ثم حكى - سبحانه - ما قاله المؤمنون الصادقون على سبيل الإِنكار لمسالك المنافقين الخبيثة وتوبيخهم على ضعف إيمانهم ، وهوان نفوسهم فقال - تعالى : { وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ } .
قال الآلوسي : قوله : { وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ } كلام مستأنف لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة : - وهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي بإثبات الواو مع الرفع .
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر بغير واو على أنه استئناف بياني ، كأنه قيل : فماذا يقول المؤمنون حينئذ ؟ .
وقرأ أبو عمرو ويعقوب : ويقول بالنصب عطفا على { فَيُصْبِحُواْ } .
وقوله : { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي : أقوى أيمانهم وأغلظها . والجهد : الوسع والطاقة والمشقة .
يقال جهد نفسه يجهدها في الأمر إذا بلغ بها أقصى وسعها وطاقتها فيه . والمراد : أنهم أكدوا الإِيمان ووثقوها بكل ألفاظ التأكيد والتوثيق .
والمعنى : ويقول الذين آمنوا بعضهم لبعض مستنكرين ما صدر عن المنافقين من خداع وكذب ، ومتعجبين من ذبذبتهم والتوائهم : يقولون مشيرين إلى المنافقين : أهؤلاء الذين أقسموا بالله مؤكدين إيمانهم بأقوى المؤكدات وأوثقها ، بأن يكونوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومعنا في ولايتهم ونصرتهم ومعونتهم .
فالاستفهام للإِنكار والتعجيب من أحوال هؤلاء المنافقين الذين مردوا على الخداع والكذب .
وقد ذكر صاحب الكشاف وجها آخر في معنى ويقول الذين آمنوا فقال : فإن قلت : لمن يقولون هذا القول ؟ قلت : إما أن يقوله بعضهم لبعض تعجبا من حالهم ، واغتباطا بما من الله عليهم من التوفيق في الإِخلاص { أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ } لكم بأغلظ الإِيمان أنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار .
وإما أن يقولوه لليهود ، لأنهم - أي المنافقون - حلفوا لهم بالمعاضدة والنصرة كما حكى الله عنهم { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } ثم خذلوهم - ، :
وعلى كلا الوجهين فالجملة الكريمة تنعى على المنافقين كذبهم وجبنهم ، وتعجب الناس من طباعهم الذميمة ، وأخلاقهم المرذولة .
وقوله : { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } أي : فسدت أعمالهم وبطلت فصابروا خاسرين في الدنيا والآخرة .
ويحتمل أن تكون هذه الجملة مما حكاه الله - تعالى - من قول المؤمنين ويحتمل أنها من كلام الله - تعالى - وقد ساقها على سبيل الحكم عليهم بفساد أعمالهم ، وسوء مصيرهم .
هذا ، وقد اشتملت هذه الآيات الكريمة على ضرورب من توكيد النهي عن موالاة أعداء الله - تعالى - بأساليب متعددة .
منها : النهي الصريح كما في قوله - تعالى - : { لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ } .
ومنها : بيان علة الني كما في قوله : { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } .
ومنها : التصريح بأن من يواليهم فهو منهم وذلك في قوله : { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } .
ومنها : تسجيل الظلم على من يواليهم كما في قوله : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } .
ومنها : الإِخبار بأن موالاتهم من طبيعة الذين في قلوبهم مرض قال - تعالى - : { فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ } .
ومنها : قطع أطماع الموالين لهم وتبشير المؤمنين بالفوز قال - تعالى - : { فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } .
ومنها : الإِخبار عن حال الموالين لهم بقوله : { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } .
وهنا قد يرد سؤال وهو : إن الآيات الكريمة وما يشبهها من الآيات القرآنية تؤكد النهي عن موالاة غير المسلمين ومودتهم فهل هذا النهي على إطلاقه ؟
والجواب عن ذلك أن غير المسلمين أقسام ثلاثة : القسم الأول : وهم الذين يعيشون مع المسلميلن ويسالمونهم ، ولا يعملون لحساب غيرهم ؛ ولم يبدر منهم ما يفضي إلى سوء الظن بهم وهؤلاء لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ، ولا مانع من مودتهم والإِحسان إليهم كما في قوله - تعالى - { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتقسطوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } والقسم الثاني : وهم الذين يقاتلون المسلمين ، ويسيئون إليهم بشتى الطرق وهؤلاء لا تصح مصافاتهم ، ولا تجوز موالاتهم ، وهم الذين عناهم الله في الآيات التي معنا وفيما يشبهها من آيات كما في قوله - تعالى -
{ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدين وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ على إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فأولئك هُمُ الظالمون } والقسم الثالث : قوم لا يعلنون العداوة لنا ولكن القرائن تدل على أنهم لا يبحبوننا بل يحبون أعداءنا ، وهؤلاء يأمرنا ديننا بأن نأخذ حذرنا منهم دون أن نعتدي .
ومهما تكن أحوال غير المسلمين ؛ فإنه لا يجوز لولي الأمر المسلم أن يوكل إليهم ما يتعلق بأسرار الدولة الإسلامية . أو أن يتخذهم بطانة له بحيث يطلعون على الأمور التي يؤدي إفشاؤها إلى خسارة الأمة في السلم أو الحرب .
فلما انعقدت الأسباب الفاضحة لهم ، تبين أمرهم لعباد الله المؤمنين ، فتعجبوا منهم كيف كانوا يظهرون أنهم من المؤمنين ، ويحلفون على ذلك ويتأولون ، فبان كذبهم وافتراؤهم ؛ ولهذا قال تعالى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ }
وقد اختلف القراء في هذا الحرف ، فقرأه الجمهور بإثبات الواو في قوله : { وَيَقُولُ الَّذِينَ } ثم منهم من رفع { وَيَقُولُ } على الابتداء ، ومنهم من نصب عطفًا على قوله : { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ } تقديره " أن يأتي " " وأن يقول " ، وقرأ أهل المدينة : { يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا } بغير واو ، وكذلك هو في مصاحفهم على ما ذكره ابن جرير ، قال ابن جُرَيْج ، عن مجاهد : { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ } حينئذ { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ }
{ وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُواْ أَهَُؤُلآءِ الّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } . .
اختلف القرّاء في قراءة قوله : وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُوا فقرأتها قرّاء أهل المدينة : «فَيُصْبِحُوا على ما أسَرّوا في أنْفُسِهِمْ نادِمِينَ يَقُول الّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الذينَ أقْسَمُوا باللّهِ » بغير واو .
وتأويل الكلام على هذه القراءة : فيصبح المنافقون إذا أتى الله بالفتح أو أمر من عنده ، على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين ، يقول المؤمنين تعجبا منهم ومن نفاقهم وكذبهم واجترائهم على الله في أيمانهم الكاذبة بالله : أهؤلاء الذين أقسموا لنا بالله إنهم لمعنا وهم كاذبون في أيمانهم لنا وهذا المعنى قصد مجاهد في تأويله ذلك الذي :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : فَعَسَى اللّهُ أنْ يَأتِيَ بالفَتْحِ أوْ أمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ حينئذٍ ، يقول الذين آمنوا : أهؤلاء الذين أفسموا بالله جهد إيمانهم ، إنهم لمعكم ، حبطت أعمالهم فأصحوا خاسرين .
كذلك ذلك في مصاحف أهل المدينة بغير واو . وقرأ ذلك بعض البصريين : وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُوا بالواو ، ونصب «يقول » عطفا به على «فعسى الله أن يأتي بالفتح » . وذكر قارىء ذلك أنه كان يقول : إنما أريد بذلك : فعسى الله أن يأتي بالفتح ، وعسى يقول الذين آمنوا . ومحال غير ذلك ، لأنه لا يجوز أن يقال : وعسى الله أن يقول الذين آمنوا ، وكان يقول : ذلك نحو قولهم : أكلت خبزا ولبنا ، وكقول الشاعر :
ورأيْتِ زَوْجَكِ في الوَغَى ***مُتَقَلّدا سَيْفا وَرُمحَا
فتأويل الكلام على هذه القراءة : فعسى الله أن يأتي بالفتح المؤمنين ، أو أمر من عنده يديلهم به على أهل الكفر من أعدائهم ، فيصبح المنافقون على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين ، وعسى أن يقول الذين آمنوا حينئذٍ : هؤلاء الذين أقسموا بالله كذبا جهد أيمانهم إنهم لمعكم . وهي في مصاحف أهل العراق بالواو : وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُوا . وقرأ ذلك قرّاء الكوفيين : وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُوا بالواو ورفع يقول بالاستقبال والسلامة من الجوازم والنواصب .
وتأويل من قرأ ذلك كذلك : فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم يندمون ، ويقول الذين آمنوا فيبتدىء «يقول » فيرفعها . وقراءتنا التي نحن عليها : وَيَقُولُ بإثبات الواو في : «ويقول » ، لأنها كذلك هي في مصاحفنا مصاحف أهل الشرق بالواو ، وبرفع «يقول » على الابتداء .
فتأويل الكلام إذ كان القراءة عندنا على ما وصفنا : فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين ، ويقول المؤمنون : أهؤلاء الذين حلفوا لنا بالله جهد أيمانهم كذبا إنهم لمعنا . يقول الله تعالى ذكره مخبرا عن حالهم عنده بنفاقهم وخبث أعمالهم : حَبِطَتْ أعمالُهُمْ يقول : ذهبت أعمالهم التي عملوها في الدنيا باطلاً لا ثواب لها ولا أجر ، لأنهم عملوها على غير يقين منهم بأنها عليهم لله فرض واجب ولا على صحة إيمان بالله ورسوله ، وإنما كانوا يعملونها ليدفعوا المؤمنين بها عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم ، فأحبط الله أجرها إذ لم تكن له فأصْبَحُوا خَاسِرينَ يقول : فأصبح هؤلاء المنافقون عند مجيء أمر الله بإدالة المؤمنين على أهل الكفر قد وكسوا في شرائهم الدنيا بالاَخرة ، وخابت صفقتهم وهلكوا .
{ ويقول الذين آمنوا } بالرفع قراءة عاصم وحمزة والكسائي على أنه كلام مبتدأ ويؤيده قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر مرفوعا بغير واو على أنه جواب قائل يقول فماذا يقول المؤمنون حينئذ ، وبالنصب قراءة أبي عمرو ويعقوب عطفا على أن يأتي باعتبار المعنى ، وكأنه قال : عسى أن يأتي الله بالفتح ويقول الذين آمنوا ، أو يجعله بدلا من اسم الله تعالى داخلا في اسم عسى مغنيا عن الخبر بما تضمنه من الحدث ، أو على الفتح بمعنى عسى الله أن يأتي بالفتح وبقول المؤمنين فإن الإتيان بما يوجبه كالإتيان به . { أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم } يقول المؤمنين بعضهم لبعض تعجبا من حال المنافقين وتبجحا بما منّ الله سبحانه وتعالى عليهم من الإخلاص أو يقولونه لليهود ، فإن المنافقين حلفوا لهم بالمعاضدة كما حكى الله عنهم { وإن قوتلتم لننصرنكم } وجهد الأيمان أغلظها ، وهو في الأصل مصدر ونصبه على الحال على تقدير وأقسموا بالله يجهدون جهد أيمانهم ، فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه ولذلك ساغ كونها معرفة أو على المصدر لأنه بمعنى أقسموا . { حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين } إما من جملة المقول أو من قول الله سبحانه وتعالى شهادة لهم بحبوط أعمالهم ، وفيه معنى التعجب كأنه قيل أحبط أعمالهم فما أخسرهم .
قوله : { يقول الّذين آمنوا } قرأه الجمهور { يقول } بدون واو في أوّله على أنّه استئناف بياني جواب لسؤال من يسأل : ماذا يقول الّذين آمنوا حينئذٍ . أي إذا جاء الفتح أو أمر من قوة المسلمين ووهنَ اليهود يقول الّذين آمنوا
وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف { ويَقول } بالواو وبرفع { يقول } عطفاً على { فعسى الله } ، وقرأه أبو عمرو ، ويعقوب بالواو أيضاً وبنصب { يقول } عطفاً على { أن يأتي } . والاستفهام في { أهؤلاء } مستعمل في التعجّب من نفاقهم .
و { هؤلاء } إشارة إلى طائفة مقدّرة الحصول يومَ حصول الفتح ، وهي طائفة الّذين في قلوبهم مرض . والظاهر أنّ { الّذين } هو الخبر عن { هؤلاء } لأنّ الاستفهام للتّعجب ، ومحلّ العجب هو قَسمَهم أنّهم معهم ، وقد دلّ هذا التعجّب على أنّ المؤمنين يظهر لهم من حال المنافقين يوم إتيان الفتح ما يفتضح به أمرهم فيعجبون من حلفهم على الإخلاص للمؤمنين .
وجَهْدُ الأيمان بفتح الجيم أقواها وأغلظها ، وحقيقة الجَهد التعب والمشقّة ومنتهى الطاقة ، وفِعله كمنع . ثم أطلق على أشدِّ الفعلِ ونهاية قوّته لِمَا بَيْن الشدّة والمشقّة من الملازمة ، وشاع ذلك في كلامهم ثُمّ استعمل في الآية في معنى أوْكَدِ الأيمان وأغظلها ، أي أقسموا أقوى قَسَم ، وذلك بالتّوكيد والتّكرير ونحو ذلك ممّا يغلّظ به اليمين عُرفاً . ولم أر إطلاق الجَهد على هذا المعنى فيما قبلَ القرآن . وانتصبَ { جَهدَ } على المفعولية المطلقة لأنّه بإضافته إلى « الأيمان » صار من نوع اليمين فكان مفعولاً مطلقاً مبيّناً للنّوع . وفي « الكشاف » في سورة النّور جعله مصدراً بدلاً من فعله وجعل التّقدير : أقسموا بالله يجهدون أيمانَهم جَهداً ، فلمّا حذف الفعل وجعل المفعول المطلق عوضاً عنه قدّم المفعول المطلق على المفعول به وأضيف إليه .
وجملة { حَبِطت أعمالهم } استئناف ، سواء كانت من كلام الّذين آمنوا فتكون من المحكي بالقَول ، أم كانت من كلام الله تعالى فلا تكونه . وحبطت معناه تلِفت وفسَدت ، وقد تقدّم في قوله تعالى : { فأولئك حبطت أعمالهم في الدّنيا والآخرة } في سورة البقرة ( 217 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فلما أخبر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن المنافقين، أنزل هذه الآية: {ويقول الذين آمنوا} بعضهم لبعض: {أهؤلاء الذين أقسموا بالله}، يعني المنافقين، {جهد أيمانهم}، إذ حلفوا بالله عز وجل، فهو جهد اليمين، {إنهم لمعكم} على دينكم، يعني المنافقين.
{حبطت أعمالهم}: بطلت أعمالهم، لأنها كانت في غير الله عز وجل، {فأصبحوا خاسرين} في الدنيا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف القرّاء في قراءة قوله:"وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُوا"؛ فقرأتها قرّاء أهل المدينة: «فَيُصْبِحُوا على ما أسَرّوا في أنْفُسِهِمْ نادِمِينَ يَقُول الّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الذينَ أقْسَمُوا باللّهِ» بغير واو.
وتأويل الكلام على هذه القراءة: فيصبح المنافقون إذا أتى الله بالفتح أو أمر من عنده، على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين، يقول المؤمنين تعجبا منهم ومن نفاقهم وكذبهم واجترائهم على الله في أيمانهم الكاذبة بالله: أهؤلاء الذين أقسموا لنا بالله إنهم لمعنا وهم كاذبون في أيمانهم لنا...كذلك ذلك في مصاحف أهل المدينة بغير واو. وقرأ ذلك بعض البصريين: "وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُوا "بالواو، ونصب «يقول» عطفا به على «فعسى الله أن يأتي بالفتح». وذكر قارئ ذلك أنه كان يقول: إنما أريد بذلك: فعسى الله أن يأتي بالفتح، وعسى يقول الذين آمنوا. ومحال غير ذلك، لأنه لا يجوز أن يقال: وعسى الله أن يقول الذين آمنوا...
فتأويل الكلام على هذه القراءة: فعسى الله أن يأتي بالفتح المؤمنين، أو أمر من عنده يديلهم به على أهل الكفر من أعدائهم، فيصبح المنافقون على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين، وعسى أن يقول الذين آمنوا حينئذٍ: هؤلاء الذين أقسموا بالله كذبا جهد أيمانهم إنهم لمعكم. وهي في مصاحف أهل العراق بالواو: "وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُوا".
وقرأ ذلك قرّاء الكوفيين: وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُوا بالواو ورفع يقول بالاستقبال والسلامة من الجوازم والنواصب.
وتأويل من قرأ ذلك كذلك: فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم يندمون، ويقول الذين آمنوا فيبتدئ «يقول» فيرفعها.. وقراءتنا التي نحن عليها: وَيَقُولُ بإثبات الواو في: «ويقول»، لأنها كذلك هي في مصاحفنا مصاحف أهل الشرق بالواو، وبرفع «يقول» على الابتداء.
فتأويل الكلام إذ كان القراءة عندنا على ما وصفنا: فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين، ويقول المؤمنون: أهؤلاء الذين حلفوا لنا بالله جهد أيمانهم كذبا إنهم لمعنا.
يقول الله تعالى ذكره مخبرا عن حالهم عنده بنفاقهم وخبث أعمالهم: "حَبِطَتْ أعمالُهُمْ" يقول: ذهبت أعمالهم التي عملوها في الدنيا باطلاً لا ثواب لها ولا أجر، لأنهم عملوها على غير يقين منهم بأنها عليهم لله فرض واجب ولا على صحة إيمان بالله ورسوله، وإنما كانوا يعملونها ليدفعوا المؤمنين بها عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم، فأحبط الله أجرها إذ لم تكن له "فأصْبَحُوا خَاسِرينَ" يقول: فأصبح هؤلاء المنافقون عند مجيء أمر الله بإدالة المؤمنين على أهل الكفر قد وكسوا في شرائهم الدنيا بالآخرة، وخابت صفقتهم وهلكوا.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
{فأصبحوا خاسرين}، خسروا الدنيا بافتضاحهم، والآخرة بالعذاب وفوات الثواب...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لمن يقولون هذا القول؟ قلت: إمّا أن يقوله بعضهم لبعض تعجباً من حالهم واغتباطاً بما منّ الله عليهم من التوفيق في الإخلاص {أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ} لكم بإغلاظ الأيمان أنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار. وإمّا أن يقولوه لليهود لأنهم حلفوا لهم بالمعاضدة والنصرة. كما حكى الله عنهم {وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} [الحشر: 11]. {حَبِطَتْ أعمالهم} من جملة قول المؤمنين، أي بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في رأى أعين الناس. وفيه معنى التعجيب كأنه قيل: ما أحبط أعمالهم! فما أخسرهم! أو من قول الله عزّ وجلّ شهادة لهم بحبوط الأعمال وتعجبا من سوء حالهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
يحتمل قوله تعالى: {حبطت أعمالهم} أن يكون إخباراً من الله تعالى، ويحتمل أن يكون من قول المؤمنين على جهة الإخبار بما حصل في اعتقادهم إذ رأوا المنافقين في هذه الأحوال، ويحتمل أن يكون قوله {حبطت أعمالهم} على جهة الدعاء إما من الله تعالى عليهم وإما من المؤمنين، وحبط العمل إذا بطل بعد أن كان حاصلاً، وقد يقال حبط في عمل الكفار وإن كان لم يتحصل على جهة التشبيه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ} أي يقول بعضهم لبعض متعجبين من عاقبة المنافقين: أهؤلاء الذين أقسموا بالله أغلظ الإيمان مجتهدين في توكيدها، إنهم منكم أيها المؤمنون وعلى دينكم، ومعكم في حربكم وسلمكم؟ كما قال تعالى في سورة براءة التي فضحتهم {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هو منكم ولكنهم قوم يفرقون} [التوبة: 57] أي فهم لفرقهم وخوفهم يظهرون الإسلام تقية {لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون} [التوبة: 58] أي يسرعون إسراع الفرس الجموع فرارا من الإسلام وأهله، وتواريا عنهم، واعتصاما منهم أو يقولون ذلك لليهود الذين كانوا يغترون بموالاة المنافقين ومودتهم السرية لهم، ويظنون أنهم إذا نقضوا عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحاربوه يجدون منهم أعوانا وأنصارا بين المسلمين يقاتلون معهم، أو يوقعون الفشل والتخذيل في جيش المسلمين لأجلهم. كما قال تعالى في سورة الحشر {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب: لئن أخرجتم لنخرجن معكم، ولا نطيع فيكم أحد أبدا، وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم} [الحشر:11] الخ.
وقوله: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ} يحتمل أن يكون من حكاية قول المؤمنين، ويكون معناه بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفون نفاقا ليقنعوكم بأنهم منكم، كالصلاة والصيام والجهاد معكم، فخسروا ما كان يترتب عليها من الأجر والثواب لو صلح حالهم وقوي إيمانهم بها... ويحتمل أن يكون من قول الله عز وجل تعقيبا على قول المؤمنين. فهو شهادة منه تعالى بحبوط أعمالهم الإسلامية. إذ كانت تقية لا تقوى فيها ولا إخلاص، وبخسرانهم في الدنيا بعد الفضيحة، وفي الآخرة يوم الجزاء.
وفي هاتين الآيتين من خبر الغيب ما هو صريح، وفي (عسى) هنا يصح قول المفسرين إن الرجاء من الله تعالى للتحقيق، وقد صدق الله وعده، ونصر عبده، واعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فخذل الله الكافرين، وفضح المنافقين، وظهر تأويل الآيتين وما في معناهما وفقا لقوله (والعاقبة للمتقين) وفي القرآن كثير من أخبار الغيب التي يعبر عنها أهل الكتاب بالنبوات، وهي أصل عندهم في صدق الأنبياء، وهم مع ذلك يكابرون في نبوة خاتم النبيين، ويمارون في [نبوته] الظاهرة الصريحة الثابتة بالسند والدليل على تصديقهم (بنبوات) رمزية تختلف فيها وجوه التأويل، يرونا السهى فنريهم القمر، بل نريهم ما هو أضوأ من الشمس وأظهر، {ومن لم يجعل الله له نورا فما له نور} [النور: 40].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد جاء الله بالفتح يوما، وتكشفت نوايا، وحبطت أعمال، وخسرت فئات. ونحن على وعد من الله قائم بأن يجيء الفتح، كلما استمسكنا بعروة الله وحده؛ وكلما أخلصنا الولاء لله وحده. وكلما وعينا منهج الله، وأقمنا عليه تصوراتنا وأوضاعنا. وكلما تحركنا في المعركة على هدى الله وتوجيهه. فلم نتخذ لنا وليا إلا الله ورسوله والذين آمنوا..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وجَهْدُ الأيمان بفتح الجيم أقواها وأغلظها، وحقيقة الجَهد التعب والمشقّة ومنتهى الطاقة، وفِعله كمنع. ثم أطلق على أشدِّ الفعلِ ونهاية قوّته لِمَا بَيْن الشدّة والمشقّة من الملازمة، وشاع ذلك في كلامهم ثُمّ استعمل في الآية في معنى أوْكَدِ الأيمان وأغلظها، أي أقسموا أقوى قَسَم، وذلك بالتّوكيد والتّكرير ونحو ذلك ممّا يغلّظ به اليمين عُرفاً. ولم أر إطلاق الجَهد على هذا المعنى فيما قبلَ القرآن..
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ويبقى للمسلمين الدرس العملي المتحرك في الواقع الَّذي يبعث فيهم روح الوعي والحذر للفئات الأخرى الّتي تختلف معهم في الدين والقضايا الحيويّة المتصلة بالعلاقات العامّة، فلا يستسلمون للسذاجة العاطفيّة الّتي قد تجعلهم يسقطون تحت تأثير الخوف من المستقبل، الَّذي قد يدفع الآخرين إلى الواجهة من السلطة ويرجع المسلمين إلى الخلف، فيحاولون الارتباط بهم لحماية أنفسهم، فيفقدون الكثير من صلابة الموقف واستقامة الخط، في الوقت الَّذي لا يحصلون فيه على شيء مما قصدوه، بل قد يحصلون على العكس من ذلك إذا انتصر المسلمون وانهزم الكافرون. إنَّ الارتباط السياسي والاقتصادي والديني بالأجانب أمر مرفوض من الإسلام نفسه، لأنَّه قد يعرض المسلمين للوقوع في التهلكة السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة، ويؤدي بهم إلى فقدان استقلالهم وقدرتهم على تقرير مصيرهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
على الرّغم من أنّ الواقعة التي ذكرت سبباً لنزول الآيات الأخيرة تحدثت عن شخصين هما (عبادة بن الصامت» و«عبد الله بن أبي» إِلاّ أنّ ممّا لا شك فيه أنّ هذين الشخصين لا يشار إِليهما باعتبارهما شخصيتين تاريخيتين فحسب، بل لأنّهما يمثلان مذهبين فكريين واجتماعيين؛ يدعو أحدهما إلى التخلي عن التعاون والتحالف مع الغرباء، وعدم تسليم زمام المسلمين بأيديهم، وعدم الثقة بتعاونهم. والمذهب الآخر يرى أنّ كل إنسان أو شعب في هذه الدنيا المليئة بالمشاكل والأهوال يحتاج إلى من يتكئ ويعتمد عليه، وأن الحاجة تدعو أحياناً إلى انتخاب الدّعم والسند من بين الغرباء بحجة أن الصداقة معهم لا تخلو من قيمة وفائدة، ولابدّ أن تظهر ثمارها في يوم من الأيّام. وقد دحض القرآن الكريم رأي المذهب الثّاني بشدّة، وحذر المسلمين بصراحة من مغبة الوقوع والتورط في نتائج مثل هذا النوع من التفكير، لكن البعض من المسلمين ـ ومع الأسف ـ قد نسوا وتجاهلوا هذا الأمر القرآني العظيم، فانتخبوا من بين الغرباء والأجانب من يعتمدون عليهم، وقد أثبت التّأريخ أن كثيراً من النكبات التي أصابت المسلمين تنبع من هذا الاتجاه الخاطئ! وبلاد الأندلس تعتبر دليلا حيّاً وبارزاً على هذا الأمر، وتظهر كيف أن المسلمين بالاعتماد على قواهم الذاتية ـ استطاعوا أن يبنوا أكثر الحضارات ازدهاراً في الأندلس ـ أسبانيا اليوم ـ لكنّهم نتيجة لاعتمادهم على قوى غريبة أجنبية فقدوا تلك المكتسبات العظيمة بكل سهولة. والإمبراطورية العثمانية التي سرعان ما ذابت كذوبان الجليد في الصيف، تعتبر دليلا آخر على هذه الدعوى. كما أنّ التّأريخ المعاصر يشهد على ما أصاب المسلمين من خسائر ومصائب كبيرة بسبب انحرافهم عن رسالتهم واعتمادهم في كثير من الأُمور على الأجانب الغرباء، والعجب كل العجب من أن هذا السبات ما زال يلف العالم الإِسلامي، ولم توقظه بعد الكوارث والنكبات التي أصابته بسبب اعتماده على القوى الأجنبية. على أي حال فإن الأجنبي أجنبي، ومهما اشترك معنا في المصالح وتعاون معنا في مجالات محدودة فهو في النهاية يعتزل عنّا في اللحظات الحساسة، وكثيراً ما تنالنا منه ـ أيضاً ـ ضربات مؤثرة. وما على المسلمين اليوم إِلاّ أن ينتبهوا أكثر من أي وقت مضى إلى هذا النداء القرآني ولا يعتمدوا على أحد سوى الله وقواهم الذاتية التي وهبها الله لهم. لقد اهتم نبيّ الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيراً بهذا الأمر، حتى أنّه رفض مساعدة اليهود في واقعة (أُحد» حين أعلن ثلاثمائة منهم استعدادهم للوقوف بجانب المسلمين ضد المشركين، فأعادهم النّبي إلى حيث كانوا ولما يصلوا إلى منتصف الطريق، وامتنع عن قبول عرضهم في حين أن مثل هذا العدد من الناس كان يمكن له أن يلعب دوراً مؤثراً في واقعة أُحد، فلماذا رفضهم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ لقد رفضهم لأنّه لم يستبعد منهم أن يخذلوه ويخذلوا المسلمين في أحرج اللحظات وأكثرها خطورة أثناء الحرب، ويتحولوا إلى التعاون مع العدوّ ويقضوا على ما تبقى من جيش المسلمين في ذلك الوقت.