ثم بين - سبحانه - للمؤمنين القاعدة التى يسيرون عليها فى مودتهم وعداوتهم وصلتهم ومقاطعتهم . فقال - تعالى - : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتقسطوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } .
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية والتى بعدها روايات منها ، ما أخرجه البخارى وغيره " عن أسماء بنت أبى بكر الصديق قالت : أتتنى أمى راغبة - أى : فى عطائى - وهى مشركة فى عهد قريش . . . فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أأصلها ؟ فأنزل الله - تعالى - : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله } .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نعم صلي أمك " " .
وروى الإمام أحمد وجماعة عن عبد الله بن الزبير قال : قدمت قتيلة بنت عبد العزى - وهى مشركة - على ابنتها اسماء بنت أبى بكر بهدايا ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها ، أو تدخلها بيتها ، حتى أرسلت إلى عائشة ، لكى تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا ، فسألته ، فأنزل الله - تعالى - : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين } .
وقال الحسن وأبو صالح : نزلت هذه الآية فى قبائل من العرب كانوا قد صالحوا النبى - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يقاتلوه ، ولا يعينوا عليه .
وقال مجاهد : نزلت فى قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا ، فكان المهاجرون والأنصار يتحرجون من برهم ، لتركهم فرض الهجرة .
قال الآلوسى - بعد أن ذكر هذه الروايات وغيرهما - : { والأكثرون على أنها فى كفرة اتصفوا بما فى حيز الصلة . . .
والذى تطمئن إليه النفس أن هاتين الآيتين ، ترسمان للمسلمين المنهج الذى يجب أن يسيروا عليه مع غيرهم ، وهو أن من لم يقاتلنا من الكفار ، ولم يعمل أو يساعد على إلحاق الأذى والضرر بنا ، فلا يأس من بره وصلته .
ومن قاتلنا ، وحاول إيذاءنا منهم . فعلينا أن نقطع صلتنا به ، وأن نتخذ كافة الوسائل لردعه وتأديبه ، حتى لا يتجاوز حدودمه معنا .
والمعنى : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله } تعالى - أيها المؤمنون - { عَنِ } مودة وصلى الكافرين { الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ } أي : لم يقاتلوكم من أجل أنكم مسلمون ، ولم يحاولوا إلحاق أى أذى بكم ، كالعمل على إخراجكم من دياركم .
لا ينهاكم الله - تعالى - عن { أَن تَبَرُّوهُمْ } أي : عن أن تحسنوا معاملتهم وتكرموهم . وعن أن { تقسطوا إِلَيْهِمْ } أى تقضوا إليهم بالعدل ، وتعاملوهم بمثل معاملتهم لكم ، ولا تجوروا عليهم فى حكم من الأحكام .
{ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } أي العادلين فى أقوالهم وأفعالهم وأحكامهم ، الذين ينصفون الناس ، ويعطونهم العدل من أنفسهم ، ويحسنون إلى من أحسن إليهم .
وقوله تعالى : { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين ، كالنساء والضعفة منهم ، { أَنْ تَبَرُّوهُمْ } أي : تحسنوا إليهم { وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ } أي : تعدلوا { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا هشام بن عروة ، عن فاطمة بنت المنذر ، عن أسماء - هي بنت أبي بكر ، رضي الله عنهما - قالت : قَدَمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا ، فأتيتُ النبي{[28676]} صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، إن أمي قدمت وهي راغبة ، أفأصلها ؟ قال : " نعم ، صلي أمك " أخرجاه{[28677]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عارم ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا مصعب بن ثابت ، حدثنا عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه قال : قدمت قُتَيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا : صِنَاب وأقط{[28678]} وسمن ، وهي مشركة ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها تدخلها بيتها ، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ، عز وجل : { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } إلى آخر الآية ، فأمرها أن تقبل هديتها ، وأن تدخلها بيتها .
وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث مصعب بن ثابت ، به {[28679]} . وفي رواية لأحمد وابن{[28680]} جرير : " قُتَيلة بنت عبد العزي بن [ عبد ] {[28681]} أسعد ، من بني مالك بن حسل{[28682]} . وزاد ابن أبي حاتم : " في المدة التي كانت بين قريش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وقال أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار : حدثنا عبد الله بن شبيب ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو قتادة العدوي ، عن ابن أخي الزهري ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة وأسماء أنهما قالتا : قدمت علينا أمنا المدينة ، وهي مشركة ، في الهدنة التي كانت بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : يا رسول الله ، إن أمنا قدمت علينا المدينة راغبةً ، أفنصلها ؟ قال : " نعم ، فَصِلاها " {[28683]} .
ثم قال : وهذا الحديث لا نعلمه يروي عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة إلا من هذا الوجه .
قلت : وهو منكر بهذا السياق ؛ لأن أم عائشة هي أم رومان ، وكانت مسلمة مهاجرة وأم أسماء غيرها ، كما هو مصرح باسمها في هذه الأحاديث المتقدمة والله أعلم .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } تقدم تفسير ذلك في سورة " الحجرات " ، وأورد الحديث الصحيح : ( المقسطون على منابر من نور عن يمين العرش ، الذين يعدلون في حكمهم ، وأهاليهم ، وما وَلُوا ) {[28684]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.