ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بنعمة ثالثة عظيمة حصل بها تمام الانجاء وتجلى فيها إكرام الله لهم ، وهي نعمة فرق البحر بهم فقال تعالى :
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر فَأَنجَيْنَاكُمْ . . . }
المعنى : واذكروا يا بني إسرائيل من جملة نعمنا عليكم ، نعمة فرق البحر بكم ، وانفصاله بعد اتصاله ، حين ضربه موسى بعصاه ، فأصبحت فيه طريق يابسة فولجتموها ، وسرتم فيها هرباً من فرعون وجنده ؟ بذلك تمت لكم النجاة ، وحصل الغرق لأعدائكم ، وقت أن عبروا وراءكم وقد شاهدتموهم والبحر يلفهم بأمواجه ، مشاهدة لا لبس فيها ولا غموض . ولقد كان فيما رأيتم ما يدعو إلى الاتعاظ ، ويحمل على الشكر الجزيل لله العزيز الرحيم .
فالآية الكريمة تشير إلى قصة نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون وقومه ، وملخصها :
أن الله - عز وجل أوحي إلى نبيه - موسى - عليه السلام - أن يرحل ببني إسرائيل ليلا من أرض مصر التي طال عذابهم فيها إلى أرض فلسطين ، ونفذ موسى - عليه السلام - ما أمره به الله - تعالى - ولعم فرعون أن موسى وقومه قد خرجوا إلى أرض الشام ، فتبعهم بجيش كبير ، وأدركهم مع طلوع الشمس قرب ساحل البحر الأحمر ، وأيقن بنو إسرائيل عندما رأوه أنه مهلكهم لا محالة . ولجأوا إلى موسى - عليه السلام - يشكون إليه خوفهم وفزعهم ، ولكنه رد عليهم بقوله : { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } وأوحى الله إليه { أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر } فضربه { فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم } وأمر موسى - عليه السلام - بني إسرائيل أن يعبروا فعبروا بين فرقى الماء دون أن يمسهم أذى . واقتفى فرعون وجنوده أثرهم طمعا في إدراكهم وعندما عبر بنو إسرائيل البحر ولم يبق منهم أحد بين المياه المنحسرة ، كان فرعون وجنده مازالوا بين فرقي البحر ، فاطبق عليهم وعاد كما كان أولا ، فغرقوا جميعاً ، وبنو إسرائيل ينظرون إليهم في دهشة وسرور .
وأسند - سبحانه - فرق البحر إلى ذاته الكريمة . ليدل على أن القوم عبروه وقطعوه وهم بعنايته ، وقوله تعالى : { فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ } بيان للمنة العظمى التي امتن بها عليهم ، والتي ترتبت على فرق البحر ، لأن فرق البحر لهم ترتب عليه أمران :
وثانيهما : إهلاك عدوهم وكلاهما نعمة عظيمة .
والإِيمان الصحيح يقضي بأن تفهم واقعة انفصال البحر لموسى وقومه على أنها معجزة كونية له ، وقد زعم البعض أنها كانت حادثة طبيعية منشؤها المد والجزر ، وهو زعم لا سند له ولا دليل عليه .
واقتصرت الآية هنا على ذكر إغراق آل فرعون أي جنده وأنصاره ، وصرحت آيات أخرى بغرقة مع آله ، من ذلك قوله تعالى : { فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً } وقوله تعالى : { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم وَهُوَ مُلِيمٌ } ومن تمام النعمة أن الله - تعالى - أهلك مع فرعون كل مناصر له :
وقوله تعالى { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } أي : أغرقنا آل فرعون وأنتم تشاهدونهم بأعينكم ، فكان ذلك أدعى لليقين بهلاك عدوكم ، وأبلغ في الشماتة به ، وأرجى لشكر النعمة - ولا شك أن مشاهدة المنعم عليه للنعمة فيها لذة كبرى ، ورؤيته لهلاك عدوه فيها عبرة عظمى ، ومعاينته لا نفراق البحر فيها تقوية لإِيمانه ، وتثبيت ليقينه ، إذا كانوا ممن يحسنون الانتفاع بما يشاهدون .
قال الإِمام الرازي ما ملخصه : ( اعلم أن هذه الواقعة - أي واقعة فلق البحر - تضمنت نعماً كثيرة على بني إسرائيل في الدين والدنيا ، أما نعم الدنيا فمن وجوه :
أولها : أنهم لما اقتربوا من البحر أصبحوا في موقف حرج ، لأن فرعون وجنوده من ورائهم والبحر من أمامهم ، فإن هم توقفوا أدركهم عدوهم وأهلكهم ، وإن هم تقدموا أغرقوا .
فحصل لهم خوف عظيم ، جاءهم بعده الفرج بانفلاق البحر وهلاك عدوهم .
ثانيها : أن الله - تعالى - خصهم بهذه النعمة العظيمة والمعجزة الباهرة تكريماً ورعاية لهم .
ثالثها : أنهم بإغراق فرعون وآله تخلصوا من العذاب ، وتم لهم الأمن والاطمئنان ، وذلك نعمة عظمى ، لأنهم لو نجوا دون هلاك فرعون لبقي خوفهم على حاله ، فقد يعود لتعذيبهم مستقبلا ، لأنهم لا يأمنون شره ، فلما تم الغرق تم الأمان والاطمئنان لبني إسرائيل .
أولها : أن قوم موسى لما شاهدوا تلك المعجزة الباهرة . زالت عن قلوبهم الشكوك والشبهات ، لأن دلالة مثل هذا المعجز على وجود الصانع الحكيم وعلى صدق موسى ، تقترب من العلم الضروري .
ثانيها : أنهم لما شاهدوا ذلك صار داعياً لهم على الثبات والانقياد لأوامر نبيهم .
ثالثها : أنهم عرفوا أن الأمور كلها بيد الله ، فإنه لا عز في الدنيا أكمل مما كان لفرعون ، ولا ذل أشد مما كان لبني إسرائيل ، ثم إن الله - تعالى - في لحظة واحدة جعل العزيز ذليلاً ، والذليل عزيزاً ، والقوي ضعيفاً ، والضعيف قوياً ، وذلك يوجب انقطاع القلب عن علائق الدنيا ، والإِقبال كلية على اتباع أوامر الخالق - عز وجل- .
هذا ، ونعمة فرق البحر لبني إسرائيل ، وإنجائهم من عدوهم قد تكرر ذكرها في القرآن ، من ذلك قوله تعالى في سورة الشعراء : { فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ . فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم . وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين . وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ } وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ذكرت بني إسرائيل بنعمة من أجل النعم - وهي نعمة فرق البحر بهم - لكي يشكروا خالقهم عليها ، ويتبعوا نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ولكنهم ما قاموا بواجب الشكر لخالقهم ، فحقت عليهم اللعنة في الدنيا والعقوبة في الآخرة ، جزاء جحودهم وطغيانهم وما ربك بظلام للعبيد .
وقوله تعالى : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } معناه : وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون ، وخرجتم مع موسى ، عليه السلام ، خرج{[1730]} فرعون في طلبكم ، ففرقنا بكم البحر ، كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلا{[1731]} كما سيأتي في مواضعه{[1732]} ومن أبسطها في سورة الشعراء إن شاء الله .
{ فَأَنْجَيْنَاكُمْ } أي : خلصناكم منهم ، وحجزنا بينكم وبينهم ، وأغرقناهم وأنتم تنظرون ؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم ، وأبلغ في إهانة عدوكم .
قال{[1733]} عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمر ، عن أبي إسحاق الهَمْداني ، عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله تعالى : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } إلى قوله : { وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } قال : لما خرج موسى ببني إسرائيل ، بلغ ذلك فرعون فقال : لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة . قال : فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا ؛ فدعا بشاة فَذُبحت ، ثم قال : لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إليَّ ستمائة ألف من القبط . فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط ثم سار ، فلما أتى موسى البحر ، قال له رجل من أصحابه ، يقال له : يوشع بن نون : أين أمَرَ ربك ؟ قال : أمامك ، يشير إلى البحر . فأقحم يوشع فرسَه في البحر حتى بلغ الغَمْرَ ، فذهب به الغمر ، ثم رجع . فقال : أين أمَرَ ربك يا موسى ؟ فوالله ما كذبت ولا كُذبت{[1734]} . فعل ذلك ثلاث مرات ، ثم أوحى الله إلى موسى : { أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ } فضربه { فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } [ الشعراء : 63 ] ، يقول : مثل الجبل . ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في طريقهم ، حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم فلذلك قال : { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ }{[1735]} .
وكذلك قال غير واحد من السلف ، كما سيأتي بيانه في موضعه{[1736]} . وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب ، عن عبد الله بن سعيد بن جبير ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء ، فقال : " ما هذا اليوم الذي تصومون ؟ " . قالوا : هذا يوم صالح ، هذا يوم نجى الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم{[1737]} ، فصامه موسى ، عليه السلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا أحق بموسى منكم " . فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر بصومه .
وروى هذا الحديث البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن ماجه من طرق ، عن أيوب السختياني ، به{[1738]} نحو ما تقدم .
وقال أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو الربيع ، حدثنا سلام - يعني ابن سليم - عن زيد العَمِّيّ عن يزيد الرقاشي عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فلق الله البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء " {[1739]} .
وهذا ضعيف من هذا الوجه فإن زيدا العَمِّيّ فيه ضعف ، وشيخه يزيد الرقاشي أضعف منه .
{ وإذ فرقنا بكم البحر } فلقناه وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت فيه مسالك بسلوككم فيه . أو بسبب إنجائكم ، أو ملتبسا بكم كقوله :
تدوس بنا الجماجم والتريبا *** . . .
وقرئ { فرقنا } على بناء التكثير لأن المسالك كانت اثني عشر بعدد الأسباط . { فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون } أراد به فرعون وقومه ، واقتصر على ذكرهم للعلم بأنه كان أولى به ، وقيل شخصه كما روي أن الحسن رضي الله تعالى عنه كان يقول : اللهم صل على آل محمد أي شخصه واستغني بذكره عن ذكر أتباعه .
{ وأنتم تنظرون } ذلك ، أي غرقهم وإطباق البحر عليهم ، أو انفلاق البحر عن طرق يابسة مذللة ، أو جثثهم التي قذفها البحر إلى الساحل ، أو ينظر بعضكم بعضا . روي أنه تعالى أمر موسى عليه السلام أن يسري ببني إسرائيل ، فخرج بهم فصبحهم فرعون وجنوده ، وصادفهم على شاطئ البحر ، فأوحى الله تعالى إليه أن أضرب بعصاك البحر ، فضربه فظهر فيه اثنا عشر طريقا يابسا فسلكوها فقالوا : يا موسى نخاف أن يغرق بعضنا ولا نعلم ، ففتح الله فيها كوى فتراؤوا وتسامعوا حتى عبروا البحر ، ثم لما وصل إليه فرعون ورآه منفلقا اقتحم فيه هو وجنوده فالتطم عليهم وأغرقهم أجمعين .
واعلم أن هذه الواقعة من أعظم ما أنعم الله به على بني إسرائيل ، ومن الآيات الملجئة إلى العلم بوجود الصانع الحكيم وتصديق موسى عليه الصلاة والسلام ، ثم إنهم بعد ذلك اتخذوا العجل وقالوا : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } ونحو ذلك ، فهم بمعزل في الفطنة والذكاء وسلامة النفس وحسن الاتباع عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، مع أن ما تواتر من معجزاته أمور نظرية مثل : القرآن والتحدي به والفضائل المجتمعة فيه الشاهدة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم دقيقة تدركها الأذكياء ، وإخباره عليه الصلاة والسلام عنها من جملة معجزاته على ما مر تقريره .