[ 53 ] { ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ( 53 ) } .
{ ويقول الذين آمنوا } قال الزمخشري : قرئ بالنصب عطفا على { أن يأتي } ، وبالرفع على أنه كلام مبتدأ . أي : ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت . وقرئ { يقول } بغير ( واو ) وهي مصاحف مكة والمدينة والشام كذلك . على أنه جواب قائل يقول : فماذا يقول المؤمنون حينئذ ؟ فقيل : يقول الذين آمنوا : أهؤلاء الذين أقسموا ؟ ( فإن قلت ) : لمن يقولون هذا القول ؟ ( قلت ) : إما يقوله بعضهم لبعض تعجبا من حالهم ، واغتباطا بما من الله عليهم من التوفيق في الإخلاص { أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم } أي : حلفوا لكم بأغلاظ الأيمان { إنهم لمعكم } أي : إنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار . وإما أن يقولوه لليهود ، لأنهم حلفوا لهم بالمعاضدة والنصرة . كما حكى الله عنهم : { ولئن قوتلتم لننصرنكم }{[3079]} . أي : فقد تباعدوا عنكم . فيظهر أنهم لم يكونوا مع المؤمنين / ولا مع اليهود { حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين } أي : في الدنيا ، إذ ظهر نفاقهم عند الكل . وفي الآخرة ، إذ لم يبق لهم ثواب .
قال الزمخشري : هذه الجملة من قول المؤمنين . أي : بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في رأي أعين الناس ، وفيه معنى التعجب ، كأنه قيل : ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم ! أو من قول الله عز وجل ، شهادة لهم بحبوط الأعمال ، وتعجبا من سوء حالهم . . انتهى .
الأول : في سبب نزول هذه الآيات الكريمات .
روي عن السدي{[3080]} ، أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد : أما أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي فأواليه وأتهود معه لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث . وقال الآخر : وأما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام فأواليه وأتنصر معه . فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى . . . } الآيات .
وقال عكرمة : " نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر ، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة . فسألوه : ماذا هو صانع بنا ؟ فأشار بيده إلى حلقه ، أي : إنه الذبح " . رواه ابن جرير{[3081]} . وقيل : نزلت في عبد الله بن أبي ، ابن سلول .
روى ابن جرير{[3082]} عن عطية بن سعد قال : " جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إن لي موالي من يهود كثير عددهم . وإني / أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود . وأتولى الله ورسوله . فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر . لا أبرأ من ولاية موالي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي : يا أبا الحباب ! ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو إليك دونه . قال قد قبلت فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا . . . { الآيتين .
ثم روى ابن جرير{[3083]} عن الزهري قال : " لما انهزم أهل بدر ، قال المسلمون لأوليائهم من يهود : آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر . فقال مالك بن صيف : غركم إن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال ! أما لو أمررنا العزيمة أن نستجمع عليكم ، لم يكن لكم يد أن تقاتلونا . فقال عبادة بن الصامت : يا رسول الله ! إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم ، كثيرا سلاحهم ، شديدة شوكهم ، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم ، ولا مولى لي إلا الله ورسوله . فقال عبد الله بن أبي : إني لا أبرأ من ولاية يهود . إني رجل لا بد لي منهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا الحباب ! أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت ، فهو لك دونه . فقال إذا أقبل ! قال : فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود . . . } - إلى قوله- { والله يعصمك من الناس } " .
وقال محمد{[3084]} بن إسحاق : " فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه . فقام إليه عبد الله بن أبي ، ابن سلول حين أمكنه الله منهم ، فقال : يا محمد ! أحسن في موالي- وكانوا حلفاء الخزرج- قال : فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : يا محمد أحسن في موالي . قال : فأعرض عنه . فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسلني . وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا ، ثم / قال : ويحك ! أرسلني . قال : لا ، والله ! لا أرسلك حتى تحسن في موالي . أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع ، قد منعوني من الأحمر والأسود ، تحصدهم في غداة واحدة ؟ إني امرؤ أخشى الدوائر . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هم لك " .
قال محمد{[3085]} بن إسحاق : فحدثني أبي ، إسحاق بن يسار ، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال : " لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي ، وقام دونهم . ومشى عباة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان أحد بني عوف من الخزرج ، لهم من حلفه مثل الذين لهم من عبد الله بن أبي- فخلعهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله عز وجل ، وإلى رسوله من حلفهم وقال : يا رسول الله ! أتولى الله ورسوله والمؤمنين . وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم . . ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود } - إلى قوله- { فإن حزب الله هم الغالبون } " .
وروى الإمام أحمد{[3086]} عن أسامة بن زيد قال : " دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي نعوده ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قد كنت أنهاك عن حب يهود . فقال عبد الله : فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات " . وكذا رواه أبو داود .
الثاني : قال بعض مفسري الزيدية : ثمرات الآية أحكام .
( الأول ) - أنه لا يجوز مولاة اليهود ولا النصارى . قال الحاكم : والمراد موالاته في الدين . وجعل الزمخشري المولاة في النصرة والمصافاة ، وبين وجوب المجانبة للمخالف في الدين ، كما تقدم . والبعد والمجانبة استحباب ، إذ قد جازت المخالطة في مواضع بالإجماع ، وذلك حيث لا يوهم محبتهم ولا بأنهم على حق .
/ ( الحكم الثاني ) - أن للإمام أن يسقط الحد إذا خشي ، أو يؤخره . وقد ذكر هذا ، الأمير يحيى والراضي بالله والحاكم . وهذا مأخوذ من سبب النزول ، وترك النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع لعبد الله بن أبي .
( الحكم الثالث ) - صحة الموالاة منهم لبعضهم بعضا . وقد قال علي بن موسى القمي : الآية تدل على أنهم ملة واحدة : فتصح المناكحة بينهم والموارثة . والمذهب خلاف ذلك . والدلالة على ما ذكر محتملة . لأنها تحتمل أن المراد : بعضهم أولياء بعض في معاداة المسلمين ؛ أو يعني : بعض اليهود وليا لبعض اليهود .
( الحكم الرابع ) - أن من تولاهم فهو منهم . ولا خلاف في أنه صار عاصيا لله كما عصوه ، ولكن أين تبلغ حد معصيته ؟ وقد اختلف في ذلك ، فقيل : معنى قوله : { فإنه منهم } أي : حكمهم في الكفر ، وهذا حيث يقرهم على دينهم . فكأنه قد رضيه . وقيل : من تولاهم على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : المراد أنه منهم في وجوب عداوته والبراءة منه . قال الحاكم : ودلالة الآية مجملة . فهي لا تدل على أنه كافر إلا أن يحمل على الموافقة في الدين .
( الحكم الخامس ) - ذكره الحاكم ، أنه لا يجوز الاستعانة بهم . قلنا : ذكر الراضي بالله : أنه صلى الله عليه وسلم قد حالف اليهود على حرب قريش وغيرها إلى أن نقضوه يوم الأحزاب ، وجدد صلى الله عليه وسلم الحلف بينه وبين خزاعة . حتى كان ذلك سبب الفتح . وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مسلمهم وكافرهم . قال الراضي بالله : وهو ظاهر قول آبائنا عليهم السلام . وقد استعان علي عليه السلام بقتلة عثمان . واستعان صلى الله عليه وسلم بالمنافقين . قال الراضي بالله : ويجوز الاستعانة بالفساق على حرب المبطلين . فتكون هذه الاستعانة غير موالاة .
/ التنبيه الثالث- في التفسير المتقدم ما نصه : وفي الآية الكريمة زواجر عن موالاة اليهود والنصارى من وجوه : ( الأول ) - النهي بقوله : { لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } . وسائر الكفار لاحق بهم . ( الثاني ) - قوله تعالى : { بعضهم أولياء بعض } . والمعنى أن الموالاة من بعضهم لبعض لاتحادهم بالكفر ، والمؤمنون أعلى منهم . ( الثالث ) - قوله تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } . وهذا تغليظ وتشديد ومبالغة . مثل قوله صلى الله عليه وسلم{[3087]} : " لا تراءى ناراهما " . ومثل قوله عليه السلام{[3088]} : " لا تستضيئوا بنار المشركين " . ( الرابع ) - ما أخبر الله به أنه لا يهديهم . ( الخامس ) - وصفهم بالظلم ، والمراد : الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار . ( السادس ) - أنه تعالى أخبر أن الموالاة لهم من ديدن الذين في قلوبهم مرض ، أي : شك ونفاق . ( السابع ) - ما أخبر الله تعالى به من علة الموالين ، وأن ذلك خشية الدوائر . لا أنه بإذن من الله ولا من رسوله . ( الثامن ) - قطع الله لما زينه لهم الشيطان من خشية رجوع دولة الكفر فقال تعالى : { فعسى الله أن يأتي بالفتح ) . و { عسى } في حق الله تعالى لواجب الحصول بالفتح لمكة أو لبلاد الشرك . ( التاسع ) - ما بشر الله تعالى به من إهانتهم بقوله : { أو أمر من عنده } . قيل : إذلال الشرك بالجزية . وقيل : قتل قريظة وإجلاء النضير . وقيل : أن يورث المسلمين أرضهم وديارهم . ( العاشر ) - ما ذكره الله تعالى من الأمر الذي يؤول إليه حالهم ، وأنهم يصبحون نادمين على ما أسروا في أنفسهم ن غشهم للمسلمين ونصحهم للكافرين . وقيل : من نفاقهم . وقيل : من معاقدتهم للكفار ، وذلك حين معاينتهم للعذاب . وقيل : في الدنيا ، بما صاروا فيه من الذلة والصغار . ( الحادي عشر ) - ما ذكره الله تعالى من تعجب المؤمنين من فضيحة أعداء الله وخبثهم في إيمانهم بقوله تعالى : { ويقول الذين آمنوا أهؤلاء . . . } الآية . ( الثاني عشر ) - ما أخبر الله من حالهم بقوله تعالى : { حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين } . قيل : خسروا حظهم من موالاتهم . وقيل : أهلكوا أنفسهم . وقيل : خسروا ثواب الله . انتهى .