا . فظهر بهذا أنه ليس العلم بصفاته تعالى وبأسمائه واقعا في درجة واحدة ، بل العلم بها علوم مترتبة يستفاد بعضها من بعض .
المسألة الثانية : قوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى } يفيد الحصر ، ومعناه أن الأسماء الحسنى ليست إلا لله تعالى ، والبرهان العقلي قد يدل على صحة هذا المعنى ، وذلك لأن الموجود إما واجب الوجود لذاته ، وإما ممكن لذاته ، والواجب لذاته ليس إلا الواحد وهو الله سبحانه ، وأما ما سوى ذلك الواحد ، فهو ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته ، فهو محتاج في ماهيته وفي وجوده وفي جميع صفاته الحقيقية والإضافية والسلبية إلى تكوين الواجب لذاته ، ولولاه لبقي على العدم المحض والسلب الصرف ، فالله سبحانه كامل لذاته ، وكمال كل ما سواه فهو حاصل بجوده وإحسانه ، فكل كمال وجلال وشرف ، فهو له سبحانه بذاته ولذاته وفي ذاته ، ولغيره على سبيل العارية ، والذي لغيره من ذاته ، فهو الفقر والحاجة والنقصان والعدم ، فثبت بهذا البرهان البين أن الأسماء الحسنى ليست إلا لله ، والصفات الحسنى ليست إلا لله ، وأن كل ما سواه ، فهو غرق في بحر الفناء والنقصان .
المسألة الثالثة : دلت هذه الآية على أن أسماء الله ليست إلا لله ، والصفات الحسنى ليست إلا لله ، فيجب كونها موصوفة بالحسن والكمال فهذا يفيد أن كل اسم لا يفيد في المسمى صفة كمال وجلال فإنه لا يجوز إطلاقه على الله سبحانه ، وعند هذا نقل عن جهم بن صفوان أنه قال : لا أطلق على ذات الله تعالى اسم الشيء . قال : لأن اسم الشيء يقع على أخس الأشياء وأكثرها حقارة وأبعدها عن درجات الشرف ، وإذا كان كذلك وجب القطع بأنه لا يفيد في المسمى شرفا ورتبة وجلالة .
وإذا ثبت هذا فنقول : ثبت بمقتضى هذه الآية أن أسماء الله يجب أن تكون دالة على الشرف والكمال ، وثبت أن اسم الشيء ليس كذلك فامتنع تسمية الله بكونه شيئا . قال ومعاذ الله أن يكون هذا نزاعا في كونه في نفسه حقيقة وذاتا وموجودا ، إنما النزاع وقع في محض اللفظ ، وهو أنه هل يصح تسميته بهذا اللفظ أم لا ؟ فأما قولنا إنه منشئ الأشياء ، فهو اسم يفيد المدح والجلال والشرف ، فكان إطلاق هذا الاسم على الله حقا ، ثم أكد هذه الحجة بأنواع أخر من الدلائل . فالأول : قوله تعالى : { ليس كمثله من شيء } معناه ليس مثل مثله شيء ، ولا شك أن عين الشيء مثل لمثل نفسه . فلما ثبت بالعقل أن كل شيء فهو مثل مثل نفسه ، ودل الدليل القرآني على أن مثل مثل الله ليس بشيء ، كان هذا تصريحا بأنه تعالى غير مسمى باسم الشيء ، وليس لقائل أن يقول «الكاف » في قوله : { ليس كمثله } حرف زائد لا فائدة فيه ، لأن حمل كلام الله على اللغو والعبث وعدم الفائدة بعيد .
الحجة الثانية : قوله تعالى : { خالق كل شيء } ولو كان تعالى داخلا تحت اسم الشيء لزم كونه تعالى خالقا لنفسه وهو محال . لا يقال هذا عام دخله التخصيص ، لأنا نقول هذا كلام لا بد من البحث عنه فنقول : ثبت بحسب العرف المشهور أنهم يقيمون الأكثر مقام الكل ، ويقيمون الشاذ النادر مقام العدم .
إذا ثبت هذا فنقول : إنه إذا حصل الأكثر الأغلب وكان الغالب الشاذ الخارج نادرا ، ألحقوا ذلك الأكثر بالكل ، وألحقوا ذلك النادر بالمعدوم ، وأطلقوا لفظ الكل عليه ، وجعلوا ذلك الشاذ النادر من باب تخصيص العموم .
وإذا عرفت هذا فنقول : إن بتقدير أن يصدق على الله تعالى اسم الشيء كان أعظم الأشياء هو الله تعالى ، وإدخال التخصيص في مثل هذا المسمى يكون من باب الكذب ، فوجب أن يعتقد أنه تعالى ليس مسمى باسم الشيء حتى لا يلزمنا هذا المحذور .
الحجة الثالثة : هذا الاسم ما ورد في كتاب الله ولا سنة رسوله ، وما رأينا أحدا من السلف قال في دعائه يا شيء ، فوجب الامتناع منه ، والدليل على أنه غير وارد في كتاب الله أن الآية التي يتوهم اشتمالها على هذا الاسم قوله تعالى : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم } وقد بينا في سورة الأنعام أن هذه الآية لا تدل على المقصود ، فسقط الكلام فيه .
فإن قال قائل : فقولنا : موجود ومذكور وذات ومعلوم ، ألفاظ لا تدل على الشرف والجلال فوجب أن تقولوا إنه لا يجوز إطلاقها على الله تعالى . فنقول : الحق في هذا الباب التفصيل ، وهو أنا نقول : ما المراد من قولك : إنه تعالى شيء ، وذات ، وحقيقة ؟ إن عنيت أنه تعالى في نفسه ذات وحقيقة وثابت وموجود وشيء ، فهو كذلك من غير شك ولا شبهة ، وإن عنيت به أنه هل يجوز أن ينادى بهذه الألفاظ أم لا ؟ فنقول لا يجوز . لأنا رأينا السلف يقولون : يا الله يا رحمن يا رحيم إلى سائر الأسماء الشريفة ، وما رأينا ولا سمعنا أن أحدا يقول : يا ذات يا حقيقة يا مفهوم ويا معلوم ، فكان الامتناع عن مثل هذه الألفاظ في معرض النداء والدعاء واجبا لله تعالى . والله أعلم .
المسألة الرابعة : قوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } يدل على أنه تعالى حصلت له أسماء حسنة ، وأنه يجب على الإنسان أن يدعو الله بها ، وهذا يدل على أن أسماء الله توقيفية لا اصطلاحية . ومما يؤكد هذا أنه يجوز أن يقال : يا جواد ، ولا يجوز أن يقال : يا سخي ، ولا أن يقال يا عاقل يا طبيب يا فقيه ، وذلك يدل على أن أسماء الله تعالى توقيفية لا اصطلاحية .
المسألة الخامسة : دلت الآية على أن الاسم غير المسمى لأنها تدل على أن أسماء الله كثيرة لأن لفظ الأسماء لفظ الجمع ، وهي تفيد الثلاثة فما فوقها ، فثبت أن أسماء الله كثيرة ولا شك أن الله واحد ، فلزم القطع بأن الاسم غير المسمى وأيضا قوله : { ولله الأسماء الحسنى } يقتضي إضافة الأسماء إلى الله ، وإضافة الشيء إلى نفسه محال . وأيضا فلو قيل : ولله الذوات لكان باطلا . ولما قال : { ولله الأسماء } كان حقا وذلك يدل على أن الاسم غير المسمى .
المسألة السادسة : قوله : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } يدل على أن الإنسان لا يدعو ربه إلا بتلك الأسماء الحسنى ، وهذه الدعوة لا تتأتى إلا إذا عرف معاني تلك الأسماء ، وعرف بالدليل أن له إلها وربا خالقا موصوفا بتك الصفات الشريفة المقدسة ، فإذا عرف بالدليل ذلك فحينئذ يحسن أن يدعو ربه بتلك الأسماء والصفات ، ثم إن لتلك الدعوة شرائط كثيرة مذكورة بالاستقصاء في كتاب «المنهاج » لأبي عبد الله الحليمي ، وأحسن ما فيه أن يكون مستحضرا لأمرين : أحدهما : عزة الربوبية . والثانية : ذلة العبودية . فهناك يحسن ذلك الدعاء ويعظم موقع ذلك الذكر . فأما إذا لم يكن كذلك كان قليل الفائدة ، وأنا أذكر لهذا المعنى مثالا ، وهو أن من أراد أن يقول في تحريمة صلاته الله أكبر ، فإنه يجب أن يستحضر في النية جميع ما أمكنه من معرفة آثار حكمة الله تعالى في تخليق نفسه وبدنه وقواه العقلية والحسية أو الحركية ، ثم يتعدى من نفسه إلى استحضار آثار حكمة الله في تخليق جميع الناس ، وجميع الحيوانات ، وجميع أصناف النبات والمعادن ، والآثار العلوية من الرعد والبرق والصواعق التي توجد في كل أطراف العالم ، ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق الأرضين والجبال والبحار والمفاوز ، ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق طبقات العناصر السفلية والعلوية ، ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق أطباق السموات على سعتها وعظمها ، وفي تخليق أجرام النيرات من الثوابت والسيارات ، ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق الكرسي وسدرة المنتهى ، ثم يستحضر آثار قدرته في تخليق العرش العظيم المحيط بكل هذه الموجودات ، ثم يستحضر آثار قدرته في تخليق الملائكة من حملة العرش والكرسي وجنود عالم الروحانيات ، فلا يزال يستحضر من هذه الدرجات والمراتب أقصى ما يصل إليه فهمه وعقله وذكره وخاطره وخياله ، ثم عند استحضار جميع هذه الروحانيات والجسمانيات على تفاوت درجاتها وتباين منازلها ومراتبها ، ويقول الله أكبر ، ويشير بقوله –الله- إلى الموجود الذي خلق هذه الأشياء وأخرجها من العدم إلى الوجود ، ورتبها بما لها من الصفات والنعوت ، وبقوله –أكبر- أي أنه لا يشبه لكبريائه وجبروته وعزه وعلوه وصمديته هذه الأشياء بل هو أكبر من أن يقال : إنه أكبر من هذه الأشياء . فإذا عرفت هذا المثال الواحد فقس الذكر الحاصل مع العرفان والشعور ، وعند هذا ينفتح على عقلك نسمة من الأسرار المودعة تحت قوله : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } .
أما قوله تعالى : { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة { يلحدون } ووافقه عاصم والكسائي في النحل . قال الفراء : { يلحدون } و{ يلحدون } لغتان : يقال : لحدت لحدا وألحدت ، قال أهل اللغة : معنى الإلحاد في اللغة الميل عن القصد . قال ابن السكيت : الملحد العادل عن الحق المدخل فيه ما ليس منه . يقال : قد ألحد في الدين ولحد ، وقال أبو عمرو من أهل اللغة : الإلحاد : العدل عن الاستقامة والانحراف عنها . ومنه اللحد الذي يحفر في جانب القبر . قال الواحدي رحمه الله : والأجود قراءة العامة لقوله تعالى : { ومن يرد فيه بإلحاد } والإلحاد أكثر في كلامهم لقولهم : ملحد ، ولا تكاد تسمع العرب يقولون لاحد .
المسألة الثانية : قال المحققون : الإلحاد في أسماء الله يقع على ثلاثة أوجه : الأول : إطلاق أسماء الله المقدسة الطاهرة على غير الله ، مثل أن الكفار كانوا يسمون الأوثان بآلهة ، ومن ذلك أنهم سموا أصناما لهم باللات والعزى والمناة ، واشتقاق اللات من الإله ، والعزى من العزيز ، واشتقاق مناة من المنان . وكان مسيلمة الكذاب لقب نفسه بالرحمن . والثاني : أن يسموا الله بما لا يجوز تسميته به ، مثل تسمية من سماه –أبا- للمسيح . وقول جمهور النصارى : أب ، وابن ، وروح القدس ، ومثل أن الكرامية يطلقون لفظ الجسم على الله سبحانه ويسمونه به ، ومثل أن المعتزلة قد يقولون في أثناء كلامهم ، لو فعل تعالى كذا وكذا لكان سفيها مستحقا للذم ، وهذه الألفاظ مشعرة بسوء الأدب . قال أصحابنا : وليس كل ما صح معناه جاز إطلاقه باللفظ في حق الله ، فإنه ثبت بالدليل أنه سبحانه هو الخالق لجميع الأجسام ، ثم لا يجوز أن يقال : يا خالق الديدان والقرود والقردان ، بل الواجب تنزيه الله عن مثل هذه الأذكار ، وأن يقال : يا خالق الأرض والسموات يا مقيل العثرات يا راحم العبرات إلى غيرها من الأذكار الجميلة الشريفة . والثالث : أن يذكر العبد ربه بلفظ لا يعرف معناه ولا يتصور مسماه ، فإنه ربما كان مسماه أمرا غير لائق بجلال الله ، فهذه الأقسام الثلاثة هي الإلحاد في الأسماء .
فإن قال قائل : هل يلزم من ورود الأول في إطلاق لفظه على الله تعالى أن يطلق عليه سائر الألفاظ المشتقة منه على الإطلاق ؟
قلنا : الحق عندي أن ذلك غير لازم لا في حق الله تعالى ، ولا في حق الملائكة والأنبياء وتقريره : أن لفظ «علم » ورد في حق الله تعالى في آيات منها قوله : { وعلم آدم الأسماء كلها } { علمك ما لم تكن تعلم } { وعلمناه من لدنا علما } { الرحمن علم القرآن } ثم لا يجوز أن يقال في حق الله تعالى يا معلم ، وأيضا ورد قوله : { يحبهم ويحبونه } ثم لا يجوز عندي أن يقال يا محب . وأما في حق الأنبياء ، فقد ورد في حق آدم عليه السلام : { وعصى آدم ربه فغوى } ثم لا يجوز أن يقال إن آدم كان عاصيا غاويا ، وورد في حق موسى عليه السلام { يا أبت استأجره } ثم لا يجوز أن يقال إنه عليه السلام كان أجيرا ، والضابط أن هذه الألفاظ الموهمة يجب الاقتصار فيها على الوارد ، فأما التوسع بإطلاق الألفاظ المشتقة منها فهي عندي ممنوعة غير جائزة .
ثم قال تعالى : { سيجزون ما كانوا يعملون } فهو تهديد ووعيد لمن ألحد في أسماء الله . قالت المعتزلة : الآية قد دلت على إثبات العمل للعبد ، وعلى أن الجزاء مفرع على عمله وفعله .