ثم بين - سبحانه - مصير الظالمين ، بعد أن بين حسن عاقبة المحسنين ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيى من حى عن بينة فقال - تعالى - : { والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً } .
أى : إذا كان جزاء الذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، فإن جزاء الذين اجترحوا السيئات ، واقترفوا الموبقات ، سيئات مثل السيئات التي ارتكبوها كما قال - تعالى - { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } والمقصود أنهم كما كسبوا السيئات في الدنيا ، فإن الله - تعالى - يجازيهم عليها في الآخرة بما يستحقون من عذاب ومصير سيئ .
وقوله : { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أى : وتغشاهم وتغطيهم ذلة عظيمة ومهانة شديدة ، وفى إسناد الرهق إلى أنفسهم دون وجوههم ، إيذان بأنها محيطة بهم من كل جانب .
وقوله : { مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } أى : ليس لهم أحد يعصمهم أو يجيرهم أو يشفع لهم ، بحيث ينجون من عذاب الله - تعالى - .
وقوله : { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً } تصوير بديع للظلام الحسي والمعنوى الذي يبدو على وجوه هؤلاء الظالمين .
أى : كأنما ألبست وجوههم قطعا من الليل المظلم ، والسواد الحالك ، حتى سارت شديدة السود واضحة الكدرة والظلمة .
وقوله : { أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } بيان لسوء عاقبتهم ، وتعاسة أحوالهم .
أى : أولئك المتصفون بتلك الصفات الذميمة ، أصحاب النار هم فيها خالدون خلودا أبديا لا نهاية له .
وهكذا نرى في هذه الآيات الكريمة تصويرا بديعا لما عليه المؤمنون الصادقون من صفات حسنة ، ومن جزاء كريم ، يتجلى في رفع درجاتهم ، وفى رضا الله - تعالى عنهم : كما نرى فيها - أيضا - وصفا معجزا لأحوال الخارجين عن طاعته ؛ ووصفا للمصير المؤلم ، الذي ينتظرهم يوم القيامة ، { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }
فكانت هي الربح الذي خرجوا به من صفقة الحياة ! هؤلاء ينالهم عدل الله ، فلا يضاعف لهم الجزاء ، ولا يزاد عليهم السوء . ولكن :
( جزاء سيئة بمثلها ) . . ( وترهقهم ذلة ) . .
( ما لهم من الله من عاصم ) . .
يعصمهم ويمنعهم من المصير المحتوم ، نفاذا لسنة الله الكونية فيمن يحيد عن الطريق ، ويخالف الناموس . . ثم يرسم السياق صورة حسية للظلام النفسي والكدرة التي تغشى وجه المكروب المأخوذ المرعوب :
( كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما ) . .
كأنما أخذ من الليل المظلم فقطع رقعا غشيت بها هذه الوجوه ! وهكذا يغشى الجو كله ظلام من ظلام الليل المظلم ورهبة من رهبته ، تبدو فيه هذه الوجوه ملفعة بأغشية من هذا الليل البهيم . .
( أولئك ) . . المبعدون في هذا الظلام والقتام ( أصحاب النار ) . . ملاكها ورفاقها ( هم فيها خالدون ) .
{ والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها } عطف على قوله { للذين أحسنوا الحسنى } على مذهب من يجوز : في الدار زيد والحجرة عمرو ، أو { للذين } مبتدأ والخبر { جزاء سيئة بمثلها } على تقدير : وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ، أي أن تجازى بسيئة مثلها لا يزاد عليها ، وفيه تنبيه على أن الزيادة هي الفضل أو التضعيف أو { كأنما أغشيت وجوههم } ، أو أولئك أصحاب النار وما بينهما اعتراض ف { كأنما أغشيت وجوههم } ، أو أولئك أصحاب النار وما بينهما اعتراض ف { جزاء سيئة } مبتدأ وخبره محذوف أي فجزاء سيئة بمثلها واقع ، أو بمثلها على زيادة الباء أو تقدير مقدر بمثلها . { وترهقهم ذلّة } وقرئ بالياء . { ما لهم من الله من عاصم } ما من أحد يعصمهم من سخط الله ، أو من جهة الله ومن عنده كما يكون للمؤمنين . { كأنما أُغشيت } غطيت . { وجوههم قِطعا من الليل مُظلماً } لفرط سوادها وظلمتها ومظلما حال من الليل والعامل فيه { أغشيت } لأنه العامل في { قطعا } وهو موصوف بالجار والمجرور ، والعامل في الموصوف عامل في الصفة أو معنى الفعل في { من الليل } . وقرأ ابن كثير والكسائي ويعقوب " قطعا " بالسكون فعلى هذا يصح أن يكون { مظلما } صفة له أو حالا منه . { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } مما يحتج به الوعيدية . والجواب أن الآية في الكفار لاشتمال السيئات على الكفر والشرك ولأن الذين
أحسنوا يتناول أصحاب الكبيرة من أهل القبلة فلا يتناولهم قسيمه .
عطف على جملة { للذين أحسنوا الحسنى } [ يونس : 26 ] . وعبر في جانب المسيئين بفعل { كسبوا السيئات } دون فعل أساءوا الذي عبر به في جانب الذين أحسنوا للإشارة إلى أن إساءتهم من فِعلهم وسعيهم فما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون .
والموصول مراد به خصوص المشركين لقوله بعده : { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } . فإن الخلود في النار لا يقع إلا للكافرين ، كما دلت عليه الأدلة المتظافرة خلافاً للمعتزلة والخوارج .
وجملة : { جزاءُ سيئة بمثلها } خبر عن { الذين كسبوا السيئات } . وتنكير ( سيئة ) للعموم ، أي جزاء كل سيئة بمثلها ، وهو وإن كان في سياق الإثبات فالعموم مستفاد من المقام وهو مقام عموم المبتدأ . كقول الحريري :
يا أهلَ ذا المغنَى وُقيتم ضُرا
أي كل ضر . وذلك العموم مُغن عن الرابط بين الجملة الخبرية والمبتدأ ، أو يقدر مجرور ، أي جَزاء سيئةٍ منهم ، كما قدر في قوله تعالى : { فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففدية من صيام } [ البقرة : 196 ] أي فعليه .
واقتصر على الذلة لهم دون زيادة ويَرهقهم قَتر ، لأنه سيجيء ما هو أشد منه وهو قوله : { كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً } .
وجملة : { ما لهم من الله من عاصم } خبر ثان ، أو حال من { الذين كسبوا السيئات } أو معترضة . وهو تهديد وتأييس .
والعاصم : المانع والحافظ . ومعنى { من الله } من انتقامه وجزائه . وهذا من تعليق الفعل باسم الذات ، والمرادُ بعض أحوال الذات مما يدل عليه السياق مثل { حُرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] .
وجملة { كأنما أغشيت وجوهُهم } الخ بيان لجملة : { ترهقهم ذلة } بيانَ تمثيل ، أو حالٌ من الضمير في قوله : { وترهقهم } .
و { أغشيت } معدَّى غَشِي إذا أحاط وغَطا ، فصار بالهمزة معدى إلى مفعولين من باب كسَا . وتقدم في قوله تعالى : { يُغشي الليلَ النهارَ } في [ الأعراف : 54 ] ، وقوله : { إذ يُغْشِيكُم النعاس } في [ الأنفال : 11 ] .
والقِطع بفتح الطاء في قراءة الجمهور : جمع قِطعة ، وهي الجزء من الشيء ، سمي قطعة لأنه يُقتطع من كل غالباً ، فهي فعْلة بمعنى مفعولة نقلت إلى الاسمية . وقرأه ابن كثير والكسائي ويعقوب قِطْعاً } بسكون الطاء . وهو اسم للجزء من زمن الليل المظلم ، قال تعالى : { فاسر بأهلك بقِطْع من الليل } [ هود : 81 ] .
وقوله : { مظلماً } حال من الليل . ووصف الليل وهو زمن الظلمة بكونه مظلماً لإفادة تمكن الوصف منه كقولهم : ليل أليل ، وظل ظليل ، وشعر شاعر ، فالمراد من الليل الشديد الإظلام باحتجاب نجومه وتمكّن ظلمته . وشُبهت قَترة وجوههم بظلام الليل .
وجملة : { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } هي كجملة { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } [ يونس : 26 ] .