مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَمۡ حَسِبۡتَ أَنَّ أَصۡحَٰبَ ٱلۡكَهۡفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنۡ ءَايَٰتِنَا عَجَبًا} (9)

قوله تعالى :{ أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا . إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا . فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا . ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا } في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف وسألوا عنها الرسول على سبيل الامتحان فقال تعالى : أم حسبت أنهم كانوا عجبا من آياتنا فقط ، فلا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب ، فإن من كان قادرا على تخليق السماوات والأرض ثم يزين الأرض بأنواع المعادن والنبات والحيوان ثم يجعلها بعد ذلك صعيدا جرزا خالية عن الكل كيف يستبعدون من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة مدة ثلاثمائة سنة وأكثر في النوم ، هذا هو الوجه في تقرير النظم ، والله أعلم .

المسألة الثانية : قد ذكرنا سبب نزول قصة أصحاب الكهف عند قوله : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } وذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه القصة مشروحا فقال كان النضر بن الحارث من شياطين قريش وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث رستم واسفنديار ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلسا ذكر فيه الله وحدث قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم ، وكان النضر يخلفه في مجلسه إذا قام ، فقال : أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه ، فهلموا فأنا أحدثكم بأحسن من حديثه ، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ، ثم إن قريشا بعثوه وبعثوا معه عتبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة وقالوا لهما سلوهم عن محمد وصفته وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء فخرجا حتى قدما إلى المدينة فسألوا أحبار اليهود عن أحوال محمد فقال أحبار اليهود : سلوه عن ثلاث : عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإن حديثهم عجب ، وعن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه ، وسلوه عن الروح وما هو ؟ فإن أخبركم فهو نبي وإلا فهو متقول ، فلما قدم النضر وصاحبه مكة قالا : قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد ، وأخبروا بما قاله اليهود فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أخبركم بما سألتم عنه غدا » ولم يستثن ، فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون خمس عشرة ليلة حتى أرجف أهل مكة به ، وقالوا : وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة فشق عليه ذلك ، ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أصحاب الكهف وفيها معاتبة الله إياه على حزنه عليهم ، وفيها خبر أولئك الفتية ، وخبر الرجل الطواف .

المسألة الثالثة : الكهف الغار الواسع في الجبل فإذا صغر فهو الغار ، وفي الرقيم أقوال . الأول : روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : كل القرآن اعلمه إلا أربعة غسلين وحنانا والأواه والرقيم . الثاني : روى عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن الرقيم فقال زعم كعب أنها القرية التي خرجوا منها وهو قول السدي . الثالث : قال سعيد بن جبير ومجاهد : الرقيم لوح من حجارة وقيل من رصاص كتب فيه أسماؤهم وقصتهم وشد ذلك اللوح على باب الكهف ، وهذا قول جميع أهل المعاني والعربية قالوا الرقيم الكتاب ، والأصل فيه المرقوم ، ثم نقل إلى فعيل ، والرقم الكتابة ، ومنه قوله تعالى :{ كتاب مرقوم } أي مكتوب ، قال الفراء : الرقيم لوح كان فيه أسماؤهم وصفاتهم ، ونظن أنه إنما سمي رقيما لأن أسماءهم كانت مرقومة فيه ، وقيل الناس رقموا حديثهم نقرا في جانب الجبل ، وقوله : { كانوا من آياتنا عجبا } المراد أحسبت أن واقعتهم كانت عجيبة في أحوال مخلوقاتنا فلا تحسب ذلك فإن تلك الواقعة ليست عجيبة في جانب مخلوقاتنا ، والعجب ههنا مصدر سمي المفعول به ، والتقدير كانوا معجوبا منهم ، فسموا بالمصدر والمفعول به من هذا يستعمل باسم المصدر ،