9- ألم يصل إليكم خبر الذين مَضوْا من قبلكم ، قوم نوح وعاد وثمود ، والأمم الذين جاءوا من بعدهم ، وهم لا يعلمهم إلا الله لكثرتهم ، وقد جاءتهم رسلهم بالحُجج الواضحة على صدقهم ، فوضعوا أيديهم على أفواههم استغراباً واستنكاراً ، وقالوا للرسل : إنا كفرنا بما جئتم به من المعجزات والأدلة ، وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه من الإيمان والتوحيد ، لأننا لا نطمئن إليه ونشك فيه .
ثم حكى - سبحانه - جانبا من أحوال بعض الرسل مع أقوامهم ، ومن المحاورات التى دارت بين الرسل وبين من أرسلوا إليهم فقال - تعالى - :
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ . . . }
قوله - سبحانه - : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ . . . } يرى بعض المفسرين أنه من تتمة كلام موسى - عليه السلام - فيكون المعنى : أن موسى - عليه السلام - بعد أن ذكر بأيام الله - تعالى - ، وبنعمه عليهم ، وبسننه - سبحانه - فى خلقه . . .
بعد كل ذلك شرع فى تذكيرهم وتخويفهم عن طريق ما حل بالمكذبين من قبلهم ، فقال لهم - كما حكى القرآن عنه - : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ . . }
ومنهم من يرى أن الآية الكريمة كلام مستأنف ، والخطاب فيه لأمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيكون المعنى : أن الله - تعالى - بعد أن ين للناس أنه قد أنزل كتابه على رسوله - صلى الله عليه وسلم - لإِخراجهم من الظلمات إلى النور ، وبين - سبحانه - أن له ما فى السموات وما فى الأرض وهدد الكافرين بالعذاب الشديد ، وحكى ما قاله موسى لقومه .
بعد كل ذلك وجه - سبحانه - الخطاب إلى مشركى مكة وإلى كل من كان على شاكلتهم فقال : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ . . . } .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : " يحتمل أن يكون هذا خطابا من موسى لقومه ، والمقصود منه أنه - عليه السلام - كان يخوفهم بمثل هلاك من تقدم .
ويجوز أن يكون مخاطبة من الله - تعالى - على لسان موسى لقومه ، يذكرهم أمر القرون الأولى . والمقصود إنما هو حصول العبرة بأحوال المتقدمين ، وهذا المقصود حاصل على التقديرين ، إلا أن الأكثرين ذهبوا إلى أنه ابتداء مخاطبة لقوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ومع أننا نؤيد الإِمام الرازى فى أن المقصود إنما حصول العبرة بأحوال المتقدمين إلا أننا نميل مع الأكثرين إلى الرأى الثانى ، لأن قوم رسول - صلى الله عليه وسلم - هم المقصودون قصدا أوليا بالخطاب القرآنى ، ولأن الإِمام ابن كثير - يرى أنه لم يرد ذكر فى التوراة لقوم عاد وثمود ، فقد قال :
قال ابن جرير : " هذا من تمام قول موسى لقومه . . . وفيما قال ابن جرير نظر والظاهر أنه خبر مستأنف من الله - تعالى - لهذه الأمة ، فإنه قد قيل إن قصة عاد وثمود ليست فى التوراة ، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه وقصه عليهم ، فلا شك حينئذ أن تكون هاتان القصتان فى التوراة .
والاستفهام فى قوله { أَلَمْ يَأْتِكُمْ . . . } للتقرير لأنهم قد بلغتهم أخبارهم ، فقوم نوح بلغتهم أخبارهم بسبب خبر الطوفان الذى كان مشهورا بينهم ، وقوم عاد وثمود بلغتهم أخبارهم لأنهم من العرب ، ومساكنهم فى بلادهم ، وهم يمرون على ديار قوم صالح فى أسفارهم إلى بلاد الشام للتجارة .
والمراد بالذين من بعدهم : أولئك الأقوام الذين جاءوا من بعد قوم نوح وعاد وثمود ، كقوم إبراهيم وقوم لوط وغيرهم .
وقوله : { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } أى : لا يعلم عدد الأقوام الذين جاءوا بعد قوم نوح وعاد وثمود ولا يعلم ذواتهم وأحوالهم إلا الله تعالى .
وقوله { والذين مِن بَعْدِهِمْ } مبتدأ ، وقوله { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } خبره ، والجملة اعتراض بن المفسر - بفتح السين - وهو { نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ } وتفسيره وهو { جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات } .
والمعنى : لقد علمتم يا أهل مكة ما حل بقوم نوحو عاد وثمود ، كما علمتم ما حل بالمكذبين من بعدهم كقوم لوط وقوم شعيب ، وكغيرهم ممن لا يعلم أحوالهم وعددهم إلا الله - تعالى - وما دام الأمر كذلك فاعتبروا واتعظوا واتبعوا هذا الرسول الكريم الذى جاء لسعادتكم ، لكى تنجوا من العذاب الأليم الذى حل بالمظالمين من قبلكم .
وجملة { جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات } مستأنفة فى جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل ما قصة هؤلاء الأقوام وما خبرهم ؟
فكان الجواب : جاء كل رسول إلى قومه بالحجج الواضحات ، وبالمعجزات الظاهرات ، الدالة على صدقه فيما يبلغه عن ربه .
وقوله { فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ وقالوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ . . . } .
بيان لموقف الأقوام المكذبين من رسلهم الذين أرسلهم الله لهدايتهم .
والضمائر فى " ردوا " و " أيديهم " و " أفواههم " تعود على الأقوام الذين جاءتهم رسلهم بالبينات ، وهذه الجملة الكريمة ذكر المفسرون فى معناها وجوها متعددة أوصلها بعضهم إلى عشرة أقوال :
منها : أن الكفار وضعوا أنامهم فى أفواههم فعضوها غيضا وبغضا مما جاء به الرسل ، وقالوا لهم بغضب وضجر : إنا كفرنا بما أرسلتم به وبما جئتمونا به من معجزات ، فاغربوا عن وجوهنا ، واتركونا وشأننا .
ومن المفسرين الذين رجحوا هذا الوجه الإِمام ابن جرير ، فقد قال : " وقوله : { فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ . . . } اختلف أهل التأويل فى تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك ، فعضوا على أصابعهم تغيظا عليهم فى دعائهم إياهم إلى ما دعوهم إليه . . روى ذلك عن ابن مسعود وغيره .
ثم قال بعد أن ساق عددا من الأقوال الأخرى : وأشبه هذه الأقوال عندى الصواب فى تأويل هذه الآية ، القول الذى ذكرناه عن عبد الله بن مسعود أنهم ردوا أيديهم فى أفواههم ، فعضوا عليها غيظا على الرسل ، كما وصف الله عز وجل به إخوانهم من المنافقين فقال : { وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } فهذا هو الكلام المعروف ، والمعنى المفهوم من رد الأيدى إلى الأفواه .
ومنها : أن الكفار وضعوا أيديهم على أفواههم إشارة منهم إلى أنفسهم وإلى ما يصدر عنها ، وقالوا للرسل على سبيل التحدى والتكذيب . { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أى : لا جواب لكم عندنا سوى ما قلناه لكم بألسنتنا هذه .
ومن المفسرين الذين رجحوا هذا القول الإِمام الآلوسى ، فقد صدر الأقوال التى ذكرها به ، فقال ما ملخصه : قوله { فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ } أى : أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به ، وقالوا لهم { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أى : على زعمكم ، وهى البينات التى أظهرها حجة على صحة رسالتهم ، ومرادهم بالكفر بها : الكفر بدلالتها على صحة رسالتهم . . .
ثم قال بعد أن ساق عددا من الأقوال : والذى يطابق المقام ، وتشهد له البلاغة : هو الوجه الأول ، ونص غير واحد على أنه الوجه القوى ، لأنهم حالوا الإِنكار على الرسل كل الإِنكار ، حيث جمعوا على الإِنكارين : الفعل والقول ، ولذا أتى بالفاء تنبيها على أنهم لم يتمهلوا ، بل عقدوا دعوتهم بالتكذيب . . . " .
ومنها : أن الكفار لما سمعوا أقوال الرسل لهم ، وضعوا أيديهم على أفواههم استهزاء وتعجبا .
وقد رجح هذا الوجه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور فقال : " وهذا التركيب لا أعهد مثله فى كلام العرب فلعله من مبتكرات القرآن : ومعنى { فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ } .
يحتمل عد وجو أنها فى الكشاف إلى سبعة ، وفى بعضها بعد ، وأولاها بالاستخلاص أن يكون المعنى : أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم إخفاء لشدة الضحك من كلام الرسل ، كراهية أن تظهر دواخل أفواههم ، وذلك تمثيل لحالة الاستهزاء بالرسل .
ومنها : أن الكفار لما سمعوا أقوال الرسل لهم ، لم يردوا عليهم ، بل تركوهم إهمالا لشأنهم .
وقد رجح الشوكانى هذا الاتجاه فقال ما ملخصه : " وقال أبو عبيدة - ونعم ما قال - هو ضرب مثل . أى : لم يؤمنوا ولم يجيبوا . والعرب تقول الرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت : قد رد يده فى فيه . وهذكا قال الأخفش ، واعترض على ذلك القتيبى فقال : لم يسمع أحد من العرب يقول : رد يده فى فيه ، إذا ترك ما أمر به وإنما المعنى عضوا على الأيدي حنفا وغيظا . .
فإن صح ما ذكره أبو عبيدة والأخفش فتفسير الآية به أقرب . . .
وهذه الأقوال جميعها وإن كانت تتفق فى أن الآية الكريمة ، قد أخبرت بأبلغ عبارة عما قابل به الأقوام المكذبين رسلهم من سوء أدب .
إلا أننا نميل إلى ما ذهب إليه الإِمام ابن جرير ، لأنه أظهر الأقوال فى معناها ، وقد استشهد له بعضهم بأشعار العرب ، ومنها قول الشاعر :
ترون فى فيه غش الحسو . . . د حتى يعض على الأكفا
وقوله - سبحانه - { وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } معطوف على قوله { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } .
ومريب : اسم فاعل من أراب . تقول : أربت فلانا فأنا أريبه ، إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة ، فمعنى مريب : موقع فى الريبة أى : فى القلق والاضطراب .
أى : قال المكذبون لرسلهم إنا كفرنا بما جئتم به من المعجزات والبينات .
وإنا لفى شك كبير موقع فى الريبة مما تدعوننا إليه من الإِيمان بوحدانية الله ، وبإخلاص العبادة له .
قال الجمل ما ملخصه : " فإن قيل : إنهم أكدوا كفرهم بما أرسل به الرسل .
ثم ذكروا بعد ذلك أنهم شاكون مرتابون فى صحة قولهم فكيف ذلك .
فالجواب : كأنهم قالوا أنا كفرنا بما أرسلتم به أيها الرسل فإنه لم نكن كذلك ، فال أقل من أن نكون شاكين مرتابين فى صحة نبوتكم .
أو يقال : المراد بقولهم { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أى بالمعجزات والبينات ، وبقولهم : { وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } وهو الإِيمان والتوحيد .
أو يقال : إنهم كانوا فرقتين إحداهما جزمت بالكفر ، والأخرى شكت . . .
ويستمر موسى في بيانه وتذكيره لقومه . ولكنه يتوارى عن المشهد لتبرز المعركة الكبرى بين أمة الأنبياء والجاهليات المكذبة بالرسل والرسالات . وذلك من بدائع الأداء في القرآن ، لإحياء المشاهد ، ونقلها من حكاية تروى إلى مشهد ينظر ويسمع ، وتتحرك فيه الشخوص ، وتتجلى فيه السمات والانفعالات . .
والآن إلى الساحة الكبرى التي يتلاشى فيها الزمان والمكان :
( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم ، قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ؟ جاءتهم رسلهم بالبينات ، فردوا أيديهم في أفواههم ، وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به ، وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ) . .
هذا التذكير من قول موسى . ولكن السياق منذ الآن يجعل موسى يتوارى ليستمر في عرض قصة الرسل والرسالات في جميع أزمانها . قصة الرسل والرسالات وحقيقتها في مواجهة الجاهلية ، وعاقبة المكذبين بها على اختلاف الزمان والمكان . . وكأن موسى " راوية " يبدأ بالإشارة إلى أحداث الرواية الكبرى . ثم يدع أبطالها يتحدثون بعد ذلك ويتصرفون . . وهي طريقة من طرق العرض للقصة في القرآن ، تحول القصة المحكية إلى رواية حية كما أسلفنا . وهنا نشهد الرسل الكرام في موكب الإيمان ، يواجهون البشرية متجمعة في جاهليتها . حيث تتوارى الفواصل بين أجيالها وأقوامها . وتبرز الحقائق الكبرى مجردة عن الزمان والمكان . كما هي في حقيقة الوجود خلف حواجز الزمان والمكان :
( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم : قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ؟ ) . .
فهم كثير إذن ، وهناك غير من جاء ذكرهم في القرآن . ما بين ثمود وقوم موسى . والسياق هنا لا يعني بتفصيل أمرهم ، فهناك وحدة في دعوة الرسل ووحدة فيما قوبلت به :
الواضحات التي لا يلتبس أمرها على الإدراك السليم .
( فردوا أيديهم في أفواههم ، وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به ؛ وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ) . .
ردوا أيديهم في أفواههم كما يفعل من يريد تمويج الصوت ليسمع عن بعد ، بتحريك كفه أمام فمه وهو يرفع صوته ذهابا وإيابا فيتموج الصوت ويسمع . يرسم السياق هذه الحركة التي تدل على جهرهم بالتكذيب والشك ، وإفحاشهم في هذا الجهر ، وإتيانهم بهذه الحركة الغليظة التي لا أدب فيها ولا ذوق ، إمعانا منهم في الجهر بالكفر .
قال ابن جرير : هذا من تمام قيل{[15760]} موسى لقومه{[15761]} .
يعني : وتذكاره إياهم بأيام الله ، بانتقامه من الأمم المكذبة للرسل .
وفيما قال{[15762]} ابن جرير نظر ؛ والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة ، فإنه قد قيل :
إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة ، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه وقَصَه عليهم ذلك فلا شك{[15763]} أن تكون هاتان القصتان في " التوراة " ، والله أعلم . وبالجملة فالله تعالى قد قص علينا خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل ، مما لا يحصي عددهم{[15764]} إلا الله عز وجل أتتهم رسلهم بالبينات ، أي : بالحجج والدلائل الواضحات الباهرات القاطعات .
وقال ابن{[15765]} إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله أنه قال في قوله : { لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ } كذب النسابون .
وقال عروة بن الزبير : ما وجدنا أحدا يعرف ما بعد معد بن عدنان .
وقوله : { فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ } اختلف المفسرون في معناه ، فقيل : معناه : أنهم أشاروا إلى أفواه الرسل يأمرونهم{[15766]} بالسكوت عنهم ، لما دعوهم إلى الله ، عز وجل .
وقيل : بل وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيبًا لهم .
وقيل : بل هو عبارة عن سكوتهم عن جواب الرسل .
وقال مجاهد ، ومحمد بن كعب ، وقتادة : معناه : أنهم كذبوهم وردوا عليهم قولهم بأفواههم .
قال ابن جرير : وتوجيهه{[15767]} أن " في " ها هنا بمعنى " الباء " ، قال : وقد سمع من العرب : " أدخلك الله بالجنة " يعنون : في الجنة ، وقال الشاعر :
وَأَرْغَبُ فِيهَا عَن لَقيطٍ ورهْطه *** عَن سِنْبس لَسْتُ أرْغَب
يريد : أرغب بها{[15768]} .
قلت : ويؤيد قول مجاهد تفسير ذلك بتمام الكلام : { وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } فكأن هذا [ والله أعلم ]{[15769]} تفسير لمعنى رَدِّ أيديهم في أفواههم .
وقال سفيان الثوري ، وإسرائيل ، عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص ، عن عبد الله في قوله : { فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ } قال : عضوا عليها غيظا .
وقال شعبة ، عن أبي إسحاق ، أبي هُبَيرَْة ابن مريم ، عن عبد الله أنه قال ذلك أيضا . وقد اختاره عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، ووجهه ابن جرير مختارًا له ، بقوله تعالى عن المنافقين : { وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ } [ آل عمران : 119 ] .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : لما سمعوا كتاب{[15770]} الله عَجبوا ، ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم .
وقالوا : { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } يقولون : لا نصدقكم فيما جئتم به ؛ فإن عندنا فيه شكا قويا .
هذا الكلام استئناف ابتدائيّ رجع به الخطاب إلى المشركين من العرب على طريقة الالتفات في قوله : { ألم يأتكم } ، لأن الموجّه إليه الخطاب هنا هم الكافرون المعنيون بقوله : { وويل للكافرين من عذاب شديد } [ سورة إبراهيم : 2 ] ، وهم معظم المعنيّ من الناس في قوله : { لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } [ سورة إبراهيم : 1 ] ، فإنهم بعد أن أُجمل لهم الكلام في قوله تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } [ سورة إبراهيم : 4 ] الآية ، ثم فُصّل بأن ضُرب المثل للإِرسال إليهم لغرض الإخراج من الظلمات إلى النور بإرسال موسى عليه السلام لإخراج قومه ، وقُضي حق ذلك عقبه بكلام جامع لأحوال الأمم ورسلهم ، فكان بمنزلة الحوصلة والتذييل مع تمثيل حالهم بحال الأمم السالفة وتشابه عقلياتهم في حججهم الباطلة وردّ الرسل عليهم بمثل ما رَدّ به القرآن على المشركين في مواضع ، ثم ختم بالوعيد .
والاستفام إنكاري لأنهم قد بلغتهم أخبارهم ، فأما قوم نوح فقد تواتر خبرهم بين الأمم بسبب خبر الطوفان ، وأما عاد وثمود فهم من العرب ومساكنهم في بلادهم وهم يمرون عليها ويخبر بعضهم بعضاً بها ، قال تعالى : { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم } [ سورة إبراهيم : 45 ] وقال : { وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون } [ سورة الصافات : 137 ] .
و{ الذين من بعدهم } يشمل أهل مدين وأصحابَ الرس وقومَ تُبّع وغيرَهم من أمم انقرضوا وذهبت أخبارهم فلا يعلمهم إلا الله . وهذا كقوله تعالى : { وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا } [ سورة الفرقان : 38 ] .
وجملة لا يعلمهم إلا الله } معترضة بين { والذين من بعدهم } وبين جملة { جاءتهم رسلهم بالبينات } الواقعة حالاً من { والذين من بعدهم } ، وهو كناية عن الكثرة التي يستلزمها انتفاء علم الناس بهم .
ومعنى { جاءتهم رسلهم } جاءَ كلّ أمة رسولُها .
وضمائر { ردّوا } و { أيديهم } و { أفواههم } عائدٌ جميعها إلى قوم نوح والمعطوفات عليه .
وهذا التركيب لا أعهد سبق مثله في كلام العرب فلعله من مبتكرات القرآن .
ومعنى { فردوا أيديهم في أفواههم } يحتمل عدة وجوه أنهاهَا في « الكشاف » إلى سبعة وفي بعضها بُعدٌ ، وأولاها بالاستخلاص أن يكون المعنى : أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم إخفاء لشدة الضحك من كلام الرسل كراهية أن تظهر دواخل أفواههم . وذلك تمثيل لحالة الاستهزاء بالرسل .
والردّ : مستعمل في معنى تكرير جعل الأيدي في الأفواه كما أشار إليه « الراغب » . أي وضعوا أيديهم على الأفواه ثم أزالوها ثم أعادوا وضعها فتلك الإعادة رَدّ .
وحرف { في } للظرفية المجازية المراد بها التمكين ، فهي بمعنى { على } كقوله : { أولئك في ضلال مبين } [ سورة الزمر : 22 ] . فمعنى ردّوا أيديهم في أفواههم } جعلوا أيديهم على أفواههم .
وعطفه بفاء التعقيب مشير إلى أنهم بادروا بردّ أيديهم في أفواههم بفور تلقيهم دعوة رسلهم ، فيقتضي أن يكون ردّ الأيدي في الأفواه تمثيلاً لحال المتعجب المستهزىء ، فالكلام تمثيل للحالة المعتادة وليس المراد حقيقته ، لأن وقوعه خبراً عن الأمم مع اختلاف عوائدهم وإشاراتهم واختلاف الأفراد في حركاتهم عند التعجب قرينة على أنه ما أريد به إلاّ بيان عَربي .
ونظير هذا قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة : { وقالوا الحمد لله الذي صَدَقنا وعده وأورثنا الأرض } [ سورة الزمر : 74 ] ، فميراث الأرض كناية عن حسن العاقبة جرياً على بيان العرب عند تنافس قبائلهم أن حسن العاقبة يكون لمن أخذ أرض عدوّه .
وأكّدوا كفرهم بما جاءت به الرسل بما دلّت عليه { إنّ } وفعل المضيّ في قوله : { إنا كفرنا } . وسموا ما كفروا به مُرسلاً به تهكماً بالرسل ، كقوله تعالى : { وقالوا يا أيها الذي نُزّل عليه الذكر إنك لمجنون } [ سورة الحجر : 6 ] ، فمعنى ذلك : أنهم كفروا بأن ما جاءوا به مرسل به من الله ، أي كفروا بأن الله أرسلهم . فهذا مما أيقنوا بتكذيبهم فيه .
وأما قولهم : { وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه } فذلك شك في صحة ما يدعونهم إليه وسداده ، فهو عندهم معرض للنظر وتمييز صحيحه من سقيمه ، فمورد الشك مَا يدعونهم إليه ، ومورد التكذيب نسبة دعوتهم إلى الله . فمرادهم : أنهم وإن كانوا كاذبين في دعوى الرسالة فقد يكون في بعض ما يدعون إليه ما هو صدق وحقّ فإن الكاذب قد يقول حقّاً .
وجعلوا الشك قوياً فلذلك عبر عنه بأنهم مَظروفون فيه ، أي هو محيط بهم ومتمكن كمال التمكن .
و { مريب } تأكيد لمعنى { في شك } ، والمريب : المُتوقع في الريب ، وهو مرادف الشك ، فوصف الشك بالمريب من تأكيد ماهيته ، كقولهم : لَيل ألْيَل ، وشِعر شَاعر .
وحذفت إحدى النونين من قوله : { إنا } تخفيفاً تجنباً للثقل الناشىء من وقوع نونين آخرين بعد في قوله : { تدعوننا } اللازم ذكرهما ، بخلاف آية سورة هود ( 62 ) { وإننا لفي شك مما تدعونا } إذ لم يكن موجب للتخفيف لأن المخاطب فيها بقوله : تدعونا } واحد .