{ إِذْ }معطوف على الظرف قبله ، وقد تقدم ما فيه من كونه متصرفاً أو لا .
و " أَخَذْنَا " في محلّ خفض ، أي : واذكر وَقْت أَخْذنا ميثاقهم ، أو نحو ذلك .
" لا تَعْبُدُونَ " قرأ ابن كثير وغيره والكِسائي بالياء ، والباقون بالتاء .
فمن قرأ بالغيبة فلأن الأسماء الظَّاهرة حكمها الغيبة ، ومن قرأ بالخطاب هو الْتِفَات ، وحكمته أنه أدعى لِقَبُول المخاطب الأمر والنهي الواردين عليه .
وجعل أبو البقاء قراءة الخِطَاب على إضمار القول .
قال : يقرأ بالتاء على تقدير : قلنا لهم : لا تعبدون إلا الله وكونه التفاتاً أحسن .
وفي هذه الجملة المنفيّة من الإعراب ثمانية أوجه :
أظهرها : أنها مفسرة لأخذ الميثاق ، وذلك لأنه تعالى لما ذكر أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل كان في ذلك إبْهَام للميثاق ما هو ؟ فأتى بهذه الجُمْلة مفسرة له ، ولا محلّ لها حينئذ من الإعراب .
الثاني : أنها في محلّ نصب على الحال من " بَنِي إِسْرَائِيْلَ " وفيها حينئذ وجهان :
أحدهما : أنها حال مقدّرة بمعنى : أخذنا ميثاقهم مقدّرين التوحيد أبداً ما عاشوا .
والثَّاني : أنَّها حال مقارنة بمعنى : أخذنا مِيْثَاقهم ملتزمين الإقامة على التوحيد ، قاله أبو البقاء [ وسبقه إلى ذلك قطرب والمبرد ] .
وفيه نظر من حيث مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذلك على الصحيح ، خلافاً لمن أجاز مجيئها من المُضَاف إليه مطلقاً ، لا يقال : المضاف إليه معمول له في المعنى ل " ميثاق " ؛ لأن ميثاقاً إما مصدر أو في حكمه ، فيكون ما بعده إما فاعلاً أو مفعولاً ، وهو غير جائز ؛ لأن من شرط عمل المصدر غير الواقع موقع الفعل أن ينحل إلى حرف مصدري ، وفعل هذا لا ينحل لهما ، لو قدرت : وإذ أخذنا أن نواثق بني إسرائيل ، أو أن يواثقنا بنو إسرائيل ، لم يصح ألا ترى أنك لو قلت : أخذت علم زيد لم يتقدر بقول : أخذت أن يعلم زيد ، ولذلك منع ابن الطَّراوة في ترجمة سيبويه : " هذا باب علم ما الكلم من العربية " أن يقدر المصدر بحرف مصدري والفعل ، ورده وأنكر على من أجازه .
الثالث : أن يكون جواباً لقسم محذوف دلّ عليه لفظ المِيْثَاق ، أي : استحلفناهم ، أو قلنا لهم : بالله لا تعبدون ، ونسب هذا الوجه لسيبويه ، ووافقه الكسائي والفَرّاء والمبرد .
الرابع : أن يكون على تقدير حذف حرف الجر ، وحذف " أن " ، والتقدير : أخذنا ميثاقهم على ألاَّ تعبدوا بألا تعبدوا ، فَحُذِف حرف الجر ؛ لأن حذفه مطرد مع " أنَّ وأنْ " كما تقدم ، ثم حذفت " أن " الناصبة ، فارتفع الفعل بعدها ؛ كقول طرفة : [ الطويل ]
613- أَلاَ أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الْوَغَى *** وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ ، هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي
وحكي عن العرب : " مُرْهُ يَحْفِرَهَا " أي : بأن يحفرها ، والتقدير : عن أن يحضر ، أو بأن يحفرها ، وفيه نظر ، فإن [ إضمار ] " أن " لا ينقاس ، إنما يجوز في مواضع عدها النحويون ، وجعلوا ما سواها شاذّاً قليلاً ، وهو الصحيح خلافاً للكوفيين ، وإذا حذفت " أن " ، فالصحيح جواز [ النصب والرفع ] ، وروي : " مُرْهُ يَحْفِرهَا " و " أحضر الوَغَى " بالوجهين ، وهذا رأي المبرد والكوفيين خلافاً لأبي الحسن ، حيث التزم رفعه .
وأيد الزمخشري هذا الوجه الرابع بقراءة عبد الله : " لاَ تَعْبُدُوا " على النهي ، قال : إلاَّ أنه جاء على لفظ الخبر لقوله تعالى : { لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } [ البقرة : 233 ] ، قال : والذي يؤكد كونه نهياً [ قوله : " وأقيموا الصلاة " ] فإنه تنصره قراءة عبد الله وأُبي : " لا تعبدوا " .
الخامس : أن يكون في محلّ نصب بالقول المحذوف ، وذلك القول حال تقديره : قائلين لهم : لا تعبدون إلا الله ، ويكون خبراً في معنى النهي ، ويؤيده قراءة أُبَي المتقدمة ، ولهذا يصح عطف " قُولُوا " عليه ، وبه قال الفَرّاء .
السادس : أَنَّ " أنْ " الناصبة مضمرة كما تقدم ، ولكنها هي وما في حَيّزها في محلّ نصب على أنها بدل من " مِيْثَاق " ، وهذا قريب من القول الأول من حيث إن هذه الجملة مفسرة للميثاق ، وفيه النظر المتقدم أعني حذف أن في غير المواضع المقيسة .
السابع : أن يكون منصوباً بقول محذوف ، وذلك القول ليس حالاً ، بل مجرد إخبار ، والتقدير : وقلنا لهم ذلك ، ويكون خبراً في معنى النهي .
قال الزمخشري : كما تقول : تذهب إلى فلان تقول له : كذا تريد الأمر ، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي ؛ لأنه كأنه سُورعَ إلى الامتثال والانتهاء ، فهو يخبر عنه ، وتَنْصره قراءة عبد الله وأُبَيّ : " لاَ تَعْبُدُوا " ولا بد من إرادة القول بهذا .
الثامن : أن يكون التقدير : " ألاَّ تَعْبُدُونَ " وهي " أن " المفسرة ؛ لأن في قوله : { أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } إيهاماً كما تقدم ، وفيه معنى القول ، ثم حذف " أن " المفسرة ، ذكره الزَّمخشري .
وفي ادعاء حذف حرف التفسير نظر لا يخفى .
قوله : " إِلاَّ اللهَ " استثناء مفرغ ؛ لأن ما قبله مفتقر إليه وقد تقدم تحقيقه أولاً .
وفيه التفات من التكلّم إلى الغيبة ، إذ لو جرى الكَلاَم على نسقه لقيل : لا تعبدون إلاَّ إيانا ، لقوله : " أَخّذْنَا " .
وفي هذا الالتفات من الدّلالة على عظم هذا الاسم والتفرد به ما ليس في المضمر ، وأيضاً الأسماء الواقعة ظاهرة ، فناسب أن يجاور الظاهرُ الظاهرَ .
هذا الميثاق يدلّ على تمام ما لا بد منه في الدين ، لأنه تعالى لما أمر بعبادته ، ونهى عن عبادة غيره ، وذلك مسبوق بالعِلْمِ بذاته سبحانه ، وجميع ما يجب ويجوز ويستحيل عليه ، وبالعلم بوحدانيته وبراءته عن الأضداد والأنداد ، ومسبوق أيضاً بالعلم بكيفية تلك العبادة الَّتِي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوَحْي والرسالة ، فقوله : { لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ } يتضمّن كلّ ما اشتمل عليه علم الكلام والفقه والأحكام .
وقال مكّي : " هذا الميثاق هو الذي أخذه عليهم حين أخرجوا من ظهر آدم كالذَّر " و " بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً " فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن تتعلق الباء ب " إحساناً " على أنه مصدر واقع [ موقع ] فعل الأمر ، والتقدير وأحسنوا وبالوالدين ، والباء ترادف " إلى " في هذا المعنى ، تقول : أحسنت به وإليه ، بمعنى أن يكون على هذا الوجه ثَمَّ مضافٌ محذوف ، وأحسنوا بر الوالدين بمعنى : أحسنوا إليهما برّهما .
قال ابن عطية : يعترض على هذا القول ، أن يتقدّم على المصدر معمولُهُ ، وهذا الاعتراض لا يتم على مَذْهَب الجمهور ، فإن مذهبهم جواز تقديم معمول المَصْدر النَّائب عن فعل الأمر عليه ، تقول : " ضرباً زيداً " وإن شئت : " زيداً ضرباً " وسواء عندهم إن جعلنا العمل للفعل المقدر ، أم للمصدر النائب عن فعله ، فإن التقديم عندهم جائز ، وإنما يمتنع تقدم
معمول المَصْدر المنحل لحرف مصدري والفعل كما تقدم وإنما يتم على مذهب أبي الحسن ، فإنه منع تقديم معمول المصدر النائب عن الفعل ، ويخالف الجمهور في ذلك .
الثاني : أنها متعلّقة بمحذوف وذلك المحذوف يجوز أن يقدر فعل أمر مُرَاعاة لقوله : " لاَ تَعْبُدُونَ " فإنه في معنى النهي كما تقدم ، كأنه قال : لا تبعدوا إلا الله وأحسنوا بالوالدين ، ويجوز أن يقدر خبراً مراعاة لِلَفْظِ " لاَ تَعْبُدُونَ " والتقدير : وتحسنون [ وإن كان معناه الأمر ، وبهذين ] الاحتمالين قدره الزمخشري ، وينتصب " إحساناً " حينئذ على المصدر المؤكّد لذلك الفعل المحذوف .
وفيه نظر من حيث إن حذف عامل المؤكّد منصوصٌ على عدم جوازه ، وفيه بحث ليس هذا موضعه .
الثالث : أن يكون التقدير : واستوصوا بالوالدين ، ف " البَاء " متعلّقة [ بهذا الفعل المقدر ] أيضاً ، وينتصب " إحساناً " حينئذ على أنه مفعول به .
الرابع : تقديره : وَوَصَّيْنَاهُمْ بالوالدين ، فالباء متعلّقة بالمحذوف أيضاً ، وينتصب " إحساناً " [ حينئذ ] على أنه مفعول لأجله ، أي : لأجل إحساننا إلى الموصى بهم من حيث إنّ الإحسان متسبّب عن وصيتنا بهم ، أو الموصى لما يترتب الثواب منّا لهم إذا أحسنوا إليهم .
الخامس : أن تكون الباء وما عملت فيه عطفاً على قوله : " لاَ تَعْبُدُونَ " إذا قيل بأن " أن " المصدرية مقدرة فينسبك منها ومما بعدها مصدر يعطف عليه هذا المجرور ، والتقدير : أخذنا ميثاقهم بإفراد الله بالعبادة وبالوالدين ، أي : وببرّ الوالدين ، أو : بإحسان إلى الوالدين ، فتتعلّق " الباء " حينئذ ب " الميثاق " لما فيه من مَعْنَى الفعل ، فإن الظرف وشبهه تعمل فيه رَوَائح الأفعال ، وينتصب " إحساناً " حينئذ على المصدر من ذلك المضاف المحذوف ، وهو " البر " لأنه بمعناه ، أو الإحسان الذي قدرناه .
والظّاهر من هذه الأوجه هو الثَّاني ، لعدم الإضمار اللازم في غيره ، أو لأن ورود المصدر نائباً عن فعل الأمر مطّرد شائع .
وإنما تقدّم المعمول اهتماماً به وتنبيهاً على أنه أولى بالإحسان إليه ممن ذُكِرَ معه .
و " الَوالِدَان " الأب والأم ، يقال لكل واحدٍ منهما : والد ؛ قال : [ الطويل ]
614- عَجِبْتُ لمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ *** وَذِي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أِبَوَانِ
وقيل : لا يقال في الأم : والدة بالتاء ، وإنما قيل فيها وفي الأب : والدان تغليباً للذكر .
و " الإحسان " : الإنعام على الغير .
فصل في وجوه ذكر البر بالوالدين مع عبادة الله
قال ابن الخَطِيْبِ : إنما أراد عبادة الله بالإحْسَان إلى الوالدين لوجوه :
أحدها : أن نعمة الله على العَبْدِ أعظم النعم ، فلا بد من تقديم شكره على شُكْرِ غيره ، ثم بعد نعمة الله فنعمة الوالدين أعظم النّعم ؛ لأن الوالدين هما الأصل في وجود الولد ، ومنعمان عليه بالتربية ، فإنعامهما أعظم الإنْعَام بعد إنعام الله تعالى .
وثانيها : أن الله سبحانه وتعالى المؤثر في وجود الإنْسَان في الحقيقة ، والوالدان مؤثران في وجوده بحسب العُرْفِ الظاهر ، فلأنه المؤثر الحقيقي أردفه بذكر المؤثر بحسب العرف الظَّاهر .
وثالثها : أن الله سبحانه وتعالى لا يطلب على إنعامه على العبد عوضاً ألبتَّة ، وإنعام الوالدين كذلك ، فإنهما لا يطلبان على الإنعام على الولد عوضاً .
ورابعها : أن الله لا يملّ من الإنعام على العبد ، ولو أتى العبد بأعظم الجرائم ، فإنه لا يقطع عنه مواد نعمه ، وكذلك الوالدان لا يملاَّن الولد ولا يقطعان عنه موادتهما وإن كان الولد مسيئاً إلى الوالدين .
وخامسها : كما أن الوالد المشفق يتصرّف في مال ولده بالاسْتِرْبَاحِ ، وطلب الزيادة ويصونه عن البخس والنقصان ، فكذلك الحقّ سبحانه وتعالى يتصرف في طاعة العبد ، فيصونها عن الضياع ويضاعفها كما قال : { مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ } [ البقرة : 261 ] .
فلما تشابها من هذه الحيثيات كانت نعم الوالدين قليلة بالنسبة إلى نِعَمِ الله تعالى ، [ بل النعم كلها من الله تعالى فلا ] جَرَمَ ذكر الإحسان إلى الوالدين عقب ذكر عبادة الله تعالى .
فصل في وجوب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين
اتفق أكثر العلماء على أنه يجب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين لقوله في هذه الآية : " وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً " بغير تقييد بكونهما مؤمنين أم لا ، وقد ثبت في أصول الفقه أن الحكم المرتب على الوصف يشعر بغلبة الوصف فالأمر بتعظيم الوالدين لمحض كونهما وَالدَيْن ، وذلك يقتضي العموم ، وهكذا الاستدلال بقوله تعالى : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } [ الإسراء : 23 ] وهذا نهاية المبالغة في المنع من إيذائهما إلى أن قال : { وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [ الإسراء : 24 ] فصرّح ببيان السّبب في وجوب هذا التعظيم ، وكذلك قوله : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] وقوله تعالى : { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً }
[ لقمان : 15 ] صريح في الدّلالة .
و " ذِي الْقُرْبى " وما بعده عطف على المجرور بالباء ، وعلامة الجر فيها الياء ؛ لأنها من الأسماء الستة التي ترفع بالواو ، وتنصب بالألف ، وتجر بالياء بشروط مذكورة ، وهل إعرابها بالحروف أو بغيرها ؟ عشرة مذاهب للنَّحويين فيها .
وهي من الأسماء اللاَّزمة للإضافة لفظاً ومعنى إلى أسماء الأجناس الظاهرة ؛ ليتوصّل بذلك إلى وصف النكرة باسم الجنس ؛ نحو : " مَرَرْتُ بِرَجُلٍ ذِي مَالٍ " وإضافته إلى المضمر ممنوعةٌ إلا في ضرورة أو نادر كلام ؛ كقوله : [ الوافر ]
615- صَبَحْنَا الْخزرَجِيَّةَ مُرْهَفَاتٍ *** أَبَانَ ذَوِي أَرُومَتِهَا ذَوُوهَا
616- إِنَّمَا يَعْرِفُ الْمَعْ *** رُوفَ في النَّاسِ ذَوُوهُ
وعلى هذا قولهم : " اللهم صَلِّ على محمد وذويه " .
وإضافته إلى العلم قليلة جدًّا ، وهي على ضربين :
واجبة : وذلك إذا اقترنا وضعاً ، نحو : " ذي يزن " و " ذي رعين " .
وجائزة وذلك إذا لم يقترنا وضعاً ، نحو : " ذي قطري " و " ذي عمرو " أي : صاحب هذا الاسم .
وأقل من ذلك إضافتها إلى ضمير المخاطب ؛ كقوله : [ الطويل ]
617- وَإِنَّا لَنَرْجُو عَاجِلاً مِنْكَ مِثْلَ مَا *** رَجَوْنَاهُ قِدْماً مِنْ ذَوِيكَ الأَفَاضِلِ
وتجيء " ذو " موصولة بمعنى " الَّذِي " وفروعه ، والمشهورُ حينئذ بِنَاؤها وتذكيرها ، ولها أحكام كثيرة .
و " القربى " مضاف إليه ، وألفه للتَّأنيث ، وهو مصدر ك " الرُّجْعَى والعُقْبَى " ، ويطلق على قرابة الصُّلْب والرَّحِم ؛ قال طَرَفَةُ : [ الطويل ]
618- وَظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً *** عَلَى الْحُرِّ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ
619- وَقَرَّبْتُ بالْقُرْبَى وَجَدِّكَ إِنَّهُ *** مَتَى يَكُ أَمْرٌ لِلنَّكِيثَةِ أَشْهَدِ
والمادة تدلّ على الدّنو عند البعد .
اعلم أن حقّ ذوي القُرْبى كالتَّابع لحق الوالدين ؛ لأن اتصال الأقارب بواسطة اتِّصَال الوالدين ، فلذلك أَخَّر الله تَعَالى ذكرهم بعد ذكر الوالدين ، والسبب في تأكيد رعاية هذا الحق إلى القرابة ؛ لأن القرابة مظنّة الاتِّحَاد والأُلْفَة والرعاية والنصرة ، فلهذا وجبت رعاية حُقُوق الأَقَارب .
قال الشَّافعي رضي الله عنه : لو أوصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث المَحرم ، وغير المَحرَم ، ولا يدخل الأب والابن ؛ لأنهما لا يعرفان بالقَرابَة ، ويدخل الأحفاد والأجداد .
وقيل : لا يدخل الأصول والفروع .
قال الشافعي : يرتقي إلى أقرب جدّ ينسب هو إليه ويعرف به ، وإن كان كافراً .
وذكر أصحابه في مثاله : لو أنه أوصى لأقارب الشافعي ، فإنا نصرفه إلى بني شَافعٍ دون بني المطّلب ، وبني عبد مناف ، وإن كانوا أقارب ؛ لأنّ الشّافعي ينتسب في المشهور إلى بني شافع دون عبد مَنَاف .
قال الغَزَالي : وهذا في زمان الشَّافعي ، أما في زماننا فلا ينصرف إلاَّ إلى أولاد الشافعي ولا يرتقي إلى بني شافع ؛ لأنّه أقرب من يعرف به أقاربه في زماننا ، أما قرابة الأم ، فإنها تدخل في وصيّة العجم ، ولا تدخل في وصيّة العرب على الأَظْهر ؛ لأنهم لا يعدون ذلك قَرَابةً أما لو قال : لأرحام فلان دخل فيه قَرَابَة الأب والأم .
قوله : " وَاليَتَامَى " وزنه " فَعَالى " ، وألفه للتأنيث ، وهو جمع " يتيم " ك " نديم ونَدَامى " ولا ينقاس هذا الجمع .
وقال ابن الخطيب : جمعه " أَيْتَام ويتامى " واليُتْم : الانفراد ، ومنه اليتيم ؛ لانفراده عن أبويه أو أحدهما ، ودرة يتيمة : إذا لم يكن لها نظير .
وقيل : اليَتَيم : الإبطاء ، ومنه : صبي يتيم ؛ لأنه يبطئ عنه البرّ ، وقيل : هو التغافل ، لأن الصبيّ يتغافل عما يصلحه .
قال الأَصْمَعيّ : " اليتيم في الآدميين من فَقَدَ الآباء ، وفي غيرهم من فقد الأمّهات " .
وقال المَاوَرْدِي : إن اليتم أيضاً في الناس من قبل فقد الأمهات .
والأول هو المعروف عند أهل اللغة ، ويسمى يتيماً إلى أن يبلغ ، يقال : يَتِمَ يَيْتَم يَتْماً مثل : سَمِعَ يَسْمعُ سَمْعاً ويَتُمَ يَيْتُم يُتْماً مثل : عَظُمَ يَعْظُم عُظْماً ، فهاتان لُغَتان مشهورتان حكاهما الفرَّاء ، ويقال : أيتمه الله إيتاماً ، أي : فعل به ذلك .
وعلامة الجَرّ في " القربى " و " اليَتَامى " كسرة مقدرة على الألف ، وإن كانت للتأنيث ؛ لأنَّ ما لا ينصرف إذا أضيف أو دخلته " أل " انجر بالكسرة ، وهل يسمّى حينئذ منجرّاً أو منصرفاً .
ثلاثة أقوال ، يفصل في الثالث بين أن يكون أحدَ سببيه العلمية ، فيسمى منصرفاً نحو : " يَعْمُرُكُمْ " أو لا يسمى منجراً نحو : " بالأحمر " ، و " القربى واليتامى " من هذا الأخير .
[ اليتيم كالتالي ] لرعاية حقوق الأقارب ؛ لأنه لصغره لا ينتفع به وليتمه وخلوه عمن يقوم به يحتاج إلى من ينفعه ، والإنسان قلّما يرغب في صُحبة مثل هذا ، وإن كان هذا التكليف شاقّاً على الأنفس لا جَرَمَ كانت درجته عظيمةً في الدين .
قال عليه الصلاة والسلام : " أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيْمِ كَهَاتَيْنِ فِي الجَنَّةِ " وأشار بالسَّبَّابة والوسطى . وقال عليه الصلاة والسلام : [ " مَا قَعَدَ يَتِيْم مع قَوْم عَلَى قَصْعَتِهِمْ فَيقرب قَصْعَتَهُمُ الشَّيْطَانُ{[1428]} " وقال عليه السلام ] : " مَنْ ضَمَّ يَتِيْماً مِنْ بَيْنِ المُسْلِميْنَ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ حَتَّى يُغْنِيَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلاً لاَ يُغْفَرُ {[1429]} " .
قوله : " والمساكين " جمع " مسكين " ، ويسمونه جمعاً لا نظير له من الآحاد ، وجمعاً على صيغة منتهى الجُمُوع ، وهو من العِلَلِ القائمة مقام علّتين ، وسيأتي تحقيقه قريباً إن شاء الله تعالى .
وتقدم القول في اشتقاقه عند ذكر المسكنة .
واختلف فيه : هل هو بمعنى الفقير أو أسوأ حالاً منه كقوله : { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } [ البلد : 16 ] أي : لصق جلده بالتراب ، وهو قول أبي حنيفة وغيره بخلاف الفقير ؛ فإن له شيئاً ما .
620- أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ *** وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَم يُتْرَكْ لَهُ سَبدُ
أو أكمل حالاً ؛ لأن الله جعل لهم ملكاً ما ، قال : { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } [ الكهف : 79 ] وهو قول الشافعي وغيره .
إنما تأخّرت درجتهم عن اليتامى ؛ لأن المِسْكين قد ينتفع به في الاستخدام ، فكان الميل إلى مُخَالطته أكثر من المَيْل إلى مُخَالطة اليتامى ، وأيضاً المسكين يمكنه الاشتغال بتعهّد نفسه ، ومصالح معيشته ، واليتيم ليس كذلك ، فلا جَرَمَ قدم الله ذكر اليتيم على المسكين .
قال عليه الصَّلاة والسلام : " السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ والمِسْكِين كَالمُجَاهِدِ فِي سَبِيْلِ اللهِ وأحسبه قال وَكَالقَائِمِ لاَ يَفْتُرُ مِنْ صَلاَةٍ وَكَالصَّائم لاَ يُفْطِرُ{[1430]} " .
قال ابن المنذر : كان طاوس يرى السَّعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله .
قوله : { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً } هذه الجملة عَطْفٌ على قوله : " لاَ تْعُبُدُونَ " في المعنى ، كأنه قال : لا تعبدوا إلا الله ، وأحسنوا بالوالدين وقولوا ، أو على " أحسنوا " المقدر ، كما تقدم تقريره في قوله تعالى : " وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً " .
وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً لقول محذوف تقديره : وقلنا لهم : قولُوا .
وقرأ حمزة والكسائي : " حَسَناً " بفتحتين ، و " حُسُناً " بضمتين ، و " حُسْنَى " من غير تنوين ك " حُبْلى " و " إِحْسَاناً " من الرباعي .
فأما من قرأ : " حُسْناً " بالضم والإسكان ، فيحتمل أوجهاً :
أحدها وهو الظَّاهر أنه مصدر وقع صفةً لمحذوف تقديره : وقولوا للناس حُسناً أي : ذا حسن .
الثاني : أن يكون وصف به مُبَالغة كأنه جعل القول نفسه حسناً .
الثالث : أنه صفة على وزن " فُعْل " ، وليس أصله المصدر ، بل هو كالحلو والمر ، فيكون بمعنى " حَسَنٍ " بفتحتين ، فيكون فيه لغتان : حُسْن وحَسَن ك " البُخْل والبَخَل ، والحُزْن والحَزَن ، والعُرْب والْعَرب " .
الرابع : أنه منصوب على المَصْدر من المعنى ، فإن المعنى : وَلْيَحْسُنْ قَوْلُكم حُسْناً .
وأما قراءة : " حَسَناً " بفتحتين فصفة لمصدر محذوف ، تقديره : قولاً حسناً ، كما تقدم في أحد أوجه " حُسْناً " .
وأما " حُسْناً " بضمتين ، فضمة السين لإتباع الحاء ، فهو بمعنى " حُسْناً " بالسكون ، وفيه الأوجه المتقدمة .
وأما " حُسْنَى " بغير تنوين فمصدر ك " البُشْرَى والرُّجْعَى " .
وقال النحاس في هذه القراءة : ولا يجوز هذا في العربية ، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام ، نحو : الكُبْرَى والفُضْلى . هذا قول سيبويه ، وتابعه ابن عطية على هذا ، فإنه قال : ورده سيبويه ؛ لأن " أفعل " و " فعلى " لا يجيء إلا معرفة إلاَّ أن يزال عنها معنى التَّفضيل ، ويبقى مصدراً ك " العُقْبى " ، فذلك جائز ، وهو وجه القراءة بها . انتهى وناقشه أبو حيان وقال : في كلامه ارْتباك ؛ لأنه قال : لأن " أفعل " و " فعلى " لا يجيء إلا معرفة ، وهذا ليس بصحيح .
أما " أَفْعل " فله ثلاثة استعمالات .
أحدها : أن يكون معها " مِنْ " ظاهرة أو مقدرة ، أو مضافاً إلى نكرة ، ولا يتعرف في هذين بحال .
الثاني : أن تدخل عليه " أل " فيتعرف بها .
الثالث : أن يضاف إلى معرفة فيتعرف على الصحيح .
وأما " فُعْلى " فلها استعمالان :
والثاني : الإضافة لمعرفة ، وفيها الخلاف السابق .
وقوله : " إلا أن يزال عنها معنى التفضيل ، وتبقى مصدراً " ظاهر هذا أن " فُعْلى " أنثى " أفعل " إذا زال عنها معنى التفضيل تبقى مصدراً وليس كذلك ، بل إذا زال عن " فعلى " أنثى " أفعل " معنى التفضيل صارت بمنزلة الصفة التي لا تفضيل فيها ؛ ألا ترى إلى تأويلهم " كُبْرى " بمعنى كبيرة ، " وصُغْرى " بمعنى صغيرة ، وأيضاً فإن " فعلى " مصدر لا يَنْقَاسُ ، إنما جاءت منها الألفاظ ك " العُقْبَى والبُشْرَى " ثم أجاب الشيخ عن هذا الثاني بما معناه أن الضمير في قوله : " عنها " عائد إلى " حسنى " لا إلى " فعلى " أنثى " أفعل " ، ويكون استثناء منقطعاً كأنه قال : إلا أن يزال عن " حسنى " التي قرأ بها أُبَيّ معنى التفضيل ، ويصير المعنى : إلا أن يُعْتقد أن " حسنى " مصدر لا أنثى " أفعل " .
وقوله : " وهو وجه القراءة بها " أي والمصدر وجه القراءة بها . وتخريج هذه القراءة على وجهين :
أحدهما : المصدر ك " البُشْرى " وفيه الأوجه المتقدمة في " حسناً " مصدراً ، إلا أنه يحتاج إلى إثبات " حُسْنى " مصدراً من قول العرب : حَسُن حُسْنَى ، كقولهم : رَجَع رُجْعَى ، إذ مجيء " فُعْلى " مصدراً لا يَنْقَاسُ .
والوجه الثاني : أن تكون صفةً لموصوف محذوف ، أي : وقولوا للناس كلمةً حُسْنى ، أو مقالةً حسنى ، وفي الوصف بها حينئذ وجهان :
أحدهما : أن تكون للتفضيل ، ويكون قد شَذَّ استعمالها غير معرفة ب " ألْ " ، ولا مضافة إلى معرفة ، كما شذَّ قوله : [ البسيط ]
621- وَإِنْ دَعَوتِ إِلَى جُلَّى وَمَكْرُمَةٍ *** يَوْماً سَرَاةَ كِرَامِ النَّاسِ فَادْعِينَا
622- في سَعْي دُنْيَا طَالَمَا قَدْ مَدَّتِ *** . . .
والوجه الثاني : أن تكون لغير التفضيل ، فيكون معنى حُسْنى : حَسَنة ك " كبرى " في معنى كبيرة ، أي : وقولوا للناس مَقَالة حَسَنة ، كما قال : يوسف أحسن إخوته في معنى حسن إخوته انتهى .
وأما من قرأ : " إحساناً " فهو مصدر وقع صفةً لمصدر محذوف ، أي : قولاً إحساناً [ وفيه تأويل مشهور ] ، ف " إحساناً " مصدر من أحسن الذي همزته للصيرورة ، أي : قولاً ذا حُسْن ، كما تقول : أعشبت الأرض ، أي : صارت ذا عُشْب .
فإن قيل : لم خوطبوا ب " قُولوا " بعد الإخبار ؟
أحدها : أنه على طريقة الالْتِفَاتِ ، كقوله تعالى : { حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] .
الثاني : فيه حذف ، أي : قلنا لهم : قولوا .
الثالث : الميثاق لا يكون إلا كلاماً كأنه قيل : قلت : لا تعبدوا وقولوا .
فصل في بيان هل الكفار داخلون في المخاطبة بالحسنى
قال بعضهم : إنما يجب القول الحسن مع المؤمنين ، أما مع الكُفّار والفُسَّاق فلا ، بدليل أنه يجب لعنهم وذمّهم ومحاربتهم ، فكيف يمكن أن يكون القول معهم حسناً ، وأيضاً قوله تعالى : { لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [ النساء : 148 ] والقائلون بهذا القول منهم من زعم أن هذا الأمر صار منسوخاً بآية القِتَالِ .
ومنهم من قال : إنه دخله التَّخصيص .
وزعم أبو جعفر محمد بن علي البَاقِر أن هذا العموم باقٍ على ظاهره ، ولا حاجة إلى التخصيص ، ويدلّ عليه أن موسى وهارون مع عُلوّ منصبهما أُمِرَا بالرِّفْق واللِّين مع فرعون ، وكذا محمد صلى الله عليه وسلم أمر بالرفق وترك الغِلْظَة بقوله : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [ النحل : 125 ] .
وقال : { وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ }[ الأنعام : 108 ] .
وقوله : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] .
وقوله : { وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } [ الأعراف : 199 ] .
وأما ما تمسكوا به من أنه يجب لعنهم وذمهم .
قلنا : لا نسلّم أنه يجب لعنهم ، وإن سلّمنا لكن لا نسلّم أن اللّعن ليس قَوْلاً حسناً .
بيانه : أنّ القول الحسن ليس عبارة عن القول الذي يستهوونه ، بل القول الحسن هو الذي يحصل انتفاعهم به ، ونحن إذا لعنَّاهم وذَمَمْنَاهم ليرتدعوا به عن الفعل القبيح كان ذلك نافعاً في حقهم ، فكان قولاً حسناً ، كما أن تغليظ الوالد لولده في القول يكون حسناً ونافعاً من حيث يَرْتَدِعُ به عن الفعل القبيح .
سلمنا أنّ لعنهم ليس قولاً حسناً ، ولكن لا نسلّم أن وجوبه ينافي وجوب القول الحسن .
بيانه : أنه لا مُنَافَاةَ بين كون الشخص مستحقًّا للتعظيم بسبب إحسانه إلينا ، ومستحقًّا للتحقير بسبب كفره ، وإذا كان كذلك ، فلم لا يجوز أن يقال بوجوب القول الحَسَنِ معهم ، وأما تمسّكهم بقوله تعالى : { لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [ النساء : 148 ]
فجوابه : لِمَ يجوز أن يكون المراد منه كشف حال الظالم ليحترز الناس عنه [ وهو المراد بقوله عليه السلام " اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس{[1431]} " ] .
فصل في أن الإحسان كان واجباً عليهم
ظاهر الآية يدلّ على أن الإحسان إلى ذي القربى واليتامى والمساكين كان واجباً عليهم في دينهم ، وكذا القول الحسن للناس كان واجباً عليهم ؛ لأن أخذ الميثاق يدلّ على الوجوب ، وذلك لأن ظاهر الأمر للوجوب ، والأمر في شرعنا أيضاً كذلك من بعض الوجوه ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه : أن الزّكاة نسخت كلّ حق ، وهذا ضعيف ؛ لأنه لا خلاف أن من اشتدت به الحاجة ، وشاهدناه بهذه الصفة ، فإنه يلزمنا التصدق عليه ، وإن لم يجب علينا الزكاة حتى أنه إن لم تندفع حاجتهم بالزَّكَاةِ كان هذا التصدّق واجباً ، ولا شك في وجوب مُكَالمة الناس بطريق لا يتضررون منه .
قال ابن عَبَّاس معنى الآية : " قولوا لهم لا إله إلا الله {[1432]} " .
وفسّره ابن جريج : " قولوا للناس حسناً صدقاً في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا تغيّروا صفته " .
وقال سفيان الثوري : مروهم بالمعروف وانْهوهم عن المنكر .
وقال أبو العالية : " قولوا لهم الطّيب من القول ، وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به{[1433]} " ، وهذا كلّه حضٌّ على مكارم الأخلاق ، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لَيْناً حسناً ، كما قال تعالى لموسى وهارون :{ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } [ طه : 44 ] .
وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة : " لاَ تَكُوني فَحَّاشَةً فَإِنَّ الفُحْشَ لَوْ كَانَ رَجُلاً لَكَانَ رَجُلَ سُوءٍ " ، ويدخل في هذه الآية المؤمن والكافر .
قوله : " وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وآتُوا الزَّكَاةَ " تقدم نظيره .
وقال ابن عطية : زكاتهم هي التي كانوا يضعونها ، وتنزل النَّار على ما تقبل منه ، ولم تنزل على ما لم يتقبل ، ولم تكن كزكاتنا .
قال القرطبي : " وهذا يحتاج إلى نَقْل . . . " .
قوله : { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ } .
قال الزمخشري : " وهذا على طريقة الالتفات " وهذا الذي قاله إنما يجيء على قراءة : " لاَ يَعْبُدُونَ " بالغيبة ، وأما على قراءة الخطاب فلا التفات ألبتَّة ، ويجوز أن يكون أراد بالالتفات الخروج من خطاب بني إسرائيل القدماء إلى خطاء الحاضرين في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم [ وقد قيل ذلك ] ويؤيده قوله تعالى : { إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ } .
قيل : يعني بهم الذين أسلموا في زمانه عليه الصلاة والسلام كعبد الله بن سَلام وأضرابه ، فيكون التفاتاً على القِرَاءتين .
ثم قال ابن الخطيب : الآية تحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون المُرَاد من تقدم من بني إسرائيل ، لأنه تعالى قد سَاقَ الكلام الأول في إظهار النعم بإقامة الحجج ثم بيّن بعد أنهم تولوا إلا قليلاً ، فإنهم بقوا على ما دخلوا فيه ، فإنّ أول الكلام في المتقدمين ، فالظاهر يقتضي أن آخره فيهم ، إلا بدليل يوجب الانصراف عن الظاهر .
وثانيها : أنه خطاب للحاضرين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، يعني : أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أَسْلاَفكم ؛ لأنه خطاب مشافهة ، وهو بالحاضرين أليق .
وثالثها : أن يكون المراد بقوله : " ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ " من تقدم ؛ لأنه تعالى لما بين أنه تعالى أنعم عليهم بتلك النّعم ثم تولّوا عنها بعد ذلك كان ذلك دالاًّ على نهاية قبح أفعالهم ، ويكون قوله : وأنتم معرضون مختصًّا بمن كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أي : أنكم بمنزلة المتقدّمين الذين تولّوا بعد أخذ المواثيق ، فإنكم بعد اطّلاعكم على صدق دلائل النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعرضتم عنه ، فكنتم بهذا الإعراض بمثابة أولئك المتقدمين [ الذين تولّوا بعد أخذ المواثيق بذلك الشِّرك ] في ذلك التولي والله أعلم .
و " قليلاً " منصوب على الاستثناء ؛ لأنه من موجب .
وقال القرطبي : المستثنى عند سيبويه منصوب ؛ لأنه مشبه بالمَفْعُول .
وقال محمد بن يزيد : هو المفعول حقيقة ؛ لأن معناه : استثنيت قليلاً .
وروي عن أبي عمرو وغيره : " إلاَّ قَلِيلٌ " بالرفع ، وفيه ستّة أقوال :
أصحها : أن رفعه على الصفة بتأويل " إلاّ " وما بعدها بمعنى " غَيْر " ، وقد عقد سيبويه رحمه الله في كتابه لذلك باباً فقال : " هذا باب ما يكون فيه " إلاَّ " وما بعدها وصفاً بمنزلة غَيْر ومثل " وذكر من أمثلة هذا الباب : " لو كان معنا رجلٌ إلا زيدٌ لغُلِبْنَا " و { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا }
623- . . . *** قَلِيلٌ بِهَا الأَصْوَاتُ إِلاَّ بُغَامُهَا
وسَوَّى بين هذا وبين قراءة : { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ } [ النساء : 95 ] برفع " غير " وجوز في نحو : " ما قام القومُ إلا زيدٌ " بالرفع البدل والصِّفة ، وخرج على ذلك قوله : [ الوافر ]
624- وَكُلّ أخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ *** لَعَمْرُ أبِيكَ إلاَّ الفَرْقَدَانِ
كأنه قيل : " وكلُّ أخٍ غيرُ الفَرْقَدَين مُفَارِقُهُ أخُوهُ " ؛ كما قال الشَّمَّاخ : [ الطويل ]
625- وَكُلُّ خَلِيلٍ غَيْرُ هَاضِمِ نَفْسِهِ *** لِوَصلِ خَلِيلٍ صَارٍمٌ أَو مُعَارِزُ
626- لِدَمٍ ضَائِعٍ تَغَيَّبَ عَنْهُ *** أَقْرَبُوهُ إلاَّ الصَّبَا والجَنُوبُ
627- وَبِالصَّرِيمَةِ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ خَلَقٌ *** عَافٍ تَغَيَّرَ إلاَّ النُّؤْيُ والوَتِدُ
والفرق بين الوصف ب " إلاَّ " والوصْفِ بغيرها أنَّ " إلاَّ " توصف بها المعارفُ والنكرات ، والظاهرُ والمضمرُ .
وقال بعضهم : " لا توصف بها إلا النكرة أو المعرفة بلام الجنس ، فإنه في قوة النكرة " .
وقال المبرِّد : " شرطه صلاحية البدلِ في موضعه " .
الثاني : أنه عطف بيان ، قاله ابن عصفور .
وقال : " إنما يعني النحويون بالوصف ب " إلاَّ " عطف البيان " ، [ وفيه نظرٌ ] .
الثالث : أنه مرفوع بفعل مَحْذُوف ، كأنه قال : امتنع قليل .
الرابع : أن يكون مبتدأ وخبره محذوف ، أي : إلاَّ قليل منكم لم يتولّوا ، كما قالوا " ما مررت بأحد إلاّ رجلٌ من بني تميم خيرٌ منه " .
الخامس : أنه توكيد للضمير المرفوع ، ذكر هذه الأوجه أبو البقاء .
وقال : سيبويه وأصحابه يسمونه نعتاً ووصفاً يعني التوكيد ، وفي هذه الأوجه التي ذكرها ما لا يخفى ، ولكنها قد قيلت .
السادس : أنه بدلٌ من الضمير " تولّيتم " .
قال ابن عطية : وجاز ذلك مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي ؛ لأنَّ " توليتم " معناه النفي كأنه قال : لم تَفُوا بالميثاق إلا قليل ، وهذا الذي ذكره مِنْ جَوَاز البدل منعه النحويون ، فلا يجيزون " قام القوم إلا زيد " على البدل .
قالوا : لأن البدل يَحُلّ محلّ المبدل منه فيؤول إلى قولك : " قام إلا زيد " ، وهو ممتنع .
وأما قوله : إنه في تأويل النفي ، فما من موجب إلاَّ يمكن فيه ذلك ، ألا ترى أن قولك : " قام القوم إلا زيد " في حكم قوله : " لم يجلسوا إلاَّ زيد " ، فكل موجب إذا أخذت نفي نقيضه أو ضده كان كذلك ، ولم تعتبر العرب هذا في كلامها ، وإنما أجاز النحويون : " قام القوم إلا زيد " بالرفع على الصفة كما تقدم تقديره .
و " منكم " صفة ل " قَلِيلاً " فهي في محل نصب ، أو رفع على حسب القراءتين ، والظاهر أن القليل مراد بهم الأشخاصُ لوصفه بقوله : " مِنْكُمْ " .
وقال ابن عطية : " ويُحْتَمَل أن تكون القلة في الإيمان ، أي : لم يبق حينَ عَصَوا وكفروا آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إيمان قليل ، إذ لا ينفعهم ، والأول أقوى " انتهى .
وهذا قول بعيد جدّاً أو ممتنع .
" وأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ " جملة من مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال من فاعل " تَوَلَّيْتُمْ " وفيها قولان :
أحدهما : أنها حال مؤكِّدة ؛ لأن التولّي والإعراض مُتَرَادفان ، وقيل مبيِّنة ، فإن التولي باليدين والإعراض بالقلب ، قاله أبو البقاء .
وقال بعده : وقيل : " تَوَلَّيْتُمْ " يعني آباءهم ، " وأنتم معرضون " يعني أنفسهم ، كما قال : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } [ البقرة : 49 ] أي آباءهم انتهى .
وهذا يؤدّي إلى أن جملة قوله : " وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ " لا تكون حالاً ؛ لأن فاعل التولّي في الحقيقة ليس هو صَاحِبَ الحال والله أعلم .
وكذلك تكون " مبيّنة " إذا اختلف متعلّق التولي والإعراض كما قال بعضهم : ثم توليتم عن أخذ ميثاقكم ، وأنتم معرضون عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم .
وقيل : التولّي والإعراض مأخوذان من سلوك الطريق ، وذلك أنه إذا سلك طريقاً ورجع عَوْدَه على بَدْئه سمي ذلك تولياً ، وإن سلك في عُرْض الطريق سمي إعراضاً .
وجاءت الحال جملة اسمية مصدرة ب " أنتم " ؛ لأنه أكد .
وجيء بخبر المبتدأ اسماً ، لأنه أولّ على الثبوت فكأنه قيل : وأنتم عادتكم التولي والإعراض عن الحق .