محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ لَا تَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَانٗا وَذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسۡنٗا وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ ثُمَّ تَوَلَّيۡتُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنكُمۡ وَأَنتُم مُّعۡرِضُونَ} (83)

ثم شرع ، سبحانه ، يقيم الدليل على أنهم ممن أحاطت به خطيئته فقال : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم تولّيتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون 83 } .

{ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل } ثم بيّن الميثاق بقوله تعالى : { لا تعبدون إلا الله } وهو إخبار في معنى النهي ، كقوله تعالى : { ولا يضارّ كاتب ولا شهيد } {[638]} وكما تقول ، تذهب إلى فلان وتقول له كذا ، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي . وقد بدئ بأعلى الحقوق وأعظمها . وهو حق الله تبارك وتعالى ، أن يُعبد وحده ولا يشرك به شيئا . وبهذا أمر جميع خلقه . ولذلك خلقهم . كما قال الله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } {[639]} . وقال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } {[640]} . { وبالوالدين إحسانا } والإحسان نهاية البر ، / فيدخل فيه جميع ما يجب من الرعاية والعناية ، وقد أكد الله الأمر بإكرام الوالدين . حتى قرن تعالى الأمر بالإحسان إليهما ، بعبادته التي هي توحيده ، والبراءة عن الشرك ، اهتماما به وتعظيما له .

قال حكيم مصر في ( تفسيره ) : العلة الصحيحة في وجوب هذا الإحسان على الولد ، هي العناية الصادقة التي بذلاها في تربيته والقيام بشؤونه أيام كان ضعيفا عاجزا جاهلا . لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضررا . وكانا يحوطانه بالعناية والرعاية . ويكفلانه ، حتى يقدر على الاستقلال والقيام بشأن نفسه . فهذا هو الإحسان الذي يكون منهما ، عن علم واختيار ، بل مع الشغف الصحيح والحنان العظيم ، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان . وإذا وجب على الإنسان أن يشكر ، لكل من يساعده على أمر عسير ، فضلَه ، ويكافئه بما يليق به على حسب الحال في المساعد ، وما كانت به المساعدة ، فكيف لا يجب أن يكون الشكر للوالدين بعد الشكر لله تعالى ، وهما اللذان كانا يسعدانه على كل شيء ، أيام كان يتعذر عليه كل شيء اه . { وذي القربى } أي القرابة .

قال الأستاذ الحكيم ( الإحسان هو الذي يقوي غرائز الفطرة ، ويوثق الروابط الطبيعية ، حتى تبلغ البيوت ، في وحدة المصلحة ، درجة الكمال . والأمة تتألف من البيوت ، أي العائلات . فصلاحها صلاحها .

ومن لم يكن له بيت لا تكون له أمة . وذلك أن عاطفة التراحم وداعية التعاون إنما تكونان على أشدّهما وأكملهما في الفطرة بين الوالدين والأولاد . ثم بين سائر الأقربين . فمن فسدت فطرته حتى لا خير فيه لأهله ، فأي خير يرجى منه للبعداء والأبعدين ؟ ومن لا خير فيه للناس لا يصلح أن يكون جزءا من بنية أمته . لأنه لم تنفع فيع اللحمة النسبية التي هي أقوى لحمة طبيعية تصل بين الناس . فأي لحمة بعدها تصله بغير الأهل فتجعله جزءا منهم ، يسره ما يسرهم ويؤلمه ما يؤلمهم ويرى منفعتهم عين منفعته ، ومضرتهم عين مضرته ؟ قضى نظام الفطرة بأن تكون نعرة القرابة أقوى من كل نعرة ، وصلتها أمتن من كل صلة . فجاء الدين يقدّم حقوق الأقربين على سائر الحقوق . وجعل حقوقهم على حسب قربهم من الشخص . ثم ذكر تعالى حقوق أهل الحاجة من سائر الناس فقال سبحانه : { واليتامى والمساكين } . اليتامى جمع يتيم . وهو من مات أبوه وهو صغير . قدم تعالى الوصية به على الوصية بالمسكين ، ولم يقيدها بفقر أو مسكنة . فعُلِمَ أنها مقصودة لذاتها . وقد أكد تعالى في الوحي الوصية باليتيم . وفي القرآن والسنة كثير من هذه الوصايا . وحسبك أن القرآن نهى عن قهر اليتيم وشدد الوعيد على أكل ماله تشديدا خاصا . والسر في ذلك هو كون اليتيم لا يجد ، في الغالب ، من تبعثه عاطفة الرحمة الفطرية على العناية بتربيته والقيام بحفظ حقوقه والعناية بأموره الدينية والدنيوية . فإن الأم ، إن وجدت ، تكون في الأغلب عاجزة . لاسيما إذا تزوجت بعد أبيه . فأراد الله تعالى ، وهو أرحم الراحمين ، بما أكد من الوصية بالأيتام ، أن يكونوا من الناس بمنزلة أبنائهم . يربونهم تربية دينية دنيوية ، لئلا يفسدوا ويفسد بهم غيرهم ؛ فينتشر الفساد في الأمة فتنحل انحلالا . فالعناية بتربية اليتامى هي الذريعة لمنع كونهم قدوة سيئة لسائر الأولاد . والتربية لا تتيسر مع وجود هذه القدوة . فإهمال اليتامى إهمال لسائر أولاد الأمة . وأما المساكين فلا يراد بهم هؤلاء السائلون الشحاذون المُلْحِفون الذين يقدرون على كسب ما يفي بحاجاتهم ، أو يجدون ما ينفقون ولو لم يكتسبوا . إلا أنهم قد اتخذوا السؤال حرفة يبتغون بها الثروة من حيث لا يعملون عملا ينفع الناس . ولكن المسكين من يعجز عن كسب ما يكفيه اه .

{ وقولوا للناس حسنا } أي قولاً حسنا . أي : كلموهم طيبا ولينوا لهم جانبا . وفيه من التأكيد والتحضيض على إحسان مقاولة الناس ، أنه وضع المصدر فيه موضع الاسم ، وهذا إنما يستعمل للمبالغة في تأكيد الوصف ، كرجل عدل وصوم وفطر . { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } خطاب لبني إسرائيل . فالمراد الصلاة التي كانوا يصلونها والزكاة التي كانوا يخرجونها . { ثم تولّيتم } أي أعرضتم عن المضيّ على مقتضى الميثاق الذي فيه سعادتكم ورفضتموه . وقوله : { إلا قليلا منكم } استثناء لبعض من كانوا في زمن سيدنا موسى عليه السلام ، أو في كل زمن . فإنه لا تخلو أمة من الأمم ، من المخلصين الذين يحافظون على الحق بحسب معرفتهم وقدر طاقتهم . والحكمة في ذكر هذا الاستثناء عدم بخس المحسنين حقهم ، وبيان أن وجود قليل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب الإلهيّ إذا فشا فيها المنكر ، وقلّ المعروف { وأنتم معرضون } عادتكم الإعراض عن الطاعة ومراعاة حقوق الميثاق .


[638]:[2/ البقرة/ 282] ونصها: {... ولا يضارّ كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلّمكم الله والله بكل شيء عليم 282}.
[639]:[21/ الأنبياء/ 25].
[640]:[16/ النحل/ 36] ونصها: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقّت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين 36}.