وقوله : { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا . . } إرشاد للرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الجواب الذي يكبتهم ويزيل فرحتهم .
أى : " قل " يا محمد - لهؤلاء المنافقين الذين يسرهم ما يصبك من شر ، ويحزنهم ما يصيبك من خير ، والذين خلت قلوبهم من الإِمان بقضاء الله وقدره ، قل لهم على سبيل التقريع والتبكيت . لن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا وقدره علينا " هو مولانا " الذي يتولانا في كل أمورنا ، ونلجأ إليه في كل أحوالنا . وعليه وحده - سبحانه نكل أمورنا وليس على أحد سواه .
فأرشد الله تعالى رسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، إلى جوابهم في عداوتهم هذه التامة ، فقال : { قُلْ } أي : لهم { لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا } أي : نحن تحت مشيئة الله ، وقدره ، { هُوَ مَوْلانَا } أي : سيدنا وملجؤنا { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } أي : ونحن متوكلون عليه ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
{ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } إلا ما اختصنا بإثباته وإيجابه من النصرة ، أو الشهادة أو ما كتب لأجلنا في اللوح المحفوظ لا يتغير بموافقتكم ولا بمخالفتكم . وقرئ " هل يصيبنا " و " هل يصيبنا " وهو من فيعل لا من فعل لأنه من بنات الواو لقولهم صاب السهم يصوب واشتقاقه من الصواب لأنه وقوع الشيء فيما قصد به . وقيل من الصواب . { هو مولانا } ناصرنا ومتولي أمورنا . { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } لأن حقهم أن لا يتوكلوا على غيره .
وقوله تعالى { قل لن يصيبنا } الآية ، أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يرد على المنافقين ويفسد عليهم فرحهم بأن يعلمهم أن الشيء الذي يعتقدونه مصيبة ليس كما اعتقدوه ، بل الجميع مما قد كتبه الله عز وجل للمؤمنين ، فإما أن يكون ظفراً وسروراً في الدنيا وإما أن يكون ذخراً للآخرة ، وقرأ طلحة بن مصرف «قل هل يصيبنا » ، ذكره أبو حاتم ، وعند ابن جني وقرأ طلحة بن مصرف وأعين قاضي الري «قل لن يصيِّبنا » بشد الياء التي بعد الصاد وكسرها كذا ذكر أبو الفتح وشرح ذلك وهو وهم ، والله أعلم .
قال أبو حاتم : قال عمرو بن شفيق سمعت أعين قاضي الري يقرأ «قل لن يصيبنا » النون مشددة ، قال أبو حاتم : ولا يجوز ذلك لأن النون لا تدخل مع لن ، ولو كانت لطلحة بن مصرف لجازت لأنها مع «هل » ، قال الله عز وجل { هل يذهبن كيده ما يغيظ }{[5691]} وقوله : { كتب الله } يحتمل أن يريد ما قضى وقدر .
ويحتمل أن يريد ما كتب الله لنا في قرآننا علينا من أنّا إما أن نظفر بعدونا وإما أن نستشهد فندخل الجنة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الاحتمال يرجع إلى الأول وقد ذكرهما الزجّاج ، وقوله : { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } ، معناه مع سعيهم وجدهم إذ لا حول ولا قوة إلا بالله ، وهذا قول أكثر العلماء وهو الصحيح ، والذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مدة عمره ومنه مظاهرته بين درعين ، وتخبط الناس في معنى التوكل في الرزق فالأشهر والأصح أن الرجل الذي يمكنه التحرف الحلال المحض الذي لا تدخله كراهية ينبغي له أن يمتثل منه ما يصونه ويحمله كالاحتطاب ونحوه ، وقد قرن الله تعالى الرزق بالتسبب ، ومنه { وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليكم رطباً جنياً }{[5692]} ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الطير : «تغدو خماصاً » الحديث{[5693]} .
ومنه قوله : «قيدها وتوكل »{[5694]} وذهب بعض الناس إلى أن الرجل القوي الجلد إذا بلغ من التوكل إلى أن يدخل غاراً أو بيتاً يجهل أمره فيه ويبقى في ذكر الله متوكلاً يقول إن كان بقي لي رزق فسيأتي الله به وإن كان رزقي قد تم مت إذ ذلك حسن بالغ عند قوم ، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه كان في الحرم رجل ملازم ، يخرج من جيبه المرة بعد المرة بطاقته ينظر فيها ثم يصرفها ويبقى على حاله حتى مات في ذلك الموضع ، فقرأت البطاقة فإذا فيها مكتوب
{ واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا }{[5695]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الطريقة لا يراها جل أهل العلم بل ينبغي أن يسعى الرجل لقدر القوت سعياً جميلاً لا يواقع فيه شبهة ، فإن تعذر عليه جميع ذلك وخرج إلى حد الاضطرار فحينئذ إن تسامح في السؤال وأكل الميتة وما أمكنه من ذلك فهو له مباح ، وإن صبر وتحتسب نفسه كان في أعلى رتبة عند قوم ، ومن الناس من يرى أن فرضاً عليه إبقاء رمقه وأما من يختار الإلقاء باليد - والسعي ممكن - فما كان هذا قط من خلق الرسول ولا الصحابة ولا العلماء ، والله سبحانه الموفق للصواب ، ومن حجج من يقول بالتوكل حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله «يدخل الجنة سبعون ألفاً من أمتي بلا حساب وهم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطببون وعلى ربهم يتوكلون »{[5696]} ، وفي هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لعكاشة بن محصن{[5697]} أن يكون منهم ، فقيل ذلك لأنه عرف منه أنه معد لذلك ، وقال للآخر سبقك بها عكاشة ورُدّت الدعوة ، فقيل : ذلك لأنه كان منافقاً ، وقيل بل عرف منه أنه لا يصح لهذه الدرجة من التوكل .
فالمعنى في هذه الآية الرد على المنافقين في معتقدهم في المؤمنين ، وإزالة ظنهم أن المؤمنين تنزل بهم مصائب ، والإعلام بأنها حسنى كيف تصرفت .
تلقين جواب لقولهم : { قد أخذنا أمرنا من قبل } [ التوبة : 50 ] المنبئ عن فرحهم بما ينال المسلمين من مصيبة بإثبات عدم اكتراث المسلمين بالمصيبة وانتفاء حزنهم عليها لأنهم يعلمون أن ما أصابهم ما كان إلاّ بتقدير الله لمصلحة المسلمين في ذلك ، فهو نفع محض كما تدلّ عليه تعدية فعل { كتب } باللام المؤذنة بأنّه كتب ذلك لنفعهم وموقع هذا الجواب هو أن العدوّ يفرح بمصاب عدوّه لأنّه ينكد عدوّه ويُحزنه ، فإذا علموا أنّ النبي لا يحزَن لما أصابه زال فرحهم .
وفيه تعليم للمسلمين التخلق بهذا الخلق : وهو أن لا يحزنوا لما يصيبهم لئلا يهنو وتذهب قوتهم ، كما قال تعالى : { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } [ آل عمران : 139 ، 140 ] . وأن يرضوا بما قدر الله لهم ويرجوا رضى ربّهم لأنهم واثقون بأنّ الله يريد نصر دينه .
وجملة { هو مولانا } في موضع الحال من اسم الجلالة ، أو معترضة أي لا يصيبنا إلا ما قدره الله لنا ، ولنا الرجاء بأنّه لا يكتب لنا إلا ما فيه خيرنا العَاجل أو الآجل ، لأن المولى لا يرضى لمولاه الخزي .
وجملة { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } يجوز أن تكون معطوفة على جملة { قل } فهي من كلام الله تعالى خبراً في معنى الأمر ، أي قل ذلك ولا تتوكّلوا إلا على الله دون نصرة هؤلاء ، أي اعتمدوا على فضله عليكم .
ويجوز أن تكون معطوفة على جملة { لن يصيبنا } أي قل ذلك لهم ، وقل لهم إن المؤمنين لا يتوكّلون إلا على الله ، أي يؤمنون بأنّه مؤيّدهم ، وليس تأييدهم بإعانتكم ، وتفصيل هذا الإجمال في الجملة التي بعدها . والفاء الداخلة على { فليتوكل المؤمنون } فاء تدلّ على محذوف مفرّع عليه اقتضاه تقديم المعمول ، أي على الله فليتوكّل المؤمنون .