البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلِلَّهِ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ فَٱدۡعُوهُ بِهَاۖ وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلۡحِدُونَ فِيٓ أَسۡمَـٰٓئِهِۦۚ سَيُجۡزَوۡنَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (180)

لحد وألحد لغتان قيل بمعنى واحد هو العدول عن الحقّ والإدخال فيه ما ليس منه قاله ابن السكيت ، وقال غيره : العدول عن الاستقامة والرّباعي أشهر في الاستعمال من الثلاثي وقال الشاعر :

ليس الأمير بالشحيح الملحد *** ومنه لحد القبر وهو الميل إلى أحد شقيه ومن كلامهم ما فعل الواحد قالوا : لحده اللاحد ، وقيل ألحد بمعنى مال وانحرف ولحد بمعنى ركن وانضوى قاله الكسائي ، متن متانة اشتدّ وقوي ،

{ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون } قال مقاتل : دعا رجل الله تعالى في صلاته ومرة دعا الرحمن ، فقال أبو جهل : أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربّاً واحداً فما بال هذا يدعو اثنين فنزلت ، ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه ذرأ كثيراً من الجنّ والإنس للنار ذكر نوعاً منهم وهم { الذين يلحدون في أسمائه } وهم أشدّ الكفار عتباً أبو جهل وأضرابه وأيضاً لما نبه على أن دخولهم جهنم هو للغفلة عن ذكر الله والمخلص من العذاب هو ذكر الله أمر بذكر الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا والقلب إذا غفل عن ذكر الله وأقبل على الدنيا وشهواتها وقع في الحرص ، وانتقل من رغبة إلى رغبة ومن طلب إلى طلب ومن ظلمة إلى ظلمة ، وقد وجدنا ذلك بالذوق حتى إن أحدهم ليصلي الصلوات كلها قضاء في وقت واحد فإذا انفتح على قلبه باب ذكر الله تعالى تخلص من آفات الغفلة وامتثل ما آمره الله به واجتنب ما نهى عنه .

قال الزمخشري : التي هي أحسن الأسماء لأنها لا تدل على معان حسنة من تحميد وتقديس وغير ذلك انتهى ، فالحسنى هي تأنيث الأحسن ووصف الجمع الذي لا يعقل بما يوصف به الواحدة كقوله { ولى فيها مأرب أخرى } وهو فصيح ولو جاء على المطابقة للجمع لكان التركيب الحسن على وزن الأخر كقوله { فعدّة من أيام أخر } لأن جمع ما لا يعقل يخبر عنه ويوصف بجمع المؤنثات وإن كان المفرد مذكّراً ، وقيل : { الحسنى } مصدر وصف به ، قال ابن عطية : و { والأسماء } هاهنا : بمعنى التسميات إجماعاً من المتأولين لا يمكن غيره انتهى .

ولا تحرير فيما قال لأنّ التسمية مصدر والمراد هنا الألفاظ التي تطلق على الله تعالى وهي الأوصاف الدالة على تغاير الصفات لا تغاير الموصوف كما تقول جاء زيد الفقيه الشجاع الكريم وكون الاسم الذي أمر تعالى أن يدعى به حسناً هو ما قرره الشرع ونص عليه في إطلاقه على الله ومعنى { فادعوه بها } أي نادوه بها كقولك : يا الله يا رحمن يا مالك وما أشبه ذلك ، وقال الزمخشري : فسمّوه بتلك الأسماء جعله من باب دعوت ابني عبد الله أي سميته بهذا الاسم واختلف في الاسم الذي يقتضي مدحاً خالصاً ولا تتعلق به شبهة ولا اشتراك إلا أنه لم يرد منصوصاً هل يطلق ويسمى الله تعالى به فنصّ القاضي أبو بكر الباقلاني على الجواز ونصّ أبو الحسن والأشعري على المنع ، وبه قال الفقهاء والجمهور وهو الصواب واختلف أيضاً في الأفعال التي في القرآن كقوله تعالى :

{ الله يستهزئ بهم } و { يمكرون ويمكر الله } هل يطلق عيه منه تعالى اسم فاعل مقيد بمتعلقه فيقال الله مستهزىء بالكافرين وماكر بالذين يمكرون فجوّز ذلك فرقة ومنعت منه فرقة وهو الصواب وأما إطلاق اسم الفاعل بغير قيده فالإجماع على منعه ، وروى الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة النص على تسعة وتسعين اسماً مسرودة اسماً اسماً ، قال ابن عطية : وفي بعضها شذوذ وذلك الحديث ليس بالمتواتر وإن كان قد قال فيه أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من طريق حديث صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث وإنما المتواتر منه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « إنّ لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة » ومعنى أحصاها عدّها وحفظها وتضمّن ذلك الإيمان بها والتعظيم لها والعبرة في معانيها وهذا حديث البخاري انتهى ، وتسمية هذا الحديث متواتراً ليس على اصطلاح المحدثين في المتواتر وإنما هو خبر آحاد .

وفي بعض دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم « يا حنان يا منان » ولم يردا في جامع الترمذي وقد صنّف العلماء في شرح أسماء الله الحسنى كأبي حامد الغزالي وابن الحكم بن برجان وأبي عبد الله الرازي وأبي بكر بن العربي وغيرهم ، قال الزمخشري : ويجوز أن يراد ولله الأوصاف الحسنى وهي الوصف بالعدل والخير والإحسان وانتفاء شبه الخلق وصفوه بها { وذروا الذين يلحدون } في صفاته فيصفونه بمشيئة القبائح وخلق الفحشاء والمنكر وبما يدخل في التشبيه كالرؤية ونحوها ، وقيل : معنى قوله { وذروا الذين يلحدون في أَسمائه } اتركوهم ولا تحاجّوهم ولا تعرضوا لهم قاله ابن زيد فتكون الآية على هذا منسوخة بالقتال ، وقيل : معناه الوعيد كقوله { ذرني ومن خلقت وحيداً } وقوله { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا } وقال الزمخشري واتركوا تسمية الذين يميلون عن الحق والصواب فيها فيسمونه بغير الأسماء الحسنى وذلك أن يسموه بما لا يجوز عليه كما سمعنا البدو بجهلهم يقولون : يا أبا المكارم يا أبيض الوجه يا سخيّ ، أو أن يأبوا تسميته ببعض أسمائه الحسنى نحو أن يقولوا : يا الله ولا يقولوا : يا رحمن ، وقيل : معنى الإلحاد في أسمائه تسميتهم أوثانهم اللات نظراً إلى اسم الله تعالى والعزى نظراً إلى العزيز قاله مجاهد ، ويسمون الله أبا وأوثانهم أرباباً ونحو هذا ، وقال ابن عباس : معنى { يلحدون } يكذّبون ، وقال قتادة : يشركون ، وقال الخطابي : الغلط في أسمائه والزّيغ عنها إلحاد ، وقرأ حمزة : { يلحدون } بفتح الياء والحاء وكذا في النحل والسجدة وهي قراءة ابن وثاب والأعمش وطلحة وعيسى ، وقرأ باقي السبعة بضم الياء وكسر الحاء فيهنّ و { سيجزون } وعيد شديد واندرج تحت قوله { ما كانوا يعملون } الإلحاد في أسمائه وسائر أفعالهم القبيحة .