97- جعل الله الكعبة ، وهي البيت الذي عظَّمه وحرَّم الاعتداء فيه على الإنسان والحيوان غير المستأنس وفيما حوله ، جعله قائماً معظماً يأمن الناس فيه ، ويتجهون إليه في صلاتهم ، ويحجون إليه ليكونوا في ضيافة الله ، وليعملوا على جمع شملهم ، وكذلك جعل شهر الحج وما يهدى إلى الكعبة من الأنعام ، وخاصة ما يوضع في عنقه القلائد لإشعار الناظرين بأنه مهدى إلى البيت . ونتيجة القيام بذلك أن تستيقنوا أن علمه محيط بما في السماوات التي ينزل منها الوحي بالتشريع ، ومحيط بما في الأرض ، فيشرع لمن فيها بما يقوم بمصالحهم . وإن علمه بكل شيء محيط .
{ جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً . . . }
قال الفخر الرازي : " اعلم أن اتصال هذه الآي - { جَعَلَ الله الكعبة } بما قبلها هو أن الله - تعالى - حرم في الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم . فبين أن الحرم أنه سبب لأمن الوحش والطير . فكذلك هو سبب لأمن الناس عن الآفات والمخافات ، وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة .
والكعبة في اللغة : البيت المكعب أي المربع . وقيل المرتفع .
قال القرطبي : وقد سميت الكعبة كعبة ، لأنها مربعة . . وقيل : إنما سميت كبعة لنتوئها وبروزها ، فكل نأتئ بارز كعب ، ومنه كعب القدم وكعوب الفتاة ، وكعب ثدى المرأة إذا ظهر في صدرها .
وجعل هنا يحتمل أن تكون بمعنى صير فيتعدى لاثنين أولهما الكعبة وثانيهما قياما ويحتمل أن يكون بمعنى خالق أو شرع فيتعدى لواحد وهو الكعبة ويكون قوله : { قياما } حال من البيت الحرام .
والبيت الحرام : بدل من الكعبة أو عطف بيان جيء به على سبيل المدح والتعظيم ووصف بالحرام إيذانا بحرمته وإشعاراً بشرفه ، حيث حرم - سبحانه - القتل فيه ، وجعله مكان أمان الناس واطمئنانهم .
وقوله { قياما } أصله قواماً فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها .
والقيام والقوام ما به صلاح الشيء ، كما يقال : الملك العادل قوام رعيته . لأنه يدبر أمرهم ويردع ظالمهم ، ويحجز قويهم عن ضعيفهم ، ومسيئتهم عن محسنهم .
والمراد بالشهر الحرام : الأشهر الحرم على إرادة الجنس وهي : ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب .
وقيل المراد به شهر ذي الحجة فحسب ، لأنه هو الذي تؤدي فيه فريضة الحج ، فالتعريف للعهد وليس للجنس .
والهدى : اسم لما يهدي إلى الحرم من حيوان ليتقرب بذبحه إلى الله تعالى - وهو جمع هدية - بسكون الدال - .
والقلائد جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدى ليعلم أنه مهدي إلى البيت الحرام فلا يتعرض له أحد بسوء .
فالمراد بالقلائد هنا الحيوانات ذوات القلائد التي تساق إلى الحرم لذبحها فيه ، فيكون ذكر القلائد بعد الهدى من باب التخصيص بالذكر على سبيل الاهتمام بشأنها ، لأن الثواب فيها أكثر .
وقيل المراد بها : ما كان يفعله بعض الناس من وضع قلادة من شعر أو من غيره في أعناقهم عندما يحرمون حتى لا يتعرض لهم أحد بسوء .
وقوله : { والشهر الحرام والهدي والقلائد } معطوف على ما قبله وهو الكعبة .
والمعنى : اقتضت حكمة الله - تعالى - ورحمته بعباده أن يصير الكعبة التي هي البيت الحرام { قِيَاماً لِّلنَّاسِ } أي قوامهم في إصلاح أمورهم دينا ودنيا ، وكذلك جعل الأشهرا الحرم والهدى وخصوصاً ما يقلد منه قياماً للناس أيضاً .
وذلك لأن البيت الحرام الذي يأتي الناس إليه من كل فج عميق ، يجدون في رحابه ما يقوى إيمانهم ، ويرفع درجاتهم ، ويغسل سيئاتهم ، ويصلح من شئون دنياهم عن طريق تبادل المنافع ، وبذل الأموال ، والشعور بالأمان والاطمئنان ، وتوثيق الصلات الدينية والدنيوية التي ترضي الله - تعالى - ، وتجعلهم أهلا لفضله ورحمته .
ولأن الأشهر الحرم تأتي للناس فتجعلهم يمتنعون عن القتال فيها ، فتهدأ نفوسهم ، ويحصل التآلف والتزاور بعد التدابر والتقاطع والتعادي ولأن الهدى والقلائد التي يسوقها المحرمون إلى الحرم لذبحها فيها ما فيها من التوسعة على الفقراء . وإشاعة روح المحبة والتسامح والإِخاء .
ورحم الله الإِمام القرطبي حيث يقول : " والحكمة في جعل الله - تعالى - هذه الأشياء قياما للناس ، أن الله - سبحانه - خلق الخلق على سليقة الآدمية من التحاسد والتقاطع والسلب والغارة . فلم يكن بد في الحكمة الإِلهية من وازع يزعهم - أي يزجرهم - عن التنازع ، ويحملهم على التآلف ، ويرد الظالم عن المظلوم ، فقد روى مالك أن عمثان بن عفان كان يقول : " ما يزع الإِمام أكثر مما يزع القرآن " .
فجعل - سبحانه - الخليفة في الأرض حتى لا يكون الناس فوضى ، وعظم في قلوبهم البيت الحرام ، وأوقع في نفوسهم هيبته ، فكان من لجأ إليه معصوما به ، وكان من اضطهد محميا بالكون فيه .
ولما كان لهذا البيت موضعا مخصوصا - ومكانا معينا - لا يدركه كل مظلوم ، فقد جعل - سبحانه - الأشهر الحرم ملجأ آخر . وقرر في قلوبهم حرمتها ، فكانوا لا يروعن فيها سربا - أي نفسا - ولا يطلبون فيها دما ، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه . ثم شرع لهم الهدى والقلائد ، فكانوا إذا أخذوا بعيرا وأشعروه دما ، أو علقوا عليه قلادة أو فعل ذلك الرجل بنفسه . لم يروعه أحد حيث لقيه .
واسم الإِشارة في قوله : { ذلك لتعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } .
يعود على الجعل المذكور الذي هو تصيير البيت الحرام وما عطف عليه قياما للناس ، أي ؛ صلاحا لأحوالهم الدينية والدنيوية .
والمعنى : فعل الله - تعالى - ذلك لتعلموا أنه - سبحانه - يعلم علما تاما شاملا ما في السموات وما في الأرض ، ولتوقنوا بأنه يعلم طبائع البشر وحاجاتهم ومكنونات نفوسهم ، وهتاف أرواحهم . لأن التشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار ولجلب المصالح الدينية والدنيوية دليل على أنه - سبحانه - يعلم ما في السموات وما في الأرض . وعلى أنه بكل شيء عليم دون أن تخفى عليه خافية مما في هذا الكون : وكرر - سبحانه - " ما . وفي " في المعطوف والمعطوف عليه للإِشارة إلى دقة العلم وشموله ، وأنه - سبحانه - لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .
وقوله : { وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تعميم إثر تخصيص . للتأكيد وقدم الخاص على العام ليكون ذكر الخاص كالدليل على العام .
قال الجمل : واسم الإِشارة { ذلك } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها أنه خبر لمبتدأ محذوف أي : الحكم الذي حكمناه ذلك لا غير .
والثاني : أنه مبتدأ وخبره محذوف أي : ذلك الحكم هو الحق لا غيره .
والثالث : أنه منصوب بفعل مقدر يدل عليه السياق . أي : شرع الله ذلك . وهذا أقواها ، لتعلق لام العلة به . وقوله { لتعلموا } منصوب بإضمار أن بعد لام كي . وقوله : { وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } معطوف على ما قبله وهو { أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } .
{ جعل الله الكعبة } صيرها ، وإنما سمي كعبة لتكعبه . { البيت الحرم } عطف بيان على جهة المدح ، أو المفعول الثاني { قياما للناس } انتعاشا لهم أي سبب انتعاشهم في أمر معاشهم ومعادهم يلوذ به الخائف ويأمن فيه الضعيف ، ويربح فيه التجار ويتوجه إليه الحجاج والعمار ، أو ما يقوم به أمر دينهم ودنياهم . وقرأ ابن عامر " قيما " على أنه مصدر على فعل كالشبع أعل عينه كما أعل في فعله ونصبه على المصدر أو الحال . { والشهر الحرام والهدي والقلائد } سبق تفسيرها والمراد بالشهر الذي يؤدي فيه الحج ، وهو ذو الحجة لأنه المناسب لقرنائه وقيل الجنس . { ذلك } إشارة إلى الجعل ، أو إلى ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره . { لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض } فإن شرع الأحكام لدفع المضار قبل وقوعها وجلب المنافع المترتبة عليها ، دليل حكمة الشارع وكمال علمه . { وأن الله بكل شيء عليم } تعميم بعد تخصيص ومبالغة بعد إطلاق .
استئناف بياني لأنّه يحصل به جواب عمّا يخطر في نفس السامع من البحث عن حكمة تحريم الصيد في الحرم وفي حال الإحرام ، بأنّ ذلك من تعظيم شأن الكعبة التي حُرّمت أرضُ الحرم لأجل تعظيمها ، وتذكيرٌ بنعمة الله على سكّانه بما جعل لهم من الأمن في علائقها وشعائرها .
والجعل يطلق بمعنى الإيجاد ، فيتعدّى إلى مفعول واحد ، كما في قوله تعالى : { وجعل الظلمات والنور } ، في سورة الأنعام ( 1 ) ، ويطلق بمعنى التصيير فتعدّى إلى مفعولين ، وكلا المعنيين صالح هنا . والأظهر الأول فإنّ الله أوجد الكعبة ، أي أمر خليله بإيجادها لتكون قياماً للناس . فقوله : { قياماً } منصوب على الحال ، وهي حال مقدّرة ، أي أوجدها مقدّراً أن تكون قياماً . وإذا حمل { جعل } على معنى التصيير كان المعنى أنّها موجودة بيتَ عبادة فصيّرها الله قياماً للناس لطفاً بأهلها ونسلهم ، فيكون { قياماً } مفعولاً ثانياً ل { جعل } . وأمّا قوله : { البيت الحرام } يصحّ جعله مفعولاً .
والكعبة علم على البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام بمكة بأمر الله تعالى ليكون آية للتوحيد . وقد تقدّم ذلك في تفسير قوله تعالى : { إنّ أوّل بيتٍ وضع للناس للذي ببكة } في سورة آل عمران ( 96 ) . قالوا : إنّه علم مشتقّ من الكَعَب ، وهو النتوء والبروز ، وذلك محتمل . ويحتمل أنّهم سمّوا كلّ بارز كعبة ، تشبيهاً بالبيت الحرام ، إذ كان أول بيت عندهم ، وكانوا من قبله أهل خيام ، فصار البيت مثلاً يمثّل به كلّ بارز . وأمّا إطلاق الكعبة على ( القليس ) الذي بناه الحبشة في صنعاء ، وسمّاه بعض العرب الكعبة اليمانية ، وعلى قبة نجران التي أقامها نصارى نجران لعبادتهم التي عناها الأعشى في قوله :
فَكعْبَةُ نَجرَان حَتْم عليكِ *** حتى تُناخي بأبوابها
فذلك على وجه المحاكاة والتشبيه ، كما سمّى بنو حنيفة مسَليمة رحمان .
وقوله : { البيت الحرام } بيان للكعبة . قصد من هذا البيان التنويه والتعظيم ، إذ شأن البيان أن يكون موضّحاً للمبيّن بأن يكون أشهر من المبيّن . ولمّا كان اسم الكعبة مساوياً للبيت الحرام في الدلالة على هذا البيت فقد عبّر به عن الكعبة في قوله تعالى : { ولا آمِّين البيت الحرام } [ المائدة : 2 ] فتعيّن أنّ ذكر البيان للتعظيم ، فإنّ البيان يجيء لما يجيء له النعت من توضيح ومدح ونحو ذلك . ووجه دلالة هذا العلم على التعظيم هو ما فيه من لمح معنى الوصف بالحرام قبل التغليب . وذكر البيت هنا لأنّ هذا الموصوف مع هذا الوصف صارا علماً بالغلبة على الكعبة .
والحرام في الأصل مصدر حَرُم إذا مُنِع ، ومصدره الحرام ، كالصلاح من صلُح ، فوصف شيء بحرام مبَالغة في كونه ممنوعاً . ومعنى وصف البيت بالحرام أنّه ممنوع من أيدي الجبابرة فهو محترم عظيم المهابة . وذلك يستتبع تحجير وقوع المظالم والفواحش فيه ، وقد تقدّم أنّه يقال رجل حرام عند قوله تعالى : { غير محلّي الصيد وأنتم حُرُم } في هذه السورة ( 1 ) ، وأنّه يقال : شهر حرام ، عند قوله تعالى :
{ ولا الشهر الحرام } [ المائدة : 2 ] فيها أيضاً ، فيحمل هذا الوصف على ما يناسبه بحسب الموصوف الذي يجري عليه ، وهو في كلّ موصوف يدلّ على أنّه ممّا يتجنّب جانبه ، فيكون تجنّبه للتعظيم أو مهابته أو نحو ذلك ، فيكون وصفَ مدح ، ويكون تجنّبه للتنزّه عنه فيكون وصف ذمّ ، كما تقول : الخمر حرام .
وقرأ الجمهور { قياماً } بألف بعد الياء . وقرأه ابن عامر { قيماً } بدون ألف بعد الياء .
والقيام في الأصل مصدر قام إذا استقلّ على رجليه ، ويستعار للنشاط ، ويستعار من ذلك للتدبير والإصلاح ، لأنّ شأن من يعمل عملاً مهمّاً أن ينهض له ، كما تقدّم بيانه عند قوله تعالى : { ويقيمون الصلاة } في سورة البقرة ( 3 ) . ومن هذا الاستعمال قيل للناظر في أمور شيء وتدبيره : هو قيّم عليه أو قائم عليه ، فالقيام هنا بمعنى الصلاح والنفع . وأمّا قراءة ابن عامر { قيما } فهو مصدر ( قام ) على وزن فِعَل بكسر ففتح مثل شِبَع . وقد تقدّم أنّه أحد تأويلين في قوله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما } في سورة النساء . وإنّما أعلّت واوه فصارت ياء لشدّة مناسبة الياء للكسرة . وهذا القلب نادر في المصادر التي على وزن فِعَل من الواوي العين . وإثباته للكعبة من الإخبار بالمصدر للمبالغة ، وهو إسناد مجازي ، لأنّ الكعبة لمّا جعلها الله سبباً في أحكام شرعية سابقة كان بها صلاح أهل مكة وغيرهم من العرب وقامت بها مصالحهم ، جُعلت الكعبة هي القائمة لهم لأنّها سبب القيام لهم .
والناس هنا ناس معهودون ، فالتعريف للعهد . والمراد بهم العرب ، لأنّهم الذين انتفعوا بالكعبة وشعائرها دون غيرهم من الأمم كالفرس والروم . وأمّا ما يحصل لهؤلاء من منافع التجارة ونحوها من المعاملة فذلك تبع لوجود السّكان لا لكون البيت حراماً ، إلاّ إذا أريد التسبّب البعيد ، وهو أنّه لولا حرمة الكعبة وحرمة الأشهر في الحجّ لساد الخوف في تلك الربوع فلم تستطع الأمم التجارة هنالك .
وإنّما كانت الكعبة قياماً للناس لأنّ الله لمّا أمر إبراهيم بأن يُنزل في مكة زوجه وابنه إسماعيل ، وأراد أن تكون نشأة العرب المستعربة ( وهم ذرية إسماعيل ) في ذلك المكان لينشأوا أمّة أصيلة الآراء عزيزة النفوس ثابتة القلوب ، لأنّه قدّر أن تكون تلك الأمّة هي أول من يتلقّى الدين الذي أراد أن يكون أفضل الأديان وأرسخها ، وأن يكون منه انبثاث الإيمان الحقّ والأخلاق الفاضلة . فأقام لهم بلداً بعيداً عن التعلّق بزخارف الحياة ؛ فنشأوا على إباء الضيم ، وتلقّوا سيرة صالحة نشأوا بها على توحيد الله تعالى والدعوة إليه ؛ وأقام لهم فيه الكعبة معلماً لتوحيد الله تعالى ، ووضع في نفوسهم ونفوس جيرتهم تعظيمه حرمته .
ودعا مجاوريهم إلى حجّه ما استطاعوا ، وسخّر الناس لإجابة تلك الدعوة ، فصار وجود الكعبة عائداً على سكان بلدها بفوائد التأنّس بالوافدين ، والانتفاع بما يجلبونه من الأرزاق ، وبما يجلب التجّار في أوقات وفود الناس إليه ؛ فأصبح ساكنوه لا يلحقهم جوع ولا عراء . وجعل في نفوس أهله القناعة فكان رزقهم كفاناً . وذلك ما دعا به إبراهيم في قوله : { ربّنا إنّي أسكنت من ذرّيّتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون } [ إبراهيم : 37 ] . فكانت الكعبة قياماً لهم يقوم به أوَد معاشهم . وهذا قيام خاصّ بأهله .
ثم انتشرت ذرّية إسماعيل ولحقت بهم قبائل كثيرة من العرب القحطانيين وأهِلت بلاد العرب . وكان جميع أهلها يدين بدين إبراهيم ؛ فكان من انتشارهم ما شأنه أن يَحدُث بين الأمّة الكثيرة من الاختلاف والتغالب والتقاتل الذي يفضي إلى التفاني ، فإذا هم قد وجدوا حرمة أشهر الحج الثلاثة وحرمة شهر العمرة ، وهو رجب الذي سنَّتْهُ مُضَرُ ( وهم معظم ذرية إسماعيل ) وتبعهم معظم العرب . وجدوا تلك الأشهر الأربعة ملجئة إيّاهم إلى المسالمة فيها فأصبح السلم سائداً بينهم مدة ثلث العام ، يصلحون فيها شؤونهم ، ويستبقون نفوسهم ، وتسعى فيها سادتهم وكبراؤهم وذوو الرأي منهم بالصلح بينهم ، فيما نجم من تِراتٍ وإحَنٍ . فهذا من قيام الكعبة لهم ، لأنّ الأشهر الحرم من آثار الكعبة إذ هي زمن الحج والعمرة للكعبة .
وقد جعل إبراهيم للكعبة مكاناً متّسعاً شاسعاً يحيط بها من جوانبها أميالاً كثيرة ، وهو الحرم ، فكان الداخل فيه آمناً . قال تعالى : { أوَ لم يروا أنّا جعلنا حرماً آمناً ويتخطَّف الناس مِنْ حولهم } [ العنكبوت : 67 ] . فكان ذلك أمناً مستمراً لسكّان مكة وحرمها ، وأمناً يلوذ إليه من عراه خوف من غير سكانها بالدخول إليه عائذاً ، ولتحقيق أمنه أمَّن الله وحوشه ودوابّه تقوية لحرمته في النفوس ، فكانت الكعبة قياماً لكلّ عربي إذا طرقه ضيم .
وكان أهل مكة وحرمها يسيرون في بلاد العرب آمنين لا يتعرّض لهم أحد بسوء ، فكانوا يتّجرون ويدخلون بلاد قبائل العرب ، فيأتونهم بما يحتاجونه ويأخذون منهم ما لا يحتاجونه ليبلّغوه إلى من يحتاجونه ، ولولاهم لما أمكن لتاجر من قبيلة أن يسير في البلاد ، فلتعطّلت التجارة والمنافع . ولذلك كان قريش يوصفون بين العرب بالتجّار ، ولأجل ذلك جعلوا رحلتي الشتاء والصيف اللَّتين قال الله تعالى فيهما : { لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف } [ قريش : 1 ، 2 ] . وبذلك كلّه بقيت أمّه العرب محفوظة الجبلّة التي أراد الله أن يكونوا مجبولين عليها ، فتهيّأت بعد ذلك لتلقّي دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وحملِها إلى الأمم ، كما أراد الله تعالى وتمّ بذلك مراده .
وإذا شئت أن تعدو هذا فقل : إنّ الكعبة كانت قياماً للناس وهم العرب ، إذ كانت سبب اهتدائهم إلى التوحيد واتّباع الحنيفية ، واستبقت لهم بقية من تلك الحنيفية في مدة جاهليتهم كلّها لم يعدموا عوائد نفعها .
فلمّا جاء الإسلام كان الحج إليها من أفضل الأعمال ، وبه تكفّر الذنوب ، فكانت الكعبة من هذا قياماً للناس في أمور أخراهم بمقدار ما يتمسّكون به ممّا جعلت الكعبة له قياماً .
وعَطْفُ { الشهرَ الحرامَ } على { الكعبةَ } شبْه عطف الخاصّ على العامّ باعتبار كون الكعبة أريد بها ما يشمل علائقها وتوابعها ، فإنّ الأشهر الحرم ما اكتسبت الحرمة إلاّ من حيث هي أشهر الحج والعمرة للكعبة كما علمت . فالتعريف في { الشهر } للجنس كما تقدّم في قوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } [ المائدة : 2 ] . ولا وجه لتخصيصه هنا ببعض تلك الأشهر . وكذلك عطف { الهدي } و { القلائد } . وكون الهدي قياماً للناس ظاهر ، لأنّه ينتفع ببيعه للحاج أصحابُ المواشي من العرب ، وينتفع بلحومه من الحاج فقراءُ العرب ، فهو قيام لهم .
وكذلك القلائد فإنّهم ينتفعون بها ؛ فيتّخذون من ظفائرها مادّة عظيمة للغزل والنسج ، فتلك قيام لفقرائهم ، ووجه تخصيصها بالذكر هنا ، وإن كانت هي من أقلّ آثار الحج ، التنبيهُ على أنّ جميع علائق الكعبة فيها قيام للناس ، حتى أدنى العلائق ، وهو القلائد ، فكيف بما عداها من جِلال البدْن ونعالها وكسوة الكعبة ، ولأنّ القلائد أيضاً لا يخلو عنها هدي من الهدايا بخلاف الجِلال والنعال . ونظير هذا قول أبي بكر « والله لو منعوني عِقالاً » إلخ . . .
وقوله : { ذلك لتعلموا أنّ الله يعلم ما في السموات وما في الأرض } الآية ، مرتبط بالكلام الذي قبله بواسطة لام التعليل في قوله { لتعلموا } . وتوسّط اسم الإشارة بين الكلامين لزيادة الربط مع التنبيه على تعظيم المشار إليه ، وهو الجعل المأخوذ من قوله : { جعل الله الكعبة } ، فتوسّط اسم الإشارة هنا شبيه بتوسّط ضمير الفصل ، فلذلك كان الكلام شبيهاً بالمستأنف وما هو بمستأنف ، لأنّ ماصْدَقَ اسم الإشارة هو الكلام السابق ، ومفاد لام التعليل الربط بالكلام السابق ، فلم يكن في هذا الكلام شيء جديد غير التعليل ، والتعليل اتّصال وليس باستئناف ، لأنّ الاستئناف انفصال . وليس في الكلام السابق ما يصلح لأن تتعلّق به لام التعليل إلاّ قوله { جعل } . وليست الإشارة إلاّ للجعل المأخوذ من قوله { جعل } .
والمعنى : جعل الله الكعبة قياماً للناس لتعلموا أن الله يعلم الخ . . ، أي أنّ من الحكمة التي جعل الكعبة قياماً للناس لأجلها أن تعلموا أنه يعلم . فَجَعْل الكعبة قياماً مقصود منه صلاح الناس بادىء ذي بدء لأنّه المجعولة عليه ، ثم مقصود منه عِلم الناس بأنّه تعالى عليم . وقد تكون فيه حكم أخرى لأنّ لام العلّة لا تدلّ على انحصار تعليل الحكم الخبري في مدخولها لإمكان تعدّد العلل للفعل الواحد ، لأنّ هذه علل جعلية لا إيجادية ، وإنّما اقتصر على هذه العلة دون غيرها لشدّة الاهتمام بها ، لأنّها طريق إلى معرفة صفة من صفات الله تحصل من معرفتها فوائد جمّة للعارفين بها في الامتثال والخشية والاعتراف بعجز من سواه وغير ذلك .
فحصول هذا العلم غاية من الغايات التي جعل الله الكعبة قياماً لأجلها .
والمقصود أنّه يعلم ما في السموات وما في الأرض قبل وقوعه لأنّه جعل التعليل متعلّقاً بجعل الكعبة وما تبعها قياماً للناس . وقد كان قيامها للناس حاصلاً بعد وقت جعلها بمدّة ، وقد حصل بعضُه يتلُو بعضاً في أزمنة متراخية كما هو واضح . وأمّا كونه يعلم ذلك بعد وقوعه فلا يحتاج للاستدلال لأنّه أولى ، ولأنّ كثيراً من الخلائق قد علم تلك الأحوال بعد وقوعها .
ووجه دلالة جَعْل الكعبة قياماً للناس وما عطف عليها ، على كونه تعالى يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، أنّه تعالى أمر ببناء الكعبة في زمن إبراهيم ، فلم يدر أحد يومئذٍ إلاّ أنّ إبراهيم اتّخذها مسجداً ، ومكة يومئذٍ قليلة السكّان ، ثم إنّ الله أمر بحج الكعبة وبحرمة حرمها وحرمة القاصدين إليها ، ووقّت للناس أشهراً القصد فيها ، وهدايا يسوقونها إليها فإذا في جميع ذلك صلاح عظيم وحوائل دون مضارّ كثيرة بالعرب لولا إيجاد الكعبة ، كما بيّنّاه آنفاً . فكانت الكعبة سبب بقائهم حتى جاء الله بالإسلام . فلا شك أنّ الذي أمر ببنائها قد علم أن ستكون هنالك أمّة كبيرة ، وأن ستحمد تلك الأمّة عاقبة بناء الكعبة وما معه من آثارها . وكان ذلك تمهيداً لما علمه مِن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم ، وجعلِهم حملة شريعته إلى الأمم ، وما عقب ذلك من عِظم سلطان المسلمين وبناء حضارة الإسلام . ثم هو يعلم ما في الأرض وليس هو في الأرض بدليل المشاهدة ، أو بالترفّع عن النقص فلا جرم أن يكون عالماً بما في السماوات ، لأنّ السموات إمّا أن تكون مساوية للأرض في أنّه تعالى ليس بمستقرّ فيها ، ولا هي أقرب إليه من الأرض ، كما هو الاعتقاد الخاصّ ، فثبت له العلم بما في السماوات بقياس المساواة ؛ وإمّا أن يكون تعالى في أرفع المكان وأشرف العوالم ، فيكون علمه بما في السماوات أحرى من علمه بما في الأرض ، لأنّها أقرب إليه وهو بها أعني ، فيتمّ الاستدلال للفريقين .
وأمّا دلالة ذلك على أنّه بكلّ شيء عليم فلأنّ فيما ثبت من هذا العلم الذي تقرّر من علمه بما في السماوات وما في الأرض أنواعاً من المعلومات جليلة ودقيقة ؛ فالعلم بها قبل وقوعها لا محالة ، فلو لم يكن يعلم جميع الأشياء لم يخل من جهل بعضها ، فيكون ذلك الجهل معطّلاً لعلمه بكثير ممّا يتوقّف تدبيره على العلم بذلك المجهول فهو ما دبر جعل الكعبة قياماً وما نشأ عن ذلك إلاّ عن عموم علمه بالأشياء ولولا عمومه ما تمّ تدبير ذلك المقدّر .