41- واعلموا - أيها المسلمون - أن ما ظفرتم به من مال الكفار فحكمه : أن يقسم خمسة أخماس ، خُمس منها لله وللرسول ولقرابة النبي واليتامى : وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم وهم فقراء ، والمساكين ، وهم ذوو الحاجة من المسلمين ، وابن السبيل : وهو المنقطع في سفره المباح . والمخصص من خُمس الغنيمة لله وللرسول يرصد للمصالح العامة التي يقررها الرسول في حياته ، والإمام بعد وفاته ، وباقي الخُمس يصرف للمذكورين . أما الأخماس الأربعة الباقية من الغنيمة - وسكتت عنها الآية - فهي للمقاتلين ، فاعلموا ذلك ، واعملوا به إن كنتم آمنتم بالله حقاً ، وآمنتم بما أنزل على عبدنا محمد من آيات التثبيت والمدد ، يوم الفرقان الذي فرَّقنا فيه بين الكفر والإيمان ، وهو اليوم الذي التقى فيه جمعكم وجمع الكافرين ببدر ، والله عظيم القدرة على كل شيء ، وقد نصر المؤمنين مع قلتهم ، وخذل الكافرين مع كثرتهم .
وبعد هذا الحديث المتنوع عن مكر الكافرين وعن دعاويهم الكاذبة ، وعن وجوب مقاتلتهم إذا ما استمروا في طغيانهم وعدوانهم . . بعد كل ذلك بين - سبحانه - للمؤمنين كيفية قسمة الغنائم التي كثيرا ما تترب على قتال أعدائهم ، فقال - تعالى - : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ . . . } .
وقوله : { غَنِمْتُمْ } من الغنم بمعنى الفوز والربح يقال : غنم غنما وغنيمة إذا ظفر بالشئ قال القرطبى ما ملخصه : الغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعى ، ومن ذلك قول الشاعر :
وقد طوفت في الآفاق حتى . . . رضيت من الغنيمة بالإِياب
واعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله - تعالى - : { غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ } مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر .
وسمى الشرع الواصل من الكافر إلينا من الأموال باسمين : غنيمة وفيئا . فالشئ الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعى وإيجاف الخيل والركاب يسمى غنيمة . ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفا .
والفئ مأخوذ من فاء يفئ إذا رجع ، وهو كل ما دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف . كخراج الأرضين ، وزية الجماجم .
والمعنى : الاجمالى للآية الكريمة : { واعلموا } - أيها المسلمون - { أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ } أى : ما أخذتموه من الكفار قهراً { فَأَنَّ للَّهِ } الذي منه - سبحانه - النصر المتفرع عليه الغنيمة { خُمُسَهُ } أي خمس ما غنمتموه شكرا له على هذا النعمة { وَلِلرَّسُولِ } الذي هو سبب في هدايتكم { وَلِذِي القربى } أى : ولأصحاب القرابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم والمراد بهم على الراجح بن هاشم وبنو المطلب .
{ واليتامى } وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم قبل أن يبلغوا .
{ والمساكين } وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين .
{ وابن السبيل } وهو المسافر الذي نفد ماله وهو في الطريق قبل أن يصل إلى بلده .
وقوله { واعلموا } معطوف على قوله قبل ذلك { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ . . . } الخ و { مَا } في قوله : { أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } موصولة والعائد محذوف .
وقوله : { مِّن شَيْءٍ } بيان الموصول محله النصب على أنه حال من العائد المقدر .
أى : أن ما غنمتموه من شئ سواء أكان هذا الشئ قليلا أم كثيرا { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } .
وقوله : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } خبر مبتدأ محذوف والتقدير : فحكمه أن لله خمسة والجار والمجرور خبر { أَنَّ } مقدم ، وخمسة اسمها مؤخر . والتقدير : فأن خمسه كائن لله وللرسول ولذى القربى . . إلخ .
وأعيدت اللام في قوله { وَلِذِي القربى } دون غيرهم من الأصناف التالية لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبى - صلى الله عليه وسلم - لمزيد اتصالهم به .
وقوله : { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله . . . } شرط جزاؤه محذوف .
أى : إن كنتم آمنتم بالله حق الإِيمان ، وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - { يَوْمَ الفرقان } أي يوم بدر { يَوْمَ التقى الجمعان } أى : جمع المؤمنين وجمع الكافرين . . إن كنتم آمنتم بكل ذلك ، فاعملوا بما علمتم ، وارضوا بهذه القسمة عن إذعان وتسليم وحسن قبول .
وما أنزله الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر .
يتناول ما نزل من آيات قرآنية ، كما يتناول نزول الملائكة لتثبيت المؤمنين ، وتبشيرهم بالنصر كما يتناول غير ذلك مما أيدهم الله به في بدر .
وسمى يوم بدر بيوم الفرقان ، لأنه اليوم الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل وقوله { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تذييل قصد به بيان أن ما أصابه المؤمنون يوم بدر من غنيمة ونصر إنما هو بقدرة الله التي لا يعجزها شئ فعليهم أن يداموا على طاعته وشكره ليزيدهم من عطائه وفضله .
هذا ، وقد ذكر العلماء عند تفسيره لهذه الآية جملة من المسائل والأحكام من أهمها ما يأتى :
1- أن هذه الآية وضحت أن غنائم الحرب تخمس فيجعل الخمس الأول منها لله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، والأربعة الأخماس الباقية بينت السنة أنها تقسم على الجيش : للراجل سهم ، وللفارس ثلاثة أسهم أو سهمان .
قال ابن كثير : ويؤيد هذا ما رواه البيهقى بإسناد صحيح عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال : أتيت النبى - صلى الله عليه وسلم - ، وهو بوادى القرى ، وهو معترض فرسا فقلت : يا رسول الله ، ما تقول في الغنيمة ، فقال : لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش ، قلت : فما أحد أولى به من أحد ، قال : لا ، ولا السهم تستخرجه من جيبك ، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم .
وقال بعض العلماء : أفادت الآية أن الواجب في المغنم تخميسه ، وصرف الخمس إلى من ذكره الله - تعالى - وقسمه الباقى بين الغانمين بالعدل ، للراجل سهم ، وللفارس ثلاثة أسهم ، سهم له وسهمان لفرسه . هكذا قسم النبى - صلى الله عليه وسلم الغنائم عام خيبر .
ومن الفقهاء من يقول : للفارس سهمان . والأول هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة ، ولأن الفرس يحتاج إلى مؤمنة نفسه وسائسه ، ومنفعة الفارس بن أكثر من منفعة رجلين .
ويجب قسمتها بينهم بالعدل ، فلا يحابى أحدا ، لا لرياسته ولا لنسبه ولا لفضله وفى صحيح البخارى " أن سعد بن أبى وقاص رأى أن له فضلا على من دونه ، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم "
ذهب جمهور العلماء إلى ان المقصود بإِيتاء لفظ الجلالة في قوله { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } : التبرك والتعظيم والحض على إخلاص النية عند القسمة وعلى الامتثال والطاعة له - سبحانه - .
وليس المقصود أن يقسم الخمس على ستة منها الله - تعالى - ، فإنه سبحانه - له الدنيا والآخرة ، وله ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما .
وعليه يكون خمس الغنيمة مقسما على خمسة أقسام : للرسول ، ولذى القربى واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل .
ويرى أبو العالية والربيع والقاسم أن هذا الخمس يقسم إلى ستة أقسام ، عملا بظاهر الآية ، وأن سهم الله - تعالى - يصرف في وجوه الخير ، أو يؤخذ للكعبة .
وقد رجح ابن جرير رأى الجمهور فقال : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب من قال : قوله { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } افتتاح كلام ، وذلك لاجتماع الحجة على أن الخمس غير جائز قسمه على ستة أسهم . ولو كان لله فيه سهم - كما قال ابو العالية - لوجب أن يكون خمس الغنيمة مقسوما على ستة أسهم . وإنما اختلف أهل العلم في قسمه على خمسة فما دونها .
فأما على أكثر من ذلك فلا نعلم قائلا غير الذي ذكرناه من الخبر عن أبى العالية . وفى إجماع من ذكرت - الدلالة الواضحة على ما اخترناه .
وسهم النبى - صلى الله عليه وسلم - جعله الله - تعالى - له في قوله { وَلِلرَّسُولِ } كان مفوضا إليه في حياته ، يتصرف فيه كما شاء ، ويضعه حيث يشاء .
روى الإِمام أحمد " أن أبا الدرداء قال لعبادة بن الصامت : يا عبادة ، ما كلمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس ؟ فقال عبادة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم . فلما سلم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتناول وبرة فقال : إن هذه من غنائمكم ، وأنه ليس لى فيها إلا نصيبى معكم الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدوا الخيط والمخيط وأكبر من ذلك وأصغر ، ولا تغلوا فإن الغلو نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة ، وجاهدوا الناس في الله تبارك وتعالى القريب والبعيد ، ولا تبالوا في الله لومة لائم ، وأقيموا الحدود في الحضر والسفر ، وجاهدوا في سبيل الله ، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة . ينجى الله به من الغم والهم " ، قال ابن كثير : هذا حديث حسن عظيم .
وروى أبو داود والنسائى " عن عمور بن عبسة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم إلى بعير من الغنم ، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال : ولا يحل لى من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس ، والخمس مردودة عليكم " .
هذا بالنسبة لسهمه - صلى الله عليه وسلم - في حياته ، أما بعد وفاته ، فمنهم من يرى : أن سهمه - صلى الله عليه وسلم - يكون لمن يلى الأمر من بعده . روى هذا عن أبى بكر وعلى قتادة وجماعة . .
ومنهم من يرى أن سهمه - صلى الله عليه وسلم - يصرف في مصالح المسلمين . روى ابن جرير عن الأعمش عن إبراهيم قال : كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبى - صلى الله عليه وسلم - في الكراع والسلاح .
ومنهم من يرى صرفه لبقية الأصناف : ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل .
وقد رجح ابن جرير هذا الرأى فقال : والصواب من القول في ذلك عندنا : ان سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مردود في الخمس ، والخمس مقسوم على أربعة اسهم على ما روى عن ابن عبسا : للقرابة سهم ، ولليتامى سهم ، وللمساكين سهم ، ولابن السبيل سهم ، لأن الله - تعالى - أوجب الخمس لأقوام موصوفين بصفات ، كما أوجب الأربعة الأخماس الآخرين . وقد اجمعوا أن حق أهل الأربعة الأخماس لن يستحقه غيرهم ، فكذلك حق أهل الخمس لن يستحقه غيرهم ، فغير جائز أن يخرج عنهم إلى غيرهم . .
4- المراد بذى القربى - كما سبق أن أشرنا - بنو هاشم وبنو المطلب على الراجح . وعليه فإن السهم المخصص لذى القربى لا يصرف إلى لهم .
قال القرطبى ما ملخصه : اختلف العلماء في ذوى القربى على ثلاثة أقوال :
أولها : أن المراد بهم بنو هاشم وبنو المطلب . " قاله الشافعى وأحمد وأبو ثور ومجاهد . . لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لما قسم سهم ذوى القربى بين بنى هاشم وبنى المطلق قال : " إنهم لم يفارقونى في جاهلية ولا إسلام وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد " وشبك بين أصابعه " أخرجه البخارى والنسائى .
ثالثها : أن المراد بهم بنو هاشم خاصة . قاله مجاهد وعلى بن الحسين . وهو قول مالك والثورى والأوزاعى وغيرهم .
وقال الآلوسى : وكيفية القسمة عند الأصحاب أنها كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خمسة أسهم سهم له - صلى الله عليه وسلم - للمذكورين من ذوى القربى ، وثلاثة أسهم للاصناف الثلاثة الباقية .
وأما بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - فسقط سهمه . . وكذا سقط سهم ذوى القربى ، وإنما يعطون بالفقر ، ويقدم فقراؤهم على فقراء غيرهم ، ولا حق لأغنيائهم ، لأن الخلفاء الأربعة قسموا الخمس كذلك وكفى بهم قدوة . .
ثم قال : ومذهب المالكية أن الخمس لا يلزم تخمسه ، وأنه مفوض إلى رأى الإِمام .
- أي انهم يرون أن خمس الغنيمة يجعل في بيت المال فينفق منه على ما ذكر وعلى غيرهم بحسب ما يراه الأمام من مصلحة المسلمين ، وكأنهم يرون أن هذه الأصناف إنما ذكرت على سبيل المثال ، وأنها من باب الخاص الذي قصد به العام ، بينما يرى غيرهم أن هذه الاصناف من باب الخاص الذي قصد به الخاص .
ثم قال : ومذهب الإِمامية أنه ينقسم إلى ستة أسهم كما ذهب أبو بالعالية ، إلا أنهم قالوا : إن سهم الله - تعالى - ، وسهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسهم ذوى القربى الكل للإِمام القائم مقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - أما الاسهم الثلاثة الباقية فهم لليتامى من آل محمد - صلى الله عليه وسلم - وسهم لمساكينهم ، وسهم لآبناء سبيلهم ، لا يشركهم في ذلك غيرهم .
رووا ذلك عن زين العابدين ، ومحمد بن على الباقر .
ثم قال : والظاهر أن الاسهم الثلاثة الأولى التي ذكروها اليوم تخبأ في السرداب ، إذ القام مقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد غاب عندهم فتخبأ له حتى يرجع من غيبته . .
هذا ، ومن كل ما سبق نرى أن أكثر العلماء يرون أن خمس الغنيمة يقسم إلى خمسة أقسام ، ومنهم من يرى أنه يقسم الى ستة أقسام ، ومنهم من يرى أنه لا يلزم تقسيمه إلى خمسة أقسام أو الى ستة ، وإنما هو موكول إلى نظر الإِمام واجتهاده . . ومنهم من يرى غير ذلك ، ولكل فريق أدلة المبسوطة في كتب الفروع .
5- ذكرنا عند تفسيرنا لقوله - تعالى - في مطلع السورة { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال . . . } أن المراد بالأنفال : الغنائم وعليه تكون الآية التي معنا وهى قوله { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } مفصلة لما أجملته الآية التي في مطلع السورة .
أى أن الآية التي في مطلع السورة بينت أن الأمر في قسمة الانفال مفوض إلى الله ورسوله ، ثم جاءت الآية التي معنا ففصلت كيفية قسمة الغنائم حتى لا يتطلع أحد إلى ما ليس من حقه .
وهذا أولى من قول بعضهم : إن الآية التي معنا نسخت الآية التي في مطلع السورة : لأن النسخ لا يصار إليه عند التعارض وهنا لا تعارض بين الآيتين .
6- الآية الكريمة أرشدت المؤمنين إلى أن من الواجب عليهم أن يخلصوا في طاعتهم لله - تعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن يجعلوا غياتهم من جهادهم إعلاء كلمة الله ، لكى يكونوا مؤمنين حقا .
ويشعر بهذا الإِرشاد تصديره - سبحانه - الآية بقوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } كما يشعر به قوله - تعالى - { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان . . } ، فإن كل ذلك فيه معنى الحض على إخلاص النية لله - تعالى - والامتثال لحكمه ، والمداومة على شكره ، حيث منحهم - سبحانه - هذه النعم بفضله وإحسانه .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : فإن قلت : بم تعلق قوله { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله } : قلت بمحذوف يدل عليه قوله { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } والمعنى : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به ، فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة . ولس المراد بالعلم المجرد ، ولكنه العلم المضمن بالعمل ، والطاعة لأمر الله - تعالى - ، لأن العلم المجرد يستوى فيه المؤمن والكافر .
هذه بعض المسائل والأحكام التي استنبطناها من الآية الكريمة ، وهناك مسائل وأحكام اخرى تتعلق بها ذكرها بعض المفسرين فارجع إليه إن شئت .
يتألف هذا الجزء من بقية سورة الأنفال - التي وردت أوائلها في الجزء التاسع - ومن قسم كبير من سورة التوبة . . وسنمضي أولاً مع بقية الأنفال ، أما سورة التوبة فسنعرّف بها في موضعها من هذا الجزء إن شاء الله .
لقد ألممنا بالخطوط الرئيسية للسورة في مطلعها عند نهاية الجزء التاسع . وهذه البقية منها تمضي على هذه الخطوط الرئيسية فيها . . إلا أن الظاهرة التي تلمح بوضوح في سياق السورة ، هي أن هذا الشطر الأخير منها ، يكاد يكون مماثلا في سياقه وترتيب موضوعاته للشطر الأول منها ، ومع انتفاء التكرار بسبب تجدد الموضوعات ، إلا أن ترتيب هذه الموضوعات في السياق يكاد يجعل هذا الشطر دورة ، والشطر الأول دورة ، بينهما هذا التناسق العجيب !
لقد بدأ الشطر الأول بالحديث عن الأنفال وتنازعهم عليها ؛ فردها إلى اللّه والرسول . . ثم دعاهم إلى التقوى ، وبين لهم حقيقة الإيمان ليرتفعوا إليها . . ثم كشف لهم عن تدبير الله وتقديره في الموقعة التي يتنازعون أنفالها ، مستحضراً جانباً من مواقف المعركة مشاهدها ، فإذا التدبير كله للّه والمدد كله من الله ، والمعركة كلها مسوقة لتحقيق إرادة الله وإن هم فيها إلا ستار وأداة . . ثم أهاب بهم من وراء هذا الذي كشفه لهم من حقيقة المعركة إلى الثبات عند الزحف ؛ وطمأنهم إلى نصرة اللّه ومعيته ، وإلى تخذيل اللّه لأعدائهم وأخذهم بذنوبهم . . ثم حذرهم خيانة اللّه وخيانة الرسول وفتنة الأموال والأولاد ؛ وأمر الرسول - [ ص ] - أن يحذر الذين كفروا عاقبة ما هم فيه ؛ وأن يقبل منهم الاستجابة - لو استجابوا - ويكل خبيئهم إلى اللّه ؛ وأمر المسلمين أن يقاتلوهم إن تولوا حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله للّه . .
وكذلك يسير هذا الشطر الثاني . . يبدأ ببيان حكم اللّه في الغنائم - بعد أن ردها إلى اللّه ورسوله - ثم يدعوهم إلى الإيمان باللّه وما أنزله على عبده يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . ثم يكشف لهم عن تدبير اللّه وتقديره في الموقعة التي جاءت بهذه الغنائم ؛ ويستحضر جانبا آخر من مواقف المعركة ومشاهدها ، يتجلى فيه هذا التقدير وذلك التدبير ، كما يتجلى فيه أنهم لم يكونوا سوى أداة لقدر اللّه وستار . . ثم يهيب بهم من وراء هذا الذي كشفه لهم من حقيقة المعركة إلى الثبات عند اللقاء ، وإلى ذكر اللّه ، وطاعته وطاعة رسوله ؛ ويحذرهم التنازع مخافة الفشل والانكسار ؛ ويدعوهم إلى الصبر ؛ وتجنب البطر والرياء في الجهاد ؛ ويحذرهم عاقبة الكفار الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ، منخدعين بمكر الشيطان ؛ ويدعوهم إلى التوكل على الله وحده ، القوي القادر على النصر الحكيم في تقديره وتدبيره . . ثم يريهم سنة اللهفي أخذ الكافرين المكذبين بذنوبهم . . وكما ذكر الملائكة في الشطر الأول وهم يثبتون المؤمنين ويضربون أعناق الكفار وأيديهم ، فكذلك يذكر في هذا الشطر الثاني أن الملائكة يتوفون الذين كفروا يضربون وجوههم وأدبارهم . . وكما قال في الشطر الأول عن الذين كفروا : إنهم شر الدواب ، فكذلك يكرر هنا هذا الوصف بمناسبة الحديث عن نقضهم لعهدهم كلما عاهدوا ، وتمهيدا لما يأمر به الله رسوله [ ص ] من أحكام التعامل معهم في الحرب والسلم ؛ وهي أحكام مفصلة للعلاقات بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات المعادية والمسالمة ، بعضها أحكام نهائية ، وبعضها أحكام استكملت فيما بعد في سورة التوبة .
وإلى هنا تكاد تكون هذه الدورة الثانية في السورة مطابقة - من حيث طبيعة الموضوعات ومن حيث ترتيبها في السياق - لما جاء في الدورة الأولى ، مع شيء من التفصيل في أحكام المعاملات بين المعسكر الإسلامي وسائر المعسكرات .
ثم تزيد في ختام السورة موضوعات وأحكام أخرى متصلة بها ، ومكملة لها :
يذكر الله - سبحانه - رسوله [ ص ] والذين آمنوا معه ، بمنته عليهم في تأليف قلوبهم ، وقد كانت مستعصية على التأليف لولا إرادة الله ورحمته ومنته .
ويطمئنهم الله كذلك إلى كفايته لهم وحمايته . . ومن ثم يأمر رسوله بتحريضهم على القتال ؛ ويريهم أنهم بإيمانهم - إذا صبروا - أكفاء لعشرة أضعافهم من الذين كفروا الذين لا يفقهون ، لأنهم لا يؤمنون ! وأنهم في أضعف حالاتهم أكفاء لضعفهم من الذين كفروا - متى صبروا . والله مع الصابرين .
ثم يعاتبهم الله سبحانه على قبولهم الفدية في الأسرى ؛ وهم لم يثخنوا في الأرض بعد ، ولم يخضدوا شوكة عدوهم ؛ ولم يستقر سلطانهم وتثبت دولتهم . فيقرر بهذا منهج الحركة الإسلامية في المراحل المختلفة والأحوال المتعددة ، ويدل على مرونة هذا المنهج وواقعيته في مواجهة الواقع في المراحل المختلفة . . وكذلك يبين الله لهم كيف يعاملون من في أيديهم من الأسرى ، وكيف يحببونهم في الإيمان ، ويزينونه في قلوبهم ؛ ثم يخذل الله هؤلاء الأسرى عن محاولة الخيانة مرة أخرى وييئسهم من جدواها ؛ فالله الذي أمكن منهم أول مرة حين خانوه بالكفر ، سيمكن منهم مرة أخرى لو خانوا رسوله [ ص ] .
وأخيراً تجيء الأحكام المنظمة لعلاقات الجماعة المسلمة فيما بينها ، وعلاقاتها بالمجموعات التي تدخل في الإسلام ، ولكنها لا تلحق بدار الإسلام ، ثم علاقاتها بالذين كفروا في حالات معينة ، ومن حيث المبدأ العام أيضاً . حيث تتجلى في هذه الأحكام طبيعة التجمع الإسلامي ؛ وطبيعة المنهج الإسلامي كله ؛ وحيث يبدو بوضوح كامل أن " التجمع الحركي " هو قاعدة الوجود الإسلامي ، الذي تنبثق منه أحكامه في المعاملات الداخلية والخارجية ؛ وأنه لا يمكن فصل العقيدة والشريعة في هذا الدين عن الحركة والوجود الفعلي للمجتمع المسلم .
وهذا حسبنا في هذا التمهيد القصير ، لنواجه بعده النصوص القرآنية بالتفصيل :
( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ، وللرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل . . إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . والله على كل شيء قدير ) . .
وبين الروايات المأثورة والآراء الفقهية خلاف طويل . . أولاً : حول مدلول " الغنائم " ومدلول " الأنفال " هل هما شيء واحد ، أم هما شيئان مختلفان ? وثانياً : حول هذا الخمس - الذي يتبقى بعد الأخماس الأربعة التي منحها الله للمقاتلين - كيف يقسم ? وثالثاً : حول خمس الخمس الذي لله . أهو الخمس الذي لرسول الله ، أم هو خمس مستقل ? : ورابعا : حول خمس الخمس الذي لرسول الله [ ص ] أهو خاص به أم ينتقل لكل إمام بعده ? وخامساً : حول خمس الخمس الذي لأولي القربى ، أهو باق في قرابة رسول الله [ ص ] من بني هاشم وبني عبد المطلب ، كما كان على عهد رسول الله [ ص ] ، أم يرجع إلى الإمام يتصرف فيه ? وسادساً : أهي أخماس محددة يقسم إليها الخمس ، أم يترك التصرف فيه كله لرسول الله [ ص ] ولخلفائه من بعده ? . . . وخلافات أخرى فرعية .
ونحن - على طريقتنا في هذه الظلال - لا ندخل في هذه التفريعات الفقهية التي يحسن أن تطلب في مباحثها الخاصة . . هذا بصفة عامة . . وبصفة خاصة فإن موضوع الغنائم بجملته ليس واقعا إسلاميا يواجهنا اليوم أصلا . فنحن اليوم لسنا أمام قضية واقعة ، لسنا أمام دولة مسلمة وإمامة مسلمة وأمة مسلمة تجاهد في سبيل الله ، ثم تقع لها غنائم تحتاج إلى التصرف فيها ! لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية أول مرة ؛ ورجع الناس إلى الجاهلية التي كانوا عليها ، فأشركوا مع الله أرباباً أخرى تصرف حياتهم بشرائعها البشرية ! ولقد عاد هذا الدين أدراجه ليدعو الناس من جديد إلى الدخول فيه . . إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . . إلى إفراد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية والسلطان . والتلقي في هذا الشأن عن رسول الله وحده ! وإلى التجمع تحت قيادة مسلمة تعمل لإعادة إنشاء هذا الدين في حياة البشر ، والتوجه بالولاء كله لهذا التجمع ولقيادته المسلمة ؛ ونزع هذا الولاء من المجتمعات الجاهلية وقياداتها جميعاً .
هذه هي القضية الحية الواقعية التي تواجه اليوم هذا الدين ؛ وليس هناك - في البدء - قضية أخرى سواها . . ليس هناك قضية غنائم ، لأنه ليس هناك قضية جهاد ! بل ليس هناك قضية تنظيمية واحدة ، لا في العلاقات الداخلية ولا في العلاقات الخارجية ، وذلك لسبب بسيط : هو أنه ليس هناك مجتمع إسلامي ذو كيان قائم مستقل ، يحتاج إلى الأحكام التي تضبط العلاقات فيه والعلاقات بينه وبين غيره من المجتمعات الأخرى ! ! !
والمنهج الإسلامي منهج واقعي ، لا يشتغل بقضايا ليست قائمة بالفعل ؛ ومن ثم لا يشتغل أصلاً بأحكام تتعلق بهذه القضايا التي لا وجود لها من ناحية الواقع ! . . إنه منهج أكثر جدية وواقعية من أن يشتغل بالأحكام ! هذا ليس منهج هذا الدين . هذا منهج الفارغين الذين ينفقون أوقات الفراغ في البحوث النظرية وفي الأحكام الفقهية ، حيث لا مقابل لها من الواقع أصلا ! بدلا من أن ينفقوا هذه الجهود في إعادة إنشاء المجتمع المسلم وفق المنهج الحركي الواقعي لهذا الدين نفسه : دعوة إلى لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؛ ينشأ عنها دخول فئة في هذا الدين من جديد - كما دخل فيه الناس أول مرة - كما ينشأ عن هذا الدخول في الدين تجمع حركي ذو قيادة مسلمة وذو ولاء خاص به وذو كينونة مستقلة عن المجتمعات الجاهلية . . ثم يفتح الله بينه وبين قومه بالحق . . ثم يحتاج حينئذ - وحينئذ فقط - إلى الأحكام التي تنظم علاقاته فيما بينه ؛ كما يحتاج إلى الأحكام التي تنظم علاقاته مع غيره . . وحينئذ - وحينئذ فقط - يجتهد المجتهدون فيه لاستنباط الأحكام التي تواجه قضاياه الواقعية - في الداخل وفي الخارج - وحينئذ - وحينئذ فقط - تكون لهذا الاجتهاد قيمته ، لأنه تكون لهذا الاجتهاد جديته وواقعيته !
من أجل هذا الإدراك لجدية المنهج الحي الواقعي الحركي لهذا الدين ، لا ندخل هنا في تلك التفصيلات الفقهية الخاصة بالأنفال والغنائم ؛ حتى يحين وقتها عندما يشاء الله ؛ وينشأ المجتمع الإسلامي ، ويواجه حالة جهاد فعلي ، تنشأ عنه غنائم تحتاج إلى أحكام ! وحسبنا - في هذه الظلال - أن نتتبع الأصل الإيماني في السياق التاريخي الحركي ، والمنهج القرآني التربوي . فهذا هو العنصر الثابت ، الذي لا يتأثر بالزمن في هذا الكتاب الكريم . . وكل ما عداه تبع له وقائم عليه :
إن الحكم العام الذي تضمنه النص القرآني :
( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ، وللرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ) .
يتلخص في رد أربعة أخماس كل شيء من الغنيمة إلى المقاتلين ، واستبقاء الخمس يتصرف فيه رسول الله [ ص ] والأئمة المسلمون القائمون على شريعة الله المجاهدون في سبيل الله ، من بعده في هذه المصارف : لله وللرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل . . بما يواجه الحاجة الواقعة عند وجود ذلك المغنم . . . وفي هذا كفاية . .
أما التوجيه الدائم بعد ذلك فهو ما تضمنه شطر الآية الأخير :
( إن كنتم آمنتم بالله ، وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ، والله على كل شيء قدير ) . .
إن للإيمان إمارات تدل عليه ؛ والله - سبحانه - يعلق الاعتراف لأهل بدر - وهم أهل بدر - بأنهم آمنوا بالله ، وبما أنزله على عبده يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . يعلق الاعتراف لأهل بدر هؤلاء بالإيمان ، على قبولهم لما شرع الله لهم في أمر الغنائم في صدر الآية ؛ فيجعل هذا شرطاً لاعتبارهم عنده قد آمنوا بالله وبما أنزله على عبده من القرآن ؛ كما يجعله مقتضى لإعلانهم الإيمان لا بد أن يتحقق ليتحقق مدلول هذا الإعلان .
وهكذا نجد مدلول الإيمان - في القرآن - واضحاً جازماً لا تميع فيه ، ولا تفصيص ولا تأويل مما استحدثته التطويلات الفقهية فيما بعد ، عندما وجدت الفرق والمذاهب والتأويلات ، ودخل الناس في الجدل والفروض المنطقية الذهنية ، كما دخل الناس - بسبب الفرق المذهبية والسياسية - في الاتهامات ودفع الاتهامات ؛ وصار النبز بالكفر ، ودفع هذا النبز ، لا يقومان على الأصول الواضحة البسيطة لهذا الدين ؛ إنما يقومان على الغرض والهوى ومكايدة المنافسين والمخالفين ! عندئذ وجد من ينبز مخالفيه بالكفر لأمور فرعية ؛ ووجد من يدفع هذا الاتهام بالتشدد في التحرج والتغليظ على من ينبز غيره بهذه التهمة . . وهذا وذلك غلو سببه تلك الملابسات التاريخية . . أما دين الله فواضح جازم لا تميع فيه ولا تفصيص ولا غلو . . " ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل " . . ولا بد لقيامه من قبول ما شرع الله وتحقيقه في واقع الحياة . . والكفر : رفض ما شرع الله ، والحكم بغير ما أنزل الله ، والتحاكم إلى غير شرع الله . . في الصغير وفي الكبير سواء . . أحكام صريحة جازمة بسيطة واضحة . . وكل ما وراءها فهو من صنع تلك الخلافات والتأويلات . .
وهذا نموذج من التقريرات الصريحة الواضحة الجازمة من قول الله سبحانه :
( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ) . .
ومثله سائر التقريرات الواضحة الجازمة الصريحة التي ترسم حقيقة الإيمان وحدوده في كتاب الله .
لقد نزع الله ملكية الغنيمة ممن يجمعونها في المعركة ؛ وردها الى الله والرسول - في أول السورة - ليخلص الأمر كله لله والرسول ؛ وليتجرد المجاهدون من كل ملابسة من ملابسات الأرض ؛ وليسلموا أمرهم كله - أوله وآخره - لله ربهم وللرسول قائدهم ؛ وليخوضوا المعركة لله وفي سبيل الله ، وتحت راية الله ، طاعة لله ؛ يحكمونه في أرواحهم ، ويحكمونه في أموالهم ويحكمونه في أمرهم كله بلا تعقيب ولا اعتراض . . فهذا هو الايمان . . كما قال لهم في مطلع السورة وهو ينتزع منهم ملكية الغنيمة ويردها إلى الله ورسوله : ( يسألونك عن الأنفال . قل الأنفال لله والرسول ، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، وأطيعوا الله ورسوله . . إن كنتم مؤمنين )
حتى إذا استسلموا لأمر الله ، وارتضوا حكمه ذاك ، فاستقر فيهم مدلول الإيمان . . عاد ليرد عليهم أربعة أخماس الغنيمة ، ويستبقي الخمس على الأصل - لله والرسول - يتصرف فيه رسول الله [ ص ] ، وينفق منه على من يعولهم في الجماعة المسلمة من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . عاد ليرد عليهم الأخماس الأربعة ، وقد استقر في نفوسهم أنهم لا يملكونها ابتداء بحق الغزو والفتح ، فهم إنما يغزون لله ويفتحون لدين الله ؛ إنما هم يستحقونها بمنح الله لهم إياها ؛ كما أنه هو الذي يمنحهم النصر من عنده ؛ ويدبر أمر المعركة وأمرهم كله . . وعاد كذلك ليذكرهم بأن الاستسلام لهذا الأمر الجديد هو الإيمان . . هو شرط الإيمان ، وهو مقتضى الإيمان . .
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . .
وهكذا تتواتر النصوص ، لتقرر أصلا واضحاً جازماً من أصول هذا الدين في اعتبار مدلول الإيمان وحقيقته وشرطه ومقتضاه .
ثم نقف أمام وصف الله - سبحانه - لرسوله [ ص ] بقوله : ( عبدنا )في هذا الموضع الذي يرد إليه فيه أمر الغنائم كلها ابتداء ، وأمر الخمس المتبقي أخيراً :
( إن كنتم آمنتم بالله ، وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ) . .
إنه وصف موحٍ . . إن العبودية لله هي حقيقة الإيمان ؛ وهي في الوقت ذاته أعلى مقام للإنسان يبلغ إليه بتكريم الله له ؛ فهي تجلى وتذكر في المقام الذي يوكل فيه إلى رسول الله [ ص ] التبليغ عن الله ، كما يوكل إليه فيه التصرف فيما خوله الله .
وإنه لكذلك في واقع الحياة ! إنه لكذلك مقام كريم . . أكرم مقام يرتفع إليه الإنسان . .
إن العبودية لله وحده هي العاصم من العبودية للهوى ، والعاصم من العبودية للعباد . . وما يرتفع الإنسان إلى أعلى مقام مقدر له ، إلا حين يعتصم من العبودية لهواه كما يعتصم من العبودية لسواه .
إن الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله وحده ، يقعون من فورهم ضحايا لأحط العبوديات الأخرى . يقعون من فورهم عبيداً لهواهم وشهواتهم ونزواتهم ودفعاتهم ؛ فيفقدون من فورهم إرادتهم الضابطة التي خص الله بها نوع " الإنسان " من بين سائر الأنواع ؛ وينحدرون في سلم الدواب فإذا هم شر الدواب ، وإذا هم كالأنعام بل هم أضل ، وإذا هم أسفل سافلين بعد أن كانوا - كما خلقهم الله - في أحسن تقويم .
كذلك يقع الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله في شر العبوديات الأخرى وأحطها . . يقعون في عبودية العبيد من أمثالهم ، يصرفون حياتهم وفق هواهم ، ووفق ما يبدو لهم من نظريات واتجاهات قصيرة النظر ، مشوبة بحب الاستعلاء ، كما هي مشوبة بالجهل والنقص والهوى !
ويقعون في عبودية " الحتميات " التي يقال لهم : إنه لا قبل لهم بها ، وإنه لا بد من أن يخضعوا لها ولا يناقشوها . . " حتمية التاريخ " . . و " حتمية الاقتصاد " . . و " حتمية التطور " وسائر الحتميات المادية التي تمرغ جبين " الإنسان " في الرغام وهو لا يملك أن يرفعه ، ولا أن يناقش - في عبوديته البائسة الذليلة - هذه الحتميات الجبارة المذلة المخيفة !
ثم نقف كذلك أمام وصف الله - سبحانه - ليوم بدر بأنه يوم الفرقان :
( إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ) . .
لقد كانت غزوة بدر - التي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه وقيادته ومدده - فرقاناً . . فرقاناً بين الحق والباطل - كما يقول المفسرون إجمالاً - وفرقاناً بمعنى أشمل وأوسع وأدق وأعمق كثيراً . .
كانت فرقاناً بين الحق والباطل فعلاً . . ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السماوات والأرض ، وقامت عليه فطرة الأشياء والأحياء . . الحق الذي يتمثل في تفرد الله - سبحانه - بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير ، وفي عبودية الكون كله : سمائه وأرضه ، أشيائه وأحيائه ، لهذه الألوهية المتفردة ولهذا السلطان المتوحد ، ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولا شريك . . والباطل الزائف الطارئ الذي كان يعم وجه الأرض إذ ذاك ؛ ويغشي على ذلك الحق الأصيل ؛ ويقيم في الأرض طواغيت تتصرف في حياة عباد الله بما تشاء ، وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء ! . . فهذا هو الفرقان الكبير الذي تم يوم بدر ؛ حيث فرق بين ذلك الحق الكبير وهذا الباطل الطاغي ؛ وزيل بينهما فلم يعودا يلتبسان !
لقد كانت فرقاناً بين الحق والباطل بهذا المدلول الشامل الواسع الدقيق العميق ، على أبعاد وآماد : كانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في أعماق الضمير . . فرقاناً بين الوحدانية المجردة المطلقة بكل شعبها في الضمير والشعور ، وفي الخلق والسلوك ، وفي العبادة والعبودية ؛ وبين الشرك في كل صوره التي تشمل عبودية الضمير لغير الله من الأشخاص والأهواء والقيم والأوضاع والتقاليد والعادات . . .
وكانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر كذلك . . فرقانا بين العبودية الواقعية للأشخاص والأهواء ، وللقيم والأوضاع ، وللشرائع والقوانين ، وللتقاليد والعادات . . . وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره ولا متسلط سواه ولا حاكم من دونه ، ولا مشرع إلا إياه . . فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله ؛ وتساوت الرؤوس لا تخضع إلا لحاكميته وشرعه ؛ وتحررت القطعان البشرية التي كانت مستعبدة للطغاة . .
وكانت فرقانا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية : عهد الصبر والمصابرة والتجمع والانتظار . وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع . . والإسلام بوصفه تصورا جديدا للحياة ، ومنهجا جديدا للوجود الإنساني ، ونظاما جديداً للمجتمع ، وشكلاً جديداً للدولة . . بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير " الإنسان " في " الأرض " بتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته ، ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته وحاكميته . . الإسلام بوصفه هذا لم يكن له بد من القوة والحركة والمبادأة والاندفاع ، لأنه لم يكن يملك أن يقف كامناً منتظراً على طول الأمد . لم يكن يستطيع أن يظل عقيدة مجردة في نفوس أصحابه ، تتمثل في شعائر تعبدية لله ، وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم . ولم يكن له بد أن يندفع إلى تحقيق التصور الجديد ، والمنهج الجديد ، والدولة الجديدة ، والمجتمع الجديد ، في واقع الحياة ؛ وأن يزيل من طريقها العوائق المادية التي تكبتها وتحول بينها وبين التطبيق الواقعي في حياة المسلمين أولاً ؛ ثم في حياة البشرية كلها أخيراً . . وهي لهذا التطبيق الواقعي جاءت من عند الله . .
وكانت فرقاناً بين عهدين في تاريخ البشرية . . فالبشرية بمجموعها قبل قيام النظام الإسلامي هي غير البشرية بمجموعها بعد قيام هذا النظام . . هذا التصور الجديد الذي انبثق منه هذا النظام . وهذا النظام الجديد الذي انبثق من هذا التصور . وهذا المجتمع الوليد الذي يمثل ميلاداً جديداً للإنسان . وهذه القيم التي تقوم عليها الحياة كلها ويقوم عليها النظام الاجتماعي والتشريع القانوني سواء . . هذا كله لم يعد ملكاً للمسلمين وحدهم منذ غزوة بدر وتوكيد وجود المجتمع الجديد . إنما صار - شيئا ًفشيئا - ملكاً للبشرية كلها ؛ تأثرت به سواءفي دار الإسلام أم في خارجها ، سواء بصداقة الإسلام أم بعداوته ! . . والصليبيون الذين زحفوا من الغرب ، ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه في ربوعه ، قد تأثروا بتقاليد هذا المجتمع الإسلامي الذي جاءوا ليحطموه ؛ وعادوا إلى بلادهم ليحطموا النظام الإقطاعي الذي كان سائدا عندهم ، بعد ما شاهدوا بقايا النظام الاجتماعي الإسلامي ! والتتار الذين زحفوا من الشرق ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه - بإيحاء من اليهود والصليبيين من أهل دار الإسلام ! - قد تأثروا بالعقيدة الإسلامية في النهاية ؛ وحملوها لينشروها في رقعة من الأرض جديدة ؛ وليقيموا عليها خلافة ظلت من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين في قلب أوربا ! . . وعلى أية حال فالتاريخ البشري كله - منذ وقعة بدر - متأثر بهذا الفرقان في أرض الإسلام ، أو في الأرض التي تناهض الإسلام على السواء .
وكانت فرقاناً بين تصورين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة . فجرت وكل عوامل النصر الظاهرية في صف المشركين ؛ وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف العصبة المؤمنة ، حتى لقال المنافقون والذين في قلوبهم مرض : ( غر هؤلاء دينهم ) . . وقد أراد الله أن تجري المعركة على هذا النحو - وهي المعركة الأولى بين الكثرة المشركة والقلة المؤمنة - لتكون فرقاناً بين تصورين وتقديرين لأسباب النصر وأسباب الهزيمة ؛ ولتنتصر العقيدة القوية على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد ؛ فيتبين للناس أن النصر للعقيدة الصالحة القوية ، لا لمجرد السلاح والعتاد ؛ وأن أصحاب العقيدة الحقة عليهم أن يجاهدوا ويخوضوا غمار المعركة مع الباطل غير منتظرين حتى تتساوى القوى المادية الظاهرية ، لأنهم يملكون قوة أخرى ترجح الكفة ؛ وأن هذا ليس كلاماً يقال ، إنما هو واقع متحقق للعيان .
وأخيراً فلقد كانت بدر فرقاناً بين الحق والباطل بمدلول آخر . ذلك المدلول الذي يوحي به قول الله تعالى في أوائل هذه السورة :
( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ) .
لقد كان الذين خرجوا للمعركة من المسلمين ، إنما خرجوا يريدون عير أبي سفيان واغتنام القافلة . فأراد الله لهم غير ما أرادوا . أراد لهم أن تفلت منهم قافلة أبي سفيان [ غير ذات الشوكة ] وأن يلاقوا نفير أبي جهل [ ذات الشوكة ] وأن تكون معركة وقتال وقتل وأسر ؛ ولا تكون قافلة وغنيمة ورحلة مريحة ! وقال لهم الله - سبحانه - إنه صنع هذا :
( ليحق الحق ويبطل الباطل ) . .
وكانت هذه إشارة لتقرير حقيقة كبيرة . . إن الحق لا يحق ، وإن الباطل لا يبطل - في المجتمع الإنساني - بمجرد البيان " النظري " للحق والباطل . ولا بمجرد الاعتقاد " النظري " بأن هذا حق وهذا باطل . . إن الحق لا يحق ولا يوجد في واقع الناس ؛ وإن الباطل لا يبطل ولا يذهب من دنيا الناس . إلا بأن يتحطم سلطان الباطل ويعلو سلطان الحق ، وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا ، ويهزم جند الباطل ويندحروا . . فهذا الدين منهج حركي واقعي ، لا مجرد " نظرية " للمعرفة والجدل ! أو لمجرد الاعتقاد السلبي !
ولقد حق الحق وبطل الباطل بالموقعة ؛ وكان هذا النصر العملي فرقاناً واقعياً بين الحق والباطل بهذا الاعتبارالذي أشار إليه قول الله تعالى في معرض بيان إرادته - سبحانه -من وراء المعركة ، ومن وراء إخراج الرسول [ ص ] من بيته بالحق ؛ ومن وراء إفلات القافلة [ غير ذات الشوكة ] ولقاء الفئة ذات الشوكة . .
ولقد كان هذا كله فرقاناً في منهج هذا الدين ذاته ، تتضح به طبيعة هذا المنهج وحقيقته في حس المسلمين أنفسهم . . وإنه لفرقان ندرك اليوم ضرورته ؛ حينما ننظر إلى ما أصاب مفهومات هذا الدين من تميع في نفوس من يسمون أنفسهم مسلمين ! حتى ليصل هذا التميع إلى مفهومات بعض من يقومون بدعوة الناس إلى هذا الدين !
وهكذا كان يوم بدر ( يوم الفرقان يوم التقى الجمعان )بهذه المدلولات المنوعة الشاملة العميقة . .
وفي هذا اليوم مثل من قدرته على كل شيء . . مثل لا يجادل فيه مجادل ، ولا يماري فيه ممار . . مثل من الواقع المشهود ، الذي لا سبيل إلى تفسيره إلا بقدرة الله . وأن الله على كل شيء قدير .
موضع «أن » الثانية رفع ، التقدير «فحكمه أن » ، فهي في موضع خبر الابتداء ، والغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي من ذلك قول الشاعر [ امرؤ القيس ] : [ الوافر ]
وقد طفت في الآفاق حتى*** رضيت من الغنيمة بالإياب{[5351]}
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه*** أنّى توجَّهَ والمحروم محروم{[5352]}
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الرهن : «له غنمه وعليه مخرجه »{[5353]} وقوله : «الصيام في الشتاء هو الغنيمة الباردة »{[5354]} فالشيء الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعي وإيجاف{[5355]} الخيل والركاب غنيمة ، ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفاً له ، والفيء مأخوذ من فاء إذا رجع وهو كل ما دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف كخراج الأرض وجزية الجماجم وخمس الغنيمة ونحو هذا .
قال القاضي أبو محمد : والزكوات أيضاً مال على حدته ، أحكامه منفردة دون أحكام هذين ، قال سفيان الثوري وعطاء بن السائب : الغنيمة ما أخذ عنوة والفيء ما أخذ صلحاً ، وهذا قريب مما بيناه ، وقال قتادة : الفيء والغنيمة شيء واحد فيهما الخمس ، وهذه الآية التي في الأنفال ناسخة لقوله في سورة الحشر { وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى }{[5356]} وذلك أن تلك كانت الحكم أولاً ، ثم أعطى الله أهلها الخمس فقط وجعل الأربعة والأخماس في المقاتلين .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف نص العلماء على ضعفه وأن لا وجه له من جهات ، منها أن هذه السورة نزلت قبل سورة الحشر هذه ببدر ، وتلك في بني النضير وقرى عرينة ، ولأن الآيتين متفقتان وحكم الخمس وحكم تلك الآية واحد لأنها نزلت في بني النضير حين جلوا وهربوا ، وأهل فدك حين دعوا إلى صلح ونال المسلمون ما لهم دون إيجاف ، وحكى ابن المنذر عن الشافعي أن في الفيء الخمس ، وأنه كان في قرى عرينة زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن أربعة أخماسها كان للرسول صلى الله عليه وسلم خاصة دون المسلمين يضعها حيث شاء .
وقال أبو عبيدة : هذه الآية ناسخة لقوله في أول السورة { قل الأنفال لله والرسول } [ الأنفال : 1 ] ولم يخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بدر فنسخ حكمه في ترك التخميس بهذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : ويظهر في قول علي بن أبي طالب في البخاري : كانت لي شارف من نصيبي من المغنم ببدر ، وشارف أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخمس حينئذ{[5357]} أن غنيمة بدر خمست فإن كان ذلك فسد قول أبي عبيدة ، ويحتمل أن يكون الخمس الذي ذكره علي بن أبي طالب من إحدى الغزوات التي كانت بين بدر وأحد ، فقد كانت غزوة بني سليم وغزوة السويق وغزوة ذي أَمر وغزوة نجران ، ولم يحفظ فيها قتال ، ولكن يمكن أن غنمت غنائم . والله أعلم .
وقوله في هذه الآية { من شيء } ظاهره عام ومعناه الخصوص ، فأما الأرض{[5358]} والمتاع والأطفال والنساء وما لا يؤكل لحمه من الحيوان ويصح تملكه فليس للإمام في جميع ذلك ما كثر منه وما قل كالخيط والمخيط إلا أن يأخذ الخمس ويقسم الباقي في أهل الجيش ، وأما الأرض فقال فيها مالك : يقسمها الإمام إن رأى ذلك صواباً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر ، ولا يقسمها إن أداه اجتهاده إلى ذلك كما فعل عمر بأرض مصر سواد الكوفة .
قال القاضي أبو محمد : لأن فعل عمر ليس بمخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ ليست النازلة واحدة بحسب قرائن الوقتين وحاجة الصحابة وقلتهم ، وهذا كله انعكس في زمان عمر ، وأما الرجال ومن شارف البلوغ من الصبيان فالإمام عند مالك وجمهور العلماء مخير فيهم على خمسة أوجه ، منها القتل وهو مستحسن في أهل الشجاعة والنكاية ، ومنها الفداء وهو مستحسن في ذي المنصب الذي ليس بشجاع ولا يخاف منه رأي ولا مكيدة لانتفاع المسلمين بالمال الذي يؤخذ منه ، ومنها المن وهو مستحسن فيمن يرجى أن يحنو على أسرى المسلمين ونحو ذلك من القرائن ، ومنها الاسترقاق ، ومنها ضرب الجزية والترك في الذمة ، وأما الطعام والغنم ونحوهما مما يؤكل فهو مباح في بلد العدو يأكله الناس فما بقي كان في المغنم .
قال القاضي أبو محمد : وأما أربعة أخماس ما غنم فيقسمه الإمام على الجيش ، ولا يختص بهذه الآية ذكر القسمة فأنا أختصره هنا ، وأما الخمس فاختلف العلماء فيه ، فقال مالك رحمه الله : الرأي فيه للإمام يلحقه ببيت الفيء ويعطي من ذلك البيت لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رآه ، كما يعطي منه اليتامى والمساكين وغيرهم ، وإنما ذكر من ذكر على وجه التنبيه عليهم لأنهم من أهم من يدفع إليه ، قال الزجّاج محتجاً لمالك :
قال الله تعالى : { يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل }{[5359]} .
وللإمام بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك ، وقالت فرقة : كان الخمس يقسم على ستة أقسام ، قسم لله وهو مردود على فقراء المسلمين أو على بيت الله ، وقسم للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقسم لقرابته ، وقسم لسائر من سمي ، حكى القول منذر بن سعيد ورد عليه ، قال أبو العالية الرياحي : كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يقبض من خمس الغنيمة قبضة{[5360]} فيجعلها للكعبة فذلك لله ، ثم يقسم الباقي على خمسة ، قسم له وقسم لسائر من سمي . وقال الحسن بن محمد وابن عباس وإبراهيم النخعي وقتادة والشافعي : قوله { فأن لله خمسه } استفتاح كلام كما يقول الرجل لعبده :قد أعتقك الله وأعتقتك ، على جهة التبرك وتفخيم الأمر ، والدنيا كلها لله . وقسم لله وقسم الرسول واحد ، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقسم الخمس على خمسة أقسام كما تقدم . وقال ابن عباس أيضاً فيما روى عنه الطبري : الخمس مقسوم على أربعة أقسام ، وسهم الرسول صلة الله عليه وسلم ، لقرابته وليس لله ولا للرسول شيء ، وقالت فرقة : قسم الرسول صلى الله عليه وسلم ، بعد موته مردود على أهل الخمس القرابة وغيرها ، وقالت فرقة : هو مردود على الجيش أصحاب الأربعة الأخماس ، وقال علي بن أبي طالب : يلي الإمام منهم سهم الله ورسوله ، وقالت فرقة : هو موقوف لشراء العدد وللكراء{[5361]} في سبيل الله ، وقال إبراهيم النخعي وهو الذي اختاره أبو بكر وعمر فيه ، وقال أصحاب الرأي : الخمس بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، مقسوم ثلاثة أقسام ، قسم لليتامى ، وقسم للمساكين وقسم لابن السبيل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يورث ، فسقط سهمه وسهم ذوي القربى ، وحجتهم فيه منع أبي بكر وعمر وعثمان لذوي القربى .
قال القاضي أبو محمد : ولم يثبت المنع بل عورض بنو هاشم بأن قريشاً قربى ، وقيل لم يكن في مدة أبي بكر مغنم ، وقال الشافعي : يعطي أهل الخمس منه ولا بد ويفضل الإمام أهل الحاجة ولكن لا يحرم صنفاً منهم حرماناً تاماً ، وقول مالك رحمه الله : إن للإمام أن يعطي الأحوج وإن حرم الغير .
قال القاضي أبو محمد : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصوصاً من الغنيمة بثلاثة أشياء :كان له خمس الخمس ، وكان له سهم في سائر الأربعة الأخماس ، وكان له صفيّ يأخذه قبل القسمة{[5362]} ، دابة أو سيف ، أو جارية ولا صفيّ لأحد بعده بإجماع إلا ما قال أبو ثور من أن الصفيّ باق للإمام ، وهو قول معدود في شواذ الأقوال ، وذوو القربى قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال علي بن الحسين وعبد الله بن الحسن وعبد الله بن عباس : هم بنو هاشم فقط ، فقال مجاهد : كان آل محمد صلى الله عليه وسلم لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس ، قال ابن عباس : ولكن أبى ذلك علينا قومنا ، وقالوا قريش كلها قربى ، وقال الشافعي : هم بنو هاشم وبنو المطلب فقط ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان بن عفان وجبير بن مطعم في وقت قسمة سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب «إنمَا بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد ما فارقونا في جاهلية ولا في الإسلام »{[5363]} .
قال القاضي أبو محمد : كانوا مع بني هاشم في الشعب وقالت فرقة : قريش كلها قربى ، وروي عن علي بن الحسين وعبد الله بن محمد بن علي أنهما قالا : الآية كلها في قريش ، والمراد يتامى قريش ومساكينها ، وقالت فرقة : سهم القرابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم موقوف على قرابته ، وقد بعثه إليهم عمر بن عبد العزيز إلى بني هاشم وبني المطلب فقط ، وقالت فرقة : هو لقرابة الإمام القائم بالأمر . وقال قتادة : كان سهم ذوي القربى طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حياً ، فلما توفي جعل لولي الأمر بعده ، وقاله الحسن بن أبي الحسن البصري . وحكى الطبري أيضاً عن الحسن أنه قال : اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال قوم : سهم النبي صلى الله عليه وسلم للخليفة ، وقال قوم : سهم النبي صلى الله عليه وسلم لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال قوم : سهم القرابة لقرابة الخليفة ، فاجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة ، فكان على ذلك مدة أبي بكر رضي الله عنه ، قال غير الحسن وعمر و { اليتامى } الذين فقدوا آباءهم من الصبيان ، واليتم في بني آدم من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات ، { والمساكين } الذين لا شيء لهم وهو مأخوذ من السكون وقلة الحراك ، { وابن السبيل } الرجل المجتاز الذي قد احتاج في سفر ، وسواء كان غنيّاً في بلده أو فقيراً فإنه ابن السبيل يسمى بذلك إما لأن السبيل تبرزه فكأنها تلده ، وإما لملازمة السبيل كما قالوا :ابن ماء ، وأخو سفر . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :
«لا يدخل الجنة ابن زنى » وقد تقدم{[5364]} .
قال القاضي أبو محمد : وقد اقتضبت فقه هذه الآية حسب الاختصار والله المستعان .
قال القاضي أبو محمد : و { ما } في قوله { ما غنمتم } بمعنى الذي ، وفي قوله { غنمتم } ضمير يعود عليها ، وحكي عن الفراء أنه جوز أن تكون «ما » شرطية بتقدير أنه ما ، وحذف هذا الضمير لا يجوز عند سيبويه إلا في الشعر ، ومنه
إن من يدخل الكنيسة يوماً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[5365]}
وقرأ الجمهور «فأن لله »{[5366]} بفتح الهمزة ، وقرأ الجعفي عن أبي بكر عن عاصم وحسين عن أبي عمرو «فإن » بكسر الهمزة ، وقرأ الحسن «خمْسه » بسكون الميم ، وقوله تعالى : { إن كنتم آمنتم بالله } الآية ، قال الزجّاج عن فرقة : المعنى فاعلموا أن الله مولاكم إن كنتم ، «فإن » متعلقة بهذا الوعد ، وقال أيضاً عن فرقة : إنها متعلقة بقوله { واعلموا أنما غنمتم } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الصحيح ، لأن قوله { واعلموا } يتضمن بانقياد وتسليم لأمر الله في الغنائم فعلق «أن » بقوله { واعلموا } على هذا المعنى أي إن كنتم مؤمنين بالله فانقادوا وسلموا لأمر الله فيما أعلمكم به من حال قسمة الغنيمة ، وقوله { وما أنزلنا } عطف على قوله { بالله } والمشار إليه ب { ما } هو النصر والظهور الذي أنزله الله يوم بدر على نبيه وأصحابه ، أي إن كنتم مؤمنين بالله وبهذه الآيات والعظائم الباهرة التي أنزلت يوم بدر ، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى قرآن نزل يوم بدر أو في قصة يوم بدر على تكره في هذا التأويل الأخير .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون المعنى :واعلموا أنما غنمتم يوم الفرقان يوم التقى الجمعان فإن خمسه لكذا وكذا إن كنتم آمنتم ، أي فانقادوا لذلك وسلموا ، وهذا تأويل حسن في المعنى ، ويعترض فيه الفصل بين الظرف وما تعلق به بهذه الجملة الكثيرة من الكلام ، و { يوم الفرقان } معناه يوم الفرق بين الحق والباطل بإعزاز الإسلام وإذلال الشرك ، و { الفرقان } مصدر من فرق يفرق و { الجمعان } يريد جمع المسلمين وجمع الكفار ، وهو يوم الوقعة التي قتل فيها صناديد قريش ببدر ، ولا خلاف في ذلك ، وعليه نص ابن عباس ومجاهد ومقسم والحسن بن علي وقتادة وغيرهم ، وكانت يوم الجمعة السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة هذا قول جمهور الناس .
وقال أبو صالح : لتسع عشرة ، وشك في ذلك عروة بن الزبير ، وقال لتسع عشرة أو لسبع عشرة ، والصحيح ما عليه الجمهور ، وقوله عز وجل : { والله على كل شيء قدير } ، يعضد أن قوله { وما أنزلنا على عبدنا } يراد به النصر والظفر ، أي الآيات والعظائم من غلبة القليل الكثير ، وذلك بقدرة الله تعالى الذي هو على كل شيء قدير .