قوله تعالى : " ويَقُولُ " : قرأ أبُو عمرو{[12036]} ، والكُوفِيُّون بالواو قَبْلَ " يَقُول " والباقُون بإسْقَاطِها ، إلا أنَّ أبا عمرو نَصَب الفِعْلَ بعد " الوَاوِ " ، وروى عنه عَلِيُّ بن نَصْر : الرَّفع كالكُوفِيِّين ، فتحصَّلَ فيه ثلاث قراءات : " يَقُولُ " من غير واو [ " ويقول " بالواوِ والنَّصْب ، ]{[12037]} " ويقول " بالواو والرَّفع ، فأمَّا قِرَاءة من قرأ " يَقُول " من غير واوٍ فهي جُمْلَة مُسْتأنَفَةٌ سِيقَتْ جواباً لِسُؤالٍ مُقَدَّر ، كأنه لمَّا تقدَّم قوله تعالى : { فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ } إلى قوله " نَادِمِين " ، سأل سَائِلٌ فقال : ماذا قال المُؤمِنُون حِينَئِذٍ ؟ فأجيب بِقَوْله تعالى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ } إلى آخره ، وهو واضح ، و " الواو " سَاقِطَةٌ في مصاحِفِ " مَكَّةَ " و " المدينَةِ " و " الشَّام " ، والقارئُ بذلك هو صاحِبُ هذه المصاحِف ، فإن القَارِئين بذلك ابن كَثِير المَكِّي ، وابنُ عَامِر الشَّاميُّ ، ونافع المدنِي ، فقراءتُهُمْ موافقة لَمصَاحِفِهم [ وليس في هذا أنهم إنما قرأوا كذلك لأجل المصحف فقط ، بل وافقت روايتهم مصاحفهم ]{[12038]} على ما تَبيَّن غير مَرَّة ، وأما قِرَاءة " الواو " والرَّفع فواضحةٌ أيْضاً ؛ لأنَّها جملة ابْتُدِئَ بالإخْبَارِ بِهَا ، فالواو اسْتِئنَافِيَّة لمجرَّدِ عَطْفِ جُمْلة على جُمْلة ، و " الواو " ثابِتَةٌ في مصاحِفَ " الكُوفَة " و " المشرق " ، والقارئُ بذلك هو صَاحِبُ ذلك المُصْحف ، والكلام كما تقدَّم أيضاً .
قال الواحدي - رحمه الله {[12039]}- : وحَذْف " الواو " هاهنا كإثباتها ، وذلك أنَّ في الجُمْلَة المعطُوفَة ذكراً من المَعْطُوف عليْهَا ، فإن الموصُوفين بِقَوْله تعالى " يُسَارِعُونَ فِيهِمْ " ، هم الَّذِين قال فيهم المُؤمِنُون : { أهؤلاءِ الَّذِين أقْسَمُوا باللَّه } ، فلما حَصَل في كل وَاحِدَة من الجُمْلَتَيْن ذكر من الأخْرَى حسن العَطْفُ بالواوِ وبِغَيْرِ الواو ، ونَظِيرُه قوله تعالى : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] لما كان في كلِّ واحدةٍ من الجُمْلَتيْن ذِكْر ما تقدَّم ، عنى ذلك أن حَذْفَ الواوِ وذكرهَا جائِزٌ .
وأمَّا قِرَاءة أبي عَمْرو فهي الَّتِي تَحْتَاج إلى فَضْل نظر .
واخْتَلَفُوا في ذلك على ثلاثةِ أوجُه :
أحدُهَا : أنه منصُوب عَطْفاً على " فَيُصْبِحُوا " على أحد الوَجْهَيْن المذكُوريْن في نَصْب " فَيُصْبِحُوا " ، وهو الوجهُ الثَّاني ، أعْني : كَوْنَهُ مَنْصُوباً بإضْمَار في جواب التَّرَجِّي بعد " الفَاء " ، إجراءً للتَّرَجِّي مُجْرَى التَّمَنِّي ، وفيه خلافٌ بين البَصْرِيِّين والكوفيِّين ، فالبَصريُّون يَمْنَعُونَهُ ، والكوفِيُّون يجيزُونَهُ مستدِلِّين على ذلك بقراءة{[12040]} نَافِع { لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى } [ عبس : 3 ، 4 ] بِنَصبِ " تَنْفَعَهُ " وبقراءة عَاصِم{[12041]} في رواية حَفْصٍ : { لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ } [ غافر : 36 ، 37 ] بنصب " فأطَّلِع " ، وسيأتي الجوابُ عن الآيتين في مَوْضِعِه .
وهذا الوجه - أعني : عَطْفَ " ويقُول " على " فَيُصْبِحوا " - قاله الفَارِسيُّ وجماعة ، ونقله ابن عطيَّة ، وذكره أبو عَمْرو بن الحَاجِب .
قال شهاب الدِّين أبُو شَامة بعد ذِكْرِه الوجهَ المُتقدِّم : " وهذا وجه جَيِّد أفادنيهِ الشَّيْخ أبو عَمْرو بن الحَاجِب ، ولم أره لِغَيْره ، وذكروا وُجُوهاً كلها بعيدة مُتعسِّفة " انتهى .
قال شهاب الدِّين{[12042]} : وهذا - كما رأيت - مَنْقُول مَشْهُود عن أبي عَلِيّ الفارسيِّ ، وأمَّا ما استجاد به هذا الوجْهَ فإنما يتَمشَّى على قَوْل الكُوفيِّين ، وهو مرْجوحٌ كما تقرَّر في علم النَّحْو .
الثاني : أنه منصُوب عَطْفاً على المصدر قبْله ، وهو الفَتْح كأنَّه قيل : { فَعَسَى اللَّهُ أنْ يَأتي بِالفَتْح } ، وبأن يقول ، أي : { ويقول الَّذِين آمَنُوا } ، وهذا الوجْه ذكره أبُو جعفر النَّحَّاس{[12043]} ، ونَظَّرُوه بقوْل الشاعر : [ الوافر ]
للبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي *** أحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ{[12044]}
لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ *** تَقَضِّي لُبانَاتٍ وَيَسْأمَ سَائِمُ{[12045]}
وهذا مردودٌ من ثلاثةِ أوْجُه :
أحدها : أنه يُؤدِّي ذلك إلى الفَصْل بين أبْعَاض الصِّلةِ بأجْنَبِيٍّ ، وذلك لأنَّ الفَتْحَ على قول مَؤوَّل ب " أن " والفعل تقديره : أن يَأتِي بأن يفتح ، وبأنْ يقول ، فيقعُ الفصلُ بقوله " فَيُصبِحُوا " وهو أجنبي ؛ لأنَّه مَعْطُوف على " يأتي " .
الثاني : أن هذا المصْدر - وهو الفَتْح - ليس يُرادُ به انحلاله لحرفٍ مصدري وفعل ، بل المراد به مَصْدَر غير مُرادٍ به ذلك ، نحو : يُعْجِبُنِي ذكاؤك وعِلْمُك .
الثالث : أنه وإن سُلِّمَ انحِلاله لحرف مَصْدري وفعل ، فلا يكون المعنى على : " فعسى اللَّه أن يأتي بأنْ يقولَ الذين آمنوا " ، فإنه نابٍ عنه نُبُوّاً ظاهراً .
الثالث - من أوجُه نَصْب " ويقول " - : أنه منصوبٌ عَطْفاً على قوله : " يَأتي " أي : فَعَسَى اللَّه أن يَأتِي ويقول ، وإلى هذا ذهب الزَّمَخْشَرِي ، ولم يَعْتَرِض عليْه بِشَيْء .
وقد رُدَّ ذلك بأنَّهُ يلزَمُ عَطفُ ما لا يجُوزُ أن يكُون خبراً على ما هُوَ خَبَر ، وذلك أن قوله : " أن يأتي " خبر " عَسَى " وهو صحيحٌ ؛ لأن فيه رابطاً عائِداً على اسم " عَسَى " [ وهو ضمير الباري تعالى ، وقوله : " ويقول " ليس فيه ضمير يعود على اسم " عسى " ]{[12046]} فكيف يَصِحُّ جعلُهُ خبراً ؟ وقد اعتذر من أجاز ذَلِك عنه بثلاَثَةِ أوْجُه :
أحدها : أنه من بَابِ العَطْف على المَعْنَى ، والمعنى : فَعَسى أنْ يأتي الله بالفَتْح ، وبقولِ الذين آمَنُوا ، فتكون " عَسَى " تامَّة ؛ لإسنادها إلى " أنْ " وما في حَيِّزهَا ، فلا تحتاجُ حينئذٍ إلى رابطٍ ، وهذا قرِيبٌ من قولهم : " العطْفُ على التَّوهُّم " نحو :
{ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ } [ المنافقون : 10 ] .
الثاني : أنَّ " أنْ يَأتِيَ " بَدَلٌ من اسْمِ الله - تعالى - لا خبر ، وتكون " عَسَى " حينئذٍ تامَّة ، وكأنه قِيل : فعسَى أن يَقُول الذين آمَنُوا ، وهذان الوَجْهَان مَنقُولان عن أبِي عَلِيٍّ الفارسيّ ، إلا أنَّ الثَّاني لا يَصحُّ ؛ لأنهم نَصُّوا على أن " عَسَى " و " اخْلَوْلَق " و " أوْشَكَ " من بين سَائِر أخَوَاتِهَا يجُوزُ أن تَكُون تامّةً ، بشرط أن يكُون مَرْفُوعُها : " أنْ يَفعل " ، قالوا : ليُوجَدَ في الصُّورة مُسْندٌ ومُسْنَدٌ إليه ، كما قالوا ذَلِكَ في " ظَنّ " وأخواتها : إنَّ " أنْ " و " أنَّ " تسدُّ مَسدَّ مَفْعُوليها .
والثالث : أن ثَمَّ ضميراً مَحْذُوفاً هو مُصَحِّحٌ لوُقُوع " وَيَقُول " خبراً عن " عَسَى " ، والتقدير : ويقول الذين آمَنُوا به ، أي : بِاللَّه ، ثم حذف للعلْم به ، ذكر ذلك أبو البقاء{[12047]} .
وقال ابن عطيَّة{[12048]} بعد حكايته نَصْبَ " ويقُولَ " عَطْفاً على " يَأتيَ " : " وعندي في مَنْع " عسى الله أنْ يقُول المُؤمِنُون " نظرٌ ؛ إذ اللَّه - تعالى - يُصَيِّرهم يقولون ذلك بِنَصْرهِ وإظْهَارِ دينه " .
قال شهاب الدِّين{[12049]} : قول ابن عطيَّة في ذلك ، قول أبِي البَقَاء في كونه قدَّره ضَمِيراً عائداً على اسم " عَسَى " يَصِحُّ به الرَّبط ، ويعضُ النَّاس يكثرُ هذه الأوْجُه ، ويُوصِلُهَا إلى سَبْعَة وأكثر ، وذلك باعْتِبَار تَصْحيح كُلِّ وَجْه من الأوَّجُه الثلاثة التي تقدَّمت ، ولكن لا يَخْرج حاصلها عن ثلاثة ، وهو النَّصْب : إما عطفاً على " أنْ يَأتِي " ، وإما على " فَيُصْبِحُوا " ، وإمَّا على " بالفَتْح " وقد تقدم تَحقِيقُهَا .
قوله - تعالى - : { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } في انتصَابِه وجهان :
أظهرهما : أنَّه مصدر مؤكدٌ ناصبُهُ " أقْسَمُوا " فهو مِنْ مَعْناه ، والمعنى : أقْسَمُوا إقسامَ اجتهادٍ في اليَمِين .
والثاني : - أجازه أبو البقاء{[12050]} وغيره - أنه منصُوب على الحَالِ كَقَوْلهم : " افعل ذلك جَهْدَك " أي : مُجْتَهِداً ، ولا يُبَالي بِتَعْرِيفه لَفْظاً ، فإنه مُؤوَّل بِنَكِرة على ما تقدَّم ذكره ، والمعنى هُنَا : " وأقسموا بالله مجتهدين في أيمانهم " .
قوله تعالى : " إنَّهُم لمَعَكُمْ " هذه الجُمْلَة لا مَحَلَّ لها من الإعراب ، فإنها تَفْسِيرٌ وحكاية لِمَعْنَى القَسَم لا لألْفَاظِهِم ؛ إذ لو كانَت حِكَاية لألْفَاظِهِم لَقِيلَ : إنَّا مَعَكُم ، وفيه نَظَرٌ ؛ إذ يجُوز لك أن تقول : " حَلَفَ زيد لأفْعَلَن " أو " ليفْعَلَنَّ " ، فكما جَازَ أنْ تقول : ليفعلن جاز أن يقال : " إنَّهُمْ لَمَعكُم " على الحِكَاية .
فإن قيل : الفائدة في أنَّ المؤمنين يقولون هذا القول : هو أنَّهم يتعجَّبُون من حال المُنَافِقِين ، عندما أظهروا المَيْل إلى مُوالاة اليَهُود والنَّصَارى ، وقالوا : إنَّهم كانوا يُقسِمُون باللَّه جَهْدَ أيْمانهم أنَّهُم مَعَنَا ومن أنْصَارنا ، والآن كيف صاروا مُوالِين لأعْدَائِنَا مُحِبِّين للاختلاط بهم والاعتضاد بهم ؟
قوله تعالى : { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } فيها أوجه :
أحدها : أنَّها جملة مُسْتَأنَفَة ، والمقصُود بِهَا الإخْبَار من البَارِي - تعالى - بذلك .
الثاني : أنها دُعَاءٌ عليهم بذلك ، وهو قولُ الله - تعالى - نحو : { قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] .
الثالث : أنها في محلِّ نَصْبٍ ؛ لأنَّها من جملة قوْلِ المُؤمنين ، ويحتمل معنييْن كالمَعْنَيَيْن في الاسْتِئْنَاف ، أعني : كونَهُ إخْبَاراً أو دُعَاءً .
الرابع : أنَّها في محلِّ رفع على أنَّها خبر المُبْتدأ ، وهو " هؤلاء " ، وعلى هذا فيحتمل قوله " الَّذين أقْسَمُوا " وَجْهَيْن :
أحدهما : أنَّه صفة لاسْم الإشارة ، والخبر : " حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ " .
والثاني : أن " الَّذِين " خَبَر أوَّل ، و " حَبِطَتْ " خبر ثانٍ عند من يُجِيزُ ذلك ، وجعل الزمخْشَرِيّ {[12051]} " حَبِطَت أعمَالهم " مفهمة للتَّعجُّب .
قال : وفيه معنى التَّعجُّب كأنَّه قيل : " ما أحَبَطَ أعْمَالَهُم ما أخْسَرَهُمْ " ، وأجاز مع كونه تعجُّباً أن يكون من قولِ المؤمنين ، فيكون في محلِّ نَصْب ، وأن يكون من قَوْلِ الباري - تعالى - لكنَّه أوَّل التَّعَجُّبَ في حقِّ الله - تعالى - بأنه تَعْجِيبٌ ، قال : " أوْ مِنْ قول الله - عز وجلَّ - شهادة لهم بِحُبُوطِ الأعْمَال ، وتعْجِيباً من سُوءِ حالِهِمْ " والمعنى : ذهب ما أظْهَرُوه من الإيمان ، وبطل كُلُّ خَيْرٍ عَمِلُوه ؛ لأجل أنَّهم الآن أظْهرَوا مُوالاة اليَهُود والنَّصَارى فأصْبَحوا خَاسِرِين في الدُّنْيَا والآخرة ، [ أمَّا في الدُّنْيا فلذهَاب ما عَمِلُوا ولم يَحْصُل لهم شيء من ثَمَرتِهِ ، وأمَّا في الآخرة ]{[12052]} فلاسْتِحْقَاقِهم اللَّعْن والعذاب الدائم ، وقرأ{[12053]} أبُو واقد والجرَّاح " حَبَطت " بفتح " الباء " ، وهما لُغَتَان ، وقد تقدَّم ذلك .