المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (27)

27- يا أيها الذين صدَّقوا بالحق وأذعنوا له ، لا يصح أن تكون منكم خيانة لله ورسوله بموالاة أعداء الحق ، أو بالخيانة في الغنائم ، أو بالقعود عن الجهاد ، ولا تخونوا في الأمانات التي تكون بينكم ، وأنتم تعلمون أوامر الله ونواهيه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (27)

ثم وجه - سبحانه - بعد ذلك نداء رابعا وخامسا إلى المؤمنين فقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . الفضل العظيم } .

روى المفسرون في سبب نزول قوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ } روايات منها :

ما جاء عن ابن عباس من أنها نزلت في أبى لبابة حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بنى قريظة فقالوا له : يا أبا لباية ما ترى ؟ أنزل على حكم سعد بن معاذ فينا ؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه . أي أن حكم سعد فيكم سيكون الذبح فلا تنزلوا .

قال أبو لبابة : والله ما زالت قدماى - عن مكانهما - حتى علمت أنى قد خنت الله ورسوله .

ومنها ما جاء عن جابر بن عبد الله من أنها نزلت في منافق كتب إلى أبى سفيان يطلعه على سر من أسرار المسلمين .

ومنها ما جاء عن السدى من أنها نزلت في قوم كانوا يسمعون الشئ عن النبى - صلى الله عليه وسلم - ثم يحدثون به المشركين . .

قال ابن كثير : والصحيح أن الآية عامة وإن صح أنها وردت على سبب خاص ؛ فإن الأخذ بعمون اللفظ لا بخصوص السبب و المعتمد عند الجماهير من العلماء .

وقوله { لاَ تَخُونُواْ } من الخون بمعنى بمعنى النقص . يقال خونه تخويناً أى : نسبه إلى الخيانة ونقصه .

قال صاحب الكشاف : معنى الخون : النقص ، كما أن معنى الوفاء التام . ومنه تخونه إذا تنقصه ، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء ؛ لأنك إذا خنت الرجل في شئ فقد أدخلت عليه النقصان فيه . وقد استعير فقيل : خان الدلو الكرب - والكرب حبل يشد في رأس الدلو - وخان المشتار السبب . والمشتار مجتنى العسل والسبب الحبل - لأنه إذا انقطع به فكأنه لم يف له .

والمقصود بخيانة الرسول - صلى الله عليه وسلم - : إهمال سسنه التي جاء بها وأمرنا بالتقدي بتعاليمها .

والمقصود بالأمانات : الأسرار والعهود والودائع وغير ذلك من الشئون التي تكون بينهم وبين غيرهم مما يجب أن يصان ويحفظ .

والمعنى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله } بأن تهملوا فرائضه ، وتتعدوا حدوده ، ولا تخونوا { والرسول } - صلى الله عليه وسلم - ، بأن تتركوا سنته وتتصرفوا إلى غيرها ، وتخالفوا ما أمركم به وتجترحوا ما نهاكم عنه ، ولا تخونوا { أَمَانَاتِكُمْ } بأن تفشوا الأسرار التي بينكم ، وتنقضوا العهود التي تعاهدتم على الوفاء بها ، وتنكروا الودائع التي أودعها لديكم غيركم ، وتستجيبوا ما يجب حفظه من سائر الحقوق المادية والمعنوية ، فقوله : { وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ } معطوف على قوله { لاَ تَخُونُواْ } .

وأعاد النهى للإِشعار بأن كل واحد من المنهى عنه مقصود بذاته اهتماما به .

وقوله : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } الواو للحال ، والمفعول محذوف . أى . والحال أنكم تعلمون سوء عاقبة الخائن لله ولرسوله وللأمانات التي اؤتمن عليها ، فعليكم أن تتجنبوا الخيانة في جميع صورها ؛ لتنالوا رضى الله ومئويته .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (27)

قال عبد الله بن أبي قتادة والزهري : أنزلت في أبي لُبابة بن عبد المنذر ، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قُرَيْظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستشاروه في ذلك ، فأشار عليهم بذلك - وأشار بيده إلى حلقه - أي : إنه الذبح ، ثم فطن أبو لبابة ، ورأى أنه قد خان الله ورسوله ، فحلف لا يذوق ذواقا حتى يموت أو يتوب الله عليه ، وانطلق إلى مسجد المدينة ، فربط نفسه في سارية منه ، فمكث كذلك تسعة أيام ، حتى كان يخر مغشيا عليه من الجهد ، حتى أنزل الله توبته على رسوله . فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه ، وأرادوا أن يحلوه من السارية ، فحلف لا يحله منها إلا رسول الله صلى الله عليه [ وسلم ]{[12848]} بيده ، فحله ، فقال : يا رسول الله ، إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة ، فقال{[12849]} يجزيك الثلث أن تصدق به " {[12850]}

وقال ابن جرير : حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا يونس بن الحارث الطائفي ، حدثنا محمد بن عبيد الله أبو عون الثقفي ، عن المغيرة بن شعبة قال : نزلت هذه الآية في قتل عثمان ، رضي الله عنه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ } الآية .

وقال ابن جرير أيضا : حدثنا القاسم بن بِشْر بن معروف ، حدثنا شَبَابة بن سَوَّار ، حدثنا محمد بن المحرم قال : لقيت عطاء بن أبي رباح فحدثني قال : حدثني جابر بن عبد الله ؛ أن أبا سفيان خرج من مكة ، فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبا سفيان في كذا وكذا . فقال النبي{[12851]} صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " إن أبا سفيان في موضع{[12852]} كذا وكذا ، فاخرجوا إليه واكتموا " فكتب رجل من المنافقين إليه : إن محمدًا يريدكم ، فخذوا حذركم ، فأنزل الله [ عز وجل ]{[12853]} { لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ } الآية{[12854]}

هذا حديث غريب جدًّا ، وفي سنده وسياقه نظر .

وفي الصحيحين قصة " حاطب بن أبي بَلْتَعَة " أنه كتب إلى قريش يعلمهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عام الفتح ، فأطلع الله رسوله على ذلك ، فبعث في إثر الكتاب فاسترجعه ، واستحضر حاطبا فأقر بما صنع ، فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ، ألا أضرب عنقه ، فإنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين ؟ فقال : " دعه ، فإنه قد شهد بدرا ، ما{[12855]} يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : " اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " {[12856]}

قلت : والصحيح أن الآية عامة ، وإن صح أنها وردت على سبب خاص ، فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء . والخيانة تعم الذنوب الصغار والكبار اللازمة والمتعدية .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ } الأمانة الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد - يعني الفريضة يقول : لا تخونوا : لا تنقضوها .

وقال في رواية : { لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ } يقول : بترك سنته وارتكاب معصيته .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير في هذه الآية ، أي : لا تظهروا لله{[12857]} من الحق ما يرضى به منكم ، ثم تخالفوه في السر إلى غيره ، فإن ذلك هلاك لأماناتكم ، وخيانة لأنفسكم .

وقال السُّدِّيّ : إذا خانوا الله والرسول ، فقد خانوا أماناتهم .

وقال أيضا : كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين . وقال عبد الرحمن بن زيد [ بن أسلم ]{[12858]} نهاكم أن تخونوا الله والرسول ، كما صنع المنافقون .


[12848]:زيادة من د، ك، م، أ.
[12849]:في أ: "فقال له".
[12850]:رواه الطبري في تفسيره (13/481).
[12851]:في أ: "رسول الله".
[12852]:في أ: "بمكان".
[12853]:زيادة من د، ك، م.
[12854]:تفسير الطبري (13/480).
[12855]:في ك، م: "وما".
[12856]:انظر: تخريجه عند تفسير الآية: 9 من هذه السورة.
[12857]:في د، ك، م: "لا تظهروا له".
[12858]:زيادة من أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (27)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرّسُولَ وَتَخُونُوَاْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } . .

يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا تَخُونُوا الله . وخيانتهم الله ورسوله كانت بإظهار من أظهر منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الإيمان في الظاهر والنصيحة ، وهو يستسرّ الكفر والغشّ لهم في الباطن ، يدلّون المشركين على عورتهم ، ويخبرونهم بما خفي عنهم من خبرهم .

وقد اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الاَية ، وفي السبب الذي نزلت فيه ، فقال بعضهم : نزلت في منافق كتب إلى أبي سفيان يطلعه على سرّ المسلمين . ذكر من قال ذلك .

حدثنا القاسم بن بشر بن معروف ، قال : حدثنا شبابة بن سوّار ، قال : حدثنا محمد بن المحرم ، قال : لقيت عطاء بن أبي رباح ، فحدثني ، قال : ثني جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة ، فأتى جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه : «إنّ أبا سُفْيانَ فِي مَكانِ كَذَا وكَذَا فاخْرُجُوه إلَيْهِ وَاكْتُمُوا » قال : فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان : إن محمدا يريدكم ، فخذوا حذركم فأنزل الله عزّ وجلّ : لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتخُونُوا أماناتِكُمْ .

وقال آخرون : بل نزلت في أبي لبابة للذي كان من أمره وأمر بني قريظة . ذكر من قال ذلك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن الزهري ، قوله : لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ قال : نزلت في أبي لبابة ، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إلى حلقه أنه الذبح . قال الزهري : فقال أبو لبابة : لا والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليّ فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا ، حتى خرّ مغشيّا عليه ، ثم تاب الله عليه ، فقيل له : يا أبا لبابة قد تيب عليك قال : والله لا أحلّ نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني فجاءه فحله بيده . ثم قال أبو لبابة : إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت بها الذنب وأن أنخلع من مالي ، قال : «يُجْزِيكَ الثّلُثُ أنْ تَصَدّقَ بِهِ » .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، قال : سمعت عبد الله بن أبي قتادة ، يقول : نزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ في أبي لبابة .

وقال آخرون : بل نزلت في شأن عثمان رضي الله عنه . ذكر من قال ذلك .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا يونس بن الحرث الطائفي ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن عون الثقفيّ ، عن المغيرة بن شعبة ، قال : نزلت هذه الاَية في قتل عثمان رضي الله عنه : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ . . . الاَية .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله نهى المؤمنين عن خيانته وخيانة رسوله وخيانة أمانته . وجائز أن تكون نزلت في أبي لبابة ، وجائز أن تكون نزلت في غيره ، ولا خبر عندنا بأيّ ذلك كان يجب التسليم له بصحته ، فمعنى الاَية وتأويلها ما قدمنا ذكره .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يا أيهما الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ قال : نهاكم أن تخونوا الله والرسول ، كما صنع المنافقون .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ . . . الاَية ، قال : كانوا يسمعون من النبيّ صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين .

واختلفوا في تأويل قوله : وتَخُونُوا أماناتِكُمْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ فقال بعضهم : لا تخونوا الله والرسول ، فإن ذلك خيانة لأماناتكم وهلاك لها . ذكر من قال ذلك .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ فإنهم إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ : أي لا تظهروا لله من الحقّ ما يرضى به منكم ثم تخالفوه في السرّ إلى غيره ، فإن ذلك هلاك لأماناتكم وخيانة لأنفسكم .

فعلى هذا التأويل ، قوله : وتَخُونُوا أماناتِكُمْ في موضع نصب على الظرف ، كما قال الشاعر :

لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ***عارٌ عَلَيْكَ إذا فَعَلْتَ عَظِيمُ

ويروى : «وتأتي مثله » .

وقال آخرون : معناه : لا تخونوا الله والرسول ، ولا تخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون . ذكر من قال ذلك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : قوله : يا أَيّهما الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ يقول : لا تخونوا : يعني لا تنقصوها .

فعلى هذا التأويل : لا تخونوا الله والرسول ، ولا تخونوا أماناتكم .

واختلف أهل التأويل في معنى الأمانة التي ذكرها الله في قوله : وتَخُونُوا أماناتِكُمْ فقال بعضهم : هي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله . ذكر من قال ذلك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وتَخونُوا أماناتِكُمْ والأمانة : الأعمال التي أمن الله عليها العباد ، يعني : الفريضة . يقول : لا تَخُونُوا : يعني لا تنقصوها .

حدثنا عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يا أَيّهما الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ يقول : بترك فرائضه والرّسُولَ يقول : بترك سننه وارتكاب معصيته . قال : وقال مرّة أخرى : لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ والأمانة : الأعمال . ثم ذكر نحو حديث المثنى .

وقال آخرون : معنى الأمانات ههنا : الدّين . ذكر من قال ذلك .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَتخُونُوا أماناتِكُمْ دينكم . وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ قال : قد فعل ذلك المنافقون وهم يعلمون أنهم كفار ، يظهرون الإيمان . وقرأ : وَإذَا قامُوا إلى الصّلاةِ قامُوا كُسالى . . . الاَية ، قال : هؤلاء المنافقون أمنهم الله ورسوله على دينه فخانوا ، أظهروا الإيمان وأسرّوا الكفر .

فتأويل الكلام إذن : يا أيها الذين آمنوا لا تنقصوا الله حقوقه عليكم من فرائضه ولا رسوله من واجب طاعته عليكم ، ولكن أطيعوهما فيما أمراكم به ونهياكم عنه ، لا تنقصوهما ، وتخونوا أماناتكم ، وتنقصوا أديانكم ، وواجب أعمالكم ، ولازمها لكم ، وأنتم تعلمون أنها لازمة عليكم وواجبة بالحجج التي قد ثبتت لله عليكم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (27)

هذا خطاب لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة ، وهو يجمع أنواع الخيانات كلها قليلها وكثيرها ، قال الزهراوي : والمعنى لا تخونوا بغلول الغنائم ، وقال الزهراوي وعبد الله بن أبي قتادة : سبب نزولها أمر أبي لبابة ، وذلك أنه أشار لبني قريظة حين سفر إليهم إلى حلقه يريد بذلك إعلامهم أنه ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الذبح ، أي فلا تنزلوا ، ثم ندم وربط نفسه بسارية من سواري المسجد حتى تاب الله عليه ، الحديث المشهور{[5292]} ، وحكى الطبري أنه أقام سبعة أيام لا يذوق شيئاً حتى تيب عليه ، وحكي أنه كان لأبي لبابة عندهم مال وأولاد فلذلك نزلت { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } ، وقال عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله : سببها أن رجلاً من المنافقين كتب إلى أبي سفيان بن حرب بخبر من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية{[5293]} ، فقوله : { يا أيها الذين آمنوا } معناه أظهروا الإيمان ، ويحتمل أن يخاطب المؤمنين حقاً أن لا يفعلوا فعل ذلك المنافق ، وحكى الطبري عن المغيرة بن شعبة أنه قال : أنزلت هذه الآية في قتل عثمان رضي الله عنه .

قال القاضي أبو محمد : يشبه أن تمثل بالآية في قتل عثمان رحمه الله ، فقد كانت خيانة لله وللرسول والأمانات ، والخيانة : التنقص للشيء باختفاء ، وهي مستعملة في أن يفعل الإنسان خلاف ما ينبغي من حفظ أمر ما ، مالاً كان أو سرّاً أو غير ذلك ، والخيانة لله تعالى هي في تنقص أوامره في سر وخيانة الرسول تنقص فقد اؤتمن على دينه وعبادته وحقوق الغير ، وقيل المعنى وتخونوا ذوي أماناتكم ، وأظن الفارسي أبا علي حكاه ، { وأنتم تعلمون } ، يريد أن ذلك لا يضر منه إلا ما كان عن تعمد .

وقوله { فتنة } يريد محنة واختباراً وابتلاء ليرى كيف العمل في جميع ذلك ، وقوله { وأن الله عنده أجر عظيم } يريد فوز الآخرة فلا تدعوا حظكم منه للحيطة على أموالكم وأبنائكم فإن المدخور للآخرة أعظم قدراً من مكاسب الدنيا .

وقوله تعالى : { وتخونوا } قال الطبري : يحتمل أن يكون داخلاً في النهي كأنه قال : لا تخونوا الله والرسول ولا تخونوا أماناتكم فمكانه على هذا جزم ، ويحتمل أن يكون المعنى لا تخونوا الله والرسول فذلك خيانة لأماناتكم فموضعه على هذا نصب على تقدير وأن تخونوا أماناتكم ، قال الشاعر :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله*** عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ{[5294]}

وقرأ مجاهد وأبو عمرو بن العلاء فيما روي عنه أيضاً «وتخونوا أمانتكم » على إفراد الأمانة .


[5292]:- أخرجه سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عبد الله بن قتادة، وأخرج مثله سنيد، وابن جرير عن الزهري، وأخرجه أيضا عبد بن حميد عن الكلبي. (الدر المنثور).
[5293]:- أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله. (الدر المنثور)
[5294]:- يروي النحويون هذا البيت شاهدا على جواز النصب عاطفا على اسم مؤول بمعنى أن تكون الواو للمعية، والتقدير: "لا تنه عن خلق وأنت تأتي مثله". أما إعراب الآية الكريمة فيحتمل الأمرين اللذين ذكرهما ابن عطية وهما: أن يكون مجزوما عطفا على [لا تخونوا] وأن يكون منصوبا على جواب النهي، وكونه مجزوما هو الراجح، لأن النصب يقتضي النهي عن الجمع، والجزم يقتضي النهي عن كل واحد- وهناك شروط للنصب بعد هذه الواو تجدها في كتب النحو. هذا وقد اختلف النحويون في نسبة هذا البيت، فقيل: قائله أبو الأسود الدؤلي، وقيل: هو الأخطل، وقيل: المتوكل الليثي أو سابق البربري، ونسب لحسّان والطرماح، والبيت في حماسة البحتري 174، والأغاني 12/156، والمؤتلف 273، والمستقصى 2/ 260، وسيبويه 1/ 424، وابن عقيل 2/ 126، والسيوطي 264، والخزانة 3/ 617.