ثم بين - سبحانه - أنهم بجانب غفلتهم وجهالتهم ، لا يؤمنون إيماناً صحيحاً فقال - تعالى - { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } .
أى : وما يؤمن أكثر هؤلاء الضالين بالله في إثقرارهم بوجوده ، وفى اعترافهم بأنه هو الخالق ، إلا وهم مشركون به في عقيدتهم وفى عبادتهم وفى تصرفاتهم ، فإنهم مع اعترافهم بأن خالقهم وخالق السموات والأرض هو الله لكنهم مع ذلك كانوا يتقربون إلى أصنامهم بالعبادة ويقولون { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } والآية تشمل كل شرك سواء أكان ظاهراً أم خفياً ، كبيراً أم صغيراً . وقد ساق ابن كثير هنا جملة من الأحاديث في هذا المعنى ، كلها تنهى عن الشرك أياً كان لونه ، منها قوله صلى الله عليه وسلم : " عندما سئل أى الذنب أعظم ؟ قال : " أن تجعل لله نداً وهو خلقك " ومنها قوله ؛ " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " " .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ، قالوا : ما الشرك الأصغر ؟ قال : الرياء " .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : فيما يرويه عن ربه - عز وجل - يقول الله - تعالى - " أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معى غيرى ، تركته وشركه " .
فالآية الكريمة تنهى عن كل شرك ، وتدعو إلى إخلاص العبادة والطاعة لله رب العالمين .
وحتى الذين يؤمنون ، كثير منهم يتدسس الشرك - في صورة من صوره - إلى قلوبهم . فالإيمان الخالص يحتاج إلى يقظة دائمة تنفي عن القلب أولا بأول كل خالجة شيطانية ، وكل اعتبار من اعتبارات هذه الأرض في كل حركة وكل تصرف ، لتكون كلها لله ، خالصة له دون سواه . والإيمان الخالص يحتاج إلى حسم كامل في قضية السلطان على القلب وعلى التصرف والسلوك فلا تبقى في القلب دينونة إلا لله سبحانه ، ولا تبقى في الحياة عبودية إلا للمولى الواحد الذي لا راد لما يريد :
( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) . .
مشركون قيمة من قيم هذه الأرض في تقريرهم للأحداث والأشياء والأشخاص . مشركون سببا من الأسباب مع قدرة الله في النفع أو الضر سواء . مشركون في الدينونة لقوة غير قوة الله من حاكم أو موجه لا يستمد من شرع الله دون سواه . مشركون في رجاء يتعلق بغير الله من عباده على الإطلاق . مشركون في تضحية يشوبها التطلع إلى تقدير الناس . مشركون في جهاد لتحقيق نفع أو دفع ضر ولكن لغير الله . مشركون في عبادة يلحظ فيها وجه مع وجه الله . . لذلك يقول رسول الله [ ص ] : " الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل " .
وفي الأحاديث نماذج من هذا الشرك الخفي :
روى الترمذي - وحسنه - من رواية ابن عمر : " من حلف بغير الله فقد أشرك " .
وروى أحمد وأبو داود وغيره عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] : " إن الرقى والتمائم شرك " .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر قال : قال رسول الله [ ص ] : " من علق تميمة فقد أشرك " .
وعن أبي هريرة - بإسناده - قال : قال رسول الله [ ص ] : " يقول الله : أنا أغني الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشريكه " .
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد ابن أبي فضالة قال : سمعت رسول الله [ ص ] يقول : " إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ينادي مناد : من كان أشرك في عمل عمله لله ، فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك " .
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن محمود بن لبيد أن رسول الله [ ص ] قال : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : " الرياء . يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جاء الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء " ؟
فهذا هو الشرك الخفي الذي يحتاج إلى اليقظة الدائمة للتحرز منه ليخلص الإيمان .
وهناك الشرك الواضح الظاهر ، وهو الدينونة لغير الله في شأن من شؤون الحياة . الدينونة في شرع يتحاكم إليه - وهو نص في الشرك لا يجادل عليه - والدينونة في تقليد من التقاليد كاتخاذ أعياد ومواسم يشرعها الناس ولم يشرعها الله . والدينونة في زي من الأزياء يخالف ما أمر الله به من الستر ويكشف أو يحدد العورات التي نصت شريعة الله أن تستر . .
والأمر في مثل هذه الشؤون يتجاوز منطقة الإثم والذنب بالمخالفة حين يكون طاعة وخضوعا ودينونة لعرف اجتماعي سائد من صنع العبيد ، وتركا للأمر الواضح الصادر من رب العبيد . . إنه عندئذ لا يكون ذنبا ، ولكنه يكون شركا . لأنه يدل على الدينونة لغير الله فيما يخالف أمر الله . . وهو من هذه الناحية أمر خطير .
( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) . .
فتنطبق على من كان يواجههم رسول الله في الجزيرة ، وتشمل غيرهم على تتابع الزمان وتغير المكان .
جملة { وما يؤمن أكثرهم بالله } في موضع الحال من ضمير { يمرون } أي وما يؤمن أكثر الناس إلا وهم مشركون ، والمراد ب { أكثر الناس } أهل الشرك من العرب . وهذا إبطال لما يزعمونه من الاعتراف بأن الله خالقهم كما في قوله تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } ، وبأن إيمانهم بالله كالعدم لأنهم لا يؤمنون بوجود الله إلا في تشريكهم معه غيره في الإلهية .
والاستثناء من عموم الأحوال ، فجملة { وهم مشركون } حال من { أكثرهم } . والمقصود من هذا تشنيع حالهم . والأظهر أن يكون هذا من قبيل تأكيد الشيء بما يشبه ضده على وجه التهكم . وإسناد هذا الحكم إلى { أكثرهم } باعتبار أكثر أحْوالهم وأقوالهم لأنهم قد تصدر عنهم أقوال خلية عن ذكر الشريك . وليس المراد أن بعضاً منهم يؤمن بالله غير مشرك معه إلها آخر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.