فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ لَا تَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَانٗا وَذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسۡنٗا وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ ثُمَّ تَوَلَّيۡتُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنكُمۡ وَأَنتُم مُّعۡرِضُونَ} (83)

{ لا تعبدون } خبر بمعنى الطلب .

{ اليتامى } الصغار الذين مات آباؤهم ولا كاسب لهم .

{ المساكين } الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم .

{ وأقيموا الصلاة } أتموا أداءها وأحسنوه .

{ وآتوا الزكاة } أعطوا زكاة أموالكم مستحقيها .

{ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } الميثاق العهد الموثق عن أبي العالية أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له وأن لا يعبدوا غيره ونقل عن بعض نحويي البصرة كأنك قلت استحلفناهم لا تعبدون أي قلنا لهم والله لا تعبدون أي : قلنا لهم والله لا تعبدون وقالوا والله لا يعبدون وهذا بالحقيقة يتضمن جميع ما لابد به في الدين لأن الأمر بعبادته والنهي عن عبادة غيره مسبوق بالعلم بذاته سبحانه وجميع ما يحب له ويستحيل عليه ومسبوق أيضا بالعلم بكيفية تلك العبادة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوحي والرسالة-{[326]} ومما أورد صاحب الجامع لأحكام القران وعبادة الله إثبات توحيده وتصديق رسله والعمل بما أنزل في كتبه . ا ه . ولما كانت العبادة تعني كل هذا أمر الله تعالى بها جميع خلقه ولذلك خلقهم : قال تباركت آلاؤه وتقدست أسماؤه : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت . . }{[327]} ، وقال جل ثناؤه : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }{[328]} . { وبالوالدين إحسانا } بعد بيان الحقوق وأعظمها وهي حق توحيد الله وإفراده بالعبادة والتصديق بالرسل والعمل بما أنزل في الكتب أمر بالإحسان إلى الوالدين فكأن التقدير يحسنون بالوالدين أو : وأمرناهم بالوالدين إحسانا أو قلنا لهم أحسنوا بالوالدين إحسانا . في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قلت يا رسول الله أي العمل أفضل ؟ قال الصلاة على وقتها قلت ثم أي ؟ قال الجهاد في سبيل الله ( وقرن الله عز وجل في هذه الآية حق الوالدين بالتوحيد لأن النشأة الأولى من عند الله والنشء الثاني – وهو التربية- من جهة الوالدين ولهذا قرن سبحانه الشكر لهما بشكره فقال : { . . أن اشكر لي ولوالديك . . }{[329]} والإحسان إلى الوالدين معاشرتهما بالمعروف والتواضع لهما وامتثال أمرهما والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما وصلة أهل ودهما . . . ){[330]} . { وذي القربى } أصحاب القرابة وهو معطوف على { وبالوالدين إحسانا } وكأن المعنى وقلنا لهم : أحسنوا بالوالدين وبذي القربى وصلوا الأرحام ، والإحسان إليهم كالإحسان بالوالدين { واليتامى } معطوف على ما سبق ، واليتيم من الأطفال الذي مات أبوه حتى يبلغ الحلم وقد وصى الكتاب الحكيم بحق رعاية اليتيم بحفظ المال وبالإنفاق عليه وتقديم المعروف إليه وحذر من أي بغي على ما يملك ، وعده حوبا كبيرا وإثما مبينا وأنذر العائدين على أموالهم ظلما بأنهم { . . إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا }{[331]} وبشر أهل الرعاية لليتامى بأنهم اقتحموا العقبة التي بينهم وبين الجنة وفي ذلك جاءت الآيات المباركات : { فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة }{[332]} وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كافل اليتيم له أولغيره أنا وهو كهاتين في الجنة ) وأشار مالك- أحد رواة هذا الحديث – بالسبابة الوسطى والسبابة الأصبع التي تلي الإبهام . { والمساكين } معطوف أيضا على ما سبق وهم الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم والإحسان إليهم تفقد أحوالهم ومواساتهم وإعطاؤهم حقهم من الزكاة والصدقة وفوق ذلك فقد سخط الله تعالى على من لا يحض غيره على رعاية هؤلاء المحتاجين الضعفاء يقول ربنا جل ثناؤه : { كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحضون على طعام المسكين }{[333]} وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله- وأحسبه قال- : وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر ) ؛ { وقولوا للناس حسنا } أي وقولوا للناس قولا حسنا قال ابن عباس قولوا لهم لا إله إلا الله ومروهم بها ؛ وعن ابن جريج : ( قولوا للناس صدقا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا تغيروا نعته ؛ وعن سفيان : مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر ){[334]} . { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } – أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك وهو الصلاة والزكاة-{[335]} ، وقد أمر الله بكثير من تلك العهود في قوله سبحانه : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم . . }{[336]} بل في هذه الآية الكريمة زيادة فيمن أمرنا الله بالإحسان إليهم الجار القريب والجار الأجنبي والصاحب بالجنب- الزوجة أو رفيق الطريق في السفر- والمسافر المملوك كما أكد الأمر بإفراده بالعبادة بقوله الحكيم { . . . ولا تشركوا به شيئا . . }{[337]} عن ابن مسعود وإقامة الصلاة تمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليه فيها{ ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون } – وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن يهود بني إسرائيل أنهم نكثوا عهده ونقضوا ميثاقه بعدما أخذ الله ميثاقهم على الوفاء له بأن لا يعبدوا غيره وأن يحسنوا إلى الآباء والأمهات ويصلوا الأرحام ويتعاطفوا على الأيتام ويؤدوا حقوق أهل المسكنة إليهم ويأمروا عباد الله بما أمرهم الله به ويحثوهم على طاعته ويقيموا الصلاة بحدودها وفرائضها ويؤتوا زكاة أموالهم فخالفوا أمره في ذلك كله وتولوا عنه معرضين إلا من عصمه الله منهم فوفى بعهد الله وميثاقه . . . عنى الله جل ثناؤه بقوله { وأنتم معرضون } اليهود الذين كانوا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعنى بسائر الآية أسلافهم . . . وأنتم يا معشر بقاياهم معرضون أيضا عن الميثاق الذي أخذ عليكم بذلك وتاركوه ترك أوائلكم-{[338]} .


[326]:ما بين العارضتين من تفسير غرائب القرآن.
[327]:سورة النحل من الآية36.
[328]:سورة الذاريات الآية 56.
[329]:سورة لقمان من الآية 14
[330]:ما بين العلامتين () من الجامع لأحكام القرآن
[331]:سورة النساء من الآية 10.
[332]:سورة البلد الآيتان: من 11-إلى16.
[333]:سورة الفجر من الآيتان 17- 18
[334]:مما أورد أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي: وهذا كله حض على مكارم الأخلاق فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا ووجهه منبسطا طلقا مع البر والفاجر والسني والمبتدع من غير مداهنة ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه لأن الله تعالى قال لموسى وهارون { فقولا له قولا لينا} فالقائل ليس أفضل من موسى وهارون والفاجر ليس بأخبث من فرعون وقد أمرنا الله تعالى باللين له وقال طلحة بن عمر قلت لعطاء إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة وأنا رجل في حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ فقال لا تفعل يقول الله تعالى {وقولوا للناس حسنا } فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنفي وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة (لا تكوني فحاشة فإن الفحش لو كان رجلا لكان رجل سوء) ... قال ابن عطية: وهذا يدل على أن أهل هذه الأمة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الإسلام وأما الخبر عن بني إسرائيل وما أمروا به فلا نسخ فيه والله أعلم.
[335]:ما بين العارضتين من تفسير القرآن العظيم.
[336]:سورة النساء من الآية 36.
[337]:سورة النساء من الآية 36.
[338]:ما بين العارضتين من جامع البيان.