المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ لَا تَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَانٗا وَذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسۡنٗا وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ ثُمَّ تَوَلَّيۡتُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنكُمۡ وَأَنتُم مُّعۡرِضُونَ} (83)

83- وإن لكم معشر اليهود بجانب هذا كله ماضياً حافلا بالإثم ونقض المواثيق ، وتعدى ما وضعه الله لكم من حدود ، فلتذكروا إذ أخذنا عليكم في التوراة ميثاقاً ألا تعبدوا إلا الله ، وأن تحسنوا إلى الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين ، وتستخدموا في حديثكم مع الناس القول الطيب الذي يؤلف بينكم وبينهم ولا ينفرهم منكم ، وتؤدوا ما فرض عليكم من صلاة وزكاة ، ولتذكروا ما كان من مسلككم حيال هذا الميثاق إذ نقضتموه وأعرضتم عنه إلا قليلا منكم ممن أذعن للحق .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ لَا تَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَانٗا وَذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسۡنٗا وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ ثُمَّ تَوَلَّيۡتُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنكُمۡ وَأَنتُم مُّعۡرِضُونَ} (83)

ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن رذيلة من أبرز الرذائل التي طبع عليها بنو إسرائيل ، وهي رذيلة نقضهم للعهود والمواثيق فقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وبالوالدين . . . }

معنى الآية إجمالا : واذكروا يا بني إسرائيل لتعتبروا وتستجيبوا للحق - وليذكر معكم كل من ينتفع بالذكرى - وقت أن أخذنا عليكم العهد ، وأمرناك بالعمل به على لسان رسلنا - عليهم السلام - وأمرناكم فيه بألا تعبدوا سوى الله ، وأمرناكم فيه كذلك ، بأن تحسنوا إلى آبائكم وتقوموا بأداء ما أوجبه الله لهما من حقوق ، وأن تصلوا أقرباءكم وتعطفوا على اليتامى الذين فقدوا آباءهم ، وعلى المساكين الذين لا يملكون ما يكفيهم في حياتهم ، وأمرناكم فيه - أيضاً - بأن تقولوا للناس قولا حسنا فيه صلاحهم ونفعهم ، وأن تحافظوا على فريضة الصلاة ، وتؤدوا بإخلاص ما أوجبه الله عليكم من زكاة ، ولكنكم نقضتم أنتم وأسلافكم الميثاق ، وأعرضتم عنه ، إلا قليلا منكم واستمروا على رعايته والعمل بموجبه .

والمراد ببني إسرائيل في الآية الكريمة ، سلفهم وخلفهم ، لأن هذه الأوامر والنواهي التي تناولتها الآية الكريمة ، والتي هي مضمون العهد المأخوذ عليهم ، قد أخذت علهيم جميعاً على لسان أنبيائهم ورسلهم .

والدليل على أن المقصود ببني إسرائيل ما يتناول الخلف المعاصرين منهم للعهد النبوي ، قوله تعالى في ختام هذه الآية { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } فإنه قد أسند إليهم فيه أنهم تولوا عن الميثاق معرضين ، والاعراض عنه لا يكون إلا بعد أخذه عليهم كما سيأتي .

وقوله تعالى { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وبالوالدين إِحْسَاناً . . . } إلى قوله تعالى { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ . . . } بيان للميثاق وتفصيل له . وجاء التعبير بقوله تعالى { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله } في صورة الخبر المنفي والمراد منه النهي عن عبادة غير الله ، لإِفادة المبالغة والتأكيد ، فكأن الأمر والنهي قد امتثلا فيخبر بوقوعهما ، أو أنهما لأهميتهما يخبر عنهما بأنهما سيتلقيان بحسن الطاعة حتما ، فينزل ما يجب وقوعه منزلة الواقع ، ويخبر عن المأمور بأنه فاعل لما أمر به ومجتنب لما نهى عنه في الحال ، وفي ذلك ما فيه من إفادة المبالغة في وجوب امتثال الأمر والنهي .

وقد تضمنت الآية الكريمة لوناً فريداً من التوجيه المحكم الذي لو اتبعوه لحسنت صلتهم مع الخالق والمخلوق ، لأنها ابتدأت بأمرهم بأعلى الحقوق وأعظمها وهو حق الله - تعالى - عليهم ، بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، ثم ثنت ببيان حقوق الناس فبدأت بأحقهم بالإِحسان وهما الوالدان لما لهما من فضل الولادة والعطف والتربية ، ثم الأقارب الذين تجمع الناس بهم صلة قرابة من جهة الأب والأم ، ورعايتهم تكون بالقيام بما يحتاجون إليه على قدر الاستطاعة ، ثم باليتامى لأنهم في حاجة إلى العون بعد أن فقدوا الأب الحاني ، ثم بالمساكين لعجزهم عن كسب ما يكفيهم ، ثم بالإِحسان إلى سائر الناس عن طريق الكلمة الطيبة ، والمعاملة الحسنة ، لأن الناس إن لم يكونوا في حاجة إلى المال ، فهم في حاجة إلى حسن المقال ، ثم أرشدتهم إلى العبادات التي تعينهم على إحسان صلتهم بالخالق والمخلوق فأمرتهم بالمداومة على الصلاة بخشوع وإخلاص ، وبالمحافظة على أداء الزكاة بسخاء وطيب خاطر ، ولعظم شأن هاتين العبادتين البدنية والمالية ذكرتا على وجه خاص بعد الأمر بعبادة الله ، تفخيماً لشأنهما وتوكيداً لأمرهما ، وكان من الواجب على بني إسرائيل أن ينتفعوا بهذه الأوامر الحكيمة ، لكنهم عموا وصموا عنها فوبخهم القرآن الكريم بقوله : { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } .

أي : ثم توليتم - أيها اليهود - عن جميع ما أخذ عليكم من مواثيق فأشركتم بالله وعققتم الوالدين ، وأسأتم إلى الأقارب واليتامى والمساكين وقلتم للناس أفحش الأقوال ، وتركنم الصلاة ، ومنعتم الزكاة ، وقطعتم ما أمر الله به أن يوصل .

وقوله تعالى : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ } إنصاف لمن حافظ على العهد منهم ، حيث إنه لا تخلو أمة من المخلصين الذين يرعون العهود ، ويتبعون الحق ، وإرشاد للناس إلى أن وجود عدد قليل من المخلصين في الأمة ، لا يمنع نزول العقاب بها متى فشا المنكر في الأكثرين منها .

وقوله تعالى : { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } جملة حالية تفيد أن الأعراض عن الطاعة ، وعدم التقيد بالمواثيق التي أقروا بها ، عادة متأصلة فيهم ووصف ثابت لهم ، وسجية معروفة منهم .

قال صاحب المنار : " قد يتولى الإِنسان منصرفاً عن شيء وهو عازم على أن يعود إليه ويوفيه حقه ، فليس كل متول عن شي معرضاً عنه ومهملا له طول الدوام ، لذلك كان ذكر هذا القيد " وأنتم معرضون لازما لابد منه ، وليس تكراراً كما يتوهم ، ثم قال : وقد كان سبب ذلك التولي مع الإِعراض أن الله أمرهم ألا يأخذوا سالدين إلا من كتابه فاتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله ، يحلون برأيهم ويحرمون ، ويبيحون باجتهادهم ويحظرون ويزيدون في الشرائع والأحكام ويضعون ما شاءوا من الشعائر فصدق عليهم أنهم اتخذوا من دونه شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ، فإن الله هو الذي يضع الدين وحده وإنما العلماء أدلاء يستعان بهم على فهم كتابه ، وما شرع على ألسنة رسله . . . " .

وخلاصة الفرق بين التفسير الذي بدأنا به وبين تفسير صاحب المنار ، لقوله تعالى : { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } أن هذه الجملة على التفسير الأول تبين عادة في القوم تأصلت فيهم حتى كأنها سجية ، والمعنى : " ثم توليتم ، أي أعرضتم ، وأنتم قوم عادتكم الإِعراض ، وعلى تفسير صاحب المنار تكون هذه الجملة مبينة . لنوع التولي ومتممة لمعناه : والتفسير الأول - الذي سقناه أدخل في باب الذم ، وأوفى ببيان ما عليه حال اليهود .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ لَا تَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَانٗا وَذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسۡنٗا وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ ثُمَّ تَوَلَّيۡتُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنكُمۡ وَأَنتُم مُّعۡرِضُونَ} (83)

75

ثم يمضي السياق يحدث الجماعة المسلمة عن حال اليهود ، ومواقفهم التي يتجلى فيها العصيان والالتواء والانحراف والنكول عن العهد والميثاق . ويواجه اليهود بهذه المواقف على مشهد من المسلمين :

( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ؛ وبالوالدين إحسانا ؛ وذي القربى واليتامى والمساكين ؛ وقولوا للناس حسنا ؛ وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة . . ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون . وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم . ثم أقررتم وأنتم تشهدون . . ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ، وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ، وهو محرم عليكم إخراجهم . أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ، وما الله بغافل عما تعملون . أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ، فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ) . .

ولقد سبقت الإشارة إلى الميثاق في معرض تذكير الله لبني إسرائيل بإخلاف موقفهم معه في الدرس الماضي . فهنا شيء من التفصيل لبعض نصوص هذا الميثاق .

ومن الآية الأولى ندرك أن ميثاق الله مع بني إسرائيل ، ذلك الميثاق الذي أخذه عليهم في ظل الجبل ، والذي أمروا أن يأخذوه بقوة وأن يذكروا ما فيه . . أن ذلك الميثاق قد تضمن القواعد الثابتة لدين الله . هذه القواعد التي جاء بها الإسلام أيضا ، فتنكروا لها وأنكروها .

لقد تضمن ميثاق الله معهم : ألا يعبدوا إلا الله . . القاعدة الأولى للتوحيد المطلق . وتضمن الإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين . وتضمن خطاب الناس بالحسنى ، وفي أولها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . . كذلك تضمن فريضة الصلاة وفريضة الزكاة . وهذه في مجموعها هي قواعد الإسلام وتكاليفه . .

ومن ثم تتقرر حقيقتان : الأولى هي وحدة دين الله ؛ وتصديق هذا الدين الأخير لما قبله في أصوله . والثانية هي مقدار التعنت في موقف اليهود من هذا الدين ، وهو يدعوهم لمثل ما عاهدوا الله عليه ، وأعطوا عليه الميثاق .

وهنا - في هذا الموقف المخجل - يتحول السياق من الحكاية إلى الخطاب ، فيوجه القول إلى بني إسرائيل . وكان قد ترك خطابهم والتفت إلى خطاب المؤمنين . ولكن توجيه الخطاب إليهم هنا أخزى وأنكى :

( ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ) . .

وهكذا تتكشف بعض أسرار الالتفات في سياق القصص وغيره في هذا الكتاب العجيب !

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ لَا تَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَانٗا وَذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسۡنٗا وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ ثُمَّ تَوَلَّيۡتُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنكُمۡ وَأَنتُم مُّعۡرِضُونَ} (83)

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ }( 83 )

المعنى : «واذكروا إذ أخذنا » ، وقال مكي رحمه الله : «هذا هو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر » ، وهذا ضعيف ، وإنما هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على لسان موسى عليه السلام وغيره من أنبيائهم عليهم السلام ، وأخذ الميثاق قول ، فالمعنى قلنا لهم { لا تعبدون } ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «لا يعبدون » بالياء من أسفل ، وقرأ الباقون بالتاء من فوق ، حكاية ما قيل لهم ، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود «لا تعبدوا » على النهي . قال سيبويه : { لا تعبدون } متعلق لقسم ، والمعنى وإذ استخلفناكم والله لا تعبدون ، وقالت طائفة : تقدير الكلام بأن لا تعبدوا إلا الله ، ثم حذفت الباء ثم حذفت أن فارتفع الفعل لزوالها ، { فلا تعبدون } على هذا معمول لحرف النصب( {[869]} ) ، وحكي عن قطرب أن { لا تعبدون إلا الله } في موضع الحال أي أخذنا ميثاقهم موحدين( {[870]} ) ، وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير ، ونظام الآية يدفعه مع كل قراءة( {[871]} ) ، وقال قوم { لا تعبدون إلا الله } نهي في صيغة خبر( {[872]} ) ، ويدل على ذلك أن في قراءة أبي لا تعبدوا .

والباء في قوله { وبالوالدين } قيل هي متعلقة بالميثاق عطفاً على الباء المقدرة أولاً على قول من قال التقدير بأن لا تعبدوا ، وقيل : تتعلق بقوله و { إحساناً } والتقدير قلنا لهم لا تعبدون إلا الله ، وأحسنوا إحساناً بالوالدين ويعترض هذا القول بأن المصدر قد تقدم عليه ما هو معمول له( {[873]} ) ، وقيل تتعلق الباء بأحسنوا المقدر والمعنى وأحسنوا بالوالدين إحساناً ، وهذا قول حسن ، وقدم اللفظ { وبالوالدين } تهمماً فهو نحو قوله تعالى { إياك نعبد } [ الفاتحة : 5 ] وفي الإحسان تدخل أنواع بر الوالدين كلها ، { وذي القربى } عطف على الوالدين ، و { القربى } بمعنى القرابة ، وهو مصدر كالرجعى والعقبى ، وهذا يتضمن الأمر بصلة الرحم ، { واليتامى }( {[874]} ) : جمع يتيم كنديم وندامى ، واليتم في بني آدم فقد الأب ، وفي البهائم فقد الأم ، وقال عليه السلام : «لا يتم بعد بلوغ »( {[875]} ) ، وحكى الماوردي( {[876]} ) أن اليتيم في بني آدم في فقد الأم ، وهذا يتضمن الرأفة باليتامى وحيطة أموالهم ، { والمساكين } : جمع مسكين وهو الذي لا شيء له ، لأنه مشتق من السكون وقد قيل : إن المسكين هو الذي له بلغة( {[877]} ) من العيش ، وهو على هذا مشتق من السكن ، وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمواساة وتفقد أحوال المساكين .

وقوله تعالى : { وقولوا للناس حسناً } ، أمر عطف على ما تضمنه { لا تعبدون إلا الله } وما بعده من معنى الأمر والنهي ، أو على أحسنوا المقدر في قوله { وبالوالدين } ، وقرأ حمزة والكسائي «حَسَناً » بفتح الحاء والسين ، قال الأخفش : هما بمعنى واحد كالبخل والبخل ، قال الزجاج وغيره : بل المعنى في القراءتين وقولوا قولاً حسناً بفتح السين أو قولاً ذا «حُسن » بضم الحاء( {[878]} ) ، وقرأ قوم «حسنى » مثل فعلى ، ورده سيبويه لأنه أفعل وفعلى لا تجيء إلا معرفة إلا أن يزال عنها معنى التفضيل وتبقى مصدراً كالعقبى ، فذلك جائز ، وهو وجه القراءة بها( {[879]} ) ، وقرأ عيسى بن عمر وعطاء بن أبي رباح «حُسُناً » بضم الحاء والسين ، وقال ابن عباس : معنى الكلام قولوا لهم لا إلا إلا الله ومروهم بها ، وقال ابن جريج : قولوا لهم حسناً في الإعلام بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال سفيان الثوري : معناه مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر ، وقال أبو العالية : معناه قولوا لهم الطيب من القول وحاوروهم بأحسن ما تحبون أن تحاوروا به ، وهذا حض على مكارم الأخلاق ، وحكى المهدوي عن قتادة أن قوله تعالى { وقولوا للناس حسناً } : منسوخ بآية السيف .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا على أن هذه الأمة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الإسلام ، وأما الخبر عن بني إسرائيل وما أمروا به فلا نسخ فيه ، وقد تقدم القول في إقامة الصلاة( {[880]} ) ، وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها وتنزل النار على ما تقبل ولا تنزل على ما لم يتقبل ، ولم تكن كزكاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم( {[881]} ) ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : «الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاص » .

وقوله تعالى : { ثم توليتم }( {[882]} ) الآية خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم أسند إليهم تولي أسلافهم ، إذ هم كلهم بتلك السبيل ، قال نحوه ابن عباس وغيره ، و { ثم } مبنية على الفتح ولم تجر مجرى رد وشد لأنها لا تتصرف ، وضمت التاء الأخيرة من { توليتم } لأن تاء المفرد أخذت الفتح وتاء المؤنث أخذت الكسر فلم يبق للتثنية والجمع إلا الضم ، و { قليلاً } نصب على الاستثناء قال سيبويه : المستثنى منصوب على التشبيه بالمفعول به ، قال المبرد : هو مفعول حقيقة لأن تقديره استثنيت كذا ، والمراد بالقليل جميع مؤمنيهم قديماً من أسلافهم وحديثاً كابن سلام وغيره ، والقلة على هذا هي في عدد الأشخاص ، ويحتمل( {[883]} ) أن تكون القلة في الإيمان أي لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إيمان قليل ، إذ لا ينفعهم ، والأول أقوى ، وقرأ قوم «إلا قليلٌ » برفع القليل ، ورويت عن أبي عمرو ، وهذا على بدل قليل من الضمير في { توليتم } ، وجاز ذلك مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي لأن { توليتم } معناه النفي كأنه قال ثم لم تفوا بالميثاق إلا قليل( {[884]} ) ،


[869]:- قال المبرد رحمه الله: «هذا خطأ لأن كل ما أضمر في العربية فهو يعمل عمله مظهرا»، والحق أنه ليس بخطأ، فهما وجهان صحيحان في العربية- وعليهما أنشد سيبويه قول طرفة ابن العبد: ألا أيُّهَذَا الزَّاجِري أحْضُرَ الوَغَى وأن أشهدَ اللَّذَّاتِ. هل أنتَ مُخْلِدي؟
[870]:- أي ملتزمين التوحيد. وقطرب هو محمد بن المستنير أبو على –نحوي لغوي- أخذ عن سيبويه. توفي سنة (206)هـ.
[871]:- هو كذلك، فإن قوله تعالى: (لا تعبدون إلا الله) بيان للميثاق، ومثل هذه المعاني إنما يُدرك حسنُها بالذَّوق السليم، لأن مجيء الحال من المضاف إليه لا يجوز على الصحيح.
[872]:- هو أبلغ من صريح الأمر والنهي كقوله تعالى: (ولا يضارَّ كاتب ولا شهيد) وكقولك: "تذهب إلى فلان وتقول له كذا" وكأنه بذلك بخبر عن المسارعة إلى الامتثال والانتهاء. ويتحصل مما ذكره ابن عطية أن قوله تعالى: (لا تعبدون إلا الله) لا يخلو إما أن يكون حالا مقارنة، وقد تقدم ما فيه، وإما أن يكون متعلقا بقسم، وإما أن يكون لفظه خبر ومعناه الطلب، وإما أن يكون على تقدير ألا تعبدوا فحذفت أن فارتفع الفعل، والرأي الثالث أحسن، ويؤيده قراءة أبي، وابن مسعود، والأوامر التي جاءت بعده.
[873]:- الصحيح هو جواز تقدم معمول المصدر عليه، انظر تفسير أبي (ح) فقد نقل كلام ابن عطية ثم قال: "وهذا الاعتراض إنما يتم على مذهب أبي الحسن في منعه تقديم مفعول نحو ضربا زيدا، وليس بشيء لأنه لا يصح المنع إلا إذا كان المصدر موصولا بأن ينحل لحرف مصدري والفعل، أما إذا كان غير موصول فلا يمنع تقديمه عليه، فجائز أن تقول: ضربا زيدا، وزيدا ضربا، سواء كان العمل للفعل المحذوف العامل في المصدر، أو للمصدر النائب عن الفعل –فعلى اختلاف المذهبين في العامل يجوز التقديم" اهـ. البحر المحيط 1/284. ولقد جاء في الآية الكريمة ترتيب الحقوق الواجبة، فأولها حق الله وهو توحيده وعبادته، وثانيها حقوق المخلوقين وأولهم حق الوالدين، ثم القرابة، واليتامى، والمساكين.
[874]:- قال ابن السِّكيِّت: قالوا: يتامى، والأصل يتائم، فقلب ثم فتح للتخفيف.
[875]:- رواه أبو داود في كتاب "الوصايا"، والبيهقي في شعب الإيمان، ولفظ الجامع الصغير: "لا يُتم بعد احتلام" وهو بضم الياء وفتحها، والمشهور أن اليتيم في الآدمي من فُقد أبوه، وفي البهائم من فُقدت أمه، وإذا فُقد الأبوان يقال للصغير لطيم.
[876]:- أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري، أخذ الفقه عن أبي القاسم الصيمري، وكان من فقهاء الشافعية المعروفين، ومن كتبه "الإقناع" في المذهب –توفي (450هـ)- وفيات الأعيان 2-444.
[877]:- البُلْغَة بالضم ما يبلغ به العيش ولا يفضل- والسكن بالتحريك ما يسكن إليه ويرجع له عند الحاجة.
[878]:- و(حسنا) بفتحتين وصف للمصدر بدون وساطة، و(حُسْنا) وصف بوساطة المضاف المحذوف.
[879]:- أي كونها مصدرا فقط لا رائحة فيها لمعنى التفضيل هو وجه القراءة بها في هذه الآية وهذا في حاجة إلى النقل عن العرب أنها تقول: حَسَنَ حُسْنى كما تقول رجع رحعى. وقد علق أبو (ح) على ذلك كعادته ليثبت أن كلام ابن عطية خطأ. "البحر المحيط" 1/285.
[880]:- في أول سورة البقرة.
[881]:- قال (ق): هذا يحتاج إلى نقل، كما ثبت ذلك في الغنائم.
[882]:- التولي هو الإعراض، فقوله تعالى: (وأنتم معرضون)، حال مؤكدة، أي والحال أن من عادتكم الإعراض عن المواثيق المأخوذة عليكم.
[883]:- احتمال بعيد، إذ المتبادر هو استثناء أشخاص قليلين من الفاعل الذي هو الضمير في (توليتم) راجع أبو (ح) في البحر المحيط. 1/287، وقد شعر رحمه الله بذلك حيث قال: والأول أقوى، ووجه الاستثناء في الآية إظهار أن كل أمة من الأمم لا تخلو من أفراد يخلصون للحق، ويحافظون عليه بحسب معرفتهم وطاقتهم، وبيان أن وجود قليل من الصالحين في الأمة لا يدفع عنها العقاب الإلهي، ففي الحديث الصحيح: "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث". روته ثلاث من أمهات المؤمنين: عائشة، وأم سلمة وزينب بنت جحش.
[884]:- هذا التخريج الذي أشار إليه رحمه الله غير معروف عند النحاة لأنه ما من استثناء موجب إلا ويمكن أن يُؤَل إلى ما أشار إليه فتنتقض القواعد، وتنخرم الأصول.