إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَهَـٰٓؤُلَآءِ ٱلَّذِينَ أَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُواْ خَٰسِرِينَ} (53)

{ وَيَقُولُ الذين آمنوا } كلام مبتدأ مَسوقٌ لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة وقرئ بغير واو على أنه جواب سؤال نشأ مما سبق كأنه قيل : فماذا يقول المؤمنون حينئذ ؟ وقرئ ( ويقولَ ) بالنصب عطفاً على يصبحوا ، وقيل : على ( يأتيَ ) باعتبار المعنى كأنه قيل : فعسى أن يأتيَ الله بالفتح ويقولَ الذين آمنوا والأولُ أوجهُ ، لأن هذا القول إنما يصدر عن المؤمنين عند ظهور ندامةِ المنافقين لا عند إتيان الفتح فقط ، والمعنى ويقول الذين آمنوا مخاطِبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون دولتَهم ويُظهرون لهم غاية المحبة وعدمَ المفارقة عنهم في السراء والضراء عند مشاهدتهم لخَيْبة رجائِهم وانعكاسِ تقديرهم بوقوع ضدِّ ما كانوا يترقبونه ويتعللون به ، تعجيباً للمخاطَبين من حالهم وتعريضاً بهم { أهؤلاء الذين أَقْسَمُوا بالله جَهْدَ أيمانهم إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ } أي بالنصر والمعونة كما قالوا فيما حُكيَ عنهم ( وإن قوتلتم لننصُرَنَّكم ) [ الحشر ، الآية : 11 ] واسمُ الإشارة مبتدأ وما بعده خبرُه ، والمعنى إنكارُ ما فعلوه واستبعادُه وتخطئتُهم في ذلك ، أو يقولُ بعضُ المؤمنين لبعضٍ مشيرين إلى المنافقين أيضاً أهؤلاء الذين أقسموا للكَفَرة إنهم لمعكم ؟ فالخطابُ في ( معكم ) لليهود على التقديرين إلا أنه على الأول من جهةِ المؤمنين وعلى الثاني من جهة المُقْسِمين ، وهذه الجملةُ لا محلَّ لها من الإعراب لأنها تفسيرٌ وحكايةٌ لمعنى أقسَموا لكن لا بألفاظهم وإلا لقيل : إنا معكم ، وجَهدُ الأيْمان أغلظُها وهو في الأصل مصدر ونصبُه على الحال على تقدير وأقسموا بالله يَجْهَدون جَهدَ أيمانهم ، فحُذِفَ الفعلُ وأقيم المصدرُ مُقامَه ، ولا يبالى بتعريفه لفظاً لأنه مؤوَّلٌ بنكرة أي مجتهدين في أيْمانهم أو على المصدر أي أقسموا إقسامَ اجتهادٍ في اليمين وقوله تعالى : { حَبِطَتْ أعمالُهم فَأَصْبَحُوا خاسرين } إما جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ من جهته تعالى لبيان مآلِ ما صنعوه من ادِّعاء الولاية والإقسام على المعيَّةِ في المنشَطِ والمكره إثرَ الإشارة إلى بُطلانه بالاستفهام الإنكاري ، وإما خبرٌ ثانٍ للمبتدأ عندَ مَنْ يجوِّزُ كونَه جملةً كما في قوله تعالى : { فَإِذَا هِي حَيَّةٌ تسعى } [ طه ، الآية 20 ] أو هو الخبرُ والموصول مع ما في حيز صلتِه صفةٌ لاسم الإشارة ، فالاستفهامُ حينئذٍ للتقرير ، وفيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أحبَطَ أعمالَهم فما أخسرَهم ، والمعنى بطلتْ أعمالُهم التي عمِلوها في شأن موالاتكم وسعوا في ذلك سعياً بليغاً حيث لم تكن لكم دولةٌ فينتفعوا بما صنعوا من المساعي وتحمَّلوا من مكابدة المشاق ، وفيه من الاستهزاء بالمنافقين والتقريع للمخاطَبين ما لا يخفى ، وقيل : قاله بعضُ المؤمنين مخاطِباً لبعض تعجباً من سوء حال المنافقين واغتباطاً بما منّ الله تعالى على أنفسهم من التوفيق للإخلاص : أهؤلاءِ الذين أقسموا لكم بأغلظِ الأيْمان أنهم أولياؤُكم ومعاضِدوكم على الكفار ؟ بطَلتْ أعمالُهم التي كانوا يتكلّفونها في رأيِ أعينِ الناس ، وأنت خبير بأن هذا الكلامَ من المؤمنين إنما يليقُ بما لو أظهرَ المنافقون حينئذ خلافَ ما كانوا يدَّعونه ويُقسِمون عليه من ولاية المؤمنين ومعاضَدَتِهم على الكفار فظهر كذِبُهم وافتُضحوا بذلك على رؤوس الأشهاد وبطَلتْ أعمالُهم التي كانوا يتكلفونها في رأي أعين المؤمنين ، ولا ريب في أنهم يومئذ أشدُّ ادعاءً وأكثر إقساماً منهم قبل ذلك ، فضلاً عن أن يظهروا خلافَ ذلك ، وإنما الذي يظهر منهم الندامةُ على ما صنعوا وليس ذلك علامةً ظاهرةَ الدلالة على كفرهم وكذبهم في ادعائهم ، فإنهم يدّعون أنْ ليست ندامتُهم إلا على ما أظهروه من موالاة الكَفَرةِ خشيةَ إصابةِ الدائرة .