البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَهَـٰٓؤُلَآءِ ٱلَّذِينَ أَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُواْ خَٰسِرِينَ} (53)

{ ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم لمعكم } قال المفسرون : لما أجلى بني النضير تأسف المنافقون على فراقهم ، وجعل المنافق يقول لقريبه المؤمن إذا رآه جادًّا في معاداة اليهود : هذا جزاؤهم منك طال ، والله ما أشبعوا بطنك ، فلما قتلت قريظة لم يطق أحد من المنافقين ستر ما في نفسه ، فجعلوا يقولون : أربعمائة حصدوا في ليلة ؟ فلما رأى المؤمنون ما قد ظهر من المنافقين قالوا : أهؤلاء أي المنافقون الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم لمعكم ؟ والمعنى : يقول بعضهم لبعض تعجباً من حالهم إذ أغلظوا بالإيمان للمؤمنين أنهم معكم ، وأنهم معاضدوكم على اليهود ، فلما حلّ باليهود ما حل ظهر من المنافقين ما كانوا يسرّونه من موالاة اليهود والتمالؤ على المؤمنين .

ويحتمل أن يقول المؤمنون ذلك لليهود ، ويكون الخطاب في قوله : إنهم لمعكم لليهود ، لأن المنافقين حلفوا لليهود بالمعاضدة والنصرة كما قال تعالى حكاية عنهم : { وإن قوتلتم لننصرنكم } فقالوا ذلك لليهود يجسرونهم على موالاة المنافقين ، وأنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئاً ، ويغتبطون بما منّ الله عليهم من إخلاص الإيمان وموالاة اليهود .

وقرأ الابنان ونافع : بغير واو ، كأنه جواب قائل ما يقول المؤمنون حينئذ .

فقيل : يقول الذين آمنوا ، وكذا هي في مصاحف أهل مكة والمدينة .

وقرأ الباقون : بالواو ، ونصب اللام أبو عمرو ، ورفعها الكوفيون .

وروى علي بن نصر عن أبي عمر : والرفع والنصب ، وقالوا : وهي في مصاحف الكوفة وأهل المشرق .

والواو عاطفة جملة على جملة ، هذا إذا رفع اللام ، ومع حذف الواو الاتصال موجود في الجملة الثانية ، ذكر من الجملة السابقة إذ الذين يسارعون وقالوا : نخشى ، ويصبحوا هم الذين قيل فيهم : أهؤلاء الذين أقسموا ، وتارة يكتفي في الاتصال بالضمير ، وتارة يؤكد بالعطف بالواو .

والظاهر أنّ هذا القول هو صادر من المؤمنين عند رؤية الفتح كما قدمنا .

قيل : ويحتمل أن يكون في وقت الذين في قلوبهم مرض يقولون : { نخشى أن تصيبنا دائرة } وعندما ظهر سؤالهم في أمر بني قينقاع وسؤال عبد الله بن أبي فيهم ، ونزل الرسول إياهم له ، وإظهار عبد الله أن خشية الدوائر هي خوفه على المدينة ومن بها من المؤمنين ، وقد علم كل مؤمن أنه كاذب في ذلك ، فكان فعله ذلك موطناً أن يقول المؤمنون ذلك .

وأما قراءة ويقول بالنصب ، فوجهت على أنّ هذا القول لم يكن إلا عند الفتح ، وأنه محمول على المعنى ، فهو معطوف على أن يأتي ، إذ معنى : فعسى الله أن يأتي ، معنى فعسى أن يأتي الله ، وهذا الذي يسميه النحويون العطف على التوهم ، يكون الكلام في قالب فيقدره في قالب آخر ، إذ لا يصح أن يعطف ضمير اسم الله ولا شيء منه .

وأجاز ذلك أبو البقاء على تقدير ضمير محذوف أي : ويقول الذين آمنوا به ، أي بالله .

فهذا الضمير يصح به الربط ، أو هو معطوف على أن يأتي على أن يكون أن يأتي بدلاً من اسم الله لا خبراً ، فتكون عسى إذ ذاك تامة لا ناقصة ، كأنك قلت : عسى أن يأتي ، ويقول : أو معطوف على فيصبحوا ، على أن يكون قوله : فيصبحوا منصوباً بإضمار أن جواباً لعسى ، إذ فيها معنى التمني .

وقد ذكرنا أنّ في هذا الوجه نظر ، أو هل هو تجري عسى في الترجي مجرى ليت في التمني ؟ أم لا تجري ؟ وذكر هذا الوجه ابن عطية عن أبي يعلى ، وتبعه ابن الحاجب ، ولم يذكر ابن الحاجب غيره .

وعسى من الله واجبة فلا ترجى فيها ، وكلا الوجهين قبله تخريج أبي عليّ .

وخرجه النحاس على أن يكون معطوفاً على قوله : { بالفتح } بأن يفتح ، ويقول : ولا يصحّ هذا لأنه قد فصل بينهما بقوله : أو أمر من عنده ، وحقه أن يكون بلعه لأن المصدر ينحل لأن والفعل ، فالمعطوف عليه من تمامه ، فلا يفصل بينهما .

وهذا إن سلم أنّ الفتح مصدر ، فيحل لأن والفعل .

والظاهر أنه لا يراد به ذلك ، بل هو كقولك : يعجبني من زيد ذكاؤه وفهمه ، لا يراد به انحلاله ، لأن والفعل وعلى تقدير ذلك فلا يصح أيضاً ، لأن المعنى ليس على : فعسى الله أن يأتي ، بأن يقول الذين آمنوا كذا .

ولأنه يلزم من ذلك الفصل بين المتعاطفين بقوله : { فيصبحوا } وهو أجنبي من المتعاطفين ، لأن ظاهر فيصبحوا أن يكون معطوفاً على أن يأتي ، ونظيره قولك : هند الفاسقة أراد زيد إذايتها بضرب أو حبس وإصباحها ذليلة ، وقول أصحابه : أهذه الفاسقة التي زعمت أنها عفيفة ؟ فيكون وقول معطوفاً على بضرب .

وقال ابن عطية : عندي في منع جواز عسى الله أن يقول المؤمنون نظر ، إذ الذين نصرهم يقولون : ننصره بإظهار دينه ، فينبغي أن يجوز ذلك انتهى .

وهذا الذي قاله راجع إلى أن يصير سبباً لأنه صار في الجملة ضمير عائد على الله ، وهو تقديره بنصره وإظهار دينه ، وإذا كان كذلك فلا خلاف في الجواز .

وإنما منعوا حيث لا يكون رابط وانتصاب جهد على أنه مصدر مؤكد ، والمعنى : أهؤلاء هم المقسمون باجتهاد منهم في الإيمان أنهم معكم ؟ ثم ظهر الآن من موالاتهم اليهود ما أكذبهم في أيمانهم .

ويجوز أن ينتصب على الحال ، كما جوّزوا في فعلته جهدك وقوله : إنهم لمعكم ، حكاية لمعنى القسم لا للفظهم ، إذ لو كان لفظهم لكان إنا لمعكم .

{ حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين } ظاهره أنه من جملة ما يقوله المؤمنون اعتماداً في الإخبار على ما حصل في اعتقادهم أي : بطلت أعمالهم إن كانوا يتكفلونها في رأي العين .

قال الزمخشري : وفيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم ! ويحتمل أن يكون إخباراً من الله تعالى ، ويحتمل أن لا يكون خبراً بل دعاء إما من الله تعالى ، وإما من المؤمنين .

وحبط العمل هنا هو على معنى التشبيه ، وإلا فلا عمل له في الحقيقة فيحبط وجوز الحوفي أن يكون حبطت أعمالهم خبراً ثانياً عن هؤلاء ، والخبر الأول هو قوله الذين أقسموا ، وأن يكون الذين ، صفة لهؤلاء ، ويكون حبطت هو الخبر .

وقد تقدم ذكر قراءة أبي واقد والجراح حبطت بفتح الباء وأنها لغة .