الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَهَـٰٓؤُلَآءِ ٱلَّذِينَ أَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُواْ خَٰسِرِينَ} (53)

قوله تعالى : { وَيَقُولُ } : قرأ أبو عمرو والكوفيون بالواو قبل " يقول " والباقون بإسقاطها ، إلا أنَّ أبا عمرو ونصب الفعل بعد الواو ، وروى عنه علي بن نصر الرفع كالكوفيين ، فتحصَّل فيه ثلاثُ قراءات : " يقول " من غير واو " ويقول " بالواو والنصب ، و " يقول " بالواو والرفع . فأمَّا قراءةُ مَنْ قرأ " يقول " من غير واو فهي جملةٌ مستأنفة سِيقَتْ جواباً لسؤالٍ مقدر ، كأنه لمَّا تقدَّم قولُه تعالى : { فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ } إلى قوله : { نَادِمِينَ } سأل سائل فقال : ماذا قال المؤمنون حنيئذ ؟ فأجيبَ بقوله تعالى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ } إلى آخره ، وهو واضح ، والواو ساقطةٌ في مصاحف مكة والمدينة والشام ، والقارئ بذلك هو صاحبُ هذه المصاحف ، فإن القارئين بذلك ابنُ كثير المكي وابن عامر الشامي ونافع المدني ، فقراءتُهم موافقةٌ لمصاحفهم ، وليس في هذا أنهم إنما قرؤوا كذلك لأجلِ المصحف فقط ، بل وافَقَتْ روايتُهم مصاحفَهم على ما بيَّنَتْهُ غيرَ مرة .

وأمَّا قراءة الواو والرفع فواضحة أيضاً لأنها جملة ابتُدئ بالإِخبار بها ، فالواوُ استئنافيةٌ لمجرد عطف جملة على جملة ، فالواو ثابتة في مصاحف الكوفة والمشرق ، والقارئُ بذلك هو صاحبُ هذا المصحف ، والكلام كما تقدَّم أيضاً . وأمَّا قراءةُ أبي عمرو فهي التي تحتاج إلى فَضْلِ نظر ، واختلف الناسُ في ذلك على ثلاثةِ أوجه ، أحدُها : أنه منصوب عطفاً على " فيصحبوا " على أحد الوجهين المذكورين في نصبِ " فيُصْبحوا " وهو الوجه الثاني ، أعني كونَه منصوباً بإضمار " أَنْ " في جوابِ الترجِّي بعد الفاء إجراءً للترجِّي مُجْرى التمني ، وفيه خلافٌ مشهور بين البصريين والكوفيين ، فالبصريون يمنعونَه والكوفيون يُجيزونه مستدلِّين على ذلك بقراءِة نافع : { لعله يزَّكى أو يَذَّكَّرُ فتنفعَه } بنصب " تنفعه " وبقراءة عاصم في رواية حفص : " لعلي أبلغُ الأسبابَ أسبابَ السماواتِ فأطَّلِعَ " بنصب " فأطَّلِعَ " وسيأتي الجوابُ عن الآيتين الكريمتين في موضعِه . وهذا الوجهُ - أعني عطفَ " ويقول " على " فيصبحوا " قال الفارسي وتبعه جماعةٌ ، ونقله عنه أبو محمد بن عطية ، وذكرَه أبو عمرو بن الحاجب أيضاً ، قال الشيخ شهابُ الدين أبو شامة بعد ذكره الوجهَ المتقدِّم : " وهذا وجهٌ جيد أفادنيه الشيخ أبو عمرو بن الحاجب ولم أَرَه لغيرِه ، وذكروا وجوهاً كلُّها بعيدةٌ متعسِّفة " انتهى . قلت : وهذا - كما رأيتَ - منقولٌ مشهور عن أبي علي الفارسي ، وأمَّا استجادتُه هذا الوجهَ فإنما يتمشى على قول الكوفيين ، وهو مرجوحٌ كما تقرر في علم النحو .

الثاني : أنه منصوبٌ عطفاً على المصدر قبلَه وهو الفتحُ كأنه قيل : فعسى اللَّهُ أن يأتِيَ بالفتحِ وبأَنْ يقولَ ، أي : وبقولِ الذين آمنوا ، وهذا الوجهُ ذكره أبو جعفر النحاس ، / ونظَّره بقول الشاعر :

لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني *** أحبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفوفِ

وقول الآخر :

لقد كانَ في حَوْلٍ ثَواءٍ ثويتُه *** تَقَضِّي لُباناتٍ ويَسْأَمَ سائِمُ

وهذا مردودٌ من ثلاثةِ أوجه ، أحدُها : أنه يؤدِّي ذلك إلى الفصل بين أبعاضِ الصلةِ بأجنبي ، وذلك أنَّ الفتحَ على قوله مؤولٌ ب " أَنْ " والفعلِ تقديرُه : أَنْ يأتِيَ بأن يفتحَ وبأَنْ يقولَ ، فيقعُ الفصلُ بقوله : { فيُصبحوا } وهو أجنبي لأنه معطوفٌ على " يأتي " الثاني : أن هذا المصدرَ - وهو الفتح - ليس يُراد به انحلالُه لحرفٍ مصدري وفعلٍ ، بل المرادُ به مصدرٌ غيرُ مرادٍ به ذلك نحو : يعجبني ذكاؤك وعلمك . الثالث : أنه وإنْ سُلِّم انحلالُه لحرف مصدري وفعل فلا يكون المعنى على : " فعسى الله أن يأتيَ بأَنْ يقولَ الذين آمنوا " فإنه نابٍ عنه نُبُوّاً ظاهراً .

الثالث- من أوجه نصبِ " ويقول " - : أنه منصوبٌ عطفاً على قوله : " يأتي " أي : فعسى اللَّهُ أَنْ يأتيَ ويقولَ ، وإلى ذلك ذهب الزمخشري ولم يَعْتَرض عليه بشيء ، وقد رُدَّ ذلك بأنه يلزمُ عطفُ ما لا يجوز أن يكون خبراً على ما هو خبر ، وذلك أنَّ قولَه : { أن يأتيَ } خبرُ عسى وهو صحيحٌ ، لأنَّ فيه رابطاً عائداً على اسم " عسى " وهو ضميرُ الباري تعالى ، وقولُه : " ويقول " ليس فيه ضميرٌ يعودُ على اسم " عسى " فكيف يَصِحُّ جَعْلُه خبراً ؟ وقد اعتذر مَنْ أجازَ ذلك عنه بثلاثة أوجه ، أَحدُها : أنه من باب العطفِ على المعنى ، والمعنى : فَعَسى أَنْ يأتي الله بالفتح وبقولِ الذين آمنوا ، فتكون " عسى " تامةً لإِسنادها إلى " أَنْ " وما في حَيِّزها ، فلا تحتاجُ حينئذ إلى رابط ، وهذا قريبٌ من قولهم " العطف على التوهم " نحو :

{ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ } [ المنافقون : 10 ] . الثاني أنّ { أَنْ ياتي } بدلٌ من اسم الله لا خبرٌ ، وتكونُ " عسى " حينئذ تامةً ، كأنه قيل : فعسى أن يقولَ الذين آمنوا ، وهذان الوجهان منقولان عن أبي عليّ الفارسيّ ؟ إلا أنَّ الثاني لا يَصِحُّ لأنهم نَصُّوا على أنَّ عسى واخلولق وأوشك من بين سائر أخواتها يجوز أن تكونَ تامةً بشرطِ أن يكونَ مرفوعُها : " أن يفعل " قالوا : ليوجَدَ في الصورةِ مسندٌ ومسندٌ إليه ، كما قالوا / ذلك في " ظن " وأخواتِها : إنَّ " أَنْ " و " أَنَّ " تسدُّ مسدَّ مفعوليها . والثالث : أن ثم ضميراً محذوفاً هو مصحِّحٌ لوقوعِ " ويقول " خبراً عن عسى ، والتقدير : ويقولُ الذين آمنوا به أي : بالله ، ثم حُذِفَ للعلم به ، ذكر ذلك أبو البقاء ، وقال ابن عطية بعد حكايتِه نصبَ " ويقولَ " عطفاً على " يأتي " : " وعندي في منع " عسى الله أن يقول المؤمنون " نظرٌ ، إذ الله تعالى يُصَيِّرهم يقولون ذلك بنصرِه وإظهاره دينه " قلت : قولُ ابن عطية في ذلك يشبه قولَ أبي البقاء في كونِه قَدَّره ضميراً عائداً على اسم " عسى " يَصِحُّ به الربط .

وبعضُ الناسِ يُكْثِرُ هذه الأوجه ويوصلُها إلى سبعة وأكثر ، وذلك باعتبار تصحيحِ كلِّ وجهٍ من الأوجه الثلاثة التي ذكرتها لك ، ولكن لا يخرج حاصلُها عن ثلاثة ، وهو النصبُ : إمَّا عطفاً على " أن يأتي " وإما على " فيصبحوا " وإمَّا على " بالفتح " ، وقد تقدَّم لك تحقيقها .

قوله : { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } في انتصابِه وَجْهان ، أظهرُهما : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ ناصبُه " أَقْسموا " فهو من معناه ، والمعنى : أَقْسَموا إقسامَ اجتهادٍ في اليمين . والثاني - أجازُه أبو البقاء وغيره - أنه منصوبٌ على الحالِ كقولهم : " افعَلْ ذلك جَهْدَك " أي : مجتهداً ، ولا يُبالي بتعريفه لفظاً فإنه مؤولٌ بنكرة على ما ذكرته لك ، وللنحْويين في هذه المسألة أبحاث ، والمعنى هنا : أقسموا بالله مجتهدين في أيمانهم .

قوله : { إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ } هذه الجملةُ لا محلَّ لها من الإِعراب فإنها تفسيرٌ وحكاية لمعنى القسم لا لألفاظِهم ، إذ لو كانَتْ حكايةً لألفاظهم لقيل : إنَّا معكم ، وفيه نظرٌ ، إذ يجوزُ لك أن تقول : " حَلَفَ زيدٌ لأفعَلَنَّ " أو " ليفعلن " ، فكما جاز أن تقولَ : " لَيَفْعَلنَّ " جاز أن يقال : " إنهم لمعكم " على الحكايةِ .

قوله : { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } فيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها جملةٌ مستأنفة والمقصودُ بها الإِخبارُ من الباري تعالى بذلك . الثاني : أنها دعاءٌ عليهم بذلك وهو قولُ الله تعالى نحو : { قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] . الثالث : أنها في محلِّ نصبٍ لأنها من جملة قول المؤمنين ، ويَحْتمل معنيين كالمعنيين في الاستئناف ، أعني كونَه إخباراً أو دعاءً . الرابع : أنها في محل رفعٍ على أنَّها خبرُ المبتدأ وهو " هؤلاء " وعلى هذا فيحتمل قوله { الَّذِينَ أَقْسَمُواْ } وجهين ، أحدُهما : أنه صفةٌ لاسمِ الإِشارة ، والخبر : " حَبِطَتْ أعمالُهم " . والثاني : أنَّ " الذين " خبرٌ أولُ ، / و " حَبِطت " خبرٌ ثانٍ عند مَنْ يُجيز ذلك . وجَعَلَ الزمخشري " حَبِطَتْ أعمالُهم " مُفْهِمَةً للتعجب . قال : " وفيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أحبط أعمالَهم ما أخسرَهم " وأجاز مع كونِه تعجباً أن يكونَ من قولِ المؤمنين ، فيكونَ في محل نصب ، وأن يكونَ من قولِ الباري تعالى ، لكنه أَوَّلَ التعجبَ في حق الله تعالى بأنه عجيب ، قال : " أو مِنْ قول الله عز وجل شهادةً لهم بحبوط الأعمال وتعجباً من سوء حالهم " وقرأ أبو واقد والجراح : " حَبَطت " بفتح الباء ، وهما لغتان ، وقد تقدم ذلك وقوله تعالى : { فأصبحوا } وجهُ التسبُّبِ في هذه الفاءِ ظاهرٌ .