177- لقد أكثر الناسُ الكلام في أمر القبلة كأنها هي وحدها الخير ، وليس هذا هو الحق ، فليس استقبال جهة معينة في المشرق أو المغرب هو قوام الدين وجماع الخير ، ولكن ملاك الخير عدة أمور بعضها من أركان العقيدة الصحيحة ، وبعضها من أمهات الفضائل والعبادات ، فالأول هو : الإيمان بالله ويوم البعث والنشور والحساب وما يتبعه يوم القيامة ، والإيمان بالملائكة وبالكتب المنزلة على الأنبياء وبالأنبياء أنفسهم . والثاني هو : بذل المال عن رغبة وطيب نفس للفقراء من الأقارب واليتامى ، ولمن اشتدت حاجتهم وفاقتهم من الناس ، وللمسافرين الذين انقطع بهم الطريق فلا يجدون ما يبلغهم مقصدهم ، وللسائلين الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال ، ولغرض عتق الأرقاء وتحرير رقابهم من الرق . والثالث : المحافظة على الصلاة . والرابع : إخراج الزكاة المفروضة . والخامس : الوفاء بالعهد في النفس والمال . والسادس : الصبر على الأذى ينزل بالنفس أو المال ، أو وقت مجاهدة العدو في مواطن الحروب فالذين يجمعون هذه العقائد والأعمال الخيرة هم الذين صَدَقوا في إيمانهم ، وهم الذين اتقوا الكفر والرذائل وتجنبوها .
ثم ساق القرآن الكريم آية جامعة لأنواع البر ، ووجوه الخير ، تهدي المتمسك بها إلى السعادة الدنيوية والأخروية فقال - تعالى - :
{ لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب ولكن البر . . . }
{ البر } : اسم جامع لكل خير ، ولكل طاعة وقرية يتقرب بها العبد إلى خالقه - عز وجل- .
قال الراغب : " البر - بفتح الباء - خلاف البحر ، وتصور منه التوسع فاشتق منه البر - بكسر الباء - بمعنى التوسع في فعل الخير ، وينسب ذلك إلى الله - تعالى - تارة نحو : ( إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم ) وإلى البعد تارة فيقال : بر العبد ربه ، أي توسع في طاعته فالبر من الله الثواب ، ومن العبد الطاعة " .
وتولية الوجوه قبل الشيء معناه : التوجه إليه بجعل الوجه متجها إلى جهته فلفظ " قيل " بمعنى جهة وهو منصوب على الظرفية المكانية .
{ المشرق } : الجهة التي تشرق منها الشمس ، والمغرب : الجهة التي تغرب فيها .
قال الإِمام الرازي : اختلف العلماء في أن هذا الخطاب عام أو خاص . فقال بعضهم : أراد بقوله : { لَّيْسَ البر } أهل الكتاب لما شددوا في الثبات على التوجه بنحو بيت المقدس فقال - تعالى - ليس البر هذه الطريقة ولكن البر من آمن بالله . وقال بعضهم : بل المراد مخاطبته المؤمنين لما ظنوا أنهم قد نالوا البغية بالتوجه إلى الكعبة من حيث كانوا يحبون ذلك فخوطبوا بهذا الكلام وقال بعضهم : بل هو خطاب للكل ، لأن عند نسخ القبلة وتحويلها حصل من المؤمنين الاغتباط بهذه القبلة ، وحصل منهم التشدد في تلك القبلة حتى ظنوا أنه الفرض الأكبر في الدين ، فبعثهم الله - تعالى - بهذا الخطاب على استيفاء جميع العبادات والطاعات ، وبين أن البر ليس بأن تولوا وجوهكم شرقاً وغرباً ، وإنما البر . كيت وكيت . وهذا أشبه بالظاهر إذ لا تخيصيص فيه ، فكأنه - تعالى - قال : ليس البر المطلوب هو أمر القبلة ، بل البر المطلوب هو هذه الخصال التي عدها " .
وهذا القول الثالث - الذي يرى أصحابه أن الخطاب للكل ، والذي قال عنه الإِمام الرازي : هذا أشبه بالظاهر - هذا القول ، هو الذي تسكن إليه النفس ، لأنه لا يوجد نص صحيح يخصص الخطاب لطائفة معينة من الناس ولأن المقصود من الآية الكريمة إنما هو إفهام الناس في كل زمان ومكان أن مجرد تولية الوجه إلى قبلة مخصوصة ليس هو البر الكامل الذي يعنيه الإِسلام ، وإنما البر الكامل يتأنى في استجابة الإِنسان لتلك الخصال الشريفة التي اشتملت عليها الآية ، تلك الخصال التي تجعل المسمسكين بها على صلة طيبة بخالقهم وعلى صلة طيبة بغيرهم ، - كما سنبين ذلك عند تعليقنا على هذه الآية الكريمة- .
والمعنى : ليس البر - الذي هو كل طاعة يتقرب بها الإِنسان إلى خالقه - في تولية الوجه عند الصلاة إلى جهة المشرق والمغرب ، وإنما البر الذي يجب الاهتمام به لأنه يؤدي إلى السعادة والفلاح - يكون في الإِيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وفي انفاق المال في وجوه الخير ، وفي اتباع ما ذكرته الآية الكريمة من خصال جليلة .
هذا وقد قرأ حمزة وحفص عن عاصم { لَّيْسَ البر } بنصب البر على أنه خبر ليس ، واسمها قوله - تعالى - : { أَن تُوَلُّواْ } أي : ليس توليتكم وجهوهكم قبل المشرق والمغرب البر كله .
وقرأ الباقون { لَّيْسَ البر } برفع البر على أنه اسم ليس ، وخبرها قوله - تعالى - : { أَن تُوَلُّواْ } أي ليس البر كله توليتكم وجوهكم قبل المشرق والمغرب .
قال الطبرسي : وكلا المذهبين حسن ، لأن كل واحد من اسم لس وخبرها معرفة ، فإذا اجتمعا في التعريف تكافآ في كون أحدهما اسما والآخر خبراً كما تتكافأ النكرتان .
وقوله - تعالى - { ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } إلخ بيان لما هو البر الذي يجب أن تتجه إليه الأفكار ، وتستجيب له النفوس .
و { ولكن } حرف استدراك ، البر : اسمها . وقوله { مَنْ آمَنَ } وقع في اللفظ موقع الخبر عن قوله { البر } والخبر في المعنى لفظ مقدر مضاف إلى من آمن ، يفهم من سياق الجملة ، والمعنى مع ملاحظة المقدر : ولكن البر بر من آمن بالله .
وهذا اللون من الإِيجاز الذي حذف فيه المضاف معهود في كلام البلغاء إذ تجدهم يقولون السخاء حاتم ، والشعر زهير .
وقيل : إن البر هنا بمعنى البار فجعل المصدر في موضع اسم الفاعل ، كما يقال : ماء غور أي : غائر ، ورجل صوم أي : صائم .
وقيل : إن المحذوف هو لفظ مضاف إلى البر : أي : ولكن ذا البر من آمن بالله .
وقد ابتدأت الآية حديثها عن خصال البر بالإِيمان بالله ، لأنه أساس كل بر . وأصل كل خير ، والإِيمان بالله : هو التصديق بأنه هو الواحد الفرد الصمد ، الذي لا تعنو الوجوه إلا له ، ولا تتجه القلوب بالعبادة إلا إليه ، ومتى رسخ هذا الإِيمان في النفوس ارتفع بها إلى مكانة التكريم التي أرادها الله - تعالى - لبني آدم وصانها عن الذلة والاستكانة وأعطاها بنراس الهداية والسداد في كل نواحي الحياة .
ثم ذكرت الإِيمان باليوم الآخر ، وهو التصديق بالبعث وما يقع بعده من حساب وثواب وعقاب على الوجه الذي وصفته نصوص الشريعة بأجلى بيان .
والإِيمان باليوم الآخر من ثماره أنه يغرس في النفوس محبة الخير ، والحرص على إسداء المعروف وينفرها من اقتراف الشرور وارتكاب الآثام .
ولقد تحدث القرآن عن الإِيمان بالله واليوم الآخر في عشرات الآيات ، وأقام الأدلة الساطعة ، والبراهين القاطعة على وحدانية الله وعلى أنه هو صاحب الكمال المطلق ، كما أقام الحجج والبراهين على أن البعث حق وضرب الأمثال لذلك ، وسفه عقول المنكرين له .
ثم ذكرت الإِيمان بالملائكة والملائكة : أجسام لطيفة نورانية ، قادرون على التشكل في صورة حسنة مختلفة ، وصفهم القرآن بأنهم
{ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ووجه دخول التصديق بهم في حقيقة الإِيمان ، أن الله وسطهم في إبلاغ وحيه لأنبيائه ، وبين ذلك في كتابه ، وتحدث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عنهم في كثير من أحاديثه ، فمن لم يؤمن بالملائكة على هذا الوجه الذي جاءت به الشريعة فقد أنكر الوحي ، إذ الإِيمان بهم أصل للإِيمان بالوحي ، فيلزم من إنكارهم إنكار الوحي ، وهو يستلزم إنكار النبوة وإنكار الدار الآخرة .
ثم ذكرت الآية الإِيمان بالكتاب . والمراد به القرآن لأنه المقصود بالدعوة ، ولأنه هو الأمين على الكتب قبله ، فما وافقه منها كان حقاً وما خالفه كان باطلا .
والإِيمان به يستلزم الإِيمان بجميع الكتب المنزلة من عند الله على أنبيائه ، لأنه هو الذي أخبرنا بذلك وأمرنا بذلك وأمرنا بأن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله .
ثم ذكرت الإِيمان بالنبيين ، أي : التصديق بأنهم رجال اصطفاهم الله - تعالى - لتلقي هدايته وكتبه وتبليعها للناس بصدق وأمانة وسلامة بصيرة .
والنبيون الذين يجب الإِيمان بهم : كل من ثبتت نبوته عن طريق القرآن الكريم أو الحديث الصحيح ، وكل من أنكر نبوة نبي قد ثبت نبوته فقد خرج عن طريق الإِيمان .
ولقد قام الدليل القاطع على أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين والمرسلين ، وكل من ادعى غير ذلك فهو من الضالين المضلين .
وقد جمعت هذه الأمور الخمسة التي ذكرتها الآية كل ما يلزم أن يصدق به الإِنسان ، ليك يكون ذا عقيدة سليمة ، تصل به إلى الفلاح والسعادة .
ثم ذكرت الآية بعد بيان أصول الإِيمان الأعمال الصالحة فقالت . { وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب } .
وهذه الجملة معطوفة على قوله - تعالى - : { مَنْ آمَنَ بالله } .
والضمير في قوله { على حُبِّهِ } يعود إلى المال ، أي : أعطى المال وبذله عن طيب خاطره حالة كونه محباً له راغباً فيه . لأن الإِعطاء والبذل في هذه الحالة يدل على قوة الإِيمان ، وصفاء الوجدان ، ويسمو بصاحبه إلى أعلا الدرحات . قال - تعالى - : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصدقة ما كان في حال الصحة ، لأن الإِنسان في هذه الحالة يكون مظنة الحاجة إلى المال فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا رسول الله ، أي الصدقة أعظم أجراً ؟ قال : " أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمل الغنى ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا وكذا وقد كان لفلان " " .
وقيل الضمير يعود إلى الله - عز وجل - أي : يعطون المال على حب الله وطلباً لمرضاته .
وقيل يعود إلى الإيتاء الذي دل عليه قوله - تعالى - { وَآتَى المال } فكأنه قال : يعطيى ويحب الإعطاء رغبة في ثواب الله .
والمراد بذوي القربى : أقرباء المعطى للمال ، والمعنى : وأعطاى المال مع محبته لهذا المال لأقاربه المحتاجبين لأنهم أولى بالمعروف ، ولأن إعطاءهم إحسان وصلة رحم ، ولذلك جاء ذكرهم في الآية مقدماً على بقية الأصناف التي تستحق العطف والإِحسان .
روى الإِمام أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن سليمان بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الصدقة على المسكين صدقة . وعلى ذي الرحم اثنتان : صدقة وصلة " .
{ واليتامى } : جمع يتيم ، وهو من فقد أباه بالموت ولم يبلغ الحلم . وهؤلاء اليتامى في حاجة إلى الإِحسان إليهم بعد ذوي القربى متى كانوا محتاجين ، لشدة عجزهم عن كسب ما يسد حاجتهم .
{ والمساكين } جمع مسكين ، وهو من لا يملك شيئاً من المال ، أو يملك ما لا يكفي حاجاته وهذا النوع من الناس في حاجة إلى العناية والرعاية ؛ لأنهم في الغالب يفضلون الاكتفاء بالقليل على إراقة وجهوههم بالسؤال . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان . قالوا : فما المسكين يا رسول الله ؟ قال الذي لا يجد غني يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يسأل الناس شيئاً " .
{ وابن السبيل } : هو المسافر المنقطع عن ماله . وسمى بذلك - كما قال الآلوسي - لملازمته السبيل - أي الطريق - في السفر ، أو لأن الطريق تبرزة فكأنها ولدته وكأن إفراده لانفراده عن أحبابه ووطنه فهو أبدا يتوق إلى الجمع ، ويشتاق إلى الربع ، والكريم يحن إلى وطنه حنين الشارف إلى عطنه .
وهذا النوع من الناس في حاجة إلى المساعدة والمعاونة حتى يستطيع الوصول إلى بلده ، وفي هذا تنبيه إلى المسلمين وإن اختلفت أوطانهم ينبغي أن يكونوا في التعاطف والتعاون على متاعب الحياة كالأسرة الواحدة .
{ والسآئلين } : جمع سائل ، وهو الطالب للإِحسان والمعروف . ويحمل حاله على أنه في حاجة إلى المعاونة ، لأن السؤال علامة الحاجة غالباً .
والرقاب : جمع ربغة وهي في الأصل العنق ، وتطلق على البدن كله كما تطلق العين على الجاسوس . فصح حمل الرقاب على الأسارى والأرقاء .
وقوله : { وَفِي الرقاب } متعلق بآتي ، أي : آتى المال على حبه في تخليص الأسرى من أيدي العدو بفدائهم ، وتخليص الأرقاء بشرائهم وإعتاقهم ، وهذه الأوصناف الستة التي ذكرت في تلك الآية الكريمة { وَآتَى المال على حُبِّهِ . . } إلخ .
ليس المقصود من ذكرها الاستيعاب والحصر ، ولكنها ذكرت كأمثلة وخصت بالذكر لأنها أحوج من غيرها إلى العون والمساعدة .
والذي يراجع القرآن الكريم يجده قد عني عناية كبرى بالفقراء والمساكين وجميع أصناف المحتاجين حتى لا تكاد سورة من سوررة تخلو من الحث على الإِنفاق عليهم ، وبذل العون في مساعدتهم - وأيضاً - هناك عشرات الأحاديث في الحض على مد يد العون إلى ذوي القرابة والمعسرين ، وذلك لأن المجتمعات تحيا وتنهض بالتراحم ، وتذل وتشقى بالتقاطع والتدابر بين أبنائها .
ثم ذكرت الآية ألواناً أخرى من البر تدل على قوة الإِيمان وحسن الخلق فقالت : { وَأَقَامَ الصلاة وَآتَى الزكاة } وإقامة الصلاة أداؤها في مواقيتها مستوفية لأركانها وسننها وخشوعها على الوجه الشرعي الذي أمر الله به ، والمراد بالزكاة هنا ، الزكاة المفروضة على الوجه الذي فصلته السنة المطهرة . وإبتاؤها : يكون بإعطائها لمستحقيها من الفقراء والمساكين وغيرهم ممن ذكرهم الله في قوله - تعالى - : { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين والعاملين عَلَيْهَا والمؤلفة قُلُوبُهُمْ وَفِي الرقاب والغارمين وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل فَرِيضَةً مِّنَ الله والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } وفي ذكر الزكاة المفروضة بعد ذكر إيتاء المال على حبه لذوي القربى واليتامى . . إلخ دليل على أن في الأموال حقوقاً لذوي الحاجات سوى الزكاة ، وذلك لأنه من المعروف بين أهل العلم أن الحاجة إذا بلغت بطائفة من أبناء الأمة حد الضرورة ، يجب على الأغنياء منها أن يسعو في سدها ولو مما زاد على قدر الزكاة .
والأغنياء الذين يكتفون بدفع الزكاة ، ولا يمدون يد المساعدة لسد حاجة المحتاجين ، وتفريج كرب المكروبين ، ودفع ضرورة البائسين ، ليسوا على البر الذي يريده الله من عباده المتقين .
ومسألة " هل في المال حق سوى الزكاة " من المسائل التي تناولها بعض العلماء بالشرح والتفصيل .
وقوله : { والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } معطوف على قوله { مَنْ آمَنَ } فإنه في قوة قولك ، ومن أوفوا بعهدهم ، وأوثرت صيغة اسم الفاعل للدلالة على وجوب استمرار الوفاء .
الوفاء بالعهد يشمل ما عاهد المؤمنمون عليه الله من الإِعان لكل ما جاء به الدين ، ويشمل ما يعاهد به الناس بعضهم بعضاً مما لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً .
والموفون بعهدهم هم الذين إذا وعدوا أنجزوا ، وإذا حلفوا بروا في أيمانهم ، وإذا قالوا صدقوا في قولهم ، وإذا ائتمنوا أدوا الأمانة ، وقد وعدهم الله على ذلك بأجزل الثواب ، وأعلى الدرجات .
وفي قوله - تعالى - : { إِذَا عَاهَدُواْ } إشارة إلى أن إيفاءهم بالعهد لا يتأخر عن وقت حصول العهد .
ثم ختم - سبحانه - خصال البر بقوله : { والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس } .
البأساء من البؤس ، وهي ما يصيب الناس في الأموال كالفقر والاحتياج . يقال : بئس يبأس بؤساً وبأساً أي اشتدت حاجته .
والضراء من الضر ، وهي ما يصيبهم في أنفسهم كالأمراض والأسقام يقال : ضره وأضره وضاره وضراً ، ضد نفع : والألف في البأساء والضراء للتأنيث .
وحين البأس ، أي : ووقت القتال في سبيل الله لإعلاء كلمته ، يقال : بؤس ببؤس بأسا فهو بئيس ، أي : شجاع شديد .
وقوله : { والصابرين } معطوف في المعنى على { مَنْ آمَنَ } كقوله { والموفون } إلا أنه جاء منصوبا على المدح بتقدير - أخص أو أمدح - وغير سبكه عما قبله ، تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته على غيره من الفضائل حتى لكأنه ليس من جنس ما سبقه من فضائل ، وهذا الأسلوب يسمى عند علماء اللغة العربية بالقطع ، وهو أبلغ من الإِتباع . ولا ريب في أن صفة الصبر على الشدائد والآلام وحين القتال في سبيل الله ، جديرة بأنه ينبه لمزيد فضلها ، إذ هي أصل لكثير من المكارم كالعفاف عما في أيدي الناس ، والتسليم للقضاء الذي لا مرد له ، والإِقدام الذي يحمي به الدين وتسلم به النفوس والأموال والأعراض :
وليس الصبر هو الخضوع والاستكانة والاستسلام من غير مقاومة ولا عمل وإنما الصبر جهاد ومحاولة للتغلب على المصاعب ، ومع الاحتفاظ برباطة الجأش والثقة بحسن العاقبة .
وقد خصت الآية ثلاثة حالات بالصبر ؛ لأن هذه الحالات هي أبرز الأشياء التي يظهر فيها هلع الهالعين وجزع الجازعين ، كما يتميز فيها أصحاب النفوس القوية المطمئنة من غيرهم .
وجاءت كلمة " حين " في قوله : { وَحِينَ البأس } مشيرة إلى أن مزية الصبر في القتال إنما تظهر حين يلتقى الجمعان ، وتدور رحى الحرب ، لأن بعض الناس قد يكون قوياً في بدنه ، وقد يحشر نفسه في زمرة الأبطال المقاتلين ، ولكنه عندما يرى الأعناق تتساقط من حوله تخور قواه ، ويلوذ بالفرار ، أو يستسلم للعدو . وفي هذه الحالة تسلب عنه صفة الصابرين حين البأس . وتحق عليه صفة الضعفاء الجبناء .
وقد جاءت أنواع الصبر في الآية على وجه الترقي من الشديد إلى الأشد ، وذلك لأن الصبر على المرض أصعب من الصبر على الفقر ، والصبر حين البأس أصعب من الصبر على المرض . ثم ختمت الآية حديثها عن هؤلاء الجامعين لهذه الخصال بقوله تعالى : { أولئك الذين صَدَقُواْ وأولئك هُمُ المتقون } .
أولئك اسم إشارة للجمع ، وقد أشير به إلى من تقدم ذكرهم من الجامعين لخصال البر . والصدق توصف به الأقوال المطابقة للواقع ، وتوصف به الأعمال الواقعة على الوجه الذي يرضى الله - تعالى- .
والمتقون من الاتقاء وهو الحذر ، ويطلق المتقى في كلام الشارع على الإِنسان الذي صان نفسه عن كل ما يغضب الله ، وامتثل لأوامره ونواهيه .
أي : أولئك الذين تقدم ذكرهم من المحرزين لخصال البر هم الصادقون في إيمانهم وفي كل أحوالهم ، وأولئك هم المتقون لعذاب الله - تعالى - بسبب امتثالهم لأوامره ، واجتنابهم لما نهى عنه .
واسم الإشارة { أولئك } جيء به لإحضارهم في أذهان المخاطبين وهم متصفون بتلك المناقب الجليلة .
وفي تكرير الإِشارة زيادة تنويه بشأنهم وفضلهم . وجاء الإِخبار عنهنم بأنهم الصادقون المتقون ، لتشيرهم بأنهم قد بلغوا بإحرازهم لتلك الخصال السابقة الغاية التي يطمح إليها أرباب البصائر المتنيرة ، والنفوس المتقيمة ، والقلوب السليمة ، وهي مقام الصدق والتقوى الذي يرتفع بصاحبه إلى السعادة في الدنيا ، والنعيم الدائم في الآخرة .
هذا وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على خمسة عشر نوعاً من أنواع البر الذي يهدي إلى الحياة السعيدة في الدنيا ، وإلى رضا الله - تعالى - في الآخرة ، وذلك لأنها قد أرشدت إلى أن البر أنواع ثلاثة جامعة لكل خير : بر في العقيدة ، وبر في العمل ، وبر في الخلق .
أما بر العقيدة فقد بينته أكمل بيان في قوله - تعالى - : { وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب } .
ولا شك أن إنفاق المال في تلك الوجوه من شأنه أن يسعد الأفراد والجماعات والأمم ، ويكون مظهراً من أفضل مظاهر العمل الصالح الذي يرضي الله - تعالى - .
وأما بر الخلق فقد ذكرته بأحكم عبارة في قوله - تعالى - : { وَأَقَامَ الصلاة وَآتَى الزكاة والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس } .
وذلك لأن التمسك بهذه الفضائل . أداء الصلاة وإيتاء الزكاة . والوفاء بالعهود ، والتذرع بالصبر - يدل على صفاء الإِيمان وطهارة الوجدان وحسن الخلق وكمال الاستقامة .
وهكذا تجمع آية واحدة من كتاب الله بين بر العقيدة وبر العمل وبر الخلق ، وتربط بين الجميع برباط واحد لا ينفصم ، ونضع على هذا كله عنواناً واحداً " البر " وتمدح من استجمع أنواعه بالصدق والتقوى .
فلله هذا الاستقراء البديع ، وذلك التوجيه السديد ، الذي يشهد أن هذا القرآن من عند الله { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً }
اشتملت هذه الآية الكريمة ، على جمَل عظيمة ، وقواعد عميمة ، وعقيدة مستقيمة ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عُبيد {[3086]} بن هشام الحلبي ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عامر بن شُفَي ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد ، عن أبي ذر : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الإيمان ؟ فتلا عليه : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } إلى آخر الآية . قال : ثم سأله أيضًا ، فتلاها عليه {[3087]} ثم سأله . فقال : " إذا عملت حسنة أحبها{[3088]} قلبك ، وإذا عملت سيئة أبغضها{[3089]} قلبك " {[3090]} .
وهذا منقطع ؛ فإن{[3091]} مجاهدًا لم يدرك أبا ذر ؛ فإنه مات قديمًا .
وقال المسعودي : حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ، قال : جاء رجل إلى أبي ذر ، فقال : ما الإيمان ؟ فقرأ{[3092]} عليه هذه الآية : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } حتى فرغ منها . فقال الرجل : ليس عن البر سألتُكَ . فقال أبو ذر : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتني عنه ، فقرأ عليه هذه الآية ، فأبى أن يرضى كما أبيت [ أنت ]{[3093]} أن ترضى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأشار بيده - : " المؤمن إذا عمل حسنة سَرته ورجا ثوابها ، وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها " {[3094]} .
رواه ابن مَرْدُويه ، وهذا أيضًا منقطع ، والله أعلم .
وأما الكلام على تفسير هذه الآية ، فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس ، ثم حوَّلهم إلى الكعبة ، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين ، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك ، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل ، وامتثال أوامره ، والتوجه حيثما وجه ، واتباع ما شرع ، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل ، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق إلى المغرب بر ولا طاعة ، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه ؛ ولهذا قال : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية ، كما قال في الأضاحي والهدايا : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } [ الحج : 37 ] .
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية : ليس البر أن تُصَلُّوا ولا تعملوا . فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود ، فأمر الله بالفرائض والعمل بها .
وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك .
وقال أبو العالية : كانت اليهود تُقْبل{[3095]} قبل المغرب ، وكانت النصارى تُقْبل{[3096]} قبل المشرق ، فقال الله تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } يقول : هذا كلام الإيمان وحقيقته{[3097]} العمل . وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله .
وقال مجاهد : ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله ، عز وجل .
وقال الضحاك : ولكن البر والتقوى أن تؤدوا الفرائض على وجوهها .
وقال الثوري : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } الآية ، قال : هذه أنواع البر كلها . وصدق رحمه الله ؛ فإن من اتصف بهذه الآية ، فقد دخل في عرى الإسلام كلها ، وأخذ بمجامع الخير كله ، وهو الإيمان بالله ، وهو أنه لا إله إلا هو ، وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله { وَالْكِتَابِ } وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء ، حتى ختمت بأشرفها ، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب ، الذي انتهى إليه كل خير ، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة ، ونسخ [ الله ]{[3098]} به كل ما سواه من الكتب قبله ، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين .
وقوله : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } أي : أخرجه ، وهو مُحب له ، راغب فيه . نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف ، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هُرَيرة مرفوعًا : " أفضل الصدقة أن تَصَدَّقَ وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى ، وتخشى الفقر " .
وقد روى الحاكم في مستدركه ، من حديث شعبة والثوري ، عن منصور ، عن زُبَيد ، عن مُرَّة ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } أن{[3099]} تعطيه وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى{[3100]} وتخشى الفقر " . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه{[3101]} .
قلت وقد رواه وَكِيع عن الأعمش ، وسفيان عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود ، موقوفًا ، وهو أصح ، والله أعلم .
وقال تعالى : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا } [ الإنسان : 8 ، 9 ] .
وقال تعالى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [ الحشر : 9 ] نمَط آخرُ أرفع من هذا [ ومن هذا ]{[3102]} وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه ، وهؤلاء أعطوا{[3103]} وأطعموا ما هم محبون له .
وقوله : { ذَوِي الْقُرْبَى } وهم : قرابات الرجل ، وهم أولى من أعطى من الصدقة ، كما ثبت في الحديث : " الصدقة على المساكين{[3104]} صدقة ، وعلى ذوي الرحم ثنتان : صدقة وصلة " . فهم أولى الناس بك وببرك وإعطائك . وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير ما موضع من كتابه العزيز .
{ وَالْيَتَامَى } هم : الذين لا كاسب{[3105]} لهم ، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب ، وقد قال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن النزال بن سبرة ، عن علي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يُتْم بعد حُلُم " .
{ وَالْمَسَاكِينَ } وهم : الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم ، فيعطون ما تُسَدُّ به حاجتهم وخلتهم . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي تَرده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له {[3106]} فَيُتَصَدق عليه{[3107]} .
{ وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو : المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطى ما يوصله إلى بلده ، وكذا الذي يريد سفرا في طاعة ، فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه ، ويدخل في ذلك الضيف ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنه قال : ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين ، وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو جعفر الباقر ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك والزهري ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان .
{ وَالسَّائِلِينَ } وهم : الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا وَكِيع وعبد الرحمن ، قالا حدثنا سفيان ، عن مصعب بن محمد ، عن يعلى بن أبي يحيى ، عن فاطمة بنت الحسين ، عن أبيها{[3108]} - قال عبد الرحمن : حسين بن علي - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " للسائل حق وإن جاء على فرس " . رواه أبو داود .
{ وَفِي الرِّقَابِ } وهم : المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم .
وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف{[3109]} في آية الصدقات من براءة ، إن شاء الله تعالى . وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا شريك ، عن أبي حمزة ، عن الشعبي ، حدثتني فاطمة بنت قيس : أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفي المال حق سوى الزكاة ؟ قالت : فتلا علي { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ }{[3110]} .
ورواه ابن مَرْدُويه من حديث آدم بن أبي إياس ، ويحيى بن عبد الحميد ، كلاهما ، عن شريك ، عن أبي حمزة عن الشعبي ، عن فاطمة بنت قيس ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " في المال حق سوى الزكاة " ثم تلا{[3111]} { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } إلى قوله : { وَفِي الرِّقَابِ }
[ وقد أخرجه ابن ماجة والترمذي{[3112]} وضعف أبا حمزة ميمونًا {[3113]} الأعور ، قال : وقد رواه بيان{[3114]} وإسماعيل بن سالم عن الشعبي ]{[3115]} .
وقوله : { وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } أي : وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها ، وسجودها ، وطمأنينتها ، وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي .
وقوله : { وَآتَى الزَّكَاةَ } يُحْتَمَلُ أن يكون المراد به زكاة النفس ، وتخليصها من الأخلاق الدنية{[3116]} الرذيلة ، كقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [ الشمس : 9 ، 10 ] وقول موسى لفرعون : { هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [ النازعات : 18 ، 19 ] وقوله تعالى : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [ فصلت : 6 ، 7 ] .
ويحتمل أن يكون المرادُ زكاة المال{[3117]} كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان ، ويكون المذكور من إعطاء{[3118]} هذه الجهات والأصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر والصلة ؛ ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس : أن في المال حقا سوى الزكاة ، والله أعلم .
وقوله : { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } كقوله : { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } [ الرعد : 20 ] وعكس هذه الصفة النفاق ، كما صح في الحديث : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " . وفي الحديث الآخر : " إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر " {[3119]} .
وقوله : { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } أي : في حال الفقر ، وهو البأساء ، وفي حال المرض والأسقام ، وهو الضراء . { وَحِينَ الْبَأْسِ } أي : في حال القتال والتقاء الأعداء ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو العالية ، ومُرّة الهمداني ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والسدي ، ومقاتل بن حيان ، وأبو مالك ، والضحاك ، وغيرهم .
وإنما نُصِبَ { وَالصَّابِرِينَ } على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته ، والله أعلم ، وهو المستعان وعليه التكلان .
وقوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } أي : هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صَدَقوا في إيمانهم ؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال ، فهؤلاء هم الذين صدقوا { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات .
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( 177 )
وقوله تعالى : { ليس البرُّ } الآية : قرأ أكثر السبعة برفع الراء ، و «البرُّ » اسم ليس ، قال أبو علي : «ليس بمنزلة الفعل فالوجه أن يليها الفاعل ثم المفعول » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : مذهب أبي علي أن { ليس } حرف ، والصواب الذي عليه الجمهور أنها فعل ، وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص «ليس البرَّ » بنصب الراء ، جعل { أن تولوا } بمنزلة المضمر ، إذ لا يوصف كما لا يوصف المضمر ، والمضمر أولى أن يكون اسماً يخبر عنه( {[1593]} ) ، وفي مصحف أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود { ليس البرّ بأن تولوا } ، وقال الأعمش ، إن في مصحف عبد الله : ( لا تحسبن البر ) ( {[1594]} ) ، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : الخطاب بهذه الآية للمؤمنين ، فالمعنى ليس البر الصلاة وحدها ، وقال قتادة والربيع : الخطاب لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي ، فاليهود إلى بيت المقدس والنصارى إلى مطلع الشمس ، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليها ، وقرأ الجمهور «ولكن البر » ( {[1595]} )والتقدير ولكن البر بر من ، وقيل : التقدير ولكن ذو البر من ، وقيل : { البر } بمنزلة اسم الفاعل تقديره ولكن البار من ، والمصدر إذا أنزل منزلة اسم الفاعل فهو ولا بد محمول على حذف مضاف ، كقولك رجل عدل ورضى( {[1596]} ) .
والإيمان التصديق ، أي صدق بالله تعالى وبهذه الأمور كلها حسب مخبرات الشرائع .
وقوله تعالى : { وآتى المال على حبه } الآية ، هذه كلها حقوق في المال سوى الزكاة ، وبها كمال البر( {[1597]} ) ، وقيل هي الزكاة ، و { آتى } معناه أعطى ، والضمير في { حبه } عائد على { المال }( {[1598]} ) فالمصدر مضاف إلى المفعول ، ويجيء قوله { على حبه } اعتراضاً بليغاً أثناء القول( {[1599]} ) ، ويحتمل أن يعود الضمير على الإيتاء أي في وقت حاجة من الناس وفاقة ، فإيتاء المال حبيب إليهم ، ويحتمل أن يعود على اسم الله تعالى من قوله : { من آمن بالله } أي من تصدق محبة في الله تعالى وطاعاته ، ويحتمل أن يعود على الضمير المستكن في { آتى } أي على حبه المال ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل ، والمعنى المقصود : أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو شحيح صحيح يخشى الفقر ويأمل الغنى ، كما قال صلى الله عليه وسلم( {[1600]} ) .
قال القاضي أبو محمد : والشح في هذا الحديث هو الغريزي الذي في قوله تعالى : { وأحضرت الأنفس الشح }( {[1601]} ) [ النساء : 128 ] ، وليس المعنى أن يكون المتصدق متصفاً بالشح الذي هو البخل ، و { ذوي القربى } يراد به قرابة النسب .
واليتم في الآدميين من قبل الأب قبل البلوغ ، وقال مجاهد وغيره : { ابن السبيل } المسافر لملازمته السبيل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كما يقال ابن ماء للطائر الملازم للماء ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يدخل الجنة ابن زنى »( {[1602]} ) أي الملازم له ، وقيل : لما كانت السبيل تبرزه شبه ذلك بالولادة فنسب إليها ، وقال قتادة : { ابن السبيل } الضيف ، والأول أعم ، و { في الرقاب } : يراد به العتق وفك الأسرى وإعطاء أواخر الكتابات ( واقام الصلاة } أتمها بشروطها ، وذكر الزكاة هنا دليل على أن ما تقدم ليس بالزكاة المفروضة ، و { الموفون } عطف على { من } في قوله : { من آمن } ، ويحتمل أن يقدر وهم الموفون ، و { الصابرين } نصب على المدح أو على إضمار فعل ، وهذا مهيع( {[1603]} ) في تكرار النعوت ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «والموفين » على المدح أو على قطع النعوت ، وقرأ يعقوب والأعمش والحسن { والموفون } «والصابرون » وقرأ الجحدري { بعهودهم } ، و { البأساء } الفقر والفاقة ، و { الضراء } المرض ومصائب البدن ، و { حين البأس } وقت شدة القتال .
هذا قول المفسرين في الألفاظ الثلاثة ، وتقول العرب : بئس الرجل إذا افتقر ، وبؤس إذا شجع .
ثم وصف تعالى أهل هذه الأفعال البرة بالصدق في أمورهم أي هم عند الظن بهم والرجاء فيهم كما تقول : صدقني المال وصدقني الربح ، ومنه عود صدق( {[1604]} ) ، وتحتمل اللفظة أيضاً صدق الإخبار ، ووصفهم الله تعالى بالتقى ، والمعنى هم الذي جعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية من العمل الصالح .
قدَّمنا عند قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا اتسعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 153 ] أَن قوله : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } متصل بقوله تعالى : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } [ البقرة : 142 ] ، وأنه ختام للمُحاجة في شأن تحويل القبلة ، وأن ما بين هذا وذلك كله اعتراض أُطنب فيه وأُطيل لأخْذِ معانيه بعضِها بحُجَزِ بعضٍ .
فهذا إقبال على خطاب المؤمنين بمناسبة ذكر أحوال أهل الكتاب وحَسَدِهم المؤمنين على اتِّباع الإِسلام مرادٌ منه تلقين المسلمين الحجةَ على أهل الكتاب في تهويلهم على المسلمين إبطال القبلة التي كانوا يصلُّون إليها ففي ذلك تعريض بأهل الكتاب . فأهل الكتاب رأوا أن المسلمين كانوا على شيء من البر باستقبالهم قبلتَهم فلما تحولوا عنها لمزوهم بأنهم أضاعوا أمراً من أمور البر ، يقول عَدِّ عن هذا وأَعْرِضوا عن تهويل الواهنين وهَبُوا أنَّ قبلة الصلاة تغيرت أو كانت الصلاةُ بلا قبلة أصلاً فهل ذلك أمر له أثر في تزكية النفوس واتصافها بالبر ، فذكر المشرق والمغرب اقتصار على أشهر الجهات أو هو للإِشارة إلى قبلة اليهود وقبلة النصارى لإبطال تهويل الفريقين على المسلمين حين استقبلوا الكعبة ، ومنهم من جعله لكل من يسمع الخطاب .
والبِرّ سعة الإحسان وشدة المرضاة والخير الكامل الشامل ولذلك توصف به الأفعال القوية الإِحسان فيقال : بر الوالدين وبر الحج وقال تعالى : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } [ آل عمران : 92 ] ، والمراد به هنا بر العبد ربه بحسن المعاملة في تلقي شرائعه وأوامره .
ونفيُ البر عن استقبال الجهات مع أن منها ما هو مشروع كاستقبال الكعبة : إما لأنه من الوسائل لا من المقاصد فلا ينبغي أن يكون الاشتغال به قصارى همة المؤمنين ولذلك أسقطه الله عن الناس في حال العجز والنسيان وصلوات النوافل على الدابة في السفر ، ولذلك قال : { ولكن البر من آمن } إلخ فإن ذلك كله من أهم مقاصد الشريعة وفيه جماع صلاح النفس والجماعة ، ونظير هذا قوله تعالى : { أجعلتم سقاية الحاج } [ التوبة : 19 ] الآيات فيكون النفي على معنى نفي الكمال ، وإمَّا لأن المنفي عنه البرُّ هو استقبال قبلتي اليهود والنصارى فقد تقدم لنا أن ذلك الاستقبال غيرُ مشروع في أصل دينهم ولكنه شيء استحسنه أنبياؤُهم ورهبانهم ولذلك نُفي البر عن تولية المشرق والمغرب تنبيهاً على ذلك .
وقرأ الجمهور { ليس البرُّ } برفع { البر } على أنه اسم { ليس } والخبر هو { أَن تُولُّوا } وقرأه حمزة وحفص عن عاصم بنصب { البرَّ } على أن قوله : { أن تولوا } اسمُ { ليس } مؤخر ، ويكثر في كلام العرب تقديم الخبر على الاسم في باب كان وأخواتها إذا كان أحد معمولي هذا الباب مركباً من أنْ المصدرية وفعلِها كان المتكلم بالخيار في المعمول الآخر بين أن يرفعه وأن ينصبه وشأن اسم { ليس } أن يكون هو الجدير بكونه مبتدأ به ، فوجه قراءة رفع { البر } أن البر أمر مشهور معروف لأهل الأديان مرغوب للجميع فإذا جعل مبتدأ في حالة النفي أصغت الأسماع إلى الخبر ، وأما توجيه قراءة النصب فلأن أمر استقبال القبلة هو الشغل الشاغل لهم فإذا ذُكر خبره قبلهُ ترقب السامع المبتدأ فإذا سمعه تقرر في علمه .
وقوله : { ولكن البر من آمن } إخبار عن المصدر باسم الذَّات للمبالغة كعكسه في قولها : « فإنما هي إقبال وإدبار » وذلك كثير في الكلام ومنه قوله تعالى : { إن أصبح ماؤكم غوراً } [ الملك : 30 ] وقول النابغة :
وقد خِفْتُ ما تزيد مَخافَتي*** علَى وَعِلٍ في ذي المطارة عاقلِ
أي وعل هو مخافة أي خائف ، ومن قدر في مثله مضافاً أي برُّ مَنْ آمن أو ولكن ذُو البر فإنما عنى بيان المعنى لا أن هنالك مقداراً ؛ لأنه يخرج الكلام عن البلاغة إلى كلام مغسول كما قال التفتازاني ، وعن المبرد : لو كنتُ ممن يقرأ لقَرَأْتُ ولكن البَر بفتح الباء ، وكأنه أراد الاستغناء عن التقدير في الإخبار عن البر بجملة : { من آمن } لأن مَن آمن هو البار لا نفس البِر وكيف يقرأ كذلك و { البر } معطوف بلكِن في مقابلة البر المثبت فهل يكون إلاّ عينه ولذا لم يقرأ أحد إلاّ البِر بكسر الباء ، على أن القراءات مروية وليست اختياراً ولعل هذا لا يصح عن المبرد .
وقرأ نافع وابن عامر ( ولكنْ البر ) بتخفيف النون من لكن ورفع البر على الابتداء وقرأه بقية العشرة بتشديد نون ( لكن ) ونصب ( البر ) والمعنى واحد .
وتعريف { والكتاب } تعريف الجنس المفيد للاستغراق أي آمن بكُتب الله مثل التوراة والإنجيل والقرآن ، ووجه التعبير بصيغة المفرد أنها أخف مع عدم التباس التعريف بأن يكون للعهد ؛ لأن عطف ( النبيين ) على ( الكتاب ) قرينة على أن اللام في ( الكتاب ) للاستغراق فأوثرت صيغة المفرد طلباً لخفة اللفظ . وما يُظن من أن استغراق المفرد المعرف باللام أشمل من استغراق الجمع المعرف بها ليس جارياً على الاستعمال وإنما توهمه السكاكي في « المفتاح » في قوله تعالى : { قال رب إني وهن العظم مني } [ مريم : 4 ] من كلام وقع في « الكشاف » وما نقل عن ابن عباس أنه قرأ قولَه تعالى : { كلٌّ ءَامَن با لله وملائكته وكِتَابِهِ } [ البقرة : 285 ] ، وقال الكتاب أكثر من الكتب فلو صَحَّ عنه لم يكن مريداً به توجيه قراءته ( وكتابِه ) المعرفَ بالإضافة بل عنى به الأسماء المنفية بلا التبرئة تفرقة بين نحو لا رجل في الدار ونحو لا رجال في الدار في تطرق احتمال نفي جنس الجموع لا جنس الأفراد على ما فيه من البحث فلا ينبغي التعلُّق بتلك الكلمة ولا يصح التعلق بما ذكره صاحب « المفتاح » .
والذي ينبغي اعتماده أن استغراق المفرد والجمع في المعرف باللام وفي المنفي بلا التبرئة سواء وإنما يختلف تعبير أهل اللسان مرة بصيغة الإفراد ومرة بصيغة الجمع تبعاً لحكاية الصورة المستحضرة في ذهن المتكلم والمناسبِة لمقام الكلام ، فأما في المنفي بلا النافية للجنس فلك أن تقول لا رجل في الدار ولا رجال في الدار على السواء إلاّ إذا رجح أحدَ التعبيرين مرجِّح لفظي ، وأما في المعرف باللام أو الإضافة فكذلك في صحة التعبير بالمفرد والجمع سِوى أنه قد يتوهم احتمال إرادة العهد وذلك يَعرض للمفرد والجمع وينْدفع بالقرائن .
وعلى في قوله : { على حبه } مجاز في التمكن من حب المال مثل { أولئك على هدى } [ البقرة : 5 ] وهي في مثل هذا المقام للتنبيه على أبعد الأحوال من مظنة الوصف فلذلك تفيد مفاد كلمة مع وتدل على معنى الاحتراس كما هي في قوله تعالى : { ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً } [ الإنسان : 8 ] وقول زهير :
مَن يَلْقَ يوماً على عِلاَّتِه هَرِماً *** يَلْقَ السماحة فيه والنَّدى خُلُقاً
قال الأعلم في « شرحه » أي فكيف به وهو على غير تلك الحالة اهـ .
وليس هذا معنى مستقلاً من معاني على بل هو استعلاء مجازي أريد به تحقق ثبوت مدلول مدخولها لمعمول متعلقها ، لأنه لبعد وقوعه يحتاج إلى التحقيق ، والضمير للمال لا محالة والمراد أنه يعطي المال مع حبِّه للمال وعدم زهادته فيه فيدل على أنه إنما يعطيه مرضاة لله تعالى ولذلك كان فعله هذا براً .
وذكر أصنافاً ممن يؤتون المال لأن إتيانهم المال ينجم عنه خيرات ومصالح .
فذكر ذوي القربى أي أصحاب قرابة المعطي فاللام في ( القربى ) عوض عن المضاف إليه ، أمر المرء بالإحسان إليهم لأن مواساتهم تكسبهم محبتهم إياه والتئامهم وهذا التئام القبائل الذي أراده الله بقوله : { لتعارفوا } [ الحجرات : 13 ] فليس مقيّداً بوصف فقرهم كما فسر به بعض المفسرين بل ذلك شامل للهدية لأغنيائهم وشامل للتوسعة على المتضائقين وترفيه عيشتهم ، إذ المقصود هو التحابب .
ثم ذكر اليتامى وهم مظنة الضعف لظهور أن المراد اليتيم المحتاج حاجة دون الفقر وَإنما هو فاقد ما كان ينيله أبوه من رفاهية عَيْشٍ ، فإيتاؤهم المال يجبر صدع حياتهم . وذكر السائلين وهم الفقراء . والمسكنة : الذل مشتقة من السكون ووزن مسكين مفعيل للمبالغة مثل مِنطيق . والمسكين الفقير الذي أذله الفقر وقد أتفق أئمة اللغة أن المسكين غير الفقير هو أقل فقراً من الفقير وقيل هو أشد فقراً وهذا قول الجمهور وقد يطلق أحدهما في موضع الآخَر إذا لم يجتمعا وقد اجتمع في قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } [ التوبة : 60 ] ونظيرها في ذكر هؤلاء الأربعة قوله تعالى : { يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل } [ البقرة : 215 ] .
وذكر السائلين وهم الفقراء كنى عنهم بالسائلين لأن شأن المرء أن تمنع نفسه من أن يسأل الناس لغير حاجة غالباً .
فالسؤال علامة الحاجة غالباً ، ولو أدخل الشك في العلامات الاعتيادية لارتفعت الأحكام فلو تحقق غنى السائل لما شرع إعطاؤه لمجرد سؤاله ، ورووا : « للسائل حق ولو جاء راكباً على فرس » وهو ضعيف .
وذَكر ابن السبيل وهو الغريب أعْني الضيف في البوادي ؛ إذ لم يكن في القبائل نُزْل أو خانات أو فنادق ولم يكن السائر يستصحب معه المال وإنما يحمل زاد يومه ولذلك كان حق الضيافة فرضاً على المسلمين أي في البوادي ونحوها . وذكر الرقاب والمراد فِداء الأسرى وعتق العبيد . ثم ذكر الزكاة وهي حق المال لأجل الغنى ومصارفها مذكورة في آياتها .
وذكر الوفاء بالعهد لما فيه من الثقة بالمعاهِد ومن كرم النفس وكون الجِد والحق لها دربة وسجية ، وإنما قيد بالظرف وهو إذا عاهدوا أي وقت حصول العهد فلا يتأخر وفاؤهم طَرفَة عَيْن ، وفيه تنبيه على وجوب الاحتياط عند بذل العهد بحيث لا يعاهِد حتى يتحقق أنه يستطيع الوفاء كأنه يقول : فإن علموا ألا يفوا فلا يعاهدوا . وعطف { والموفون } على { من ءامن بالله } وغير أسلوب الوصف فلم يقل ومَنْ أوْفَى بعهده للدلالة على مغايرة الوصفين بأن الأول من علائق حق الله تعالى وأصول الدين والثاني من حقوق العباد .
وذكر الصابرين في البأساء لما في الصبر من الخصائص التي ذكرناها عند قوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 45 ] ثم ذكر مواقعه التي لا يعدوها وهي حالة الشدة ، وحالة الضر ، وحالة القتال ، فالبأساء والضراء اسمان على وزن فعلاء وليسا وصفين إذ لم يسمع لهما أَفْعَلُ مذكَّراً ، والبأساء مشتقة من البُؤْس وهو سوء الحالة من فقر ونحوه من المكروه ، قال الراغب : وقد غلب في الفقر ومنه البئيس الفقير ، فالبأساء الشدة في المال ، والضراء شدة الحال على الإنسان مشتقة من الضُّرّ ويقابلها السَّرَّاء وهي ما يَسُرّ الإنسان من أحواله ، والبأسُ النكاية والشدة في الحرب ونحوها كالخصومة { قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد } [ النمل : 33 ] { بأسهم بينهم شديد } [ الحشر : 14 ] والشر أيضاً بأس والمراد به هنا الحرب .
فلله هذا الاستقراء البديع الذي يعجز عنه كل خطيب وحكيم غير العلام الحكيم . وقد جمعت هذه الخصال جماع الفضائل الفردية والاجتماعية الناشىء عنها صلاح أفراد المجتمع من أصول العقيدة وصالحات الأعمال .
فالإيمان وإقام الصلاة هما منبع الفضائل الفردية ، لأنهما ينبثق عنهما سائر التحليات المأمور بها ، والزكاة وإيتاء المال أصل نظام الجماعة صغيرها وكبيرها ، والمواساة تقوى عنها الأخوة والاتحاد وتسدد مصالح للأمة كثيرة وببذل المال في الرقاب يتعزز جانب الحرية المطلوبة للشارع حتى يصير الناس كلهم أحراراً . والوفاء بالعهد فيه فضيلة فردية وهي عنوان كمال النفس ، وفضيلة اجتماعية وهي ثقة الناس بعضهم ببعض .
والصبر فيه جماع الفضائل وشجاعة الأمة ولذلك قال تعالى هنا : { أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } فحصر فيهم الصدق والتقوى حصراً ادعائياً للمبالغة ، ودلت على أن المسلمين قد تحقق فيهم معنى البر ، وفيه تعريض بأن أهل الكتاب لم يتحقق فيهم ، لأنهم لم يؤمنوا ببعض الملائكة وبعض النبيئين ، ولأنهم حرموا كثيراً من الناس حقوقهم ، ولم يفوا بالعهد ، ولم يصبروا .
وفيها أيضاً تعريض بالمشركين إذ لم يؤمنوا باليوم الآخر ، والنبيئين ، والكتب . وسلبوا اليتامى أموالهم ، ولم يقيموا الصلاة ، ولم يؤتوا الزكاة .
ونصب ( الصابرين ) وهو معطوف على مرفوعات نصبٌ على الاختصاص على ما هو المتعارف في كلام العرب في عطف النعوت من تخيير المتكلم بين الاتباع في الإعراب للمعطوف عليه وبين القطع قاله الرضي ، والقطع يكون بنصب ما حقه أن يكون مرفوعاً أو مجروراً وبرفع ما هو بعكسه ليظهر قصد المتكلم القطع حين يختلف الإعراب ؛ إذ لا يعرف أن المتكلم قصد القطع إلاّ بمخالفة الإعراب ، فأما النصب فبتقدير فعل مدح أو ذم بحسب المقام ، والأظهر تقدير فعل أخُص لأنه يفيد المدح بين الممدوحين والذم بين المذمومين .
وقد حصل بنصب ( الصابرين ) هنا فائدتان : إحداهما عامة في كل قطع من النعوت ، فقد نقل عن أبي علي الفارسي أنه إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن يخالف إعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها لأن هذا من مواضع الإطناب فإذا خولف إعراب الأوصاف كان المقصود أكمل لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان .
قال في « الكشاف » « نُصِب على المدح وهو باب واسع كسَّره سيبويه على أمثلة وشواهد » اهـ . قلت : قال سيبويه في باب ما ينتصب على التعظيم والمدح « وإن شئتَ جعلته صفة فجرى على الأولِ ، وإن شئتَ قطعته فابتدأْتَه ، مثل ذلك قوله تعالى : { ولكن البر من ءامن بالله واليوم الآخر } إلى قوله { والصابرين } ولو رُفع الصابرين على أول الكلام كان جيداً ، ولو ابتدأته فرفعته على الابتداء كان جيداً ، ونظير هذا النصب قول الخِرْنِقِ :
لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الذِين هُمُو *** سُم العُداةِ وآفة الجُزْرِ
النازِلينَ بكـــل مُعْتَرَكٍ *** والطيِّبون مَعَاقِدَ الأُزْرِ
بنصب النازلين ، ثم قال : وزعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم تُرِد أن تحدِّث الناس ولا مَنْ تخاطب بأمرٍ جَهِلوه ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمتَ فجعلته ثناء وتعظيماً ونصبه على الفعل كأنه قال أَذْكُرُ أهْلَ ذلك وأَذْكُرُ المقيمين ولكنه فعل لا يستعمل إظهاره » اهـ قلت : يؤيد هذا الوجه أنه تكرر مثله في نظائر هذه الآية في سورة النساء { والمقيمين الصلاة } [ النساء : 162 ] عطفاً على { لكن الراسخون في العلم } [ النساء : 162 ] ، وفي سورة العقود { والصابئون } [ المائدة : 69 ] عطفاً على { إن الذين آمنوا والذين هادوا } [ المائدة : 69 ] .
الفائدة الثانية أن في نصب { الصابرين } بتقدير أخص أو أمدح تنبيهاً على خصيصية الصابرين ومزية صفتهم التي هي الصبر .
قال في « الكشاف » : « ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خط المصحف ، وربما التفت إليه من لم ينظرْ في الكتابِ ولم يعرف مذاهب العرب ومالَهم في النصب على الاختصاص من الافتتان اهـ » وأقول : إن تكرره كما ذكرنا وتقارب الكلمات يربأُ به على أن يكون خطأً أو سهواً وهو بين كلمتين مخالفتين إعرابه .
وعن الكسائي أن نصبه عطف على مفاعيل { آتى } أي وآتى المال الصابرين أي الفقراء المتعففين عن المسألة حين تصيبهم البأساء والضراء والصابرين حين البأس وهم الذين لا يجدون ما ينفقون للغزو ويحبون أن يغزوا ، لأن فيهم غناء عن المسلمين قال تعالى : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون } [ التوبة : 92 ] .
وعن بعض المتأولين أن نصب { والصابرين } وقع خطأ من كتاب المصاحف وأنه مما أراده عثمان رضي الله عنه فيما نُقل عنه أنه قال بعد أن قرأ المصحف الذي كتبوه : « إنِّي أجد به لحناً ستقيمه العرب بألسنتها » وهذا مُتَقَوَّل على عثمان ولو صح لكان يريد باللحن ما في رسم المصاحف من إشارات مثل كتابة الألف في صورة الياء إشارة إلى الإمالة ولم يكن اللحن يطلق على الخطأ .
{وفي الرقاب} [البقرة: 177]. 52- ابن العربي: قال مالك: هم عبيد يُعتقون قربة.
يقال: إن اليهود قالت: البر في استقبال المغرب، وقالت النصارى: البر في استقبال المشرق بكل حال. فأنزل الله عز وجل فيهم: {لَّيْسَ اَلْبِرُّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ} يعني ـ والله أعلم ـ وأنتم مشركون، لأن البر لا يكتب لمشرك. (أحكام الشافعي: 1/67. ومن لباب النقول ص: 33.)... 20-
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: ليس البرّ الصلاة وحدها، ولكن البرّ الخصال التي أبينها لكم. "لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وجوهَكم قِبَل المشرِق والمغرِبِ "يعني السجود ولكنّ البرّ ما ثبت في القلب من طاعة الله.
وقال آخرون: عنى الله بذلك اليهود والنصارى، وذلك أن اليهود تصلي فتوجّه قبل المغرب، والنصارى تصلي فتوجّه قبل المشرق، فأنزل الله فيهم هذه الآية يخبرهم فيها أن البرّ غير العمل الذي يعملونه ولكنه ما بيناه في هذه الآية. {وآتى المَالَ على حُبّهِ ذَوِي القُرْبَى واليتَامَى وَالمَساكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرّقابِ}: وأعطى ماله في حين محبته إياه وضنه به وشحه عليه... عن عبد الله بن مسعود: وآتى المَالَ على حُبّهِ أي يؤتيه وهو صحيح شحيح يأمل العيش ويخشى الفقر.
فتأويل الآية: وأعطى المال وهو له محبّ حريص على جمعه، شحيح به ذوي قرابته فوصل به أرحامهم.
وإنما قلت: عنى بقوله: "ذَوِي القُرْبَى" ذوي قرابة مؤدّي المال على حبه للخبر الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره فاطمة بنت قيس، وقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل: أيّ الصدقة أفضل؟ قال: «جُهْدُ المُقلّ على ذِي القَرَابَةِ الكاشِح».
وأما اليتامى والمساكين فقد بينا معانيهما فيما مضى. وأما ابن السبيل فإنه المجتاز بالرجل. ثم اختلف أهل العلم في صفته؛ فقال بعضهم: هو الضيفُ من ذلك. وقال بعضهم: هو المسافر يمرّ عليك... المجتاز من أرض إلى أرض.
وإنما قيل للمسافر ابن السبيل لملازمته الطريق، والطريق هو السبيل، فقيل لملازمته إياه في سفره ابنه كما يقال لطير الماء ابن الماء لملازمته إياه، وللرجل الذي أتت عليه الدهور ابن الأيام والليالي والأزمنة. "وَالسّائِلِينَ": المستطعمين الطالبين.
"وَفِي الرّقابِ": وفي فكّ الرقاب من العبودة، وهم المكاتَبُون الذين يسعون في فكّ رقابهم من العبودة بأداء كتاباتهم التي فارقوا عليها ساداتهم.
{وأقامَ الصّلاةَ وآتى الزّكاةَ والمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عاهَدُوا}: وأقامَ الصّلاةَ أدام العمل بها بحدودها.
"وآتى الزّكاةَ": أعطاها على ما فرضها الله عليه.
فإن قال قائل: وهل من حقّ يجب في مال إيتاؤه فرضا غير الزكاة؟ قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك؛ فقال بعضهم: فيه حقوق تجب سوى الزكاة واعتلوا لقولهم ذلك بهذه الآية، وقالوا: لما قال الله تبارك وتعالى: "وآتى المَالَ على حُبّهِ ذَوِي القُرْبَى" ومن سمى الله معهم، ثم قال بعد: "وأقامَ الصّلاةَ وآتى الزّكاةَ" علمنا أن المال الذي وصف المؤمنين به أنهم يؤتونه ذوي القربى، ومن سمى معهم غير الزكاة التي ذكر أنهم يؤتونها لأن ذلك لو كان مالاً واحدا لم يكن لتكريره معنى مفهوم. قالوا: فلما كان غير جائز أن يقول تعالى ذكره قولاً لا معنى له، علمنا أن حكم المال الأول غير الزكاة، وأن الزكاة التي ذكرها بعد غيره. قالوا: وبعد فقد أبان تأويل أهل التأويل صحة ما قلنا في ذلك.
وقال آخرون: بل المال الأول هو الزكاة، ولكن الله وصف إيتاء المؤمنين من آتوه ذلك في أول الآية، فعرّف عباده بوصفه ما وصف من أمرهم المواضع التي يجب عليهم أن يضعوا فيها زكواتهم ثم دلهم بقوله بعد ذلك: "وآتى الزّكاة" أن المال الذي آتاه القوم هو الزكاة المفروضة كانت عليهم، إذ كان أهل سهمانها هم الذين أخبر في أول الآية أن القوم آتوهم أموالهم.
"وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عاهَدُوا": والذين لا ينقضون عهد الله بعد المعاهدة، ولكن يوفون به ويتمونه على ما عاهدوا عليه من عاهدوه عليه... فمن أعطى عهد الله ثم نقضه فالله ينتقم منه، ومن أعطى ذمة النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم غدر بها فالنبيّ صلى الله عليه وسلم خصمه يوم القيامة.
"وَالّصابِرِينَ فِي البَأساءِ وَالضّرّاءِ": والمانعين أنفسهم في البأساء والضرّاء وحين البأس مما يكرهه الله لهم الحابسيها على ما أمرهم به من طاعته.
ثم قال أهل التأويل في معنى البأساء والضرّاء: عن ابن مسعود أنه قال: أما البأساء فالفقر، وأما الضرّاء فالسقم.
عن عبد الله قال: البأساء الجوع، والضراء المرض.
عن عبد الله، قال: البأساء: الحاجة، والضرّاء: المرض.
عن الربيع قال: البؤس: الفاقة والفقر، والضرّاء في النفس من وجع أو مرض يصيبه في جسده.
وأما "الصابرين" فنصبٌ، وهو من نعت «مَنْ» على وجه المدح، لأن من شأن العرب إذا تطاولت صفة الواحد الاعتراض بالمدح والذمّ بالنصب أحيانا وبالرفع أحيانا...
"وَحِينَ البَأْسِ": وَحِينَ البأْسِ والصابرين في وقت البأس، وذلك وقت شدة القتال في الحرب. "أُولَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوا وأُولَئِكَ هُمُ المُتّقُون": من آمن بالله واليوم الاَخر، ونعتهم النعتَ الذي نعتهم به في هذه الآية، يقول: فمن فعل هذه الأشياء فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم وحققوا قولهم بأفعالهم، لا من ولّى وجهه قِبَل المشرق والمغرب وهو يخالف الله في أمره وينقض عهده وميثاقه ويكتم الناس بيان ما أمره الله ببيانه ويكذّب رسله.
"وأولَئِكَ هُمُ المُتّقُون": وأولئك الذين اتقوا عقاب الله فتجنبوا عصيانه وحذروا وعده فلم يتعدّوا حدوده وخافوه، فقاموا بأداء فرائضه.
عن الربيع: "أُولَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوا" قال: فتكلموا بكلام الإيمان، فكانت حقيقته العمل صدقوا الله. قال: وكان الحسن يقول: هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل، فإن لم يكن مع القول عمل فلا شيء.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب}؛
قيل: {ليس البر} في نفس التوجه إلى ما ذكر دون الإيمان. ويحتمل: {ليس البر} في ذلك (ولكن البر) لما يقصد إليه أن قد يقع ذلك لحوائج تعرض؛ تخرج عن القربة،
ويحتمل: {ليس البر} في التوجه إلى كذا، ولكن في الائتمار لأمره والطاعة له، والبر هو الطاعة في الحقيقة.
وقيل {ليس البر} تحويل الوجه إلى المشرق والمغرب، ولكن البر ما ثبت في القلب من طاعة الله، وصدقته الجوارح.
وقيل: {ليس البر} أن تصلوا، ولا أن تعملوا غير الصلاة، كل ذلك يرجع إلى واحد.
أحدهما: أن يقال: {ليس البر} كله ذلك، لكن ما ذكر؛ إذ ذلك الوجه استعظموه، حتى قال الله تعالى: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} [البقرة: 145].
والثاني: أن يكون ذلك بنفسه ليس برا، وإنما صار برا بالأمر به أو بما ذكر من الإيمان والخيرات، فما زال عنه الوجهان سقط فعله أن يكون برا...
وقوله: {وآتى المال على حبه}؛ قيل: أعطى على حاجته، وقيل: على قلته، آثر غيره على نفسه كقوله: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) [الحشر: 9] وقيل: {ذوي القربي} أي ذوي قرابته. وفيه دلالة أن الأفضل أن يبدأ بالصلة قرابته ثم {اليتامى} لأن على جميع المسلمين حفظهم ولأنهم أضعف، فيبدأ بهم قبل {المسكين}.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ليس المسكين الذي يرده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، قيل: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: الذي لا يجد ما يغنيه، ولا يسأل الناس، ولا يفطن به فيتصدق عليه" [البخاري: 1479]...
وقوله تعالى: {وآتى المال على حبه} يعني أن البارّ مَنْ آتى المال على حبه. قيل فيه: إنه يعني حب المال، كقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] وقيل: إنه يعني حب الإيتاء، وأن لا يكون متسخِّطاً عند الإعطاء. ويحتمل أن يكون أراد على حُبّ الله تعالى كقوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} [آل عمران: 31]. وجائز أن يكون مرادُهُ جميع هذه الوجوه...
وقوله تعالى: {وآتى المال على حبه ذوي القربى} يحتملُ به أن يريد به الصدقة الواجبة؛ وأن يريد به التطوع. وليس في الآية دلالة على أنها الواجبة، وإنما فيها حَثٌّ على الصدقة ووَعدٌ بالثواب عليها؛ لأن أكثر ما فيها أنها من البِرِّ، وهذا لفظ ينطوي على الفَرْضِ والنَّفْلِ، إلا أن في سياق الآية ونَسَقِ التلاوة ما يدلّ على أنه لم يُرِدْ به الزكاة؛ لقوله تعالى: {وأقام الصلاة وآتى الزكاة} فلما عطف الزكاة عليها دلَّ على أنه لم يُرِدْ الزكاة بالصدقة المذكورة قبلها.
ومن الناس من يقول: أراد به حقوقاً واجبة في المال سِوَى الزكاةِ نَحْوَ وُجُوبِ صِلَة الرَّحِمِ إذا وجده ذا ضُرٍّ شديد. ويجوز أن يريد من قد أجْهَدَهُ الجوع حتى يُخَافَ عليه التَّلَفُ فيلزمه أن يعطيه ما يسدّ جَوْعته...
واليتامى المرادون بالآية هم الصغار الفقراء الذين مات آباؤهم...
والسائلين يعني به الطالبين للصدقة، قال الله تعالى: {وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} [المعارج: 24 و 25]...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَفِي الرِّقَابِ} يعني المكاتبين قاله أكثر المفسّرين، وقيل: فداء الأسارى، وقيل: عتق النّسمة وفكّ الرّقبة.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَالْمَسَاكِينَ}: يَعْنِي: الَّذِينَ لَا يَسْأَلُونَ، "وَالسَّائِلِين"َ يَعْنِي الَّذِينَ كَشَفُوا وُجُوهَهُمْ، وَقَدْ صَحَّ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ»...
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ}: هُمْ عَبِيدٌ يُعْتَقُونَ قُرْبَةً، قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ: أَنَّهُمْ الْمُكَاتَبُونَ يُعَانُونَ فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ، وَذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ عَامٌّ...
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَآتَى الزَّكَاةَ} قِيلَ الْمُرَادُ بِإِيتَاءِ الْمَالِ فِي أَوَّلِهَا التَّطَوُّعُ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّا قَدَّرْنَاهُ، وَبِالزَّكَاةِ هَاهُنَا الزَّكَاةُ الْمَعْرُوفَةُ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ هَاهُنَا تَفْسِيرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}؛ فَبَيَّنَ الْمَالَ الْمُؤْتَى وَوَجْهَ الْإِيتَاءِ فِيهِ وَهُوَ الزَّكَاةُ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُمَا فَائِدَتَانِ: الْإِيتَاءُ الْأَوَّلُ فِي وُجُوهِهِ، فَتَارَةً يَكُونُ نَدْبًا وَتَارَةً يَكُونُ فَرْضًا؛ وَالْإِيتَاءُ الثَّانِي هُوَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ...
المسألة الرابعة: البر اسم جامع للطاعات، وأعمال الخير المقربة إلى الله تعالى، ومن هذا بر الوالدين، قال تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} فجعل البر ضد الفجور وقال: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} فجعل البر ضد الإثم فدل على أنه اسم عام لجميع ما يؤجر عليه الإنسان وأصله من الاتساع ومنه البر الذي هو خلاف البحر لاتساعه...
فإن قيل:... ما الحكمة في هذا الترتيب؟ قلنا فيه وجوه؛
أحدها: أنه تعالى قدم الأولى فالأولى لأن الفقير إذا كان قريبا فهو أولى بالصدقة من غيره من حيث أنه يكون ذلك جامعا بين الصلة والصدقة، ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليه ولذلك يستحق به الإرث ويحجر بسببه على المالك في الوصية، حتى لا يتمكن من الوصية إلا في الثلث، ولذلك كانت الوصية للأقارب من الواجبات على ما قال {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت} الآية، وإن كانت تلك الوصية قد صارت منسوخة إلا عند بعضهم، فلهذه الوجوه قدم ذا القربى،ثم أتبعه تعالى باليتامى، لأن الصغير الفقير الذي لا والد له ولا كاسب فهو منقطع الحيلة من كل الوجوه، ثم أتبعهم تعالى بذكر المساكين لأن الحاجة قد تشتد بهم،
ثم ذكر ابن السبيل إذ قد تشتد حاجته عند اشتداد رغبته إلى أهله، ثم ذكر السائلين وفي الرقاب لأن حاجتهما دون حاجة من تقدم ذكره
وثانيها: أن معرفة المرء بشدة حاجة هذه الفرق تقوى وتضعف، فرتب تعالى ذكر هذه الفرق على هذا الوجه لأن علمه بشدة حاجة من يقرب إليه أقرب، ثم بحاجة الأيتام، ثم بحاجة المساكين، ثم على هذا النسق.
وثالثها: أن ذا القربى مسكين، وله صفة زائدة تخصه لأن شدة الحاجة فيه تغمه وتؤذي قلبه، ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير، فلذلك بدأ الله تعالى بذي القربى، ثم باليتامى، وأخر المساكين لأن الغم الحاصل بسبب عجز الصغار عن الطعام والشراب أشد من الغم الحاصل بسبب عجز الكبار عن تحصيلهما، فأما ابن السبيل فقد يكون غنيا، وقد تشتد حاجته في الوقت، والسائل قد يكون غنيا ويظهر شدة الحاجة وأخر المكاتب لأن إزالة الرق ليست في محل الحاجة الشديدة.
المسألة الثالثة: أما ذوو القربى، فمن الناس من حمل ذلك على المذكور في آية النفل والغنيمة والأكثرون من المفسرين على ذوي القربى للمعطين، وهو الصحيح لأنهم به أخص، ونظيره قوله تعالى: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى}.
واعلم أن ذوي القربى هم الذين يقربون منه بولادة الأبوين أو بولادة الجدين، فلا وجه لقصر ذلك على ذوي الرحم المحرم على ما حكى عن قوم لأن المحرمية حكم شرعي أما القرابة فهي لفظة لغوية موضوعة للقرابة في النسب وإن كان من يختص بذلك يتفاضل ويتفاوت في القرب والبعد، أما اليتامى ففي الناس من حمله على ذوي اليتامى، قال: لأنه لا يحسن من المتصدق أن يدفع المال إلى اليتيم الذي لا يميز ولا يعرف وجوه منافعه، فإنه متى فعل ذلك يكون مخطئا بل إذا كان اليتيم مراهقا عارفا بمواقع حظه، وتكون الصدقة من باب ما يؤكل ويلبس ولا يخفي على اليتيم وجه الانتفاع به جاز دفعها إليه، هذا كله على قول من قال: اليتيم هو الذي لا أب له مع الصغر، وعند أصحابنا هذا الاسم قد يقع على الصغير وعلى البالغ والحجة فيه قوله تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم} ومعلوم أنهم لا يؤتون المال إلا إذا بلغوا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى: يتيم أبي طالب بعد بلوغه، فعلى هذا إن كان اليتيم بالغا دفع المال إليه، وإلا فيدفع إلى وليه،
وأما المساكين ففيه خلاف... والذي نقوله هنا: إن المساكين أهل الحاجة، ثم هم ضربان منهم من يكف عن السؤال وهو المراد ههنا، ومنهم من يسأل وينبسط وهو المراد بقوله: {والسائلين} وإنما فرق تعالى بينهما من حيث يظهر على المسكين المسكنة مما يظهر من حاله، وليس كذلك السائل لأنه بمسألته يعرف فقره وحاجته،
أما قوله: {في البأساء} قال ابن عباس: يريد الفقر، وهو اسم من البؤس {والضراء} قال: يريد به المرض، وهما اسمان على فعلاء ولا أفعل لهما، لأنهما ليسا بنعتين.
{وحين البأس} قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد القتال في سبيل الله والجهاد، ومعنى البأس في اللغة الشدة يقال: لا بأس عليك في هذا، أي لا شدة
{بعذاب بئيس} شديد ثم تسمى الحرب بأسا لما فيها من الشدة والعذاب يسمى بأسا لشدته قال تعالى: {فلما رأوا بأسنا}، {فلما أحسوا بأسنا}، {فمن ينصرنا من بأس الله}.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
والآية كما ترى جامعة للكمالات الإنسانية بأسرها، دالة عليها صريحا أو ضمنا، فإنها بكثرتها وتشعبها منحصرة في ثلاثة أشياء: صحة الاعتقاد، وحسن المعاشرة، وتهذيب النفس. وقد أشير إلى الأول بقوله: {من آمن بالله} إلى {والنبيين} وإلى الثاني بقوله: {وآتى المال} إلى {وفي الرقاب} وإلى الثالث بقوله: {وأقام الصلاة} إلى آخرها ولذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظرا إلى إيمانه واعتقاده بالتقوى، اعتبارا بمعاشرته للخلق ومعاملته مع الحق...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين سبحانه وتعالى كفر أهل الكتاب الطاعنين في نسخ القبلة بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وكتمان الحق وغير ذلك إلى أن ختم بكفرهم بالاختلاف في الكتاب وكتمان ما فيه من مؤيدات الإسلام اتبعه الإشارة إلى أن أمر الفروع أحق من أمر الأصول لأن الفروع ليست مقصودة لذاتها، والاستقبال الذي جعلوا من جملة شقاقهم أن كتموا ما عندهم من الدلالة على حقيقته وأكثروا الإفاضة في عيب المتقين به ليس مقصوداً لذاته، وإنما المقصود بالذات الإيمان فإذا وقع تبعته جميع الطاعات من الصلاة المشترط فيها الاستقبال وغيرها فقال تعالى:
{ليس البر} أي الفعل المرضي الذي هو في تزكية النفس كالبر في تغذية البدن
{أن تولوا وجوهكم} أي في الصلاة {قبل المشرق} الذي هو جهة مطالع الأنوار {والمغرب} الذي هو جهة أفولها أي وغيرهما من الجهات المكانية، فإن ذلك كله لله سبحانه وتعالى كما مضى عند أول اعتراضهم التصريح بنسبة الكل إليه {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115]...
ولما ذكر سبحانه وتعالى مواساة الخلق وقدمها حثاً على مزيد الاهتمام بها لتسمح النفس بما زين لها حبه من المال اتبعها حق الحق فقال: {وأقام الصلاة} التي هي أفضل العبادات البدنية ولا تكون إلا بعد سد أود الجسد ولا تكون إقامتها إلا بجميع حدودها والمحافظة عليها.
ولما ذكر ما يزكي الروح بالمثول بين يدي الله سبحانه وتعالى والتقرب بنوافل الصدقات ذكر ما يطهر المال وينميه وهو حق الخلق فقال: {وآتى الزكاة} وفي الاقتصار فيها على الإيتاء إشعار بأن إخراج المال على هذا الوجه لا يكون إلا مع الإخلاص...
قال الحرالي: البأساء فعلاء من البؤس وهو سوء الحال والفاقة وفقد المنة عن إصلاحه، والضراء مرض البدن وآفاته، فكان البأساء في الحال والضراء في البدن...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ادعى الجلال أن هذه الآية نزلت للرد على النصارى الذين يولون وجوههم في صلاتهم قبل المشرق واليهود الذين يولونهم قبل بيت المقدس. وهذا ادعاء لم يثبت والصحيح قريب منه وهو أن أهل الكتاب أكبروا أمر تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة كما تقدم في آيات التحويل وحكمه وطال خوضهم فيها حتى شغلوا المسلمين بها، وغلا كل فريق في التمسك بما هو عليه وتنقيص مقابله كما هو شأن البشر في كل خلاف يثير الجدل والنزاع، فكان أهل الكتاب يرون أن الصلاة إلى غير قبلتهم لا تقبل عند الله تعالى، ولا يكون صاحبها على دين الأنبياء، والمسلمون يرون أن الصلاة إلى المسجد الحرام هو كل شيء لأنه قبلة إبراهيم وأول بيت وضع لعبادة الله تعالى وحده فأراد الله تعالى أن يبين للناس كافة أن مجرد تولية الوجه قبلة مخصوصة ليس هو البر المقصود من الدين، ذلك أن استقبال الجهة المعينة إنما شرع لأجل تذكير المصلي بالإعراض عن كل ما سوى الله تعالى في صلاته والإقبال على مناجاته ودعائه وحده. وليكون شعارا لاجتماع الأمة. فتولية الوجه وسيلة للتذكير بتولية القلب، وليس ركنا من العبادة بنفسه، وأن يبين لهم أصول البر ومقاصد الدين فقال: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} قرأ حمزة وحفص بنصب البر والباقون برفعه وكلاهما ظاهر والبر بكسر الباء لغة التوسع في الخير مشتق من البر بالفتح وهو مقابل البحر في تصور سعته كما قال الراغب وشرعا ما يتقرب به إلى الله تعالى من الإيمان والأخلاق والأعمال الصالحة. وتوجيه الوجوه إلى المشرق أو المغرب ليس هو البر ولا منه بل ليس في نفسه عملا صالحا كما تقدم شرحه في آيات تحويل القبلة وأحلنا فيه على هذه الآية التي بين الله فيها مجامع البر.
{ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين} قرأ الجمهور لكن بالتشديد ونافع وابن عامر بالتخفيف أي ولكن جملة البر هو من آمن بالله الخ وفيه الإخبار عن المعنى بالذات وهو معهود في الكلام العربي الفصيح، والقرآن جار على الأساليب العربية الفصحى، لا على فلسفة النحاة وقوانينهم الصناعية، وبلاغة هذه الأساليب إنما هي في إيصال المعاني المقصودة إلى الذهن على أجلى وجه يريده المتكلم وأحسن تأثير يقصده، ومثل هذا التعبير لا يزال مألوفا عند أهل العربية على فساد ألسنتهم في اللغة، يقولون: ليس الكرم أن تدعوا الأغنياء والأصدقاء إلى طعامك ولكن الكرم من يعطي الفقراء العاجزين عن الكسب. فالكلام مفهوم دون أن نقول إن معناه: ولكن ذا الكرم من يعطي أو لكن الكرم عطاء من يعطي. وإنما نحن في حاجة إلى بيان النكتة في اختيار ذلك على قول: ولكن البر هو الإيمان بالله الخ وهذه نكتة مفهومة من العبارة، فإنها تمثل لك المعنى في نفس الموصوف به فتفيدك أن البر هو الإيمان وما يتبعه من أعمال باعتبار اتحادهما وتلبس المؤمن البار بهما معا، من حيث إن الإيمان باعث على الأعمال وهي منبعثة عنه وأثر له تستمد منه وتمده وتغذيه، أي أنها تمثل لك المعنى في الشخص، أو الشخص عاملا بالبر، وهذا أبلغ في النفس هنا من إسناد المعنى إلى المعنى ومن إسناد الذات كما هو مذوق ومفهوم.
ابتدأ بذكر الإيمان بالله واليوم الآخر لأنه أساس كل بر، ومبدأ كل خير، ولا يكون الإيمان أصلا للبر إلا إذا كان متمكنا من النفس بالبرهان، بالخضوع والإذعان، فمن نشأ بين قوم وسمع منهم اسم الله في حلفهم واسم الآخرة في حوارهم وقبل منهم بالتسليم أن له إلها وأن هناك يوما آخر يسمى يوم القيامة وأن أهل دينه هم خير من أهل سائر الأديان، فإن ذلك لا يكون باعثا له على البر وإن زادت معارفه بهذه الألفاظ المسلمة، فحفظ الصفات العشرين التي حدد بعض المتكلمين بها ما يجب إثباته لله تعالى عقلا، وأضدادها التي تستحيل عليه عقلا، وإن حفظ العقيدة السنوسية المسماة بأم البراهين أيضا. ولقد كان أهل الكتاب الذين تبين لهم الآية خطأهم في فهم مقاصد الدين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولكنهم كانوا بمعزل عن الإذعان والقيام بحقوق هذا الإيمان من الأعمال والأوصاف المذكورة في الآية.
الإيمان المطلوب معرفة حقيقة تملك العقل والبرهان، والنفس والإذعان، حتى يكون الله ورسوله أحب إلى المؤمنين من كل شيء، ويؤثر أمرهما على كل شيء {قل إن كان آباؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} (التوبة: 23) وإيمان التقليد قد يفضل صاحبه حب كل واحد من هذه الأمور على حب الله ورسوله.
الإيمان المطلوب معرفة تطمئن بها القلوب، وتحيا بها النفوس، وتخنس معها الوساوس، وتبعد بها عن النفس الهواجس، فلا تبطل صاحبها النعمة، ولا تؤيسه النقمة {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (الرعد: 28) {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} (الحديد: 23) وإيمان التقليد لا يفتأ صاحبه مضطرب القلب، ميت النفس، إذا مسه الخير فهو فرح فخور، وإذا مسه الشر فهو يؤوس كفور.
الإيمان المطلوب معرفة تتمثل للمؤمن إذا عرضت له دواعي الشر وأسباب المعاصي فتحول دونها، فإذا نسي فأصاب الذنب بادر إلى التوبة والإنابة. فالمؤمنون هم الذين وصفوا بقوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله؟ ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} (آل عمران: 153) وهم {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} (الأنفال: 2) وإيمان التقليد يصر صاحبه على العصيان، ويقترف الفواحش عامدا عالما، لا يستحي من الله ولا يوجل قلبه إذا ذكره، ولا يخافه إذا عصاه.
الإيمان المطلوب هو الذي إذا علم صاحبه بأن الإيمان أصيب بمصيبة كانت مصيبته في دينه أشد من المصيبة في نفسه وماله وولده، وكان انبعاثه إلى تلافيها أعظم من انبعاثه إلى دفع الأذى عن حقيقته، وجلب الرزق إلى نفسه وأهله وعشيرته، وإيمان المقلد لا غيرة معه على الدين ولا على الإيمان {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون* وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين} (النور: 48 – 49) الآيات.
يذكر القرآن الإٌيمان بالله واليوم الآخر كثيرا وإنما المراد به ما له مثل هذه الأذكار التي شرحها في آيات كثيرة، من أجمعها هذه الآية التي نفسرها الآن، ولكن أهل التقليد الذين لا أثر للإيمان في قلوبهم ولا في أعمالهم إلا ما جرت به عادة قومهم من الإتيان ببعض الرسوم يؤولون كل هذه الآيات بجعلهم الإيمان قسمين: قسما كاملا، وهو الذي يصف القرآن أهله بما وصفهم به. وقسما ناقصا وهو إيمانهم الذي يجامع ما وصف الله تعالى به الكافرين والمنافقين، ويرون أن الإيمان الناقص كاف لنيل سعادة الآخرة ولاسيما إذا صحبه بعض الرسوم الدين و الله تعالى يرشدنا في مثل هذه الآية إلى أن الرسوم ليست من البر في شيء، وإنما البر هو الإيمان وما يظهر من آثاره في النفس والعمل كما ترى في الآية وأساس ذلك الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين.
فالإيمان بالله يرفع النفوس عن الخضوع والاستعباد للرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطة الدينية وهي دعوى القداسة والوساطة عند الله، ودعوى التشريع والقول على الله بدون إذن الله، أو السلطة الدنيوية وهي سلطة الملك والاستبداد، فإن العبودية لغير الله تعالى تهبط بالبشر إلى دركة الحيوان المسخر أو الزرع المستنبت والإيمان باليوم الآخر وبالملائكة يعلم الإنسان أن له حياة في عالم غيبي أعلى من هذا العالم، فلا يرضى لنفسه أن يكون سعيه وعمله لأجل خدمة هذا الجسد خاصة، لأن ذلك يجعله لا يبالي إلا بالأمور البهيمية، ولا يرضى لنفسه بالأولى أن يكون عبدا ذليلا لبشر مثله للقب ديني أو دنيوي وقد أعزه الله بالإيمان، وإنما أئمة الدين عنده مبلغون لما شرع الله، وأئمة الدنيا منفذون لأحكام الله. وإنما الخضوع الديني لله ولشرعه لا لشخوصهم وألقابهم.
ثم إن الإيمان بالملائكة أصل الإيمان بالوحي، لأن ملك الوحي روح عاقل عالم يفيض العلم بإذن الله على روح النبي بما هو موضوع الدين، ولذلك قدم ذكر الملائكة على ذكر الكتاب والنبيين، فهم الذين يؤتون النبيين الكتاب {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر} (القدر: 4) {نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين} (الشعراء: 194) فيلزم من إنكار الملائكة إنكار الوحي والنبوة وإنكار الأرواح، وذلك يستلزم إنكار اليوم الآخر، ومن أنكر اليوم الآخر يكون أكبر همه لذات الدنيا وشهواتها وحظوظها، وذلك أصل لشقاء الدنيا قبل شقاء الآخرة. والملائكة خلق روحاني عاقل قائم وهم من عالم الغيب فلا نبحث عن حقيقتهم كما تقدم غير مرة.
واختير لفظ الكتاب للإيماء إلى أن كلا من اليهود والنصارى لو صح إيمانهم بكتابهم وأذعنوا له لكان في ذلك هداية لهم، وإن جهلوا وحدة الدين فلم يعرفوا حقيقة جميع الكتب الإلهية، على أن المقصود لازمه وهو أنهم لم يؤمنوا حق الإيمان بكتابهم إذ لا يعلمون بما يرشد إليه، ولو كان إيمانهم صحيحا لقارنه الإذعان، الباعث على العمل بقدر الإمكان، فإن كثيرا من المؤمنين بالتسليم والتقليد كانوا كمن نزل فيهم {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم، وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} (الحجرات: 14، 15).
فهذا الإيمان الذي حصر الله الصدق في أصحابه كان قد فقد من أكثر أهل الكتاب كما هو حال مجموع المسلمين في هذا العصر، فإن الذي تصدق عليه هذه الأوصاف صار نادرا جدا. ولذلك حرم المسلمون ما وعد الله المؤمن من العزة والنصر، والاستخلاف في الأرض، ولن يعود لهم شيء من ذلك حتى يعودوا إلى التحقق بما ميز الله به المؤمنين من النعوت والأوصاف. فالإيمان بالكتاب يستلزم العمل به، فإن المؤمن الموقن بأن هذا الشيء قبيح ضار لا تتوجه إرادته إلى إتيانه، والمؤمن الموقن بأن هذا الشيء حسن نافع لا بد أن تتوجه إليه نفسه عند عدم المانع.
فما بال مدعي الإيمان بالكتاب قد أعرضوا عن امتثال أمره ونهيه حتى صاروا يعدون حفظه وقراءته من موانع الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، فكان من قوانينهم أن حافظ القرآن لا يطالب بتعلم فنون الحرب والجهاد لأنه حافظ، وصار حملة الكتاب لا يطالبون ببذل شيء من مالهم في سبيل الله، حتى إذا ما طولب أحدهم ببذل شيء لإعانة المنكوبين أو لبناء مسجد ونحو ذلك اعتذر بأنه من العلماء أو الحفاظ لكتاب الله تعالى، بخل القراء والمتفقهة بفضل الله تعالى فجازاهم الله تعالى على بخلهم، ووفاهم ما يستحقون على سوء ظنهم بربهم، حتى صاروا في الغالب أذل الناس، لأنهم عالة على جميع الناس.
والإيمان بالنبيين يقتضي الاهتداء بهديهم، والتخلق بأخلاقهم، والتأدب بآدابهم، ويتوقف هذا على معرفة سيرتهم والعلم بسنتهم، وأبعد الناس عن الإيمان بهم من رغبوا عن معرفة سيرتهم والعلم بسنتهم، وأبعد الناس عن الإيمان بهم من رغبوا عن معرفة ما ذكر والاهتداء به ولا عذر لهم بما يزعمون من الاستغناء عن السنة بالاقتداء بالأئمة والفقهاء فإنه لا معنى للاقتداء بشخص إلا الاستقامة على طريقته وإنما طريقة الأئمة المهتدين البحث عن السنة وتقديمها بعد كتاب الله تعالى على كل هداية وإرشاد، ولا يغني عن كتاب الله ورسوله شيء أبدا، فإن الله يقول {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا لله واليوم الآخر} (الأحزاب: 21) فن استغنى عن التأسي بالرسول فقد استغنى عن الإيمان بالله واليوم الآخر، إذ لا ينفعه هذا الإيمان إلا بهذا التأسي، على أن الاقتداء بالأئمة يقضي على صاحبه بأن يعرف سيرتهم وطريقة أخذهم عن ربهم ونبيهم وأصول استدلالهم، وهؤلاء المقلدون لا يعرفون ذلك، بل يندر أن يعرف أحد منهم كلام من يدعي اتباعه وتقليده، بل جعلوا بينهم وبين أئمتهم عدة وسائط من المقلدين فهم يقلدونهم دونه، بناء على أنهم أعلم منهم بمراده، كما أنه أعلم بمراد الله ورسوله.
وهناك قوم غشيهم الجهل فغشهم بأنهم من أشد الناس إيمانا بالرسول وحبا له بما يصيحون به في قراءة كتب الصلاة عليه كالدلائل وأمثالها، أو المدائح الشعرية وهم أجهل الناس بأخلاقه العظيمة، وسنته السنية، وسيرته الشريفة، وأشدهم نفورا عن التأسي به إذا دعوا إليه، أو نهوا عن البدع في دينه والزيادة في شريعته. وأمثال هؤلاء من الذين ورد الحديث في الصحيحين وغيرهما بأنهم يردون عليه الحوض يوم القيامة فيذادون أي يطردون دونه فيقول (أمتي) فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فيقول (سحقا سحقا لمن بدل بعدي) 501.
ثم ذكر تعالى بعد بيان أصول الإيمان أصول الأعمال الصالحة التي هي ثمرته وبدأ بأقواها دلالة عليه فقال: {وآتي المال على حبه} أي وأعطى المال لأجل حبه تعالى أو على حبه إياه أي المال.
قال الأستاذ الإمام: وهذا الإيتاء غير إيتاء الزكاة الآتي وهو ركن من أركان البر وواجب كالزكاة. وذلك حيث تعرض الحاجة إلى البذل في غير وقت أداء الزكاة، بأن يرى الواجد مضطرا بعد أداء الزكاة أو قبل تمام الحول. وهو لا يشترط فيه نصاب معين بل هو على حسب الاستطاعة، فإذا كان لا يملك إلا رغيفا ورأى مضطرا إليه في حال استغنائه عنه بأن لم يكن محتاجا إليه لنفسه أو لمن تجب عليه نفقته وجب عليه بذله. وليس المضطر وحده هو الذي له الحق في ذلك بل أمر الله تعالى المؤمن أن يعطي من غير زكاة {ذوى القربى} وهم أحق الناس بالبر والصلة فإن الإنسان إذا احتاج وفي أقاربه غني فإن نفسه تتوجه إ ليه بعاطفة الرحم ومن المغروز في الفطرة أن الإنسان يألم لفاقة ذوي رحمه وعدمهم أشد مما يألم لفاقة غيرهم، فإنه يهون بهوانهم ويعتز بعزتهم. فمن قطع الرحم ورضي بأن ينعم وذوو قرباه بائسون فهو بريء من الفطرة والدين، وبعيد من الخير والبر، ومن كان أقرب رحما كان حقه آكد وصلته أفضل.
{واليتامى} فإنهم لموت كافلهم تتعلق كفالتهم وكفايتهم بأهل الوجد واليسار من المسلمين كيلا تسوء حالهم، وتفسد تربيتهم فيكونوا مصائب على أنفسهم وعلى الناس {والمساكين} أهل السكون والعفة من الفقراء فإنهم لما قعد بهم العجز عن كسب ما يكفيهم، وسكنت نفوسهم للرضى بالقليل، عن مد كف الذليل، وجبت مساعدتهم ومواساتهم على المستطيع {وابن السبيل} المنقطع في السفر لا يتصل بأهل ولا قرابة حتى كأن السبيل أبوه وأمه ورحمه وأهله وهذا التعبير بمكان من اللطف لا يرتقي إليه سواه وفي الأمر بمواساته وإعانته في سفره ترغيب في السياحة والضرب في الأرض...
{وأقام الصلاة} أي أداها على أكمل وجه وأقومه وأدامها، وهذا هو الركن الروحاني الركين للبر. وإقامة الصلاة التي يكرر القرآن المطالبة بها لا تتحقق بأداء أفعال الصلاة وأقوالها فقط وإن جاء بها المصلي تامة على الوجه الذي يذكره الفقهاء، لأن ما يذكرونه هو صورة الصلاة وهيأتها، وإنما البر والتقوى في سر الصلاة وروحها الذي تصدر عنه آثارها من النهي عن الفحشاء والمنكر، وقلب الطباع السقيمة، والاستعاضة عنها بالغرائز المستقيمة، فقد قال تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين} (المعارج: 19-21) فمن حافظ على الصلاة الحقيقية تطهرت نفسه من الهلع والجزع إذا مسه الشر، ومن البخل والمنع إذا مسه الخير، وكان شجاعا كريما قوي العزيمة شديد الشكيمة لا يرضى بالضيم، ولا يخشى من الحق العذل واللوم، لأنه بمراقبته لله تعالى في صلاته، واستشعاره عظمته وسلطانه الأعلى في ركوعه وسجوده، يكون الله تعالى غالبا على أمره، فلا يبالي ما لقي من الشدائد في سبيله، وما أنفق من فضله ابتغاء مرضاته
وصورة الصلاة لا تعطي صاحبها شيئا من هذه المعاني، فليست بمجردها من البر في شيء، وإنما شرعت للتذكير بذلك السناء الإلهي، والاستعانة بها على توجه القلب إليه، واستغراقه في ذكره ومناجاته ودعائه، وهو روحها وسرها الذي يستعان به وبالصبر على جميع المقاصد العالية والمجاهدات فهذا هو البر...
{والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} وهذا انتقال من البر إلى البر في الأخلاق والأعمال الاجتماعية، فذكر منها ما هو أهم أصول البر وهو الوفاء والصبر بضروبه المبينة بعد. وقد ذكر الأعمال بصيغة الفعل والأخلاق بصيغة الوصف لأن الأعمال أفعال، والأخلاق صفات. وفيه تنبيه على أن من أوفى وصبر تكلفا لا يكون بارا حتى يصير الوفاء والصبر من أخلاقه ولو بتكرر التكلف والتعمل، فقد ورد (الحلم بالتحلم) وقدم ما ذكر من الأعمال على هذه الأخلاق لأن الأعمال هي التي تطبع الأخلاق في النفوس، ولاسيما الصلاة وبذل المال فلا أعون منهما على الوفاء والصبر وذلك ظاهر لقوم يفقهون...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ما قيمة الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين؟
إن الإيمان بالله هو نقطة التحول في حياة البشرية من العبودية لشتى القوى، وشتى الأشياء، وشتى الاعتبارات.. إلى عبودية واحدة لله تتحرر بها النفس من كل عبودية، وترتفع بها إلى مقام المساواة مع سائر النفوس في الصف الواحد أمام المعبود الواحد؛ ثم ترتفع بها فوق كل شيء وكل اعتبار.. وهي نقطة التحول كذلك من الفوضى إلى النظام، ومن التيه إلى القصد، ومن التفكك إلى وحدة الاتجاه.
فهذه البشرية دون إيمان بالله الواحد، لا تعرف لها قصدا مستقيما ولا غاية مطردة، ولا تعرف لها نقطة ارتكاز تتجمع حولها في جد وفي مساواة، كما يتجمع الوجود كله، واضح النسب والارتباطات والأهداف والعلاقات.. والإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بالعدالة الإلهية المطلقة في الجزاء؛ وبأن حياة الإنسان على هذه الأرض ليست سدى ولا فوضى بغير ميزان. وبأن الخير لا يعدم جزاءه ولو بدا أنه في هذه الأرض لا يلقى الجزاء..
والإيمان بالملائكة طرف من الإيمان بالغيب الذي هو مفرق الطريق بين إدراك الإنسان وإدراك الحيوان، وتصور الإنسان لهذا الوجود وتصور الحيوان. الإنسان الذي يؤمن بما وراء الحس والحيوان المقيد بحسه لا يتعداه..
والإيمان بالكتاب والنبيين هو الإيمان بالرسالات جميعا وبالرسل أجمعين، وهو الإيمان بوحدة البشرية، ووحدة إلهها، ووحدة دينها، ووحدة منهجها الإلهي.. ولهذا الشعور قيمة في شعور المؤمن الوارث لتراث الرسل والرسالات.
وما قيمة إيتاء المال -على حبه والاعتزاز به- لذوي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب؟ إن قيمته هي الانعتاق من ربقة الحرص والشح والضعف والأثرة. انعتاق الروح من حب المال الذي يقبض الأيدي عن الإنفاق، ويقبض النفوس عن الأريحية، ويقبض الأرواح عن الانطلاق. فهي قيمة روحية يشير إليها ذلك النص على حب المال. وقيمة شعورية أن يبسط الإنسان يده وروحه فيما يحب من مال. لا في الرخيص منه ولا الخبيث. فيتحرر من عبودية المال، هذه العبودية التي تستذل النفوس، وتنكس الرؤوس. ويتحرر من الحرص. والحرص يذل اعناق الرجال. وهي قيمة إنسانية كبرى في حساب الإسلام، الذي يحاول دائما تحرير الإنسان من وساوس نفسه وحرصها وضعفها قبل أن يحاول تحريره من الخارج في محيط الجماعة وارتباطاتها، يقينا منه بأن عبيد أنفسهم هم عبيد الناس؛ وأن أحرار النفوس من الشهوات هم أحرار الرؤوس في المجتمعات!.. ثم إنها بعد ذلك كله قيمة إنسانية في محيط الجماعة..
[و] هذه الصلة لذوي القربى فيها تحقيق لمروءة النفس، وكرامة الأسرة، ووشائج القربى. والأسرة هي النواة الأولى للجماعة. ومن ثم هذه العناية بها وهذا التقديم. وهي لليتامى تكافل بين الكبار والصغار في الجماعة، وبين الأقوياء فيها والضعفاء؛ وتعويض لهؤلاء الصغار عن فقدان الحماية والرعاية الأبويتين؛ وحماية للأمة من تشرد صغارها، وتعرضهم للفساد، وللنقمة على المجتمع الذي لم يقدم لهم برا ولا رعاية.. وهي للمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون -وهم مع ذلك ساكنون لا يسألون ضنا بماء وجوههم- احتفاظ لهم بكرامة نفوسهم، وصيانة لهم من البوار، وإشعار لهم بالتضامن والتكافل في محيط الجماعة المسلمة، التي لا يهمل فيها فرد، ولا يضيع فيها عضو.. وهي لابن السبيل -المنقطع عن ماله وأهله- واجب للنجدة في ساعة العسرة، وانقطاع الطريق دون الأهل والمال والديار؛ وإشعار له بأن الإنسانية كلها أهل، وبأن الأرض كلها وطن، يلقى فيها أهلا بأهل، ومالا بمال، وصلة بصلة، وقرارا بقرار.. وهي للسائلين إسعاف لعوزهم، وكف لهم عن المسألة التي يكرهها الإسلام. وفي الإسلام لا يسأل من يجد الكفاية أو من يجد عملا، فهو مأمور من دينه أن يعمل ولا يسأل، وأن يقنع ولا يسأل. فلا سائل إلا حيث يعييه العمل والمال.. وهي في الرقاب اعتاق وتحرير لمن أوقعه سوء عمله في الرق بحمل السيف في وجه الإسلام -حتى يسترد حريته وإنسانيته الكريمة. ويتحقق هذا النص إما بشراء الرقيق وعتقه، وإما بإعطائه ما يؤدي به ما كاتب عليه سيده في نظير عتقه. والإسلام يعلن حرية الرقيق في اللحظة التي يطلب فيها الحرية، ويطلب مكاتبته عليها- أي أداء مبلغ من المال في سبيلها، ومنذ هذه اللحظة يصبح عمله بأجر يحسب له، ويصبح مستحقا في مصارف الزكاة، ويصبح من البر كذلك إعطاؤه من النفقات غير الزكاة.. كل أولئك ليسارع في فك رقبته، واسترداد حريته..
وإقامة الصلاة؟ ما قيمتها في مجال البر الذي هو جماع الخير؟ إن إقامة الصلاة شيء غير التولي قبل المشرق والمغرب. إنها توجه الإنسان بكليته إلى ربه، ظاهرا وباطنا، جسما وعقلا وروحا. إنها ليست مجرد حركات رياضية بالجسم، وليست مجرد توجه صوفي بالروح. فالصلاة الإسلامية تلخص فكرة الإسلام الأساسية عن الحياة. إن الإسلام يعترف بالإنسان جسما وعقلا وروحا في كيان؛ ولا يفترض أن هناك تعارضا بين نشاط هذه القوى المكونة في مجموعها للإنسان، ولا يحاول أن يكبت الجسم لتنطلق الروح، لأن هذا الكبت ليس ضروريا لانطلاق الروح. ومن ثم يجعل عبادته الكبرى.. الصلاة. مظهرا لنشاط قواه الثلاث وتوجهها إلى خالقها جميعا في ترابط واتساق. يجعلها قياما وركوعا وسجودا تحقيقا لحركة الجسد، ويجعلها قراءة وتدبرا وتفكيرا في المعنى والمبنى تحقيقا لنشاط العقل؛ ويجعلها توجها واستسلاما لله تحقيقا لنشاط الروح.. كلها في آن.. وإقامة الصلاة على هذا النحو تذكر بفكرة الإسلام كلها عن الحياة، وتحقق فكرة الإسلام كلها عن الحياة.. في كل ركعة وفي كل صلاة.
وإيتاء الزكاة؟.. إنه الوفاء بضريبة الإسلام الاجتماعية التي جعلها الله حقا في أموال الأغنياء للفقراء، بحكم أنه هو صاحب المال، وهو الذي ملكه للفرد بعقد منه، من شروطه إيتاء الزكاة. وهي مذكورة هنا بعد الحديث عن إيتاء المال -على حبه- لمن ذكرتهم الآية من قبل على الإطلاق؛ مما يشير إلى أن الإنفاق في تلك الوجوه ليس بديلا من الزكاة، وليست الزكاة بديلة منه.. وإنما الزكاة ضريبة مفروضة، والإنفاق تطوع طليق.. والبر لا يتم إلا بهذه وتلك. وكلتاهما من مقومات الإسلام. وما كان القرآن ليذكر الزكاة منفردة بعد الإنفاق إلا وهي فريضة خاصة لا يسقطها الإنفاق، ولا تغني هي عن الإنفاق.
والوفاء بالعهد؟ إنه سمة الإسلام التي يحرص عليها، ويكررها القرآن كثيرا؛ ويعدها آية الإيمان، وآية الآدمية وآية الإحسان. وهي ضرورية لإيجاد جو من الثقة والطمأنينة في علاقات الأفراد وعلاقات الجماعات وعلاقات الأمم والدول. تقوم ابتداء على الوفاء بالعهد مع الله. وبغير هذه السمة يعيش كل فرد مفزعا قلقا لا يركن إلى وعد، ولا يطمئن إلى عهد، ولا يثق بإنسان، ولقد بلغ الإسلام من الوفاء بالعهد لأصدقائه وخصومه على السواء قمة لم تصعد إليها البشرية في تاريخها كله، ولم تصل إليها إلا على حداء الإسلام وهدي الإسلام.
والصبر في البأساء والضراء وحين البأس؟.. إنها تربية للنفوس وإعداد، كي لا تطير شعاعا مع كل نازلة، ولا تذهب حسرة مع كل فاجعة، ولا تنهار جزعا أمام الشدة. إنه التجمل والتماسك والثبات حتى تنقشع الغاشية وترحل النازلة ويجعل الله بعد عسر يسرا. إنه الرجاء في الله والثقة بالله والاعتماد على الله. ولا بد لأمة تناط بها القوامة على البشرية، والعدل في الأرض والصلاح، أن تهيأ لمشاق الطريق ووعثائه بالصبر في البأساء والضراء وحين الشدة. الصبر في البؤس والفقر. والصبر في المرض والضعف. والصبر في القلة والنقص. والصبر في الجهاد والحصار، والصبر على كل حال. كي تنهض بواجبها الضخم، وتؤدي دورها المرسوم، في ثبات وفي ثقة وفي طمأنينة وفي اعتدال.
ويبرز السياق هذه الصفة.. صفة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس.. يبرزها بإعطاء كلمة (الصابرين) وصفا في العبارة يدل على الاختصاص. فما قبلها من الصفات مرفوع أما هي فمنصوبة على الاختصاص بتقدير:"وأخص الصابرين".. وهي لفتة خاصة لها وزنها في معرض صفات البر.. لفتة خاصة تبرز الصابرين وتميزهم، وتخصص هذه السمة من بين سمات الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين وإيتاء المال -على حبه- وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد.. وهو مقام للصابرين عظيم، وتقدير لصفة الصبر في ميزان الله، يلفت الأنظار..
وهكذا تجمع آية واحدة بين أصول الاعتقاد، وتكاليف النفس والمال، وتجعلها كلا لا يتجزأ، ووحدة لا تنفصم. وتضع على هذا كله عنوانا واحدا هو (البر) أو هو "جماع الخير "أو هو "الإيمان "كما ورد في بعض الأثر. والحق أنها خلاصة كاملة للتصور الإسلامي ولمبادئ المنهج الإسلامي المتكامل لا يستقيم بدونها إسلام. ومن ثم تعقب الآية على من هذه صفاتهم بأنهم: (أولئك الذين صدقوا، وأولئك هم المتقون).. أولئك الذين صدقوا ربهم في إسلامهم. صدقوا في إيمانهم واعتقادهم، وصدقوا في ترجمة هذا الإيمان والاعتقاد إلى مدلولاته الواقعة في الحياة. وأولئك هم المتقون الذين يخشون ربهم ويتصلون به، ويؤدون واجبهم له في حساسية وفي إشفاق..
وننظر نحن من خلال هذه الآية إلى تلك الآفاق العالية التي يريد الله أن يرفع الناس إليها، بمنهجه الرفيع القويم.. ثم ننظر إلى الناس وهن ينأون عن هذا المنهج ويتجنبونه، ويحاربونه، ويرصدون له العداوة، ولكل من يدعوهم إليه.. ونقلب أيادينا في أسف، ونقول ما قال الله سبحانه: يا حسرة على العباد! ثم ننظر نظرة أخرى فتنجلي هذه الحسرة، على أمل في الله وثيق، وعلى يقين في قوة هذا المنهج لا يتزعزع، ونستشرف المستقبل فإذا على الأفق أمل. أمل وضيء منير. أن لا بد لهذه البشرية من أن تفيء -بعد العناء الطويل- إلى هذا المنهج الرفيع، وأن تتطلع إلى هذا الأفق الوضيء.. والله المستعان...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قدَّمنا عند قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 153] أَن قوله: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} متصل بقوله تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} [البقرة: 142]، وأنه ختام للمُحاجة في شأن تحويل القبلة، وأن ما بين هذا وذلك كله اعتراض أُطنب فيه وأُطيل لأخْذِ معانيه بعضِها بحُجَزِ بعضٍ...
والبِرّ سعة الإحسان وشدة المرضاة والخير الكامل الشامل ولذلك توصف به الأفعال القوية الإِحسان فيقال: بر الوالدين وبر الحج وقال تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92]، والمراد به هنا بر العبد ربه بحسن المعاملة في تلقي شرائعه وأوامره...
وعلى في قوله: {على حبه} مجاز في التمكن من حب المال مثل {أولئك على هدى} [البقرة: 5] وهي في مثل هذا المقام للتنبيه على أبعد الأحوال من مظنة الوصف فلذلك تفيد مفاد كلمة مع وتدل على معنى الاحتراس كما هي في قوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً} [الإنسان: 8]...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
في هذه الحصة من سورة البقرة، يتولى الحق سبحانه وتعالى تنظيم حياة المسلمين أفرادا وجماعات، ويصدر إليهم أحكاما خالدة قاطعة في عدة شؤون من العبادات والمعاملات. ففيها آيات عن الصيام وعن الاعتكاف من جهة، وفيها آيات عن طريقة كسب المال وعن وجوه إنفاقه وصاحبه لا يزال على قيد الحياة، وعن الوصية به لمن ينتفع به بعد الموت، وعن القصاص وحكمته، وعن رشوة الحكام لصالح المحكومين.
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
{ليس البر أن تولوا وجوهكم}: ليس التقوى أن تحولوا وجوهكم في الصلاة {قبل}: تلقاء {المشرق والمغرب}: فلا تفعلوا ذلك. {ولكن البر من آمن بالله}: صدق بالله بأنه واحد لا شريك له. {واليوم الآخر}: يعني وصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال بأنه كائن. {والملائكة}: وصدق بالملائكة. {والكتاب والنبيين وآتي المال}: وأعطى المال. {على حبه} له أعطى: {ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل}: والضيف نازل عليك. {و} أعطى {والسائلين وفي الرقاب}: فهذا تطوع. {وأقام الصلاة}: المكتوبة. {وآتى}:وأعطى {الزكاة} المفروضة. {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا}: فيما بينهم وبين الناس. {والصابرين في البأساء والضراء} [البأساء]: الفقر. والضراء: البلاء. {وحين البأس}: وعند القتال هم صابرون {أولئك الذين صدقوا}: في إيمانهم. {وأولئك هم المتقون}.