50- فأجابه موسى : ربنا الذي منح نعمة الوجود لكل موجود ، وخلقه علي الصورة التي اختارها سبحانه له ، ووجَّهه لما خلق{[126]} .
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك أن موسى قد رد على فرعون ردا يخرسه ويكبته فقال : { قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } .
وقوله { خَلْقَهُ } مصدر بمعنى اسم المفعول ، وهو المفعول الثانى لقوله { أعطى } والمفعول الأول قوله : { كُلَّ شَيءٍ } .
وللعلماء فى تفسير هذه الآية الكريمة اتجاهات يؤيد بعضها بعضا ، منها ما يراه بعضهم من أن معنى الآية الكريمة :
1 - قال موسى فى رده على فرعون : يا فرعون ربنا وربك هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذى أعطى كل مخلوق من مخلوقاته ، وكل شىء من الأشياء ، الصورة التى تلائمه ، والهيئة التى تتحقق معها منفعته ومصلحته ، ثم هداه إلى وظيفته التى خلقه من أجلها ، وأمده بالوسائل والملكات التى تحقق هذه الوظيفة .
وثم فى قوله { ثُمَّ هدى } للتراخى فى الرتبة ، إذ اهتداء المخلوق إلى وظيفته مرتبة تعلو كثيرا عن خلقه دون أن يفقه شيئا .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " أعطى كل شىء صورته وشكله الذى يطابق المنفعة المنوطة به ، كما أعطى العين الهيئة التى تطابق الإبصار ، والذن الشكل الذى يطابق المنفعة المنوط به ، كما أعطى العين الهيئة التى تطابق الإبصار ، والأذن الشكل الذى يوافق الاستماع ، وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان ، كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه .
{ ثُمَّ هدى } أى : عرفه كيف يرتفق بما أعطى ، وكيف يتوصل إليه ولله در هذا الجواب ، وما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ، ونظر بعين الإنصاف وكان طالبا للحق .
2 - ومنهم من يرى أن المعنى : قال موسى لفرعون : ربنا الذى أعطى كل شىء نظير خلقه فى الصورة والهيئة ، كالذكور من بنى آدم ، أعطاهم نظير خلقهم من الإناث أزواجا ، وكالذكور من البهائم أعطاها نظير خلقها فى صورتها وهيئها فى صورتها وهيئها من الإناث أزواجا . . ثم هدى الجميع لسائر منافعهم من المطاعم والمشارب ووسائل التناسل .
وقد صدر الإمام ابن جرير تفسيره للآية بهذا المعنى فقال ما ملخصه : وقوله : { قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ } يعنى نظير خلقه فى الصورة والهيئة . . ثم هداهم للمأتى الذى منه النسل والنماء كيف يأتيه ، ولسائر منافعه من المطاعم والمشارب وغير ذلك .
3 - ويرى بعضهم أن : المعنى أعطى كل شىء صلاحه ثم هداه إلى ما يصلحه .
4 - ومنهم من يرى أن قوله { خَلْقَهُ } هو المفعول الأول لأعطى ، وأن قوله { كُلَّ شَيءٍ } هو المفعول الثانى فيكون المعنى : قال موسى لفرعون : ربنا الذى أعطى الخلائق كل شىء يحتاجون إليه ، ثم هداهم إلى طريق استعماله والانتفاع به .
ويبدو لنا أن الآية الكريمة تتسع لهذه المعانى جميعها لأنه - سبحانه - هو الذى أعطى خلقه كل شىء يحتاجون إليه فى معاشهم ، ثم هداهم إلى طرق الانتفاع بما أعطاهم كما أعطى كل نوع من أنواع خلقه الصورة التى تناسبه ، والشكل الذى يتناسب مع جنسه { صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ . . . }
فأما موسى - عليه السلام - فيرد بالصفة المبدعة المنشئة المدبرة من صفات الله تعالى : ( قال : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) . . ربنا الذي وهب الوجود لكل موجود في الصورة التي أوجده بها وفطره عليها . ثم هدى كل شيء إلى وظيفته التي خلقه لها ؛ وأمده بما يناسب هذه الوظيفة ويعينه عليها . وثم هنا ليست للتراخي الزمني . فكل شيء مخلوق ومعه الاهتداء الطبيعي الفطري للوظيفة التي خلق لها ، وليس هناك افتراق زمني بين خلق المخلوق وخلق وظيفته . إنما هو التراخي في الرتبة بين خلق الشيء واهتدائه إلى وظيفته ؛ فهداية كل شيء إلى وظيفته مرتبة أعلى من خلقه غفلا . .
وهذا الوصف الذي يحكيه القرآن الكريم عن موسى - عليه السلام - يلخص أكمل آثار الألوهية الخالقة المدبرة لهذا الوجود : هبة الوجود لكل موجود . . وهبة خلقه على الصورة التي خلق بها . وهبة هدايته للوظيفة التي خلق لها . . وحين يجول الإنسان ببصره وبصيرته - في حدود ما يطيق - في جنبات هذا الوجود الكبير تتجلى له آثار تلك القدرة المبدعة المدبرة في كل كائن صغير أو كبير . من الذرة المفردة إلى أضخم الأجسام ، ومن الخلية الواحدة إلى أرقى أشكال الحياة في الإنسان .
هذا الوجود الكبير المؤلف مما لا يحصى من الذرات والخلايا ، والخلائق والأحياء ؛ وكل ذرة فيه تنبض ، وكل خلية فيه تحيا ، وكل حي فيه يتحرك ، وكل كائن فيه يتفاعل أو يتعامل مع الكائنات الأخرى . . وكلها تعمل منفردة ومجتمعة داخل إطار النواميس المودعة في فطرتها وتكوينها بلا تعارض ولا خلل ولا فتور في لحظة من اللحظات !
وكل كائن بمفرده كون وحده وعالم بذاته ، تعمل في داخله ذراته وخلاياه وأعضاؤه وأجهزته وفق الفطرة التي فطرت عليها ، داخل حدود الناموس العام ، في توافق وانتظام .
وكل كائن بمفرده - ودعك من الكون الكبير - يقف علم الإنسان وجهده قاصرا محدودا في دراسة خواصه ووظائفه وأمراضه وعلاجه . دراستها مجرد دراسة لا خلقها ولا هدايتها إلى وظائفها ، فذلك خارج كلية عن طوق الإنسان . وهو خلق من خلق الله . . وهبه وجوده ، على الهيئة التي وجد بها ? للوظيفة التي خلق لها ، كأي شيء من هاته الأشياء !
إلا أنه للإله الواحد . . ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . .
تولى موسى الجواب لأنّه خصّ بالسؤال بسبب النّداء له دون غيره .
وأجاب موسى بإثبات الربوبية لله لجميع الموجودات جرياً على قاعدة الاستدلال بالكلية على الجزئية بحيث ينتظم من مجموعهما قياس ، فإن فرعون من جملة الأشياء ، فهو داخل في عموم { كل شيء } .
و { كُلَّ شَيْءٍ } مفعول أول ل { أعطى } . و { خَلْقَهُ } مفعوله الثاني .
والخلق : مصدر بمعنى الإيجاد . وجيء بفعل الإعطاء للتنبيه على أنّ الخلق والتكوين نعمة ، فهو استدلال على الربوبية وتذكير بالنعمة معاً .
ويجوز أن يكون الخلق بالمعنى الأخصّ ، وهو الخَلق على شكل مخصوص ، فهو بمعنى الجَعْل ، أي الذي أعطى كل شيء من الموجودات شكله المختصّ به ، فكُونت بذلك الأجناسُ والأنواع والأصناف والأشخاص من آثار ذلك الخلق .
ويجوز أن يكون { كُلَّ شَيْءٍ } مفعولاً ثانياً ل { أعطى } ومفعوله الأول { خَلْقَهُ } ، أي أعطى خلقه ما يحتاجونه ، كقوله : { فأخرجنا به نبات كل شيء } [ الأنعام : 99 ] . فتركيب الجملة صالح للمعنيين .
والاستغراق المستفاد من ( كلّ ) عُرفي ، أي كل شيء من شأنه أن يعطاه أصنافُ الخلق ويناسب المعطي ، أو هو استغراق على قصد التوزيع بمقابلة الأشياء بالخلق ، مثل : ركب القوم دوابّهم .
والمعنى : تأمل وانظر هل أنتَ أعطيت الخَلق أوْ لاَ ؟ فلا شك أنه يعلم أنّه ما أعطى كلّ شيء خلقه ، فإذا تأمل علم أن الرب هو الذي أفاض الوجود والنّعم على الموجودات كلّها ، فآمن به بعنوان هذه الصفة وتلك المعرفة الموصّلة إلى الاعتقاد الحق .
و ( ثُم ) للترتيب بمعنييْه الزمني والرتبي ، أي خلق الأشياء ثمّ هدى إلى ما خلقهم لأجله ، وهداهم إلى الحق بعد أن خلقهم ، وأفاض عليهم النّعم ، على حد قوله تعالى : { ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين } [ البلد : 8 10 ] أي طريقي الخير والشرّ ، أي فرّقنا بينهما بالدلائل الواضحة .
قال الزمخشري في « الكشاف » : « ولله درّ هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالباً للحق » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.