ثم حكى - سبحانه - ما قاله المؤمنون الصادقون على سبيل الإِنكار لمسالك المنافقين الخبيثة وتوبيخهم على ضعف إيمانهم ، وهوان نفوسهم فقال - تعالى : { وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ } .
قال الآلوسي : قوله : { وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ } كلام مستأنف لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة : - وهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي بإثبات الواو مع الرفع .
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر بغير واو على أنه استئناف بياني ، كأنه قيل : فماذا يقول المؤمنون حينئذ ؟ .
وقرأ أبو عمرو ويعقوب : ويقول بالنصب عطفا على { فَيُصْبِحُواْ } .
وقوله : { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي : أقوى أيمانهم وأغلظها . والجهد : الوسع والطاقة والمشقة .
يقال جهد نفسه يجهدها في الأمر إذا بلغ بها أقصى وسعها وطاقتها فيه . والمراد : أنهم أكدوا الإِيمان ووثقوها بكل ألفاظ التأكيد والتوثيق .
والمعنى : ويقول الذين آمنوا بعضهم لبعض مستنكرين ما صدر عن المنافقين من خداع وكذب ، ومتعجبين من ذبذبتهم والتوائهم : يقولون مشيرين إلى المنافقين : أهؤلاء الذين أقسموا بالله مؤكدين إيمانهم بأقوى المؤكدات وأوثقها ، بأن يكونوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومعنا في ولايتهم ونصرتهم ومعونتهم .
فالاستفهام للإِنكار والتعجيب من أحوال هؤلاء المنافقين الذين مردوا على الخداع والكذب .
وقد ذكر صاحب الكشاف وجها آخر في معنى ويقول الذين آمنوا فقال : فإن قلت : لمن يقولون هذا القول ؟ قلت : إما أن يقوله بعضهم لبعض تعجبا من حالهم ، واغتباطا بما من الله عليهم من التوفيق في الإِخلاص { أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ } لكم بأغلظ الإِيمان أنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار .
وإما أن يقولوه لليهود ، لأنهم - أي المنافقون - حلفوا لهم بالمعاضدة والنصرة كما حكى الله عنهم { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } ثم خذلوهم - ، :
وعلى كلا الوجهين فالجملة الكريمة تنعى على المنافقين كذبهم وجبنهم ، وتعجب الناس من طباعهم الذميمة ، وأخلاقهم المرذولة .
وقوله : { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } أي : فسدت أعمالهم وبطلت فصابروا خاسرين في الدنيا والآخرة .
ويحتمل أن تكون هذه الجملة مما حكاه الله - تعالى - من قول المؤمنين ويحتمل أنها من كلام الله - تعالى - وقد ساقها على سبيل الحكم عليهم بفساد أعمالهم ، وسوء مصيرهم .
هذا ، وقد اشتملت هذه الآيات الكريمة على ضرورب من توكيد النهي عن موالاة أعداء الله - تعالى - بأساليب متعددة .
منها : النهي الصريح كما في قوله - تعالى - : { لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ } .
ومنها : بيان علة الني كما في قوله : { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } .
ومنها : التصريح بأن من يواليهم فهو منهم وذلك في قوله : { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } .
ومنها : تسجيل الظلم على من يواليهم كما في قوله : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } .
ومنها : الإِخبار بأن موالاتهم من طبيعة الذين في قلوبهم مرض قال - تعالى - : { فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ } .
ومنها : قطع أطماع الموالين لهم وتبشير المؤمنين بالفوز قال - تعالى - : { فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } .
ومنها : الإِخبار عن حال الموالين لهم بقوله : { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } .
وهنا قد يرد سؤال وهو : إن الآيات الكريمة وما يشبهها من الآيات القرآنية تؤكد النهي عن موالاة غير المسلمين ومودتهم فهل هذا النهي على إطلاقه ؟
والجواب عن ذلك أن غير المسلمين أقسام ثلاثة : القسم الأول : وهم الذين يعيشون مع المسلميلن ويسالمونهم ، ولا يعملون لحساب غيرهم ؛ ولم يبدر منهم ما يفضي إلى سوء الظن بهم وهؤلاء لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ، ولا مانع من مودتهم والإِحسان إليهم كما في قوله - تعالى - { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتقسطوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } والقسم الثاني : وهم الذين يقاتلون المسلمين ، ويسيئون إليهم بشتى الطرق وهؤلاء لا تصح مصافاتهم ، ولا تجوز موالاتهم ، وهم الذين عناهم الله في الآيات التي معنا وفيما يشبهها من آيات كما في قوله - تعالى -
{ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدين وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ على إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فأولئك هُمُ الظالمون } والقسم الثالث : قوم لا يعلنون العداوة لنا ولكن القرائن تدل على أنهم لا يبحبوننا بل يحبون أعداءنا ، وهؤلاء يأمرنا ديننا بأن نأخذ حذرنا منهم دون أن نعتدي .
ومهما تكن أحوال غير المسلمين ؛ فإنه لا يجوز لولي الأمر المسلم أن يوكل إليهم ما يتعلق بأسرار الدولة الإسلامية . أو أن يتخذهم بطانة له بحيث يطلعون على الأمور التي يؤدي إفشاؤها إلى خسارة الأمة في السلم أو الحرب .
قوله : { يقول الّذين آمنوا } قرأه الجمهور { يقول } بدون واو في أوّله على أنّه استئناف بياني جواب لسؤال من يسأل : ماذا يقول الّذين آمنوا حينئذٍ . أي إذا جاء الفتح أو أمر من قوة المسلمين ووهنَ اليهود يقول الّذين آمنوا
وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف { ويَقول } بالواو وبرفع { يقول } عطفاً على { فعسى الله } ، وقرأه أبو عمرو ، ويعقوب بالواو أيضاً وبنصب { يقول } عطفاً على { أن يأتي } . والاستفهام في { أهؤلاء } مستعمل في التعجّب من نفاقهم .
و { هؤلاء } إشارة إلى طائفة مقدّرة الحصول يومَ حصول الفتح ، وهي طائفة الّذين في قلوبهم مرض . والظاهر أنّ { الّذين } هو الخبر عن { هؤلاء } لأنّ الاستفهام للتّعجب ، ومحلّ العجب هو قَسمَهم أنّهم معهم ، وقد دلّ هذا التعجّب على أنّ المؤمنين يظهر لهم من حال المنافقين يوم إتيان الفتح ما يفتضح به أمرهم فيعجبون من حلفهم على الإخلاص للمؤمنين .
وجَهْدُ الأيمان بفتح الجيم أقواها وأغلظها ، وحقيقة الجَهد التعب والمشقّة ومنتهى الطاقة ، وفِعله كمنع . ثم أطلق على أشدِّ الفعلِ ونهاية قوّته لِمَا بَيْن الشدّة والمشقّة من الملازمة ، وشاع ذلك في كلامهم ثُمّ استعمل في الآية في معنى أوْكَدِ الأيمان وأغظلها ، أي أقسموا أقوى قَسَم ، وذلك بالتّوكيد والتّكرير ونحو ذلك ممّا يغلّظ به اليمين عُرفاً . ولم أر إطلاق الجَهد على هذا المعنى فيما قبلَ القرآن . وانتصبَ { جَهدَ } على المفعولية المطلقة لأنّه بإضافته إلى « الأيمان » صار من نوع اليمين فكان مفعولاً مطلقاً مبيّناً للنّوع . وفي « الكشاف » في سورة النّور جعله مصدراً بدلاً من فعله وجعل التّقدير : أقسموا بالله يجهدون أيمانَهم جَهداً ، فلمّا حذف الفعل وجعل المفعول المطلق عوضاً عنه قدّم المفعول المطلق على المفعول به وأضيف إليه .
وجملة { حَبِطت أعمالهم } استئناف ، سواء كانت من كلام الّذين آمنوا فتكون من المحكي بالقَول ، أم كانت من كلام الله تعالى فلا تكونه . وحبطت معناه تلِفت وفسَدت ، وقد تقدّم في قوله تعالى : { فأولئك حبطت أعمالهم في الدّنيا والآخرة } في سورة البقرة ( 217 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.