ثم حكى القرآن أن زكريا - لشدة لهفته على تحقق البشارة - سأل ربه أن يجعل له علامة تكون دليلا على تحقيق الحمل عند زوجته فقال – تعالى : { قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً } .
أى قال زكريا مناجيا ربه : يا رب إنى أسألك أن تجعل لي { آيَةً } آي : علامة تدلنى على حصول الحمل عند زوجتي : لأبادر إلى القيام بشكر هذه النعمة شكراً جزيلا ولأقوم بحقها حق القيام .
وقد أجابه - سبحانه - إلى طلبه فقال : { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } . أي قال الله - تعالى - لعبده زكريا : آيتك أى علامتك ألا تقدر على كلام الناس من غير آفة في لسانك لمدة ثلاثة أيام إلا { رَمْزاً } أى إلا عن طريق الإيحاء والإشارة .
وأصل الرمز الحركة . يقال ارتمز أى تحرك ، ومنه قيل للبحر الراموز وفعله من باب نصر وضرب . ثم أطلق الرمز على الإيماء بالشفتين أو بالحاجبين وعلى الإشارة باليدين وهو المراد هنا .
قال صاحب الكشاف : قال الله - تعالى - لزكريا آيتك ألا تقدر على تكليم الناس ثلاثة أيام : وإنما خص تكليم الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله . ولذلك قال : { واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار } يعنى فى أيام عجزك عن تكليم الناس وهى من الآيات الباهرة ، فإن قلت : لم حبس لسانه عن كلام الناس ؟ قلت : ليخلص المدة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره ، توفرا منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها الذي طلب الآية من أجله ، كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له : آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر . وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال ومنتزعا منه { إِلاَّ رَمْزاً } أى : إلا إشارة بيد أو رأس أو غيرهما .
وعلى رأى صاحب الكشاف يكون احتباس لسان زكريا عن كلام الناس اضطراريا وليس عن اختيار منه .
ويمكن أن يقال إن المراد بقوله- تعالى- { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } . . . أن زكريا - عليه السلام - عندما طلب آية يعرف بها أن زوجته قد حملت بهذا الغلام الذى بشره الله به ، أخبره - سبحانه - أن العلامة على ذلك أن يوفق إلى خلوص نفسه من شواغل الدنيا حتى أنه ليجد نفسه متجها اتجاها كليا إلى ذكر الله وتمجيده وتسبيحه ، دون أن يكون عنده أى دافع إلى كلام الناس أو مخالطتهم مع قدرته على ذلك ، وعلى هذا يكون انصراف زكريا - عليه السلام - عن كلام الناس اختيارا وليس اضطراريا كما يرى صاحب الكشاف .
ثم أمره الله - تعالى - بالإكثار وتسبيحه فقال : { واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار } .
و { العشي } جمع عشية وقيل : هو واحد وذلك من حين تزول الشمس إلى أن تغيب ، وأما { الإبكار } فمصدر أبكر يبكر إذا خرج للأمر في أول النهار .
. . ومنه الباكورة لأول الثمرة . والمراد به هنا الوقت الذى يكون من طلوع الفجر إلى الضحى .
أى عليك أن تكثر من ذكر الله - تعالى - ومن تسبيحه فى أول النهار وفى آخره وفى كل وقت لا سيما فى تلك الأيام الثلاثة شكراً لله - تعالى - على ما أعطاك من نعم جليلة لا تحصى ، فقد وهبك الذرية بعد أن بلغت من الكبر عتيا ، وجعل هذا المولود من أنبياء الله الذين اصطفاهم لتبليغ رسالته .
وفي هذا الأمر الإلهي لزكريا حصن لكل عاقل على الإكثار من ذكر الله من تسبيحه وتمجيده لن ذكر الله به تطمئن القلوب . وتسكن النفوس وتغسل الخطايا والذنوب ويكفى للدلالة على فضل الذكر أن الله - تعالى - أمر به حتى في حالة الحرب فقال : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ساقت لنا جانبا من قصد زكريا - عليه السلام - فيه الكثير من العبر والعظات لقوم يعقلون .
{ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً } أي : علامة أستدل بها على وجود الولد مني { قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا } أي : إشارة لا تستطيع النطق ، مع أنك سوي صحيح ، كما في قوله : { ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } [ مريم : 10 ] ثم أمر بكثرة الذكر والشكر والتسبيح في هذه الحال ، فقال :
{ وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ } وسيأتي طرف آخر في بسط هذا المقام في أول سورة مريم ، إن شاء الله تعالى .
{ قَالَ رَبّ اجْعَلْ لّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً وَاذْكُر رّبّكَ كَثِيراً وَسَبّحْ بِالْعَشِيّ وَالإِبْكَارِ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه خبرا عن زكريا ، قال زكريا : يا ربّ إن كان هذا النداء الذي نوديته ، والصوت الذي سمعته صوت ملائكتك ، وبشارة منك لي ، فاجعل لي آية ! يقول : علامة أن ذلك كذلك ، ليزول عني ما قد وسوس إليّ الشيطان فألقاه في قلبي ، من أن ذلك صوت غير الملائكة ، وبشارة من عند غيرك . كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { قالَ رَبّ اجْعَلْ لي آيَةً } قال : قال يعني زكريا : يا ربيّ فإن كان هذا الصوت منك ، فاجعل لي آية .
وقد دللنا فيما مضى على معنى الاَية ، وأنها العلامة ، بما أغنى عن إعادته .
وقد اختلف أهل العربية في سبب ترك العرب همزها ، ومن شأنها همز كل ياء جاءت بعد ألف ساكنة ، فقال بعضهم : ترك همزها لأنها كانت أيّة ، فثقل عليهم التشديد ، فأبدلوه ألفا لانفتاح ما قبل التشديد ، كما قالوا : أيْما فلان فأخزاه الله .
وقال آخرون منهم : بل هي فاعلة منقوصة . فسألوا ، فقيل لهم ، فما بال العرب تصغرها أُيَيَّة ، ولم يقولوا أُوَيَّة ؟ فقالوا : قيل ذلك كما قيل في فاطمة : هذه فطيمة ، فقيل لهم : فإنهم يصغرون فاعلة على فُعَيلة إذا كان اسما في معنى فلان وفلانة ، فأما في غير ذلك ، فليس من تصغيرهم فاعلة على فعيلة .
وقال آخرون : إنه فعلة ، صيرت ياؤها الأولى ألفا ، كما فعل بحاجة وقامة ، فقيل لهم : إنما تفعل العرب ذلك في أولاد الثلاثة ، وقال من أنكر ذلك من قيلهم : لو كان كما قالوا لقيل في نواة : ناية ، وفي حياة : حاية .
القول في تأويل قوله تعالى : { قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا } .
فعاقبه الله فيما ذكر لنا بمسألته الآية ، بعد مشافهة الملائكة إياه بالبشارة ، فجعل آيته على تحقيق ما سمع من البشارة من الملائكة بيحيى أنه من عند الله آية من نفسه ، جمع تعالى ذكره بها العلامة التي سألها ربه على ما يبين له حقيقة البشارة أنها من عند الله ، وتمحيصا له من هفوته ، وخطأ قيله ومسألته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { رَبّ اجْعَلْ لي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا } إنما عوقب بذلك لأن الملائكة شافهته مشافهة بذلك فبشرته بيحيى ، فسأل الآية بعد كلام الملائكة إياه ، فأخذ عليه بلسانه ، فجعل لا يقدر على الكلام إلا ما أومأ وأشار ، فقال الله تعالى ذكره كما تسمعون : { آيَتُكَ ألاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ إلاّ رَمْزا } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقا } قال : شافهته الملائكة ، فقال : { رَبّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا } يقول : إلا إيماء ، وكانت عقوبة عوقب بها ، إذ سأل الآية مع مشافهة الملائكة إياه بما بشرته به .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { رَبّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا } قال : ذكر لنا والله أعلم أنه عوقب لأن الملائكة شافهته مشافهة ، فبشرته بيحيى ، فسأل الآية بعد ، فأخذ بلسانه .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : ذكر لنا والله أعلم أنه عوقب لأن الملائمة شافهته فبشرته بيحيى ، قالت : { إنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى } ، فسأل بعد كلام الملائكة إياه الآية ، فأخذ عليه لسانه ، فجعل لا يقدر على الكلام إلا رمزا ، يقول : يومىء إيماء .
حدثني أبو عبيد الرصافي ، قال : حدثنا محمد بن حمير ، قال : حدثنا صفوان بن عمرو ، عن جويبر بن نُفير في قوله : { قالَ رَبّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ إلاّ رَمْزا } قال : ربا لسانه في فيه حتى ملأه ، ثم أطلقه الله بعد ثلاث .
وإنما اختارت القرّاء النصب في قوله : { ألاّ تُكَلّمَ النّاسَ } لأن معنى الكلام : قال : آيتك أن لا تكلم الناس فيما يستقبل ثلاثة أيام ، فكانت أن هي التي تصحب الاستقبال دون التي تصحب الأسماء فتنصبها ، ولو كان المعنى فيه : آيتك أنك لا تكلم الناس ثلاثة أيام : أي أنك على هذه الحال ثلاثة أيام ، كان وجه الكلام الرفع ، لأن «أن » كانت تكون حينئذ بمعنى الثقيلة خففت ، ولكن لم يكن ذلك جائزا لما وصفت من أن ذلك بالمعنى الاَخر .
وأما الرمز ، فإن الأغلب من معانيه عند العرب : الإيماء بالشفتين ، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين أحيانا ، وذلك غير كثير فيهم ، وقد يقال للخفيّ من الكلام الذي هو مثل الهمس بخفض الصوت : الرمز ، ومنه قول جؤية بن عائذ :
وكانَ يُكَلّمُ الأبْطالَ رَمْزا *** وَهَمْهَمَةً لَهُمْ مِثْلَ الهَدِيرِ
يقال منه : رَمَزَ فلان فهو يَرْمِزُ وَيَرْمُزُ رَمْزا ، ويترمز ترمّزا ، ويقال : ضربه ضربة فارتمز منها : أي اضطرب للموت ، قال الشاعر :
*** خَرَرْتُ مِنها لقفايَ أرْتَمِزْ ***
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عنى الله عزّ وجلّ به في إخباره عن زكريا من قوله : { آيَتُكَ ألاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا } وأيّ معاني الرمز عنى بذلك ؟ فقال بعضهم : عنى بذلك : آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا تحريكا بالشفتين ، من غير أن ترمز بلسانك الكلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن النضر بن عربي ، عن مجاهد في قوله : { إلاّ رَمْزا } قال : تحريك الشفتين .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا } قال : إيماؤه بشفتيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : بل عنى الله بذلك الإيماء والإشارة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك : { إلاّ رَمْزا } قال : الإشارة .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله :
{ إلاّ رَمْزا } قال : الرمز : أن يشير بيده أو رأسه ولا يتكلم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { إلاّ رَمْزا } قال : الرمز : أن أُخِذَ بلسانه ، فجعل يكلم الناس بيده .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { إلاّ رَمْزا } قال : والرمز : الإشارة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { رَبّ اجْعَلْ لي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا } . . . الاَية . قال : جعل آيته أن لا يكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ، إلا أنه يذكر الله . والرمز : الإشارة ، يشير إليهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { إلاّ رَمْزا } إلا إيماء .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إلاّ رَمْزا } يقول : إشارة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عبد الله بن كثير : { إلاّ رَمْزا } : إلا إشارة .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن ، في قوله : { قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا } قال : أُمسِكَ بلسانه ، فجعل يومىء بيده إلى قومه : أن سبحوا بكرة وعشيا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرْ رَبّكَ كَثِيرا وَسَبّحْ بِالعَشِيّ وَالإبْكارِ } .
يعني بذلك : قال الله جلّ ثناؤه لزكريا : يا زكريا آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا بغير خرس ، ولا عاهة ، ولا مرض { واذْكُرْ رَبّكَ كَثِيرا } فإنك لا تمنع ذكره ، ولا يحال بينك وبين تسبيحه وغير ذلك من ذكره . وقد :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب ، قال : لو كان الله رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا حيث قال : { آيَتُكَ أنْ لاَ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا وَاذْكُرْ رَبّكَ كَثِيرا } أيضا .
وأما قوله : { وَسَبّحْ بِالعَشِيّ } فإنه يعني : عظم ربك بعبادته بالعشيّ . والعشيّ : من حين تزول الشمس إلى أن تغيب ، كما قال الشاعر :
فلا الظلّ من بَرْدِ الضّحَى تَسْتَطِيعُهُ ولا الفَيْءَ من بَرْدِ العَشِيّ تَذُوقُ
فالفيء إنما تبتدىء أوبته عند زوال الشمس ، وتتناهى بمغيبها .
وأما الإبكار : فإنه مصدر من قول القائل : أبكر فلان في حاجة ، فهو يُبْكِرُ إبكارا ، وذلك إذا خرج فيها من بين مطلع الفجر إلى وقت الضحى ، فذلك إبكار ، يقال فيه : أبكر فلان ، وبكر يَبْكُرُ بكورا . فمن الإبكار قول عمر بن أبي ربيعة :
*** أمِنْ آلِ نُعْمٍ أنتَ غادٍ فمُبْكِرُ ***
ألا بَكَرَتْ سَلْمَى فَجَدّ بُكُورُها *** وَشَقّ العَصَا بعد اجتماعٍ أميرُها
ويقال من ذلك : بكر النخل يبكُر بكورا ، وأبكر يُبْكِر إبكارا ، والباكور من الفواكه : أوّلها إدراكا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَسَبّحْ بِالعَشِيّ والإبْكارِ } قال : الإبكار : أوّل الفجر ، والعشيّ ، ميل الشمس حتى تغيب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
قوله : { قال رب اجعل لي آية } أراد آية على وقت حصول ما بُشِّر به ، وهل هو قريب أو بعيد ، فالآية هي العلامة الدالة على ابتداء حمل زوجه . وعن السدي والربيع : آيةَ تحقق كون الخطاب الوارد عليه وارداً من قبل الله تعالى ، وهو ما في إنجيل لوقا . وعندي في هذا نظر ، لأنّ الأنبياء لا يلتبس عليهم الخطاب الوارد عليهم من الله ويعلمونه بعلم ضروري .
وقوله : { آياتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } جعل الله حُبْسة لسانه عن الكلام آية على الوقت الذي تحمل فيه زوجته ، لأنّ الله صرف ما لَه من القوة في أعصاب الكلام المتصلة بالدمَاغ إلى أعصاب التناسل بحكمة عجيبة يقرب منها ما يذكر من سقوط بعض الإحساس لمن يأكل البَلاذر لقوة الفكر . أوْ أمرِه بالامتناع من الكلام مع الناس إعانة على انصراف القوة من المنطق إلى التناسل ، أي متى تمت ثلاثة الأيام كان ذلك أمارة ابتداء الحمل . قال الربيع جعل الله ذلك له عقوبة لتردّده في صحة ما أخبره به الملَك ، وبذلك صرح في إنجيل لوقا ، فيكون الجواب على هذا الوجه من قبيل أسلوب الحكيم لأنه سأل آيةً فأعطي غيرها .
وقوله : { واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار } أمر بالشكر . والذِّكر المراد به : الذِّكر بالقلب والصلاةِ إن كان قد سلب قوة النطق ، أو الذكر اللساني إن كان قد نهي عنها فقط . والاستثناء في قوله إلاّ رمزاً استثناء منقطع .