أما الذين تخشى منهم الخيانة فقد بين - سبحانه - حكمهم بقوله : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين } .
وقوله : { تَخَافَنَّ } من الخوف والمراد به هنا العلم .
وقوله : { فانبذ } من النبذ بمعنى الطرح ، وهو مجاز عن إعلامهم بأنهم لا عهد لهم بعد اليوم ، فشبه - سبحانه - العهد بالشئ الذي يرمى لعدم الرغبة فيه ، وثبت النبذ له على سبيل التخييل ، ومفعول " فانبد " محذوف أى : فانبذ إليهم عهودهم .
قال الجمل : وقوله : { على سَوَآء } حال من الفاعل والمفعول معا ، أى : فاعل الفعل وهو ضمير النبى - صلى الله عليه وسلم - ومفعوله وهو المجرور بإلى .
أى : حال كونكم مستوين في العلم بطرح العهد . فعلمك أنت به لأنه فعل نفسك ، وعلمهم به بإعلامك إياهم ، فكأنه قيل في الآية : فانبذ عهدهم وأعلمهم بنبذه ، ولا تقاتلهم بغتة لئلا يتهموك بالغدر وليس هذا من شأنك ولا من صفاتك .
والمعنى : وإما تعلمن - يا محمد - من قوم بينك وبينهم عهد أنهم على وشك نقضه منهم ، بأمارات تلوح لك تدل على غدرهم ، فاطرح إليهم عهدهم على طريق مستو ظاهر : بأن تعلمهم بنبذك عهدهم قبل أن تحاربهم ، حتى تكون أنت وهم في العلم بنبذ العهد سواء ، لأن تعلمهم بنبذك عهدهم قبل أن تحاربهم ، حتى تكون أنت وهم في العلم بنبذ العهد سواء ، لأن الله - تعالى - لا يحب الخائنين وإن من ظاهر الخيانة التي يبغضها الله - تعالى - أن يحارب أحد المتعاهد معه دون أن بعلمه بإنهاء عهده .
قال ابن كثير : " قال الإِمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شبعة عن أبى الفيض عن سليم بن عامر قال : كان بين معاوية وبين الروم عهد ، وكان يسير نحو بلادهم ليقرب منها ، حتى إذا انقضى العهد غزاهم فإذا شيخ على دابة يقول : الله أكبر الله أكبر ، وفاء لا غدرا : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ، ولا يشدها حتى ينقضى أمدها أو ينبذ إليهم على سواء " " .
قال : فبلغ ذلك معاوية فرجع ، فإذا بالشيخ عمرو بن عيسة .
ثم قال ابن كثير ، وهذا الحديث رواه أبو داود الطيالسى عن شبعة ، وأخرجه أبو داود والترمذى والنسائى وابن نحبان في صحيح من طرق عن شعبة به ، وقال الترمذى حسن صحيح .
وروى الإِمام أحمد " عن سلمان الفارسى أنه انتهى إلى حصن أو مدينة فقال لأصحابه : دعونى ادعوهم كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم ، فقال : إنما كنت رجلا منكم فهدانى الله إلى الإِسلام ؛ فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ، وإن أنتم أبيتم ، فأدوا الجزية وأنتم صاغرون فإن أبيتم نابذناكم على سواء ، إن الله لا يحب الخائنين ، يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها بعون الله " .
وقال الفخر الرازى : قال أهل العلم : آثار نقض العهد إذا ظهرت ، فإما أن تظهر ظهوراً محتملاً ، أو ظهورا مقطوعا به .
فإن كان الأول : وجب الإِعلام على ما هو مذكور في هذه الآية ، وذلك لأن بنى قريظة عاهدوا النبى - صلى الله عليه وسلم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله ، فحصل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم خوف الغدر منهم به وأصحابه ، فهنا يجب على الإِمام أن ينبذ إليهم عهودهم على سواء ويؤذنهم بالحرب .
أما إذا ظهر نقض لعهد ظهوراً مقطوعاً به ، فهنا لا حاجة إلى نبذ العهد ، وذلك كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأهل مكة ، فإنهم لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم في ذمة النبى - صلى الله عليه وسلم - وصل إليهم جيش رسول الله بمر الظهران ، وذلك على أربعة فراسخ من مكة .
أى : أنهم لم يعلموا بجيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي جاء لمحاربتهم إلا بعد وصوله إلى هذا المكان .
وبذلك ترى أن تعاليم الإِسلام ترتفع بالبشرية إلى أسمى آفاق الوفاء والبر والأمان . . وتحقر من شان الخيانة والخائنين ، وتتوعدهم بالطرد من رحمة الله ، وبالبعد عن رضوانه ومحبته .
يقول تعالى لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه{[13095]} { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ } قد عاهدتهم { خِيَانَةً } أي : نقضًا لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود ، { فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ } أي : عهدهم { عَلَى سَوَاءٍ } أي : أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم ، وهم حرب لك ، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء ، أي : تستوي أنت وهم في ذلك ، قال الراجز : فَاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدر [ الأعْداء ]{[13096]} *** حتى يجيبوك إلى السواء{[13097]}
وعن الوليد بن مسلم أنه قال في قوله : { فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } أي : على مهل ، { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } أي : حتى ولو في حق الكفارين ، لا يحبها أيضًا .
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة{[13098]} عن أبي الفيض ، عن سليم بن عامر ، قال : كان معاوية يسير في أرض الروم ، وكان بينه وبينهم أمد ، فأراد أن يدنو منهم ، فإذا انقضى الأمد غزاهم ، فإذا شيخ على دابة يقول : الله أكبر [ الله أكبر ]{[13099]} وفاء لا غدرا ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ومن كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلَّنَّ عقدة ولا يشدها حتى ينقضي أمدها ، أو ينبذ إليهم على سواء " قال : فبلغ ذلك معاوية ، فرجع ، وإذا الشيخ عمرو بن عبسة ، رضي الله عنه .
وهذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة وأخرجه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان في صحيحه من طرق عن شعبة ، به{[13100]} وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري ، حدثنا إسرائيل ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي البختري عن سلمان - يعني الفارسي - رضي الله عنه : أنه انتهى إلى حصن - أو : مدينة - فقال لأصحابه : دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله{[13101]} صلى الله عليه وسلم يدعوهم ، فقال : إنما كنت رجلا منهم{[13102]} فهداني الله عز وجل للإسلام ، فإذا أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ، وإن أبيتم فأدوا الجزية وأنتم صاغرون ، فإن أبيتم نابذناكم على سواء ، { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } يفعل بهم ذلك ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها بعون الله{[13103]}
وقوله تعالى : { وإما تخافن } الآية قال أكثر المؤلفين في التفسير : إن هذه الآية هي من بني قريظة ، وحكاه الطبري عن مجاهد ، والذي يظهر من ألفاظ القرآن أمر بني قريظة قد انقضى عند قوله { فشرد بهم من خلفهم } ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية بأمره بما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة إلى سالف الدهر{[5420]} ، وبنو قريظة لم يكونا في حد من تخاف خيانته فترتب فيهم هذه الآية وإنما كانت خيانتهم ظاهره مشتهرة ، فهذه الآية هي عندي فيمن يستقبل حاله من سائر الناس غير بني قريظة ، وخوف الخيانة بأن تبدو جنادع الشر{[5421]} من قبل المعاهدين وتتصل عنه أقوال وتتحسس من تلقائهم مبادىء الغدر فتلك المبادىء معلومة ، والخيانة التي هي غايتهم مخوفة لا متيقنة ، وحيئنذ ينبذ إليهم على سواء ، فإن التزموا السلم على ما يجب وإلا حوربوا ، وبنو قريظة نبذوا العهد مرتين{[5422]} ، وقال يحيى بن سلام : تخاف في هذه الآية بمعنى تعلم .
قال القاضي أبو محمد : وليس كذلك ، وقوله { خيانة } يقتضي حصول عهد لأن من ليس بينك وبينه عهد فليست محاربته لك خيانة ، فأمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إذا أحس من أهل عهد ما ذكرنا ، وخاف خيانتهم أن يلقي إليهم عهدهم ، وهو النبذ ومفعول قوله { فانبذ } محذوف تقديره إليهم عهدهم .
قال القاضي أبو محمد : وتقتضي قوة هذا اللفظ الحض على حربهم ومناجزتهم إن لم يستقيموا ، وقوله { على سواء } قيل معناه يكون الأمر في بيانه والعلم به على سواء منك ومنهم ، فتكونون فيه أي في استشعار الحرب سواء ، وقيل معنى قوله { على سواء } أي على معدلة أي فذلك هو العدل والاستواء في الحق ، قال المهدوي : معناه جهراً لا سراً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا نحو الأول ، وقال الوليد بن مسلم : { على سواء } معناه على مهل كما قال تعالى : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتهم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر }{[5423]} .
قال القاضي أبو محمد : واللغة تأبى هذا القول ، وذكر الفراء أن المعنى انبذ إليهم على اعتدال وسواء من الأمر أي بيّن لهم على قدر ما ظهر منهم لا تفرط ولا تفجأ بحرب ، بل أفعل بهم مثلما فعلوا بك .
قال القاضي أبو محمد : يعني موازنة ومقايسة ، وقوله تعالى : { إن الله لا يحب الخائنين } يحتمل أن يكون طعناً على الخائنين من الذين عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يريد فانبذ إليهم على سواء حتى تبعد عن الخيانة ، فإن الله لا يحب الخائنين فيكون النبذ على هذا التأويل لأجل أن الله لا يحب الخائنين ، والسواء في كلام العرب قد يكون بمعنى العدل والَمْعدلة ، ومنه قوله تعالى : { إلى كلمة سواء بيننا وبينكم }{[5424]} ومنه قول الراجز : [ الرجز ]
فاضرب وجوه الغدر الأعداء*** حتى يجيبوك إلى السواء{[5425]}
وقد يكون بمعنى الوسط ، ومنه قوله تعالى : { في سواء الجحيم }{[5426]} ومنه قول حسان بن ثابت : [ الكامل ]
يا ويح أنصار النبي ورهطه*** بعد المغيَّب في سواء الملحدِ{[5427]}