قال الإِمام الرازى : " اعلم أن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف ، وسألوا عنها الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الامتحان ، فقال - تعالى - : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } ؟ لا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب فإن من كان قادرا على خلق السموات والأرض ، وعلى تزيين الأرض بما عليها من نبات وحيوان ومعادن ، ثم يجعلها بعد ذلك صعيدا جرزا خالية من الكل ، كيف يستبعد من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة من الناس مدة ثلاثمائة سنة وأكثر فى النوم . . " .
وعلى ذلك يكون المقصود بهذه الآيات الكريمة ، بيان أن قصة أصحاب الكهف ليست شيئاً عجبا بالنسبة لقدرة الله - تعالى - .
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول قصة أصحاب الكهف روايات ملخصها : أن قريشا بعثت النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبى معيط ، إلى أحبار اليهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم ، وصفوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول . وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء .
فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألا أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره صلى الله عليه وسلم فقالوا لهما سلوه عن ثلاث نأمركم بهن . فإن أخبركم بهن ، فهو نبى مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول .
سلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول ماذا كان من خبرهم . فإنهم قد كان لهم حديث عجيب .
وسلوه عن رجل طواف طاف المشارق والمغارب ماذا كان من خبره ؟ وسلوه عن الروح ، ما هو ؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبى فاتبعوه .
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش . فقالا : يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور .
ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد أخبرنا ، ثم سألوه عما قالته لهم يهود .
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سأجيبكم غدا بما سألتم عنه ولم يستثن - : أى . ولم يقل إن شاء الله - فانصرفوا عنه .
ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة . لا يحدث الله إليه فى ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبريل - عليه السلام - حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم خمسة عشر قد أصبحنا فيها ، لا يخبرنا بشئ عما سألناه عنه . وحتى أَحْزَن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْثُ الوحى عنه ، وشق عليه ما تكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أصحاب أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف ، وقول الله - تعالى -
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } والخطاب فى قوله - تعالى - { أم حسبت . . . } للرسول صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه غيره من المكلفين .
و " أم " فى هذه الآية هى المنقطعة ، وتفسر عند الجمهور بمعنى بل والهمزة ، أى : بل أحسبت ، وعند بعض العلماء تفسر بمعنى بل ، فتكون للانتقال من كلام إلى آخر ، أى : بل حسبت . ويرى بعضهم أنها هنا بمعنى الهمزة التى للاستفهام الإِنكارى أى : أحسبت أن أصحاب الكهف والرقيم .
والكهف : هو النقب المتسع فى الجبل ، فإن لم يكن فيه سعة فهو غار ، وجمعه كهوف .
والمراد به هنا : ذلك الكهف الذى اتخذه هؤلاء الفتية مستقرا لهم .
وأما الرقيم فقد ذكروا فى المراد به أقوالا متعددة منها : أنه اسم كلبهم ، ومنها أنه اسم الجبل أو الوادى الذى كان فيه الكهف ، ومنها أنه اسم القرية التى خرج منها هؤلاء الفتية .
ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن المراد به اللوح الذى كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقصتهم ، فيكون الرقيم بمعنى المرقوم - فهو فعيل بمعنى مفعول - ومأخوذ من رقمت الكتاب إذا كتبته .
ومنه قوله - تعالى - { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } أى مكتوب .
قال بعض العلماء : " والظاهر أن أصحاب الكهف والرقيم : طائفة واحدة أضيفت إلى شيئين : أحدهما : معطوف على الآخر ، خلافا لمن قال أن أصحاب الكهف طائفة ، وأصحاب الرقيم طائفة أخرى ، وأن الله قص على نبيه فى هذه السورة الكريمة قصة أصحاب الكهف ، ولم يذكر له شيئا عن أصحاب الرقيم . وخلافا لمن زعم أن أصحاب الكهف هم الثلاثة الذين سقطت عليهم صخرة فسدّت عليهم باب الكهف فدعوا الله بصالح أعمالهم فانفرجت ، وهم البار بوالديه ، والعفيف ، والمستأجر ، وقصتهم مشهورة ثابتة فى الصحيح ، إلا أن تفسير الآية بأنهم هم المراد بعيد كما ترى " .
والمعنى : أظننت - أيها الرسول الكريم - أن ما قصصناه عليك من شأن هؤلاء الفتية ، كان من بين آياتنا الدالة على قدرتنا شيئا عجبا ؟ لا ، لا تظن ذلك فإن قدرتنا لا يعجزها شئ .
هذا إخبار عن قصة أصحاب{[17981]} الكهف [ والرقيم ]{[17982]} على سبيل الإجمال والاختصار ، ثم بسطها بعد ذلك فقال : { أَمْ حَسِبْتَ } يعني : يا محمد { أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } أي : ليس أمرهم عجيبا{[17983]} في قدرتنا وسلطاننا ، فإن خلْق السموات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، وتسخير الشمس والقمر والكواكب ، وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى ، وأنه على ما يشاء قادر{[17984]} ولا يعجزه شيء أعجب من أخبار أصحاب الكهف [ والرقيم ]{[17985]} كما قال ابن جريج{[17986]} عن مجاهد : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } يقول : قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك !
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } يقول : الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب ، أفضل من شأن أصحاب{[17987]} الكهف والرقيم .
وقال محمد بن إسحاق : ما أظهرت{[17988]} من حججي على العباد ، أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم .
[ وأما " الكهف " فهو : الغار في الجبل ، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون . وأما " الرقيم " ]{[17989]} فقال العوفي ، عن ابن عباس : هو واد قريب من أيلَة . وكذا قال عطية العوفي ، وقتادة .
وقال الضحاك : أما " الكهف " فهو : غار الوادي ، و " الرقيم " : اسم الوادي .
وقال مجاهد : " الرقيم " : كان{[17990]} بنيانهم{[17991]} ويقول بعضهم : هو الوادي الذي فيه كهفهم .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن سِمَاك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " الرقيم " ، قال : يزعم كعب أنها القرية .
وقال ابن جريج عن ابن عباس : " الرقيم " الجبل الذي فيه الكهف .
وقال ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن [ مجاهد عن ]{[17992]} ابن عباس قال : اسم ذلك الجبل بنجلوس .
وقال ابن جريج : أخبرني وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبائي : أن اسم جبل الكهف بنجلوس ، واسم الكهف حيزم ، والكلب حمران .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : القرآن أعلمه إلا حَنَانًا ، والأواه ، والرقيم .
وقال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، أنه سمع عكرمة يقول : قال ابن عباس : ما أدري ما الرقيم ؟ أكتاب أم بنيان ؟
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الرقيم : الكتاب . وقال سعيد بن جبير : [ الرقيم ]{[17993]} لوح من حجارة ، كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف{[17994]} ثم وضعوه على باب الكهف .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الرقيم : الكتاب . ثم قرأ : { كِتَابٌ مَرْقُومٌ } [ المطففين : 9 ]
وهذا هو الظاهر من الآية ، وهو اختيار ابن جرير قال : " الرقيم " فعيل بمعنى{[17995]} مرقوم ، كما يقول للمقتول : قتيل ، وللمجروح : جريح . والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.