السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{أَمۡ حَسِبۡتَ أَنَّ أَصۡحَٰبَ ٱلۡكَهۡفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنۡ ءَايَٰتِنَا عَجَبًا} (9)

ولما أنّ القوم تعجبوا في قصة أصحاب الكهف وسألوها النبيّ صلى الله عليه وسلم على سبيل الامتحان قال تعالى : { أم حسبت } ، أي : ظننت على ما لك من العقل الرزين والرأي الرصين { أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً } على ما لزم من تهويل السائلين من الكفرة من اليهود والعرب والواقع أنهم كانوا من العجائب ليسوا بعجب بالنسبة إلى كثرة آياتنا فإنّ من كان قادراً على تخليق السماوات والأرض كيف يستبعد من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة مدّة ثلاثمائة سنة وأكثر في النوم والكهف الغار الواسع في الجبل ، واختلف في الرقيم فقيل هو اسم كلبهم قال أمية بن أبي الصلت :

وليس بها إلا الرقيم مجاورا ***

وصيدهم ؛ وهو بكسر الصاد مفعول مجاورا ، أي : فناءهم . والقوم في الكهف هجد ؛ ، أي : نوّم ، وقيل هو لوح من رصاص رقمت فيه أسماؤهم وقصصهم جعل على باب الكهف . قال البغويّ : وهذا أظهر الأقاويل . وقيل : إنّ الناس رقموا حديثهم نقراً في الجبل وقيل هو الوادي الذي فيه الكهف ، وقيل الجبل وقيل قريتهم ، وقيل أصحاب الرقيم قوم آخرون غير أصحاب الكهف كانوا ثلاثة يطلبون الكلأ أو نحوه لأهلهم فأخذهم المطر فأووا إلى الكهف فانحطت صخرة وسدّت عليهم بابه فقال أحدهم : اذكروا أيكم عمل حسنة لعلّ الله يرحمنا ببركته فقال واحد : استعملت أجراء ذات يوم فجاء رجل منهم وسط النهار وعمل في بقيته مثل عملهم فأعطيته مثل أجرهم فغضب أحدهم وترك أجره فوضعته في جانب البيت فمرّ بي بقر فاشتريت فصيلة والفصيلة ولد الناقة إذا انفصل عن أمّه فبلغت ما شاء الله فرجع إليّ بعد حين شيخاً ضعيفاً لا أعرفه وقال : إنّ لي عندك حقاً وذكره حتى عرفته فدفعتها إليه جميعاً اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فأفرج عنا فانصدع عنهم الجبل حتى رأوا الضوء والصدع الشق والصداع وجع الرأس . وقال آخر : كان في فضل وأصاب الناس شدّة فجاءتني امرأة تطلب مني معروفاً فقلت : والله ما هو دون نفسك فأبت وعادت ثم رجعت ثلاثاً ثم ذكرت ذلك لزوجها فقال : أجيبي له وأعيني عيالك فأتت وسلمت إليّ نفسها فلما كشفتها وهممت بها ارتعدت فقلت لها : ما لك ؟ فقالت : أخاف الله تعالى : فقلت لها : خفتيه في الشدّة ولم أخفه في الرخاء فتركتها وأعطيتها ملتمسها اللهمّ إن كنت فعلته لوجهك فأفرج عنا فانصدع حتى تعارفوا . وقال الثالث : كان لي أبوان هرمان وكان لي غنم وكنت أطعمهما وأسقيهما ثم أرجع إلى غنمي فحبسني ذات يوم غيم فلم أرجع حتى أمسيت فأتيت أهلي وأخذت محلبي فحلبت فيه ومضيت إليهما فوجدتهما نائمين فشقّ عليّ أنّ أوقظهما فوقفت حابساً محلبي على يديّ حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما اللهمّ إن كنت فعلت ذلك لوجهك الكريم فأفرج عنا ففرج

الله عنهم فخرجوا وقد رفع ذلك النعمان بن بشير وقد قدّمنا سبب نزول قصة أصحاب الكهف عند قوله تعالى : { ويسألونك عن الروح } [ الإسراء ، 85 ] .

وذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه القصة مشروحاً فقال : كان النضر بن الحرث من شياطين قريش ، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة ، وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث رستم واسفنديار ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلساً ذكر فيه الله تعالى وحذر قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم ، وكان النضر يخلفه في مجلسه إذا قام وقال : أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه فهلموا فأنا أحدثكم بأحسن من حديثه ثم يحدّثهم عن ملوك فارس ثم قال : إنّ قريشاً بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهما سلاهم عن محمد وصفته فإنهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار اليهود عن أحوال محمد فقال لهم اليهود سلوه عن ثلاثة ؛ عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل فإن حديثهم عجيب . وعن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها . وسلوه عن الروح وما هي فإن أخبركم فهو نبيّ وإلا فهو متقول ، فلما قدم النضر وصاحبه مكة قالا قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد وأخبراهم بما قالته اليهود ، فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أخبركم بما سألتم عنه غداً » ، ولم يستثن فانصرفوا عنه فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون خمس عشرة ليلة لم ينزل عليه وحي وشق عليه ذلك ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله بسورة أهل الكهف وفيها معاتبة الله تعالى إياه على جراءته عليهم وفيها خبر أولئك الفتية وخبر الرجل الطوّاف ثم بدأ بالفتية فقال : { إذ } .