ثم بين - سبحانه - حكما آخر فقال : { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } .
أى واللذان يأتيان فاحشة الزنا من رجالكم ونسائكم فآذوهما بالشتم والتوبيخ والزجر الشديد ليندما على ما فعلا وليرتدع سواهما بهما .
وقد اختلف العلماء فى المراد بقوله { واللذان } .
فمنهم من قال المراد بهما الرجل والمرأة البكران اللذان لم يحصنا .
ومنهم من قال المراد بهما الرجلان يفعلان اللواط .
ومنهم من قال المراد بهما الرجل والمرأة لا فرق بين بكر وثيب .
والمختار عند كثير من العلماء هو الرأى الأول ، قالوا : لأن الله - تعالى - ذكر فى هاتين الآيتين حكمين :
والثاني : الإِيذاء ، ولا شك أن من حكم عليه بالأول خلاف من حكم عليه بالثاني ، والشرع يخفف فى البكر ويشدد على الثيب ، ولذلك لما نسخ هذا الحكم جعل للثيب الرجم وللبكر الجلد ، فجعلنا الحكم الشديد وهو الحبس على الثيب ، والحكم الأخف وهو الإِيذاء على البكر .
قالوا : وقد نسخ حكم هذه الآية بآية النور ، حيث جعل حكم الزانيين اللذين لم يحصنا جلد مائة .
فقد أخرجه ابن جرير عن الحسن البصرى وعكرمة قالا فى قوله - تعالى - { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } الآية ، نسخ ذلك بآية الجلد وهى قوله - تعالى - فى سورة النور : { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } الآية .
ومن العلماء من قال بأن هذه الآية غير منسوخة بآية النور ، فإن العقوبة ذكرت هنا مجملة غير واضحة المقدار لأنا مجرد الإِيذاء ، وذكرت بعد ذلك مفصلة بينة المقدار فى سورة النور . أى أن ما ذكر هنا من قبيل المجمل ، وما ذكر فى سورة النور من قبيل المفصل ، وأنه لا نسخ بين الآيتين .
هذا ، ولأبى مسلم الأصفهاني رأى آخر فى تفسير هاتين الآيتين ، فهو يرى أن المراد باللاتى فى قوله { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ } النساء السحاقات اللاتى يستمتع بعضهن ببعض وحدهن الحبس ، والمراد بقوله { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } اللائطون من الرجال وحدهم الإِيذاء وأما حكم الزناة فسيأتى فى سورة النور .
قال الآلوسى : وقد زيف هذا القول بأنه لم يقل به أحد ، وبأن الصحابة قد اختلفوا فى حكم اللوطى ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية ، وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على الحكم دليل على أن الآية ليست فى ذلك .
وأيضا جعل الحبس فى البيت عقوبة السحاق لا معنى له . لأنه مما لا يتوقف على الخروج كالزنا . فلو كان المراد السحاقات لكانت العقوبة لهن عدم اختلاط بعضهن ببعض لا الحبس والمنع من الخروج . وحيث جعل هو عقوبة دل ذلك على أن المراد باللاتى يأتين الفاحشة الزانيات . . .
والذى نراه أن هذا الحكم المذكور فى الآيتين منسوخ ، بعضه بالكتاب وبعضه بالسنة .
أما الكتاب فهو قوله - تعالى - فى سورة النور { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } الآية .
وأما السنة فحديث عباده بن الصامت الذى سبق ذكره .
وإنما قلنا ذلك لأن ظاهر الآيتين يدل على أن ما ذكر فيهما من الحبس والإِيذاء بعد نزول آية سورة النور . بل الثابت عنه أنه كان يجلد البكر من الرجال والنساء ، ويرجم المحصن منهما ، ولم يضم إلى إحدى هاتين العقوبتين حبسا أو إيذاء ، فثبت أن هذا الحكم المذكور فى الآيتين قد نسخ .
ثم بين - سبحانه - الحكم فيما إذا أقلع الزانى والزانية عن جريمتهما فقال : { فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } .
أى فإن تابا فعلا من الفاحشة ، وأصلحا أعمالهما { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ } أى فاصفحوا عنهما وكفوا عن أذاهما { إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً } أى مبالغا فى قبول التوبة ممن تاب توبة صادقة نصوحا { رَّحِيماً } أى واسع الرحمة بعباده الذين لا يصرون على معصية بل يتوبون إليه منها توبة صادقة .
( واللذان يأتيانها منكم فآذوهما . فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما ) .
والأوضح أن المقصود بقوله تعالى : ( واللذان يأتيانها منكم . . . ) هما الرجلان يأتيان الفاحشة الشاذة . وهو قول مجاهد - رضي الله عنه - وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما : ( فآذوهما ) : هو الشتم والتعيير والضرب بالنعال !
( فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ) . .
فالتوبة والإصلاح - كما سيأتي - تعديل أساسي في الشخصية والكينونة والوجهة والطريق والعمل والسلوك . ومن ثم تقف العقوبة ، وتكف الجماعة عن إيذاء هذين المنحرفين الشاذين . وهذا هو الاعراض عنهما في هذا الموضع : أي الكف عن الإيذاء .
( إن الله كان توابا رحيما ) . .
وهو الذي شرع العقوبة ، وهو الذي يأمر بالكف عنها عند التوبة والإصلاح . ليس للناس من الأمر شيء في الأولى ، وليس لهم من الأمر شيء في الأخيرة . إنما هم ينفذون شريعة الله وتوجيهه . وهو تواب رحيم . يقبل التوبة ويرحم التائبين .
واللمسة الثانية في هذه الإيماءة ، هي توجيه قلوب العباد للاقتباس من خلق الله والتعامل فيما بينهم بهذا الخلق . وإذا كان الله توابا رحيما ، فينبغي لهم أن يكونوا هم فيما بينهم متسامحين رحماء ؛ أمام الذنب الذي سلف ، وأعقبه التوبة والإصلاح . إنه ليس تسامحا في الجريمة ، وليس رحمة بالفاحشين . فهنا لا تسامح ولا رحمة . ولكن سماحة ورحمة بالتائبين المتطهرين المصلحين ، وقبولهم في المجتمع ، وعدم تذكيرهم وتعييرهم بما كان منهم من ذنب تابوا عنه ، وتطهروا منه ، وأصلحوا حالهم بعده ، فينبغي - حينئذ - مساعدتهم على استئناف حياة طيبة نظيفة كريمة ، ونسيان جريمتهم حتى لا تثير في نفوسهم التأذي كلما واجهوا المجتمع بها ؛ مما قد يحمل بعضهم على الانتكاس والارتكاس ، واللجاج في الخطيئة ، وخسارة أنفسهم في الدنيا والآخرة . والإفساد في الأرض ، وتلويث المجتمع ، والنقمة عليه في ذات الأوان .
وقد عدلت هذه العقوبة كذلك - فما بعد - فروى أهل السنن حديثا مرفوعا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : [ قال رسول الله [ ص ] : " من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " ] .
وتبدو في هذه الأحكام عناية المنهج الإسلامي بتطهير المجتمع المسلم من الفاحشة ؛ ولقد جاءت هذه العناية مبكرة : فالإسلام لم ينتظر حتى تكون له دولة في المدينة ، وسلطة تقوم على شريعة الله ، وتتولاها بالتنفيذ . فقد ورد النهي عن الزنا في سورة الإسراء المكية : ( ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) كما ورد في سورة المؤمنون : ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ) . . . ( والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم فإنهم غير ملومين ) . . وكرر هذا القول في سورة المعارج .
ولكن الإسلام لم تكن له في مكة دولة ، ولم تكن له فيها سلطة ؛ فلم يسن العقوبات لهذه الجريمة التي نهى عنه في مكة ، إلا حين استقامت له الدولة والسلطة في المدينة ، ولم يعتبر النواهي والتوجيهات وحدها كافيةلمكافحة الجريمة ، وصيانة المجتمع من التلوث . لأن الإسلام دين واقعي ، يدرك أن النواهي والتوجيهات وحدها لا تكفي ، ويدرك أن الدين لا يقوم بدون دولة وبدون سلطة . وإن الدين هو المنهج أو النظام الذي تقوم عليه حياة الناس العملية ، وليس مجرد مشاعر وجدانية تعيش في الضمير ، بلا سلطة وبلا تشريع ، وبلا منهج محدد ، ودستور معلوم !
ومنذ أن استقرت العقيدة الإسلامية في بعض القلوب في مكة ، أخذت هذه العقيدة تكافح الجاهلية في هذه القلوب ، وتطهرها وتزكيها . فلما أن أصبحت للإسلام دولة في المدينة ، وسلطة تقوم على شريعة معلومة ، وتحقق في الأرض منهج الله في صورة محددة ، أخذ يزاول سلطته في صون المجتمع من الفاحشة عن طريق العقوبة والتأديب - إلى جانب التوجيه والموعظة - فالإسلام كما قلنا ليس مجرد اعتقاد وجداني في الضمير ، إنما هو - إلى جانب ذلك - سلطان ينفذ في واقع الحياة ذلك الاعتقاد الوجداني ، ولا يقوم أبدا على ساق واحدة .
وكذلك كان كل دين جاء من عند الله . على عكس ما رسخ خطأ في بعض الأذهان من أن هناك أديانا سماوية جاءت بغير شريعة ، وبغير نظام ، وبغير سلطان . . كلا ! فالدين منهج للحياة . منهج واقعي عملي . يدين الناس فيه لله وحده ، ويتلقون فيه من الله وحده . يتلقون التصور الاعتقادي والقيم الأخلاقية ، كما يتلقون الشرائع التي تنظم حياتهم العملية . وتقوم على هذه الشرائع سلطة تنفذها بقوة السلطان في حياة الناس ، وتؤدب الخارجين عليها وتعاقبهم ، وتحمي المجتمع من رجس الجاهلية . لتكون الدينونة لله وحده ، ويكون الدين كله لله . أي لا تكون هناك آلهة غيره - في صورة من الصور - آلهة تشرع للناس ، وتضع لهم القيم والموازين ، والشرائع والأنظمة . فالإله هو الذي يصنع هذا كله . وأيما مخلوق ادعى لنفسه الحق في شيء من هذا فقد ادعى لنفسه الألوهية على الناس . . وما من دين من عند الله يسمح لبشر أن يكون إلها ، وأن يدعي لنفسه هذه الدعوى ، ويباشرها . . ومن ثم فإنه ما من دين من عند الله يجيء اعتقادا وجدانيا صرفا ، بلا شريعة عملية ، وبلا سلطان ينفذ به هذه الشريعة !
وهكذا أخذ الإسلام في المدينة يزاول وجوده الحقيقي ؛ بتطهير المجتمع عن طريق التشريع والتنفيذ ، والعقوبة والتأديب . على نحو ما رأينا في هذه الأحكام التي تضمنتها هذه السورة ، والتي عدلت فيما بعد ، ثم استقرت على ذلك التعديل . كما أرادها الله .
ولا عجب في هذه العناية الظاهرة بتطهير المجتمع من هذه الفاحشة ؛ والتشدد الظاهر في مكافحتها بكل وسيلة . فالسمة الأولى للجاهلية - في كل زمان - كما نرى في جاهليتنا الحاضرة التي تعم وجه الأرض - هي الفوضى الجنسية ، والانطلاق البهيمي ، بلا ضابط من خلق أو قانون . واعتبار هذه الاتصالات الجنسية الفوضوية مظهرا من مظاهر " الحرية الشخصية " لا يقف في وجهها إلا متعنت ! ولا يخرج عليها إلا متزمت !
ولقد يتسامح الجاهليون في حرياتهم " الإنسانية " كلها ، ولا يتسامحون في حريتهم " البهيمية " هذه ! وقد يتنازلون عن حرياتهم تلك كلها ، ولكنهم يهبون في وجه من يريد أن ينظم لهم حريتهم البهيمية ويطهرها !
وفي المجتمعات الجاهلية تتعاون جميع الأجهزة على تحطيم الحواجز الأخلاقية ، وعلى إفساد الضوابط الفطرية في النفس الإنسانية ، وعلى تزيين الشهوات البهيمية ووضع العناوين البريئة لها ، وعلى إهاجة السعار الجنسي بشتى الوسائل ، ودفعه إلى الإفضاء العملي بلا ضابط ، وعلى توهين ضوابط الأسرة ورقابتها ، وضوابط المجتمع ورقابته ، وعلى ترذيل المشاعر الفطرية السليمة التي تشمئز من الشهوات العارية ، وعلى تمجيد هذهالشهوات وتمجيد العري العاطفي والجسدي والتعبيري !
كل هذا من سمات الجاهلية الهابطة التي جاء الإسلام ليطهر المشاعر البشرية والمجتمعات البشرية منها . وهي هي بعينها سمة كل جاهلية . . والذي يراجع إشعار امرىء القيس في جاهلية العرب يجد لها نظائر في إشعار الجاهلية الإغريقية والجاهلية الرومانية . . كما يجد لها نظائر في الآداب والفنون المعاصرة في جاهلية العرب والجاهليات الأخرى المعاصرة أيضا ! كما أن الذي يراجع تقاليد المجتمع ، وتبذل المرأة ، ومجون العشاق ، وفوضى الاختلاط في جميع الجاهليات قديمها وحديثها يجد بينها كلها شبها ورابطة ، ويجدها تنبع من تصورات واحدة ، وتتخذ لها شعارات متقاربة !
ومع أن هذا الانطلاق البهيمي ينتهي دائما بتدمير الحضارة وتدمير الأمة التي يشيع فيها - كما وقع في الحضارة الإغريقية ، والحضارة الرومانية ، والحضارة الفارسية قديما - وكما يقع اليوم في الحضارة الأوروبية وفي الحضارة الأمريكية كذلك ، وقد أخذت تتهاوى على الرغم من جميع مظاهر التقدم الساحق في الحضارة الصناعية . الأمر الذي يفزع العقلاء هناك . وإن كانوا يشعرون - كما يبدو من أقوالهم - بأنهم أعجز من الوقوف في وجه التيار المدمر !
مع أن هذه هي العاقبة ، فإن الجاهليين - في كل زمان وفي كل مكان - يندفعون إلى الهاوية ، ويقبلون أن يفقدوا حرياتهم " الإنسانية " كلها أحيانا ، ولا يقبلون أن يقف حاجز واحد في طريق حريتهم " البهيمية " . ويرضون أن يستعبدوا استعباد العبيد ، ولا يفقدوا حق الانطلاق الحيواني !
وهو ليس انطلاقا ، وليس حرية . إنما هي العبودية للميل الحيواني والانتكاس إلى عالم البهيمة ! بل هم أضل ! فالحيوان محكوم - في هذا - بقانون الفطرة ، التي تجعل للوظيفة الجنسية مواسم لا تتعداها في الحيوان ، وتجعلها مقيدة دائما بحكمة الإخصاب والإنسال . فلا تقبل الأنثى الذكر إلا في موسم الإخصاب ، ولا يهاجم الذكر الأنثى إلا وهي على استعداد ! أما الإنسان فقد تركه الله لعقله ؛ وضبط عقله بعقيدته . فمتى انطلق من العقيدة ، ضعف عقله أمام الضغط ، ولم يصبح قادرا على كبح جماح النزوة المنطلقة في كيانه . ومن ثم يستحيل ضبط هذا الاندفاع وتطهير وجه المجتمع من هذا الرجس ، إلا بعقيدة تمسك بالزمام ، وسلطان يستمد من هذه العقيدة ، وسلطة تأخذ الخارجين المتبجحين بالتأديب والعقوبة . وترد الكائن البشري بل ترفعه من درك البهيمة إلى مقام " الإنسان " الكريم على الله .
والجاهلية التي تعيش فيها البشرية ، تعيش بلا عقيدة ، كما تعيش بلا سلطة تقوم على هذه العقيدة ، ومن ثم يصرخ العقلاء في الجاهليات الغربية ولا يستجيب لهم أحد ؛ لأن أحدا لا يستجيب لكلمات طائرة في الهواء ليس وراءها سلطة تنفيذية وعقوبات تأديبية . وتصرخ الكنيسة ويصرخ رجال الدين ولا يستجيب لهم أحد ؛ لأن أحدا لا يستجيب لعقيدة ضائعة ليس وراءها سلطة تحميها ، وتنفذ توجيهاتها وشرائعها ! وتندفع البشرية إلى الهاوية بغير ضابط من الفطرة التي أودعها الله الحيوان ! وبغير ضابط من العقيدة والشريعة التي أعطاها الله الإنسان !
وتدمير هذه الحضارة هو العاقبة المؤكدة ، التي توحي بها كل تجارب البشرية السابقة . مهما بدا من متانة هذه الحضارة ، وضخامة الأسس التي تقوم عليها . " فالإنسان " - بلا شك - هو أضخم هذه الأسس . ومتى دمر الإنسان ، فلن تقوم الحضارة على المصانع وحدها ، ولا على الإنتاج !
وحين ندرك عمق هذه الحقيقة ، ندرك جانبا من عظمة الإسلام ، في تشديد عقوباته على الفاحشة لحماية " الإنسان " من التدمير ؛ كي تقوم الحياة الإنسانية على أساسها الإنساني الأصيل . كما ندرك جانبا من جريمة الأجهزة التي تدمر أسس الحياة الإنسانية بتمجيد الفاحشة وتزيينها ، وإطلاق الشهوات البهيمية من عقالها ، وتسمية ذلك أحيانا " بالفن " وأحيانا " بالحرية " وأحيانا " بالتقدمية " . . وكل وسيلة من وسائل تدمير " الإنسان " ينبغي تسميتها باسمها . . جريمة . . كما ينبغي الوقوف بالنصح والعقوبة في وجه هذه الجريمة ! . .
وهذا ما يصنعه الإسلام . والإسلام وحده ؛ بمنهجه الكامل المتكامل القويم .
قوله { والذان يأتيانها } فهو مقتض نوعين من الذكور فإنّه تثنية الذي وهو اسم موصول للمذكّر ، وقد قوبل به اسمُ موصول النساء الذي في قوله : { واللاّتي يأتين الفاحشة } ولا شكّ أنّ المراد ب { اللذان } صنفان من الرجال : وهما صنف المحصنين ، وصنف غير المحصنين منهم ، وبذلك فسّره ابن عباس في رواية مجاهد ، وهو الوجه في تفسير الآية ، وبه يتقوّم معنى بيِّن غير متداخل ولا مُكَرّر .
ووجه الإشعار بصنفي الزناة من الرجال التحرّز من التماس العذر فيه لغير المحصنين . ويجوز أن يكون أطلق على صنفين مختلفين أي الرجال والنساء على طريقة التغليب الذي يكثر في مثله ، وهو تفسير السدّي وقتادة ، فعلى الوجه الأول تكون الآية قد جعلت للنساء عقوبة واحدة على الزنى وهي عقوبة الحبس في البيوت ، وللرجال عقوبة على الزنى ، هي الأذى سواء كانوا محصنين بزوجات أم غير محصنين ، وهم الأعزبون . وعلى الوجه الثاني تكون قد جعلت للنساء عقوبتين : عقوبة خاصّة بهنّ وهي الحبس ، وعقوبة لهنّ كعقوبة الرجال وهي الأذى ، فيكون الحبس لهنّ مع عقوبة الأذى . وعلى كلا الوجهين يستفاد استواء المحصن وغير المحصن من الصنفين في كلتا العقوبتين ، فأمّا الرجال فبدلالة تثنية اسم الموصول المراد بها صنفان اثنان ، وأمّا النساء فبدلالة عموم صيغة { نسائكم } .
وضمير النصب في قوله : { يأتيانها } عائد إلى الفاحشة المذكورة وهي الزنا . ولا التفات لكلام من توهّم غير ذلك . والإيذاء : الإيلام غير الشديد بالفعل كالضرب غير المبرح ، والإيلام بالقول من شتم وتوبيخ ، فهو أعمّ من الجلد ، والآية أجملته ، فهو موكول إلى اجتهاد الحاكم .
وقد اختلف أيمّة الإسلام في كيفية انتزاع هذين العقوبتين من هذه الآية : فقال ابن عباس ، ومجاهد : اللاتي يأتين الفاحشة يعمّ النساء خاصّة فشمل كلّ امرأة في سائر الأحوال بكراً كانت أم ثيّبا ، وقوله : { واللذان } تثنية أريد بها نوعان من الرجال وهم المحصن والبكر ، فيقتضي أنّ حكم الحبس في البيوت يختصّ بالزواني كلّهنّ ، وحكم الأذى يختصّ بالزناة كلّهم ، فاستفيد التعميم في الحالتين إلاّ أن استفادته في الأولى من صيغة العموم ، وفي الثانية من انحصار النوعين ، وقد كان يغني أن يقال : واللاتي يأتين ، والذين يأتون ، إلاّ أنّه سلك هذا الأسلوب ليحصل العموم بطريقين مع التنصيص على شمول النوعين .
وجُعل لفظ ( اللاتى ) للعموم ليستفاد العموم من صيغة الجمع فقط .
وجعل لفظ و { اللذان } للنوعين لأنّ مفرده وهو الذي صالح للدلالة على النوع ، إذ النوع يعبّر عنه بالمذكَّر مثل الشخص ، ونحو ذلك ، وحصل مع ذلك كلّه تفنّن بديع في العبارة فكانت بمجموع ذلك هاته الآية غاية في الإعجاز ، وعلى هذا الوجه فالمراد من النساء معنى ما قابل الرجال وهذا هو الذي يجدر حمل معنى الآية عليه .
والأذى أريد به هنا غير الحبس لأنّه سبق تخصيصه بالنساء وغير الجلد ، لأنّه لم يشرع بعدُ ، فقيل : هو الكلام الغليظ والشتم والتعيير . وقال ابن عباس : هو النيل باللسان واليد وضرب النعال ، بناء على تأويله أنّ الآيةَ شرعت عقوبة للزنا قبل عقوبة الجلد .
واتّفق العلماء على أنّ هذا حكم منسوخ بالجلد المذكور في سورة النور ، وبما ثبت في السنّة من رجم المحصنين وليس تحديد هذا الحكم بغايةِ قوله : { أو يجعل الله لهن سبيلاً } بصارف معنى النسخ عن هذا الحكم كما توهّم ابن العربي ، لأنّ الغاية جعلت مبهمة ، فالمسلمون يترقّبون ورود حكم آخر ، بعد هذا ، لا غِنى لهم عن إعلامهم به .
واعلَمْ أنّ شأن النسخ في العقوبات على الجرائم التي لم تكن فيها عقوبة قبل الإسلام ، أن تنسخ بأثقل منها ، فشرع الحبس والأذى للزناة في هذه السورة ، وشرع الجلد بآية سورة النور ، والجلد أشدّ من الحبس ومن الأذى ، وقد سوّي في الجلد بين المرأة والرجل ، إذ التفرقة بينهما لا وجه لبقائها ، إذ كلاهما قد خرق حكماً شرعياً تبعا لشهوة نفسية أو طاعة لغيره .
ثم إنّ الجلد المعيَّن شرع بآية سورة النور مطلقاً أو عامّا على الاختلاف في محمل التعريف في قوله : { الزانية والزاني } [ النور : 2 ] ؛ فإن كان قد وقع العمل به كذلك في الزناة والزواني : محصنين أو أبكاراً ، فقد نسخه الرجم في خصوص المحصنين منهم ، وهو ثابت بالعمل المتواتر ، وإن كان الجلد لم يعمل به إلاّ في البكرين فقد قيّد أو خصّص بغير المحصنين ، إذ جعل حكمهما الرجم . والعلماء متّفقون على أنّ حكم المحصنين من الرجال والنساء الرجم . والمحصن هو من تزوّج بعقد شرعي صحيح ووقع البناء بعد ذلك العقد بناء صحيحاً . وحكم الرجم ثبت من قبل الإسلام في شريعة التوراة للمرأة إذا زنت وهي ذات زوج ، فقد أخرج مالك ، في « الموطأ » ، ورجال الصحيح كلّهم ، حديث عبد الله بن عمر : أنّ اليهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أنّ رجلاً وامرأة زنيا ، فقال رسول الله " ما تجدون في التوراة في شأن الرجم " فقالوا « نفضحهم ويجلدون » فقال عبد الله بن سلام « كذبتم إنّ فيها الرجم » فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام « ارفع يدك » فرفع يده فإذا فيها آية الرجم . فقالوا : « صدق يا محمد فيها آية الرجم » فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجما وقد ذكر حكم الزنا في سفر التثنية ( 22 ) فقال " إذا وجد رجل مضطجعاً مع امرأة زوجةِ بعلٍ يُقتل الاثنان ، وإذا وجد رجل فتاة عذراء غير مخطوبة فاضطجع معها فوُجدا ، يعطي الرجل الذي اضطجع معها لأبي الفتاة خمسين من الفضّة وتكون هي له زوجة ولا يقدر أن يطلّقها كلّ أيّامه " . وقد ثبت الرجم في الإسلام بما رواه عبادة بن الصامت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خذوا عني خذوا عني . قد جعل الله لهنّ سبيلاً ، البكر بالبكر ضرب مائة وتغريب عام ، والثيّب بالثيّب جلد مائة والرجم " .
ومقتضاه الجمع بين الرجم والجلد ، ولا أحسبه إلاّ توهّما من الراوي عن عبادة أو اشتبه عليه ، وأحسب أنّه لذلك لم يعمل به العلماء فلا يجمع بين الجلد والرجم . ونسب ابن العربي إلى أحمد بن حنبل الجمع بين الرجم والجلد . وهو خلاف المعروف من مذهبه . وعن علي بن أبي طالب أنه جمع بين الجلد والرجم . ولم يصحّ . ثم ثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في القضاء بالرجم ثلاثة أحاديث : أوّلها قضيّة ماعز بن مالك الأسلمي ، أنّه جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا فأعرض عنه ثلاث مرّات ثم بعث إلى إهله فقال : به جنون ؟ قالوا : لا ، وأبكر هو أم ثيّب ؟ قالوا : بل ثيِّب . فأمر به فرجم .
الثاني : قضيّة الغامدية ، أنّها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترفت بالزنا وهي حبلى فأمرها أن تذهب حتّى تضع ، ثم حتّى ترضعه ، فلمّا أتمّت رضاعه جاءت فأمر بها فرجمت .
الثالث : حديث أبي هريرة ، وخالد الجهني ، أنّ رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله . وقال الآخر وهو أفقههما : أجَلْ يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله واذَنْ لي في أن أتكلّم ؟ قال : تكَلَّمْ . قال : إنّ ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي ، ثم إنّي سألت أهلَ العلم فأخبروني أنَمَّا على ابني جلدُ مائة وتغريب عام ، وأخبروني أنّما الرجم على امرأته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَا والذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله ، أمَّا غنمك وجاريتك فرَدٌّ عليك وجلَد ابنه مائة وغربه عاما واغْدُ يا أُنَيْسُ ( هو أُنيْس بن الضَّحاك ويقال ابن مرثد الأَسلَمي ) على زوجةِ هذا ، فإن اعترفت فارجُمها ، فاعترفت فرَجَمَها . قال مالك والعسيف الأجير . هذه الأحاديث مرسل منها اثنان في « الموطأ » ، وهي مسندة في غيره ، فثبت بها وبالعمل حكم الرجم للمحصنَيْن ، قال ابن العربي : هو خبر متواتر نسخ القرآن . يريد أنّه متواتر لدى الصحابة فلتواتره أجمعوا على العمل به . وأمّا ما بلغ إلينا وإلى ابن العربي وإلى من قبله فهو أخبار آحاد لا تبلغ مبلغ متواتر ، فالحقّ أنّ دليل رجم المحصنين هو ما نقل إلينا من إجماع الصحابة وسنتعرّض إلى ذلك في سورة النور ، ولذلك قال بالرجم الشافعي مع أنّه لا يقول بنسخ القرآن بالسّنة .
والقائلون بأنّ حكم الرجم ناسخ لحكم الحبْس في البيوت قائلون بأنّ دليل النسخ هو حديث قد : { جعل الله لهن سبيلاً } وفيه ( والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ) فتضمنّ الجلد ، ونسب هذا القول للشافعي وجماعة ، وأورد الجصّاص على الشافعي أنّه يلزمه أنّ القرآن نُسخ بالسنّة ، وأنّ السنّة نسخت بالقرآن ، وهو لا يرى الأمرين ، وأجاب الخطابي بأنّ آية النساء مغياة ، فالحديث بيَّن الغاية ، وأنّ آية النور نزلت بعد ذلك ، والحديث خصّصها من قبلِ نزولها .
قلت : وعلى هذا تكون آية النور نزلت تقريراً لبعض الحكم الذي في حديث الرجم ، على أنّ قوله : إنّ آية النساء مغيّاة ، لا يُجدي لأنّ الغاية المبهمة لمّا كان بيانها إبطالا لحكم المغيَّى فاعتبارُها اعتبارُ النسخ ، وهل النسخ كلّه إلاّ إيذان بوصول غاية الحكم المرادة لله غير مذكورة في اللفظ ، فذكرها في بعض الأحكام على إبهامها لا يكسو النزول غير شعار النسخ . وقال بعضهم شُرع الأذى ثم نسخ بالحبس في البيوت وإن كان في القراءة متأخّرا . وهذا قول لا ينبغي الالتفات إليه فلا مخلص من هذا الإشكال إلاّ بأن نجعل إجماع الصحابة على ترك الإمساك في البيوت ، وعلى تعويضه بالحدّ في زمان النبوءة فيؤول إلى نسخ القرآن بالسنّة المتواترة ، ويندفع ما أورده الجصَّاص على الشافعي ، فإنّ مخالفة الإجماع للنصّ تتضمّن أنّ مستند الإجماع ناسخ للنصّ .
ويتعيّن أن يكون حكم الرجم للمحصَن شرع بعد الجلد ، لأنّ الأحاديث المروية فيه تضمّنت التغريب مع الجَلد ، ولا يتصوّر تغريب بعد الرجم ، وهو زيادة لا محالة لم يذكرها القرآن ، ولذلك أنكر أبو حنيفة التغريب لأنّه زيادة على النصّ فهو نسخ عنده . قال ابن العربي في الأحكام : أجمع رأي خيار بني إسماعيل على أنّ من أحدث حدثا في الحرم يغرّب منه ، وتمادى ذلك في الجاهلية فكان كلّ من أحدث حدثاً غرّب من بلده إلى أن جاء الإسلام فأقرّه في الزنا خاصَّة . قلت : وكان في العرب الخَلع وهو أن يُخلع الرجل من قبيلته ، ويشهدون بذلك في الموسم ، فإن جرّ جريرة لا يطالب بها قومه ، وإن اعتدي عليه لا يطلب قومه دية ولا نحوها ، وقد قال امرؤ القيس :
به الذيب يَعْوِي كالخَليع المُعَيَّلِ
واتّفقوا على أنّ المرأة لا تغرّب لأنّ تغريبها ضيعة ، وأنكر أبو حنيفة التغريب لأنّه نقْل ضرّ من مكان إلى آخر وعوّضه بالسجن ولا يعرف بين أهل العلم الجمع بين الرجم والضرب ولا يظنّ بشريعة الإسلام ذلك ورُوي أنّ عليّا جَلد شراحة الهمْدانية ورجمها بعد الجلد ، وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله .
وقرن بالفاء خبر الموصولين من قوله : { فاستشهدوا } وقوله { فآذوهما } لأنّ الموصول أشرب معنى الشرط تنبيها على أنّ صلة الموصول سبب في الحكم الدالّ عليه خبره ، فصار خبر الموصول مثل جواب الشرط ويظهر لي أنّ ذلك عندما يكون الخبر جملة ، وغير صالحة لمباشرة أدوات الشرط ، بحيث لو كانت جزَاء للزم اقترانها بالفاء . هكذا وجدنا من استقراء كلامهم ، وهذا الأسلوب إنّما يقع في الصلات التي تُومِىء إلى وجه بناء الخبر ، لأنّها التي تعطي رائحة التسبّب في الخبر الوارد بعدها .
ولك أن تجعل دخول الفاء علامة على كون الفاء نائبة عن ( أَمَّا ) .
ومن البيّن أنّ إتيانَ النساء بالفاحشة هو الذي سبّب إمساكهن في البيوت ، وإن كان قد بني نظم الكلام على جعل { فاستشهدوا عليهن } هو الخبر ، لكنّه خبر صوري وإلاّ فإنّ الخبر هو { فأمسكوهن } ، لكنّه جيء به جواباً لشرط هو متفرّع على { فإن شهدوا } ففاء { فاستشهدوا } هي الفاء المشبّهة لفاء الجواب ، وفاء { فإن شهدوا } تفريعية ، وفاء { فأمسكوهن } جزائية ، ولولا قصد الاهتمام بإعداد الشهادة قبل الحكم بالحبس في البيوت لقيل : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فأمسكوهنّ في البيوت إن شهد عليهنّ أربعة منكم .