81- قالت الملائكة ، وقد ظهرت على حقيقتها : يا لوط ، لا تخف ولا تحزن إنا رسل ربك ، لا بَشر كما بدا لك ولقومك ، ولن يصل هؤلاء إليك بِشَرٍ يسوءك أو ضر يصيبك ، فسر أنت وأهلك في بعض أوقات الليل ، إذا دخل جزء كبير منه ، واخْرج بهم من هذه القرية ، ولا يلتفت أحد منكم خلفه ، لكيلا يرى هول العذاب فيصاب بشر منه ، لكن امرأتك التي خانتك فلا تكن من الخارجين معك ، إنه لا بد مصيبها ما قُدّر أن يصيب هؤلاء . . إن موعد هلاكهم الصبح ، وهو موعد قريب ، فلا تخف .
وهنا - وبعد أن بلغ الضيق بلوط ما بلغ - كشف له الملائكة عن حقيقتهم ، وبشروه بما يدخل الطمأنينة على قلبه { قَالُواْ يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ } أى : إنا رسل ربك أرسلنا إليك لنخبرك بهلاكهم ، فاطمئن فإنهم لن يصلوا إليك بسوء فى نفسك أو فينا .
روى أن الملائكة لما رأو ما لقيه لوط - عليه السلام - من الهم والكرب بسببهم قالوا له : يا لوط إن ركنك لشديد . . . ثم ضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم ، فارتدوا على أدبارهم يقولون النجاء ، وإليه الإِشارة بقوله - تعالى - فى سورة القمر : { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ } وقوله : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل } أى : فاخرج من هذه القرية مصحوباً بالمؤمنين من أهلك فى جزء من الليل يكفى لابتعادك عن هؤلاء المجرمين .
قال القرطبى : قرئ " فاسر وفأسر بوصل الهمزة وقطعها لغتان فصيحتان . قال - تعالى - { والليل إِذَا يَسْرِ } وقال
{ سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ . . . } وقيل " فأسر " بالقطع تقال لمن سار من أول الليل . . . وسرى لمن سار فى آخره ، ولا يقال فى النهار إلا سار . . .
وقوله : { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امرأتك إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ . . . ْ معطوف على ما قبله وهو قوله : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ . . . } .
أى : فأسر بأهلك فى جزء من الليل ، ولا يلتفت منكم أحد إلى ما وراءه ، اتقاء لرؤية العذاب ، { إِلاَّ امرأتك } يا لوط فاتركها ولا تأخذها معك لأنها كافرة خائنة ، ولأنها سيصيبها العذاب الذى سينزل بهؤلاء المجرمين . فيهلكها معهم .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : قوله { إِلاَّ امرأتك } بالرفع ، وقرأ الباقون بالنصب .
قال الواحدى : من نصب فقد جعلها مستثناة من الأهل ، على معنى : فأسر بأهلك إلا امرأتك أى فلا تأخذها معك . . .
وأما الذين رفعوا فالتقدير ؛ ولا يلتفت منكم أحد لكن امرأتك تلتفت فيصيبها ما أصابهم .
روى عن قتادة أنه قال : إنها كنت مع لوط حين خرج من القرية ، " فلما سمعت العذاب التفتت وقالت واقوماه فأصابها حجر فأهلكها " .
وقوله - سبحانه - { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ } بشارة أخرى للوط - عليه السلام - الذى تمنى النصرة على قومه .
أى : إن موعد هلاك هؤلاء المجرمين يبتدئ من طولع الفجر وينتهى مع طلوع الشمس ، أليس الصبح بقريب من هذا الوقت الذى نحدثك فيه ؟
قال - تعالى - فى سورة الحجر : { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُشْرِقِينَ } أى : وهم داخلون فى وقت الشروق . فكان ابتداء العذاب عند طلوع الصبح وانتهاؤه وقت الشروق .
والجملة الكريمة { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح . . . } كالتعليل للأمر بالإِسراء بأهله بسرعة ، أو جواب عما جاش بصدره من استعجالة العذاب لهؤلاء المجرمين .
والاستفهام فى قوله - سبحانه - { أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ } للتقرير أى : بلى إنه لقريب .
قال الآلوسى : روى أنه - عليه السلام - سأل الملائكة عن موعد هلاك قومه فقالوا له ؛ موعدهم الصبح . فقال : أريد أسرع من ذلك . فقالوا له ؛ أليس الصبح بقريب . ولعله إنما جعل ميقات هلاكهم الصبح لأنه وقت الدعة والراحة فيكون حلول العذاب حينئذ أفظع ، ولأنه أنسب يكون ذلك عبرة للناظرين .
يقول تعالى مخبرًا عن نبيه لوط ، عليه السلام : إن لوطا توعدهم بقوله{[14793]} : { لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً [ أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ] } {[14794]} أي : لكنت نكلت بكم وفعلت بكم الأفاعيل [ من العذاب والنقمة وإحلال البأس بكم ]{[14795]} بنفسي وعشيرتي ، ولهذا ورد في الحديث ، من طريق محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رحمة الله على لوط ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد - يعني : الله عز وجل - فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه " {[14796]} .
[ وروي من حديث الزهري عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعًا ومن حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به ، ومن حديث ابن لهيعة عن أبي يونس سمع أبا هريرة به وأرسله الحسن وقتادة ]{[14797]} . فعند ذلك أخبرته الملائكة أنهم{[14798]} رُسل الله إليه ، و[ وبشروه ]{[14799]} أنهم لا وصول لهم إليه [ ولا خلوص ]{[14800]} { قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ } وأمروه أن يسري بأهله من آخر الليل ، وأن يتَّبع أدبارهم ، أي : يكون ساقة لأهله ، { وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ } أي : إذا سمعت{[14801]} ما نزل بهم ، ولا تهولنَّكم{[14802]} تلك الأصوات المزعجة ، ولكن استمروا ذاهبين [ كما أنتم ]{[14803]} .
{ إِلا امْرَأَتَكَ } قال الأكثرون : هو استثناء من المثبت{[14804]} وهو قوله : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } تقديره { إِلا امْرَأَتَكَ } وكذلك قرأها ابن مسعود ونصب هؤلاء امرأتك ؛ لأنه من مثبت{[14805]} فوجب نصبه عندهم .
وقال آخرون من القراء والنحاة : هو استثناء من قوله : { وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ } فجَّوزوا الرفع والنصب ، وذكر هؤلاء [ وغيرهم من الإسرائيليات ]{[14806]} أنها خرجت معهم ، وأنها لما سمعت الوَجْبَة التفتت وقالت{[14807]} واقوماه . فجاءها حجر من السماء فقتلها{[14808]} .
ثم قربوا له هلاك قومه تبشيرًا له ؛ لأنه قال لهم : " أهلكوهم الساعة " ، فقالوا : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } هذا وقومُ لُوطِ وقُوف على الباب وعُكوف قد جاءوا يُهرعون إليه من كل جانب ، ولوط واقف على{[14809]} الباب يدافعهم ويردعهم وينهاهم عما هم فيه ، وهم لا يقبلون منه ، بل يتوعدونه ، فعند ذلك خرج عليهم جبريل ، عليه السلام ، فضرب وجوههم بجناحه ، فطمس أعينهم ، فرجعوا وهم لا يهتدون الطريق ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ [ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ] } [ القمر : 37 - 39 ]{[14810]} .
وقال مَعْمَر ، عن قتادة ، عن حذيفة بن اليمان قال : كان إبراهيم ، عليه السلام ، يأتي{[14811]} قوم لوط ، فيقول : أنَهاكم{[14812]} الله أن تَعَرّضوا لعقوبته ؟ فلم يطيعوه ، حتى إذا بلغ الكتاب أجله [ لمحل عذابهم وسطوات الرب بهم قال ]{[14813]} انتهت الملائكة إلى لوط وهو يعمل في أرض له ، فدعاهم إلى الضيافة فقالوا : إنا ضيوفك{[14814]} الليلة ، وكان الله قد عهد إلى جبريل ألا يُعذبهم حتى يشهد عليهم لوط ثلاث شَهادات فلما توجه بهم لوط إلى الضيافة ، ذكر ما يعمل قومه من الشر [ والدواهي العظام ]{[14815]} ، فمشى معهم ساعة ، ثم التفت إليهم فقال : أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية ؟ ما أعلم على وجه الأرض شرا منهم . أين أذهب بكم ؟ إلى قومي وهم [ من ]{[14816]} أشر خلق الله ، فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال : احفظوها{[14817]} هذه واحدة . ثم مشى معهم ساعة ، فلما توسط القرية وأشفق عليهم واستحيا منهم قال : أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية ؟ ما أعلم على وجه الأرض أشر منهم ، إن قومي أشر خلق الله . فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال : احفظوا ، هاتان اثنتان ، فلما انتهى إلى باب الدار بكى حياء منهم وشفقة عليهم فقال{[14818]} إن قومي أشر من خلق الله ؟{[14819]} أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية ؟ ما أعلم على وجه الأرض أهل قرية شرًا منهم . فقال جبريل للملائكة : احفظوا ، هذه ثلاث ، قد حق العذاب . فلما دخلوا ذهبت عجوز السوء فصعدت فلوحت بثوبها ، فأتاها الفساق يُهرَعون سراعا ، قالوا : ما عندك ؟ قالت : ضَيَّف لوطًا قوم{[14820]} ما رأيت قط أحسن وجوها منهم ، ولا أطيب ريحًا منهم . فهُرعوا يسارعون إلى الباب ، فعالجهم لوط على الباب ، فدافعوه طويلا هو داخل وهم خارج ، يناشدهم الله ويقول : { هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } فقام الملك فَلَزّ{[14821]} بالباب - يقول فسده{[14822]} - واستأذن جبريل في عقوبتهم ،
فأذن الله له ، فقام في الصورة التي يكون فيها في السماء ، فنشر جناحه . ولجبريل جناحان ، وعليه وشاح من درّ منظوم ، وهو براق الثنايا ، أجلى الجبين ، ورأسه حُبُكٌ حُبُك مثل المرجان وهو اللؤلؤ ، كأنه الثلج ، ورجلاه إلى الخضرة . فقال يا لوط : { إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ } امض يا لوط عن الباب ودعني وإياهم ، فتنحى لوط عن الباب ، فخرج إليهم ، فنشر جناحه ، فضرب به وجوههم ضربة شدخ أعينهم ، فصاروا عُمْيًا لا يعرفون الطريق [ ولا يهتدون بيوتهم ]{[14823]} ثم أمر لوط فاحتمل بأهله في ليلته قال : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ } {[14824]} .
وروي عن محمد بن كعب [ القرظي ]{[14825]} وقتادة ، والسدي نحو هذا .